قلت: إنهما قادمتان بعد لحظة ... عندما يفرغان من حلب البقرات. فسكت وانثنى يأكل في صمت، وما لبثت الصبيتان أن دخلتا فاحتلتا مقعديهما المعتادين منكستي الطرف خائفتين، وما عتم أن ترك الأكل هنيهة ونظر إليهما قائلا: لماذا تأخرتما في حلب البقرات اليوم؟ فوقفت اللقمة في حلق سميحة وتلعثمت قائلة: لقد آذت «سوسنة» قدمها فلم نستطع أن نعود بالبقرات مسرعتين، فاضطربت المسكينة ووجلت وازدردت لقمتها في ألم وقالت: عثرت رجلي ... فالتوت ... قال: حقا سأنظر فيما قلت، وإن وجدتك كاذبة فوالله ... ولم يتم وعيده وإنما راح يثأرها بنظره الحاد. فامتقع محياها ورجفت شفتاها واضطربت اللقمة في يدها، وفي تلك اللحظة أحدث سعد الصغير على المائدة حادثا فجائيا، وكان المسكين لا يزال في الحول السادس، وقد حل عليه التعب وأثقل النعاس رأسه فأصابت المائدة وحطم القدح، فوثب أبوه من مجلسه متنمرا، ووجدتني أنا كذلك قد نهضت، ورحت أتوسل إليه وأتشفع قائلة، وأنا أدور حول المائدة لأمنعه من الإمساك بالصبي: إنه لم يقصد. ولكنه دفعني عنه دفعة ردتني إلى الجدار متراجعة وهو يصيح بي مرعدا: إليك عني، ودعيني أعرف شغلي! ووثب على الطفل فهزه من فوق كرسيه ومد يده إلى عصا معلقة فوق الجدار وسحب المسكين إلى خارج الحجرة وهو يصيح به: سأعلمك أدبا غير هذا الأدب، وأحرمك تحطيم الأكواب والأقداح أيها الخنزير القذر. ورأى الفلاحان الأجيران ما جرى فأسرعا في الأكل وخرجا هاربين. واحتملت الوليد النائم من فوق حجري فأضجعته في فراشه وعدت إلى المطبخ لغسل الأطباق وأنا لا أزال أسمع صيحات الصبي من ألم الضرب، وكان دمعي قد نضب من زمان طويل، فلم أعد أشعر من هذه المشاهدة المتكررة صباح مساء بشيء غير خفقان شديد وهزة عصبية أليمة!
وفي تلك الليلة، وقد آوى الجميع إلى المراقد، تسللت من جانب زوجي وهو نائم يغط، فدببت إلى حجرة ولدي فألفيته لا يزال يبكي ويئن في مضجعه، فرقدت بجانبه وجمعته في أحضاني، فلصق الصبي بي وأخذ يبكي بكاء يقطع الأكباد. قلت: صمتا يا بني وإلا سمعك. فازداد نحيبا وجعل يقول: ولكني لم أفعل شيئا. قلت: دع البكاء يا بني لكي أقص عليك أحدوثة (الفتاة الذهبية الشعر والدببة الثلاث). ولبثت معه حتى نام وعدت إلى مضجعي وما كدت أضع رأسي فوق الوسادة حتى شعرت بيد تهزني وسمعت صوت زوجي وهو يصيح بي: ألم يأن لك أن تصحي؟ فنهضت متعبة ضعيفة الأوصال فذهبت إلى المطبخ وما لبثت البنتان أن جاءتا تسألان: هل قلت له يا أماه؟ وكنا قد اتفقنا فيما بيننا أن أتشجع فأستأذنه في الذهاب إلى البندر لعرض أمر صحتي على الطبيب؛ إذ كنت أشكو ألما شديدا في جنبي الأيسر ... وقد علمت أن طبيبا جديدا قد نزل بالمدينة وتسامع الناس بحذقه ونطسه، وكان الأولاد في لهفة على الذهاب إذا أذن أبوهم - لما في ذلك من مسرة مشاهدة المدينة والخلاص يوما من طغيانه - فقلت للصبيتين: لم أفعل بعد. ووعدتهما أن أفاتحه عقب الفراغ من فطوره. وانتظرت حتى هم بالنهوض عن المائدة فقلت خائفة مترددة: هل تسمح بأن أذهب أنا والأطفال إلى البندر غدا؟ قال: وعلام تريدين ذهابا؟ قلت واجفة: إن جنبي الأيسر في ألم شديد، وأريد أن أذهب إلى الطبيب. فقال مرعدا مبرقا: ما شاء الله! هذا ما كنت أنتظر، إن في هذه المسالة إذن رجلا! أتريدين رؤية الطبيب الجديد؟ ذلك عذرك القديم وحجتك كلما أردت على الرجال ظهورا! كلا، لا يمكن أن تذهبي غدا.
ولوى عني عنقه وانصرف، وعدت إلى الأولاد أحمل إليهم نبأ رفضه، فتلقوه صامتين واجمين، ولكنه صمت الخيبة ووجوم الحزانى البائسين. وكان يومنا يوم الغسيل فاجتمع الأولاد له ليتولى كل منه نصيبه، وجعل سعد الوليد يجري على قدر ما تحمله ساقاه الصغيرتان معطلا الأولاد عن أعمالهم وهو يحسب أنه معينهم. وفيما نحن في شغل بالغسيل وغلي الثياب إذ حضر زوجي فجأة حوالي الضحى فقال: إننا نقيم سورا حول الغيط القبلي فجهزي لنا في الحال غداء وركب منصرفا.
فلم أكد أخلو إلى الأولاد حتى ألقيت الغسيل جانبا وصحت أقول في سخطة البائس الضجر: رباه! ما العمل الآن وقد زحمنا الغسيل اليوم ولم نفرغ لغدائه!
ونهضنا جميعا لنهيئ طعاما وذهبت العجلة بصوابنا، فلم نكد نصنع شيئا حتى عاد يطلب الغداء. قال: هل انتهى؟ قلت: بل كاد. فمضى يرسل صيبا من شتائمه ونذره. وانتهى الغداء فحزمناه له وتناوله لاعنا ساخطا وتولى ذاهبا يرعد ويقصف.
وتهالكنا جميعا بعد ذهابه على المقاعد لنملك أنفاسنا الصاعدة الراجعة، وانثنت الصبية «سميحة» المتمردة الثائرة تقول: يا للشيطان إنه لوحش كاسر! فلم يعترض أحد عليها فيما قالت، ولم يقل أحد: قد أخطات! ونظر «الصغير» إلى وجهي في إشراقة وجه المؤمل وقال: هل سيغيب عن البيت النهار طوله؟
قلت: لعله. ففرح الأطفال وتهللت أساريرهم.
وفي اليوم التالي بينما كنت أنثر الماء رشاشا على الثياب المغسولة استعدادا لكيها، إذ دخل علي زوجي فقال في لهجة المزمجر الساخر: لقد مضى عليك وقت طويل تهرفين فيه بسيرة الذهاب إلى البندر، فهلمي تأهبي للذهاب الآن وعجلي. ففرحت بهذا النبأ المباغت وإن آلمني أنه جاء على غرة فلم أهيئ للأولاد ثيابهم. وكان ذلك دأب زوجي، كلما أراد شيئا زحمني به، وأخذني في غفلة الغافل، وذهبت الصبيتان لشد الحصانين إلى العجلة وخرج إليهما أبوهما فرأى «سميحة» قد أسرجت الفرس البيضاء فصاح بها قائلا: ما الذي أوحى إليك أيتها الخرقاء أن تشدي هذه الفرس العرجاء الجريح إلى العجلة، على حين قلت لك: شدي الحصان الأشقر؟ حقا ما رأيت امرأة عنيدة مذهوبة اللب مثلك، ورفع كفه فلطمها لطمة عنيفة على خدها وزمجر قائلا: ارددي هذه الفرس إلى المربط وامكثي في البيت اليوم لا تذهبين معهم. وسمع الأولاد النبأ فذهب عنهم الفرح بالفسحة وتهيأنا بعد قليل لركوب العجلة ووقفت المسكينة ممسكة بالأعنة، وصاح زوجي بنا: أريد منكم أن تعودوا إلى هنا الثانية عشرة، أسامعة ما أقول يا امرأة؟ فهززت رأسي هزة الإيجاب، وأنشأت أقول مضطربة المنطق واجفة: وأجرة الطبيب كيف أدفعها؟ فدس يده في جيبه وأرعد قائلا: تريدين نقودا؟ يا للعنة! لا تفتأين تطلبين نقودا، ها هو ذا نصف جنيه وهي أجرة الطبيب القديم في البندر، فخير لك أن تذهبي إليه وإن كنت أعرف أنك تبتغين إلى الجديد ذهابا. وتناولت المبلغ مترددة وقلت: ولكن أحسب الأولاد قد يحتاجون إلى شيء من الحلوى. فألقى بضعة قروش إلى الصبي الكبير وقال: هاك هاك يا فؤاد فأنت العاقل الأوحد بين هؤلاء الحمقى المجانين.
وأمسكت بالأعنة وبدأت العجلة تتحرك فصاح مناديا: قفوا قليلا، والتفت إلى الصبية فقال: اطلعي معهم وعليك اللعنة. ولكن الصبية تذمرت قائلة: ولكن لا أستطيع أن أذهب هكذا يا أبت. وكانت حافية القدمين في ثوب ناصل اللون ممزق ابتذلته في خدمة البيت، فصاح بها ثانية: اطلعي قلت لك يا فاجرة. وفيما كانت الصبية تتسلق إلى العجلة قلت: يا إلهي! لقد نسيت قائمة البقول والأصناف التي نريد أن نجيء بها معنا من البقال في البندر. فبدأ يسخط ويلعن وقال: وأين هي؟ قلت: لا عليك سأنزل لإحضارها. وانطلقت عادية إلى البيت ثم عدت بعد لحظة وسارت بنا المركبة ...
وكانت المدينة منا على مسيرة عشرة أميال، وكان حتما لزاما علينا وقد خرجنا على دقة الثامنة أن نقطع الشقة خببا إذا أردنا أن نعود في الثانية عشرة كما وعد وأنذر. وقد قدرت على هذا الحساب أن الذهاب والأوبة سيستغرقان من هذه المهلة الضيقة ثلاث ساعات ونصف ساعة، ولن يبقى أمامنا لرؤية الطبيب وفسحة الأولاد في البندر والتعريج على البقال غير دقائق معدودات.
نامعلوم صفحہ