135

وكتب الأستاذ مارو في جريدة «الموند» الأسبوعية يقول: «إن سيسرون رجل مكذوب عليه.» والشيء الذي لا شك فيه، هو أن الشامتين بسيسرون والغاضبين له، إنما أظهروا ما أظهروا من الشماتة والغضب؛ لأنهم لم ينظروا في الكتاب إلا أيسر النظر وأقله تعمقا واستقصاء.

فالكتاب - كما رأيت آنفا - ضخم توشك صفحاته أن تبلغ الألف، وهو على ذلك كتاب علم، قد التزم صاحبه دقائق المنهج التاريخي في عرض ما أراد عرضه من الحقائق، وحل ما أراد حله من المشكلات، وقراءته ليست يسيرة ولا هينة، وهي تحتاج إلى كثير من الأناة والصبر وحسن التأني.

والحكم له أو عليه لا ينبغي أن يصدر إلا بعد هذه القراءة المستأنية المستقصية الصابرة، التي لا تحتاج إلى الأيام، وإنما تحتاج إلى الأسابيع، والتي لا تكتفي بنفسها وإنما تكلف القارئ كثيرا من مراجعة النصوص وامتحان الأحكام التي يصدرها المؤلف بالرجوع إلى ما يستشهد به من المصادر، وهذه المصادر كثيرة مختلفة، منها القديم والحديث، ومنها ما كتب باللاتينية وما كتب باليونانية، ومنها ما كتب في اللغات الحية على اختلافها.

ولست أزعم أني قد نهضت بهذه القراءة المستأنية المستبصرة، ولكني لست أزعم كذلك أني سأحكم لهذا الكتاب أو أحكم عليه، فلست أحسن هذا العلم، ولست أبيح لنفسي أن أحكم بين المختصمين فيه، وإنما أنا رجل متواضع، معتدل المذهب والرأي والغاية، لا أريد إلا إلى شيء يسير جدا، هو أن أعرض على قراء العربية لونا من ألوان البحث الذي يفرغ له بعض الناس في أوروبا وأمريكا، وينفقون فيه حياتهم، وينعمون إن أتيح لهم أن ينفقوا حياتهم فيه، ويجدون بعد ذلك جماعة من أكفائهم يتلقون ما يكتبون بالنقد والبحث فينكرون ويعرفون، وجماعات أخرى من عامة المثقفين يتلقون ما يكتبون على أنه غذاء للعقول والقلوب، ومتاع يستريحون إليه مما يملأ حياتهم من الهموم والخطوب.

وأنا أرجو أن يكون في إظهار قرائنا على هذا اللون من ألوان البحث ما يغري شبابنا بالدرس الهادئ المستأني الذي تخلص النية فيه للعلم وحده، والذي لا تلتمس به منفعة قريبة أو بعيدة، ولا تبتغى به شهرة واسعة أو ضيقة، وإنما يقصد به إلى هذه المتعة العليا، متعة المعرفة الخالصة التي تكشف الحق وتصحح التاريخ.

وينبغي أن أعرض هذا الكتاب مبتدئا من آخره لا من أوله، ذلك أجدر أن يجعل فهمه يسيرا، والعلم به محببا إلى النفوس.

فنحن في أواسط القرن الأول قبل المسيح حين لم يبق من هذا القرن إلا ثلثه، وقد تم الائتلاف بين أوكتاف وأنطوان على الاستئثار بأمر الجمهورية الرومانية وأقاليمها، وذهب في سبيل هذا الائتلاف كثير من أنصار الجمهورية، مات بعضهم في الحرب ومات بعضهم بأمر المؤتلفين، الذي صدر إما عن رغبة في الانتقام، وإما عن رغبة في تثبيت النظام الجديد.

وكان سيسرون من الذين قاوموا النظام الجديد، بل كان على رأس المدبرين لهذه المقاومة في مجلس الشيوخ، عن أمره كانت جيوش الجمهورية تصدر في مقاومتها للطغاة والمستأثرين في البر والبحر وفي الشرق والغرب.

فلما تم الائتلاف وأتيح الانتصار للمؤتلفين، أهدر دم سيسرون فيما أهدر من الدماء، فقتل سنة ثلاث وأربعين قبل المسيح، وكان لسيسرون صديق حميم، أحبه منذ عهد الصبا، ودرس العلم معه أثناء الشباب، ثم تفرقت بهما طرق الحياة، فمضى سيسرون في طريق السياسة، ومضى صديقه أتيكوس في طريق المال.

وامتاز كل من الرجلين فيما اختار لنفسه من طريق، فامتاز سيسرون في السياسة حتى أصبح في بعض أوقاته رئيسا للجمهورية، وظل في أكثر حياته زعيما للديمقراطية المعتدلة، وامتاز أتيكوس في المال حتى أصبح أضخم أهل روما ثراء وأوسعهم غناء، وأعظمهم من أجل ذلك سلطانا على الأغنياء والفقراء جميعا.

نامعلوم صفحہ