ونحن في الشارع نرى حركة الناس وازدحامهم واضطرابهم فيما يضطربون فيه، ونرى في الوقت نفسه بيير يسعى في بعض الطريق وإيف تسعى في بعض الطريق أيضا، وكلاهما يرى الناس ويسمع منهم، ويحاول أن يعرض لهم فلا يراه أحد، وأن يتحدث إليهم فلا يسمع منه أحد.
وكلاهما يمضي في طريقه يسأل عن شارع بعينه؛ لأنه على موعد في هذا الشارع، ولكنه يسأل في غير طائل؛ فالناس لا يرونه ولا يسمعونه ولا يجيبونه، وكلاهما يسعى مع ذلك حتى يصل إلى زقاق ضيق غريب قد كتب عليه اسم الشارع الذي يسأل عنه، وكلاهما يدخل في هذا الزقاق، فإذا جماعة من الناس قد وقفت أمام باب مغلق في أقصى الزقاق، وهذا الباب يفتح بين حين وآخر فيدخل منه أحد هؤلاء الناس، ثم يغلق حينا ثم يفتح ليدخل منه شخص آخر.
ويلاحظ بيير وإيف أنهما يريان هؤلاء الناس ويسمعان منهم، وأن هؤلاء الناس يرونهما ويسمعون منهما، والباب يفتح فيدخل بيير، وإذا هو في حجرة ضيقة يمضي فيها حتى يبلغ أقصاها، فإذا سيدة نصف قد جلست أمام مائدة وعلى المائدة دفتر ضخم.
فإذا انتهى بيير إلى هذه السيدة سألها في أدب: أهي تنتظره؟ فتنبئه السيدة بأنها تنتظره، ثم تنبئه باسمه وتاريخ مولده، ولا يكاد يدهش لذلك حتى تنبئه بأنه قد مات مقتولا، ثم تطلب منه إمضاءه على الدفتر، فإذا فعل أذنت له في الانطلاق، ولكن على أن يخرج من باب غير الباب الذي دخل منه؛ فإذا سألها: إلى أين أذهب؟ وماذا يجب أن أعمل؟ أنبأته بأن الموتى أحرار يذهبون إلى حيث يشاءون ويعملون ما يشاءون.
وتجري القصة نفسها لإيف بعد حين، فتعلم من السيدة أنها قد ماتت مسمومة، وتمضي على الدفتر، وتمضي حرة تذهب إلى حيث تشاء وتعمل ما تشاء لأن الموتى أحرار بعد أن يوقعوا بأسمائهم في سجل الأموات.
ولست أقص عليك تفصيل ما يعرض لهذين الميتين بعد خروجهما من هذه الحجرة وانطلاقهما في المدينة يريان الأحياء ويسمعانهم، ولكن الأحياء لا يرونهما، ويلقيان الموتى فنونا وأشكالا، منهم المحدثون ومنهم الذين بعد عهدهم بالموت.
وهما يستطيعان أن يتحدثا إلى الموتى، وأن يسمعا منهم، وأن يتندرا معهم بالأحياء وما يعملون، لا أقص عليك ما يعرض لهما من خطوب، فذلك شيء يطول، وإنما أسجل شيئين اثنين؛ أحدهما: أن بيير يذهب مع دليل له من الموتى إلى قصر الطاغية، فيدخل القصر وينسل إلى غرفة الطاغية، فيراه متبذلا متهيئا لاتخاذ ثيابه الرسمية، ويتناول طعامه ومن حوله موتى كثيرون، كلهم مبغض له ساخط عليه يريد أن يصيبه بالمكروه، ولكنه لا يبلغ مما يريد شيئا لأن الموتى لا يبلغون مما يريدون شيئا.
وقد أنبأهم بيير بأن الطاغية سيموت من غد حين تشب الثورة التي دبرها، والموتى لا يصدقونه، ولكنه يلح حتى يوشك أن يقنع بعضهم بصدق ما يقول، ولكن رئيس الشرطة يدخل فينبئ الطاغية بأن زعيم الثورة قد قتل، ويغضب الطاغية لذلك غضبا شديدا؛ فهو قد كان أعد للثورة جيشا ضخما، وقرر أن يسحقها سحقا وأن يريح نفسه منها عشر سنين على الأقل.
وإذن فقد استيقن بيير بأن الثورة ستسحق، وأن الطاغية لن يفاجأ، والموتى يضحكون منه ويحاولون تعزيته، ولكنه يمضي مغضبا لا يلوي على شيء، حتى يبلغ الغرفة التي كان يأتمر فيها مع أصحابه، فيراهم ويسمعهم، ويعلم أن مصرعه قد بلغهم، ويحاول أن يتحدث إليهم ليردهم عن الثورة، ويحملهم على تأجيلها، ولكنهم لا يرونه ولا يسمعون منه، فينصرف عنهم يائسا مستيقنا بوقوع الكارثة من غد.
هذا أحد الأمرين، أما الأمر الثاني: فهو أن بيير يلقى إيف فينظر إليها ويدنو منها ويكون بينه وبينها حديث ثم شيء يشبه الألفة، وهما يذهبان معا إلى إحدى الحدائق، وإلى ناد من أندية اللهو في هذه الحديقة تغشاه الطبقة الممتازة من أصحاب إيف، وهما يريان ويسمعان، ولكن أحدا لا يراهما ولا يسمعهما، وقد استحالت ألفتهما إلى تعاطف، ثم إلى شيء يشبه الحب، وهما يتراقصان، ولكنهما لا يجدان لذة الرقص لأن الموتى لا يجدون لذة لشيء.
نامعلوم صفحہ