كذلك أفهم الدعة، وعلى هذا النحو أطمع فيها وأطمح إليها، ولا علي بعد ذلك أن تثقل الأعباء أو تخف، وأن يغلظ العيش أو يلين، إنما قصاراي أن أتخفف من هذا الثقل المفروض الذي لا محيد عنه في مصر، وأن أحتمل ثقلا غيره، قد يكون أشد منه تعنية وإضناء، ولكنه ثقل آخر يصور حياة أخرى ويتيح للشخصية أن تجدد نفسها على نحو ما وهذا يكفي.
فإذا أضفت إلى هذا أن من الجائز أن تتيح لك الأيام أثناء الإجازة متعة فنية هنا أو هناك فتقرأ كتابا كان من الممكن ألا تقرأه، وتقرأ هذا الكتاب رغبة في قراءته لا أداء لواجب ولا وفاء بوعد ولا تأهبا لكتابة فصل، وتشهد هذه المسرحية أو تلك، وتسمع للموسيقى هنا أو هناك، وتلقى هذا الأديب أو ذاك من الذين تسمع عنهم وتقرأ لهم ويحول بعد الشقة بينك وبين لقائهم، أقول: إذا أضفت إلى هذا أن الأيام قد تتيح لك أثناء الراحة شيئا من هذا المتاع فقد بلغت الدعة أقصاها وانتهت إلى غايتها.
وقد يفهم غيري من الناس دعتهم على غير هذا النحو، بل من المحقق أن لغيري من الناس صورا من الدعة لعلها لا تخطر لي على بال، ولكن هذا كله إنما يدل على ما قدمت آنفا من أن ألفاظ الراحة والدعة والهدوء تدل على معان أكثر وأعسر وأشد تعقيدا مما نظن.
والهدوء ما هو أو ما عسى أن يكون؟ أهو هذا الهدوء المادي الذي تنعم به حين تستقر في قرية مطمئنة بعيدة عن المدن، وعما يكون فيها من الضجيج والعجيج؟ أهو هذا الهدوء المعنوي الذي تنعم به حين تفرغ لنفسك وتخلو إليها وحين تفرغ نفسك لك وتخلو إليك بعد أن يتاح لكما الإفلات من الحياة المنظمة المطردة؟ أهو مزاج من الهدوء المادي والمعنوي؟ كل ذلك ممكن، بل كل ذلك واقع، ولكن الشيء المحقق أني أجد الهدوء المادي والمعنوي في كل مكان إلا في مصر، فقد أراد الله ألا تتيح الحياة لي في وطننا العزيز الكريم راحة ولا دعة ولا هدوءا.
والناس يذكرون الفراغ حين يذكرون الإجازة، وحين لا يذكرونها أيضا، وقد يكون من الممكن أن نجد لكلمة الفراغ معنى في معاجم اللغة، وأن نجد من النصوص الأدبية في العصور المختلفة ما يبين لنا عن هذا المعنى في وضوح وجلاء، بل قد يكون من الممكن أن نجد بين أصحاب الترف والثراء العريض مثلا قوية صادقة تبين لنا عن معنى الفراغ، أما أنا فأعترف، مع الحزن أو مع السرور لا أدري، أني لم أجد بعد للفراغ معنى أستطيع أن أحققه.
وأكبر الظن أن هذا شيء لن يتاح لي إلى آخر الدهر، إنما يتحقق معنى الفراغ حين تستطيع النفس الإنسانية أن تخلص من الحس والشعور والتفكير والتقدير، والحكم واللذة والألم واليأس والرجاء، وهي إذا خلصت من هذا كله فقد اشتمل عليها الموت، أتراها بعد الموت قادرة على أن تحقق معنى الفراغ!
في هذه المعاني كلها وفي معان أخرى كثيرة من أمثالها فكرت حين منحت نفسي إجازة أقضيها خارج القطر كما يقول الموظفون، فالإجازة عندي إذن هي الخروج من حياة إلى حياة، والتخفف من أثقالها لاحتمال أثقال أخرى، والاستعفاء من بعض الواجبات لالتزام واجبات أخرى؛ فنحن إذن لا نعفي أنفسنا من بعض الالتزام إلا لنفرض عليها التزاما آخر.
ونحن لا نخرج من عمل إلا لندخل في عمل آخر؛ فالخير إذن في أن نعود بالإجازة إلى معناها اللغوي القديم، وهو الانتقال من مكان إلى مكان، والعبور من أحد شاطئي النهر إلى شاطئه الآخر، وإني لأشهد لقد بدأت إجازتي هذا العام كما بدأتها فيما مضى من الأعوام؛ فلم أشعر إلا بأني انتقلت من جهد إلى جهد، ومن جد إلى جد، ومن التزام إلى التزام.
وإني لأفكر في هذه الأسفار الضخمة التي ملأ بها صاحبي حقيبة ضخمة، والتي يجب أن تقرأ لعل قراءتها أن تؤدي إلى شيء يستطيع الناس أن يقرءوه، إني لأفكر في هذه الكتب الضخمة، وفي صلصلة التليفون التي أيقظتني صباح اليوم في باريس كما كانت توقظني كل صباح في القاهرة، وفي المواعيد التي تطلب إلي وفي المواعيد التي أعطيها، فأسأل نفسي حقا أني قد منحتها إجازة تقضيها خارج القطر؟
نعم! إن الإجازات التي تمنح للموظفين والعاملين والتي نمنحها نحن لأنفسنا بين حين وحين، ليست إلا إجازات صغارا أو قل: إنها إجازات بالاستعارة لا بالحقيقة.
نامعلوم صفحہ