119

وبعضهم يحمل تبعة هذا الإخفاق على المخرجين والممثلين لأنهم لم يحسنوا الإخراج والعرض والتمثيل، ومن المحقق أني لن أحاول القضاء بين هؤلاء المختصمين؛ فلست من السينما في شيء، وليس السينما مني في شيء، ولكن من المحقق أيضا أني قرأت هذه القصة التي أذيعت في الناس تمهيدا لعرضها عليهم، وقرأتها ثلاث مرات، فلم تزدني قراءتها إلا إعجابا بها ورضا عنها لا لما فيها من آراء فلسفية فحسب، ولا لما لها من قيمة أدبية فنية فحسب، ولكن لهاتين الخصلتين جميعا ولخصلة ثالثة، وهي طريقة العرض التي يقتضيها السينما والتي تدفع الكاتب والقارئ جميعا إلى شيء من النشاط والحركة والتنقل السريع المفاجئ من بيئة إلى بيئة، ومن طور إلى طور، بل من عالم إلى عالم كما سترى.

وليس يعنيني أن تظفر هذه القصة بالنجاح على الشاشة البيضاء أو لا تظفر به، وإنما الذي يعنيني أنا قبل كل شيء هو أن هذا اللون من الكتابة القصصية يمكن أن يقصد إليه الكاتب في نفسه، سواء عرض على النظارة أو لم يعرض، فهو في نفسه فن طريف حي خصب يستطيع أن يكون أداة قيمة جدا لإبلاغ ما يريد الأدباء أن يبلغوه إلى قرائهم من طريق الكتاب، ولا عليهم بعد ذلك أن يستغله السينما فينجح في استغلاله أو يخفق، ولا عليه ألا يستغله السينما أصلا.

وقد أستطيع أن أضرب لك مثلا مقاربا، فالأدب التمثيلي القديم اليوناني واللاتيني ممتع حين تقرؤه، خالد بحكم هذا الإمتاع، وقليل منه يمكن أن يمثل في الملاعب ويظفر برضا النظارة ولكن أكثره قد فقد هذه الخصلة، وأصبح ممتعا بقراءته ليس غير.

وقد يستطيع الممثلون المعاصرون أن يعرضوا على النظارة «أنتيجون»، أو «أوديب» أو الكنز من آثار سوفوكل، ولكني أشك أعظم الشك في أنهم يستطيعون أن يعرضوا على النظارة «فيلوكتيت» أو «إياس»، من آثار هذا الشاعر نفسه، وأن يظفروا بشيء من إعجاب النظارة المحدثين.

وكل رجل مثقف يجد المتاع كل المتاع في قراءة هاتين القصتين، بل قد حاول أندريه جيد في كثير من التوفيق أن يجدد قصة «فيلوكتيت»، كما جدد قصة «أوديب»، وكما جدد كتاب آخرون قصصا أخرى لسوفوكل وغيره من القدماء، فالكتاب الذين يستعيرون من السينما طريقته في العرض والحركة والتنقل السريع يجددون في الأدب تجديدا خطيرا، ويفتحون للأدباء آفاقا واسعة سواء وفق المخرجون أم لم يوفقوا في إخراج ما يكتبون.

والذين قرءوا «طريق الحرية»، أو ما ظهر من «طريق الحرية»، لجان بول سارتر، يلاحظون أنه لم يصل إلى هذا اللون من الفن فجاءة ولا عن إرادة وتعمد، وإنما وصل إليه شيئا فشيئا من طريق التطور الفني الرفيق، تأثر في ذلك ببعض الكتاب الأمريكيين، وتأثر فيه بالسينما، وتأثر فيه بالحياة الحديثة نفسها.

فهو في طريق الحرية قاص، ولكنه لا يقص أحداثه كما تعود الكتاب أن يفعلوا، وإنما هو أمام أشخاص كثيرين جدا مختلفين أشد الاختلاف، يعيشون في أقطار متنائية متباعدة، وتحدث لكل واحد منهم ألوان مختلفة من الأحداث، كلها متأثر بذلك الروع الذي ملأ الأرض قبيل الحرب العالمية الثانية.

وهو يلقي إليك أطرافا من هذه الأحداث في شيء يشبه أن يكون فوضى، ولكنه قد نظم أدق تنظيم وأمتنه، فهو يحدثك عن رجل مروع في هذه المدينة من مدن تشيكوسلوفاكيا، ثم يثب بك إلى مدينة ميونيخ حيث الاستعداد للقاء هتلر وتشمبرلين، ثم أنت في باريس في ناد من أندية اللهو، ثم أنت في باريس في غرفة خاصة حيث يتناجى عاشقان.

وهو كذلك يتنقل بك في أقطار أوروبا، وربما نقلك إلى إفريقية، وربما عبر بك البحر بين مراكش وفرنسا، وأنت لا تستقر في مكان من هذه الأماكن إلا ريثما ينقلك منه إلى مكان آخر.

ولكنه على كل حال مغرق في هذا الروع الذي ملأ الأرض قبيل الحرب، مفكر في الحرب، مستحضر لها ولأهوالها، شاهد لآياتها وبوادرها، متأثر بعد ذلك بما لكل قصة من هذه القصص الكثيرة المختلفة المختلطة من عبرة تتصل بالسياسة أو بالخلق أو بالفلسفة أو بنظام الاجتماع.

نامعلوم صفحہ