في الحب
سيبسم لهذا العنوان قوم وسيعبس له آخرون، وسيكون بين الباسمين من يبسم عن رضا لأنه يريد أن يقرأ عن الحب شيئا، ومن يبسم عن سخرية لأنه لا يرضى أن يكون الحب موضوعا للحديث في مجلة ينتظر منها الجد الصارم ولا يحب منها الإقبال على لغو الحديث، فأما العابسون فسيكون عبوسهم سخطا خالصا؛ لأن حديث الحب لهو كله، وما أكثر الصحف والمجلات التي تلهج باللهو وتغرق فيه!
ومع ذلك فقد كانت حياتنا في العصر الأول أسمح من هذا كله وأكثر يسرا، وكانت أحاديث الحب لا تثير سخطا ولا عبوسا وإنما تثير رضا وابتهاجا وتدعو إلى الروية والتفكير في كثير من الأحيان، وقد مضى في تاريخنا الأدبي والعقلي عصر لم يكن الحب فيه هزلا ولا دعابة، وإنما كان جدا خالصا لا يخلو من صرامة وحزم في كثير من الأحيان، فلم يكن حب الغزلين في شمال الحجاز وفي نجد لهوا ولا مجونا، ولا مصدرا للدعابة والفكاهة، وإنما كان جزءا من جد الحياة اقتضته ظروف من السياسة والدين فدفع إليه الغزلون في شيء من التصوف لعله خير ما يستحق البقاء من شعرنا العربي القديم، ونحن نقرؤه فنجد راحة إليه واستمتاعا به لا يشوبهما مجون ولا يتصل بهما ميل إلى العبث واللهو، وإنما تجد فيهما النفوس غذاء روحيا يرتفع بها عن صغائر الحياة، ويعزيها عن هذه السفاسف اليومية التي تنزل بها عما تحب لنفسها من مكان رفيع. على أن هذا الهيام الذي شمل النفس العربية في نجد وشمال الحجاز لم يتردد في أن يغزو البيئات الدينية والعلمية الصارمة الحازمة في مكة والمدينة، فقد كان شعر جميل وكثير والقيسين ينشد في المسجد الحرام وينشد في المسجد النبوي، ويستمتع به في هذين المسجدين المطهرين قوم وقفوا أنفسهم على رواية العلم والدين لا يجدون في ذلك حرجا ولا جناحا؛ وربما تجاوز بعضهم هذا الاستمتاع بأحاديث الحب وما كان ينشد فيه من شعر إلى الحب نفسه؛ فشقي بالحب إن كان الحب شقاء، ونعم بالحب إن كان الحب نعيما، وذاق لذته المؤلمة وحلاوته المرة، إن صح أن تكون اللذة مؤلمة وأن تكون الحلاوة مرة.
وقد كان عبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي صاحب قراءة للقرآن ورواية للحديث، وإقبال على النسك والزهد وتفرغ للعبادة والطاعة، حتى لقبه أهل مكة بالقس، فلم يمنعه ذلك حين رأى سلامة وسمع غناءها أن يحبها حبا انتهى به إلى الهيام وجعله شاعرا غزلا كغيره من الشعراء الغزلين. لم يجد في ذلك حرجا ولا جناحا؛ لأن ذلك لم يورطه في إثم ولا فسوق، وعبد الرحمن بن أبي عمار القس هو الذي يقول في سلامة هذين البيتين الرائعين:
سلام هل لي منكم ناصر
أم هل لقلبي عنكم زاجر
قد سمع الناس بوجدي بكم
فمنهم اللائم والعاذر
ويزعم الرواة أن سلامة أحبت القس وحببت إليه، وهمت ذات يوم أن تقبله أو أن تضع فمها على فمه كما يقول الرواة، ولكنه امتنع عليها مؤثرا نقاء القلب وصفاء الضمير، مشفقا أن ينعم بحبها في الدنيا فيشقى بحبها في الآخرة ويصبح من هؤلاء الأخلاء الأعداء الذين ذكرهم القرآن الكريم.
وقد آثر ابن عباس رحمه الله - كما يعرف الناس جميعا - أن يسمع لغزل ابن أبي ربيعة على أن يسمع لأسئلة نافع بن الأزرق في الفقه والحديث وتفسير القرآن، فقد كان القدماء أسمح منا نفوسا وأحسن منا استقبالا لأمور الحياة، يعنفون بأنفسهم في مواضع العنف، ويرفقون بها في مواطن الرفق، ولا يتكلفون هذا الجد السخيف والتزمت الذي لا يدل على شيء، وأنا بعد هذا كله لا أريد أن أتحدث عن الحب مرغبا فيه أو مرغبا عنه، محسنا له أو زاريا عليه، بل لا أريد أن أتحدث عن الحب في نفسه، وإنما أريد أن أتحدث عنه من حيث إنه كان موضوعا للبحث والدرس والتأليف عند أديبين عظيمين؛ أحدهما عربي مسلم قديم، والآخر أوروبي مسيحي حديث، فأما أولهما فهو ابن حزم الأندلسي، وأما ثانيهما فهو ستندال الفرنسي، فقد عاش أولهما في القرن الحادي عشر، وعاش ثانيهما في القرن التاسع عشر، فبينهما نحو ثمانية قرون، وهما بعد ذلك يختلفان أشد الاختلاف ولا يكادان يتفقان إلا في الشيء اليسير جدا.
نامعلوم صفحہ