على أني لقيت بول ڤاليري بعد ذلك لقاء منتظما في مجلس التعاون الفكري وفيما كان هذا المجلس يعقد من مؤتمرات، وفيما كانت هذه المؤتمرات تستتبع من اجتماعات خاصة، فإذا أرق الناس حاشية وأحلاهم شمائل وأعذبهم حديثا، وأشدهم سخرية، ولكنها السخرية التي تروق وتروع ولا تؤذي ولا تسوء، ولم يكن يكره الدعابة الحلوة التي لا تخلو من مكر ودهاء، وأذكر أنه كان يرأس مؤتمرا من المؤتمرات يوم افتتاحه، فلما أذن للخطباء جميعا في الكلام وفرغ الخطباء من كلامهم وجاء الوقت الذي كان يجب أن يتكلم هو فيه وصغت إليه الآذان وأصغت إليه القلوب واشرأبت إليه الأعناق، قال في صوت هادئ باسم: الكلمة الآن للرئيس إدوار هريو.
ولم يكن إدوار هريو بين المتكلمين في هذا الحفل، ولكن بول ڤاليري أراد أن يسر المستمعين وأن يداعب هريو ويورطه في حديث مرتجل من هذه الأحاديث التي يتقنها هريو أشد الإتقان.
وكان آخر لقائي لبول ڤاليري في مدينة جنيف حين اجتمع مجلس التعاون الفكري في يوليو سنة 1939 قبيل إعلان الحرب ، وكان جو جنيف في تلك السنة قاتما كئيبا، وكان أعضاء المجلس جميعا مشفقين من الحرب وأهوالها، وكان بول ڤاليري أشدهم إشفاقا وأعظمهم اكتئابا وأكثرهم تشاؤما، فلم يحب الحضارة أحد كما أحبها بول ڤاليري، ولم يكبر الحياة أحد كما أكبرها بول ڤاليري ولم يستيئس أحد من حماقة الإنسان وضعفه وجنونه كما استيأس بول ڤاليري، ومن أجل ذلك كان في تلك الاجتماعات لا يتحدث عن شيء ينتظر في المستقبل إلا تحفظ واحتاط كما نتحفظ نحن ونحتاط، فنقول: إن شاء الله. ولكنه هو كان يتحفظ ويحتاط فيقول: إن أتيح للحضارة أن تبقى، أو إن كتب للحرية أن تسلم، أو إن عصم الإنسان من الجنون، أو ما يشبه هذه العبارات.
وقد كتب على بول ڤاليري أن يرى تحقيق كل ما تنبأ به؛ فقد تنبأ بالحرب وأهوالها، وتنبأ بما ستلقاه أوروبا من ذل، وتنبأ بما ستتعرض له المثل العليا من ضعة وانحطاط، وقد رأى هذا كله وذاق مرارته صابرا جلدا شجاعا، واحتفظ بكرامته أثناء الهزيمة، وابتهج بالنصر مع المبتهجين، وقال لأحد أصدقائه وهو يسمع الأناشيد الوطنية للأمم المنتصرة: كل شيء ممكن، ويظهر أن ما أنفق من جهد وما أخذ نفسه به من صبر وجلد وما حمل نفسه عليه من درس وإنتاج وما تعرض له من بؤس وحرمان أثناء أعوام الهول، كل ذلك قد حطم صحته تحطيما، فذاق حلاوة النصر واستمتع بلذة الحرية، ولكنه لم يستطع أن يثبت للنعمة بمقدار ما ثبت للنقمة، فانهار بعد طول المقاومة، وفارق هذه الحياة أشد ما يكون الأحياء حاجة إليه. من أجل ذلك لم تحزن عليه فرنسا وحدها، وإنما حزنت عليه الإنسانية المتحضرة كلها، وقد كنت كلما فكرت في زيارة فرنسا بعد النصر أستحضر ساعة حلوة كنت أعلل نفسي بأني سأقضيها مستمعا لبول ڤاليري، فقد ضيعت الخطوب هذه الأمنية، وما أكثر ما تضيع الخطوب من الأماني!
فحسبي أن أعلل النفس بأني إن زرت فرنسا فسأسعى إلى قبر بول ڤاليري في تلك المقبرة البحرية التي رآها صبيا، وغناها رجلا، واطمأن فيها الآن إلى آخر الدهر.
شاعر الحب والبغض والحرية
كان ذكي القلب حمي الأنف، عضب اللسان، وكان قويا لا يعرف الضعف أبيا لا يقبل الضيم، عصيا لا يطيق الإذعان، وكان حازما لا يحب التردد، مقدما لا يحتمل الإحجام، ولم يكن مع ذلك صريح النسب في قبيلة من القبائل العربية القوية أو الضعيفة، ولم تكن قوته وصلابته وحدته تأتيه من جاه طريف أو تليد، ولا من ثروة عريضة أو ضيقة، فقد كان - فيما يظهر - مغمورا مضيعا بين حمير وقريش، ألحق نفسه بحمير بعد أن أصبح له شأن وبعد أن رأى أنه في حاجة إلى نسب يعتز به وركن يأوي إليه، وألحق نفسه بقريش على أنه حليف من حلفائها وولي من أوليائها، فاجتمع له بذلك نسب يماني في حمير وحلف مضري في قريش، على حين لم يستطع أحد من الرواة والنسابين أن يصله بقبيلة من قبائل اليمن ولا أن يرتفع به إلى أعلى من جده الأدنى، فكل ما يعرف الرواة عنه أنه يزيد بن ربيعة بن مفرغ، ولعل الرواة لا يتفقون على اسم مفرغ هذا؛ فقد روي أن اسمه محمد، وأن مفرغا كان لقبا غلب عليه، وأصل هذا اللقب فيما يقال أنه راهن على أن يفرغ في جوفه عسا من لبن ففعل، فسمي مفرغا، وقد يكون هذا حقا وقد يكون الحق شيئا آخر لا نعرفه، ولكن المهم أن مفرغا هذا لم يكن رجلا ذا خطر، وإنما كان شعابا في المدينة أو قريبا من المدينة، وكان ابنه ربيعة فيما يقال صاحب شعر وغزل، وكان له ابن آخر يسمى عامرا، وكان صاحب زهد ودين، فأما صاحبنا يزيد فلم يعرفه تاريخ الشعر ولا تاريخ السياسة إلا حين تقدم به الشباب وحين أصبح شاعرا ظريفا رائع الشعر حسن المحضر، يتنافس فتيان قريش في قربه ومنادمته واصطحابه فيما يعرض لهم من الأسفار.
وأكبر الظن أنه انتفع بحلفه في قريش، فعاشر فتيان بني أمية في العراق وآثرهم بمودته، وآثروه بمعروفهم لحسن موقعه منهم، ولحسن بلائه في التعصب لهم والثناء عليهم، وأول ما نعرف من أمره معرفة دقيقة هو أن شابين من شبان بني أمية تنافسا فيه، فأما أحد هذين الشابين فسعيد بن عثمان بن عفان، وأما الآخر فعباد بن زياد بن أبي سفيان، وكان أول هذين الشابين قد ولي خراسان، وكان الآخر قد ولي سجستان، وقد عرض سعيد بن عثمان على صاحبنا يزيد أن يصحبه إلى ولايته، وأغراه بمال كثير وبأنه سيكون عند ما يرضيه، ولكن يزيد لم يجب سعيدا إلى ما أراد، وآثر أن يصحب عبادا إلى سجستان، وقد أسف سعيد لانصراف هذا الفتى الظريف عن صحبته إلى صحبة عباد، ولكنه مع ذلك حذره ونصح له، وقال له: إن نبت بك الدار عند عباد ولم تبلغ من صحبته ما تريد فإن مكانك عندي ممهد.
وليس من الغريب أن يزهد يزيد في صحبة سعيد بن عثمان ويؤثر عليها صحبة عباد بن زياد، فقد كان سعيد بن عثمان معرضا لشيء غير قليل من سخط السلطان الأموي عليه وزهده فيه، ومصدر ذلك أن أبناء عثمان - رضي الله عنه - قبلوا ولاية معاوية لخلافة المسلمين؛ لأنه قام دونهم بعد مقتل أبيهم، فثأر لهم وحمل بني أمية على رقاب الناس، ولكن شيئا من الحسد وقع في قلوبهم حين بايع معاوية لابنه بولاية العهد، ويقال إن سعيدا نفسه صارح معاوية بإنكاره لذلك في شيء غير قليل من العنف، وإن معاوية رفق به كما كان يرفق بأعدائه وأصدقائه جميعا، وإن توليته خراسان كانت مظهرا من مظاهر هذا الرفق ولونا من ألوان هذه المصانعة، فلم يكن سعيد إذن أثيرا عند معاوية ولا عند ابنه يزيد، وإنما كان يحتمل في شيء من الجهد ويستصلح في كثير من الرفق، أما عباد فقد كان أبوه زياد موضع الثقة والحب من معاوية، وكان ركنا من أركان الدولة الأموية الجديدة، ضبط لها أمر العراق وما يليه ضبطا حسنا وساسه سياسة حازمة صارمة أخافت الناس في شرق الدولة وغربها، فلما مات زياد ولى معاوية ابنه عبيد الله أمر العراق اعترافا بما لزياد عنده من يد؛ فكان عباد إذن ابن أمير العراق القديم وأخا أمير العراق الجديد، وفتى من فتيان هذه الأسرة العصامية التي مكنت لبني أمية في الأرض، فليس غريبا إذن أن يؤثر الشاعر الشاب صحبة الأمير الزيادي ذي المكانة والحظوة، على صحبة الأمير العثماني الذي لا تحتمله الدولة إلا على كره ومضض، على أن عبيد الله بن زياد أمير العراق كان يعرف أخاه عبادا حق المعرفة، وكان يعرف الشاعر الفتى حق المعرفة أيضا، وكان يشفق من محبة هذا الشاعر الفتى لأخيه، ويقدر أن عواقب هذه الصحبة لن تكون إلا شرا. كان يعرف أن أخاه حاد الطبع سريع الغضب شديد العناية بما يكلف من أمر، يفرغ للهوه ومتاعه حين يتاح له الفراغ، ولكنه إذا نهض بأمر ذي بال أقبل عليه وشغل به عن كل شيء، وكان يعرف أن الشاعر الفتى ظريف غزل، حلو الدعابة، عذب الفكاهة جميل المحضر، ولكنه شاعر لا يرضى من صاحبه بالقليل، ولا يقبل منه الانصراف إلى يسير الأمر أو خطيره، وكان يعرف أن الشاعر الفتى عجل نزق سريع الشعور، قوي الإحساس، طويل اللسان، يسرع إليه الضجر ويستأثر به الملل، ويسبق لسانه إرادته فيتعجل اللوم والهجاء قبل إبانهما، ومن أجل ذلك هم أن يصرف الشاعر عن صحبة أخيه فلم يفلح، فنصح له وألح في النصح، وحذره وألح في التحذير والنذير ومضى الشاعر الفتى مع أميره الشاب إلى سجستان، ولم يبلغ الرفيقان سجستان إلا بعد أن فسد الأمر بينهما أثناء الطريق؛ فقد كان عباد عظيم اللحية جدا، فإنه لفي طريقه ذات صباح أو ذات مساء، وإذا الريح تعبث بلحيته الضخمة فتنفشها، ويرى الشاعر ذلك فيروقه المنظر ويضحكه ويسبق لسانه إرادته فيقول:
ألا ليت اللحى كانت حشيشا
نامعلوم صفحہ