وانتبهت من غشيتي على مواقع أقدام صغيرة دقيقة، وإذا الصبي واقف على رأسي وهو يقول في جلال وجد: هنا أبي يرقد، لقد كان شجاعا، وكانت أمي تحبه، فهل أنت التي كان يتكلم عنها كثيرا، لقد سمعت أمي الساعة تناديك كذلك، فإن كنتها حقا أحببتك كما كان أبي يحبك، أنا مثل أبي، وأمي تقول أنا به شبيه فخذي عني حبه، نعم، إنني أحبك يا حبيبة أبي وصديقته ...
ووقف يتمسح بثوبي وينحني على وجهي بوجهه.
قلت والعبرات تخنقني: وأنا أحبك كذلك، كما أحببت أباك من قبل وأمك، والآن يا طفلي العزيز، وصورة أبيك الغالي، سنذهب لنعيش معا، ونعود إلى بلدنا وإلى صديقنا ح ... الولي الحميم ...
هتاف الأمومة
ألم تنظر يوما إلى مشهد ما كان لك أن تشهده، وتلقي العين على شيء ما كان يدور بخلدك أنك يوما عليه ملقيها، كابتسامة طفل نائم يخيل إليك أنها ابتسام السكون وضحكة العالم المجهول الذي لا حد له؟ أو كانبثاق أول خيوط الفجر على صفحة البحيرة وأمواهها الساكنية الصافية ... نعم، ألم تأخذ يوما عينك مشاهد تستدر الشؤون وترسل الدمع من العين صيبا منهمرا، وتثير في فؤادك إحساسا غامضا جليلا، نصفه دهشة، ونصفه ألم؟ ...
إذا وقع لك في الحياة شيء من ذلك، فأنت إذن مستطيع أن تتصور مبلغ ما خالجني من الإحساس، يوم رأيت حنان الأمومة الملهوف البليغ في صمته، الرائع في صورته ومقتبله، على وجه السيدة «ب»، فقد رحت أتمثل في الخاطر مشهدا جرى على السنين، وتمادى مع الأعوام، سنين سادت خلالها في فؤاد الأم لهفة الأمومة، وأعوام نما فيها مع الوليد حنان الوالدة، أعوام مضت فيها تلك الأرملة الشابة التي مات عنها بعلها في الأشهر الأولى من مولد طفلها، تمسك بذلك الوجه الدقيق الندي الجميل، وشعره الفاحم المنتثر تفاريق في جلدة رأسه، فتضمه إلى صدرها، وترضعه أفاويق لبانها، ثم أعوام أخرى ذهبت خلالها تداور خيباتها، وتتناسى مناكد عيشها، وتتعلل بعذب الأمل، واعدة نفسها، أن الأرض وما حوت من خير ووفر وهناءة ورغد، ستكون غدا لوليدها يتقلب فيها حيث يشاء.
وأكبر ظني أنها كانت عن طواعية تخوض الجحيم، وعن رضى تصطبر لأشد العذاب في تلك السنوات الأولى من عهد الطفولة، إذا كان في خوض الجحيم والاصطبار لعذاب الحريق ما يعينها على أن تاتي بما لا تستطيع أم أن تأتي به لإرضاء طفلها، وما يسعفها على أن تقرب من يديه المتطاولتين ما يلتهف عليه، ويبكي لطلبه، فوالله لقد كانت في كل ذلك أشبه شيء بكلب مخلص أمين حيال سيده المتغير المتقلب، تفرح لفرحه، وتبكي لبكاه، وتأسى على أساه، وتأخذ من نفسها لنفسه، وهي معه أبدا في حالتي بؤسه ونعماه.
وكذلك هي الأمومة عند بعض الأمهات، تأتي مستحوذة غالية، فتتلاشى الأم في الولد، وتتفانى الروح كلها في فلذة الكبد، ومشهد أمومة كهذه والله أليم، ومرأى حنان كهذا الحنان يستثير الرحمة ويروع الخاطر والوجدان. •••
وكان مجلسهما أبدا قبالتي على مائدة الطعام في البيت الذي نزلنا به لمسكن وطعام، هو في ممتشق قده، وفينان عوده، كأنه صورة «أبو للون»، رب الشمس عند اليونان، وهي في مسحة من جمال دائل، وإثارة من حسن ذابل، وزرقة عينين نسطع فيهما حينا نظرة الأمومة المدهشة المبهوتة إذ تشهد أن ولدها قد عاد الفتى المديد العود، الملفوح الوجه، المفعم البدن صحة وقوة وبأسا، وقد أراه وهو يروح ويغدو، ويجيء وينصرف، خفيف الحركة، بادي النشاط، منفرج الخطو، منسرح المشية، وأمه تتبعه النظر، وترسل العين في إثره، وتلم به قبل أن يلم بها، وتدانيه وهو قادم من بعيد عليها.
لقد جاهدت لأجله أعوام الحاجة، وغالبت أيام الفاقة، وناضلت عهد طفولته البأساء، وكانت يومذاك تكدح لرزقها ورزقه، خياطة مأجورة في متجر للأزياء، حتى أضحت كبيرة الحائكات فيه.
نامعلوم صفحہ