التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف
التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف
ناشر
المكتبة الأزهرية للتراث
ایڈیشن نمبر
الأولى
اصناف
المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ والصلاة والسلام على سيدنا محمد ﷺ، بعثه ربه بالحق هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أرسله رحمة للعالمين، فكان ﷺ دعوة خليل الله إبراهيم ﵇: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .. ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ .. ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد ﷺ بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في سبيل الله حق جهاده، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه.
وبعد ...
فإن أفضل الحديث كتاب الله ﷿، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار، فقد تفضل الله ﷿ عليه، وعلى أمته خير أمة آخرجت للناس بالذكر الحكيم: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ .. ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ
1 / 3
آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ .. ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ وتفضل عليه أيضًا بالهدي النبوي والحديث الشريف فخصه الله ﷿ من بين الأنبياء والمرسلين بخصائص كثيرة من بينها جوامع وبلاغة القول، قال ﷺ: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش" فكان حديثه هدًى ونورًا: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ .. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ .. ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ .. ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ .. ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .. ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ .. ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى..﴾ .
فهذان المصدران العظيمان القرآن الكريم والحديث الشريف هما: التشريع الإسلامي فهما دستور هذه الأمة. شرح الله تعالى بالقرآن صدر نبيه
1 / 4
ﷺ ورفع ذكره وثبت به فؤاده، فإذا بين القرآن وتحدث عنه، فإنه يبين قيمه الخلقية والتشريعية في بيان أخاذ، وتصوير نبوي شريف، وذلك في أحاديثه النبوية والقدسية الشريفة، فما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، قال ﷺ: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي" اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد ﷺ وعلى آله وصحبه والتابعين الذين نهجوا نهجه وسلكوا طريقه فكانوا منارة للعالمين وهدى للسالكين ﵃، أدعو الله ﷿ أن ينفع بهذا الكتاب: "التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف"١ وأن يكون شفيعًا لنا ولوالدينا وأهلينا يوم الدين إنه سميع قريب مجيب إنه نعم المولى ونعم النصير.
في شوال ١٤٢٢هـ الموافق يناير ٢٠٠٢م.
علي علي صبح
_________
١ هذه الأحاديث الشريفة كانت حلقات قد أذيعت في إذاعة القرآن الكريم بالقاهرة في برنامج يومي "بلاغة الرسول ﷺ" الذي يقدمه الأستاذ الدكتور/ عبد الله الخولي نفع الله تعالى به وبأمثاله الكرام.
1 / 5
الفصل الأول: الإسلام والإيمان
الأعمال بالنيات:
أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
منزلة النية ومكانتها السامية من الأعمال:
منزلة النية من الأعمال والأقوال كمنزلة الروح والرأس من الجسد، فلا قيمة للأقوال والأعمال ولا ثواب عليها إلا إذا اقترنت بالنية، لتكون ابتغاء مرضاة الله ﷿، كالشأن في الجسد يكون جثة هامدة، لا وزن له ولا حياة إلا بملازمة الروح له، فالروح هو حياة الجسد وحيويته وإنسانيته، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكد على أن النية ابتغاء وجه الله ﷿ هي الأساس في قبول الأعمال والإثابة عليهما، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾، ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾، ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾
1 / 6
وغيرها: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾، ﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ لذلك كان هذا الحديث من جوامع الكلم. قال الإمامان الشافعي وابن حنبل: هذا الحديث ثلث الإسلام، ينتظم أركانًا ثلاثة، عمل الجنان وهو القلب، وقول اللسان، وفعل الجوارح.
التصوير الأدبي في الحديث:
لمكانة النية من الأقوال والأفعال في تعبير بلاغي، يفوق بلاغة العرب، حتى صار هذا الحديث الشريف من جوامع الكلم، يجمع ثلث شريعة الإسلام في ألفاظ قليلة، ومن الصور البليغة قوله: "إنما الأعمال بالنيات" أسلوب قصر يقصر قبول الأقوال والأعمال والإثابة عنها ونفع صاحبها على النية وحدها؛ فهي أساس القبول وحده، فلا ينجو صاحبها إلا بها، كما يتضمن أسلوب القصر دعم الحكم بالحجة والدليل لتأكيده ونفي ما سواه، لأن المراد: لا تقبل الأعمال إلا بالنية، كما يتضمن أسلوب القصر هنا التعريض بكل من لا يعمل عملًا لغير وجه الله، فهو غير مقبول، ومن بينهم مهاجر أم قيس الذي هاجر إلى المدينة للزواج منها كما نص الحديث على ذلك فمن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
ومن الصور الأدبية البليغة أيضًا قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" فهو أسلوب قصر تضمن المعاني البليغة السابقة، إلا أنه زاد عليها بلاغة وقوة، جاءت من التكرار بصورة أخرى لتؤكد المعاني السابقة، وفي التكرار تأكيد وتقوية لما يهدف إليه الحديث الشريف، وفيه أيضًا ذلك التناسُق الموسيقي والإيقاعُ المتوازن في التصوير مما يثير الانتباه، ويوقظ الحسن والوجدان، ويحرك المشاعر، فتتفتح لقبوله منافذ الإدراك المختلفة في النفس، فتستقر فيها، وتزداد تصديقًا وإيمانًا بقيمها السامية.
1 / 7
ومن الصور البليغة أيضًا التعبير "بما الموصولة" في قوله: "ما نوى" لإفادة العموم والشمول لكل ما ينويه الإنسان من الخير أو الشر، قولًا أو فعلًا أو عملًا أو تقريرًا وغير ذلك، فالإنسان محاسب على كل ما يصدر عنه صغيرًا كان أو كبيرًا، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ وقوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ .
ومن الصور الأدبية البليغة أيضًا، ما يفيد الإيضاح بعد الإبهام، ليزداد المراد من القيم السامية في الحديث الشريف تأكيدًا، وحثًّا على اتباعه وحرصًا على تنفيذه، وجاء الإبهام في قوله: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" ثم وضح الحديث الشريف هذا الإبهام والإجمال بالتفصيل في قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" والمراد بالهجرة ليس الانتقال من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة فحسب، بل تشمل الهجرة من المعاصي والفواحش والمفاسد إلى الطاعات والطيبات والصالحات، وفي ذلك يرتقي التصوير البلاغي فيجعل من يهجر المعاصي إلى الطاعات، مثل من هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة في الثواب والأجر سواء بسواء، لأن هذا هو الجهاد الأكبر الذي أشار إليه الرسول ﷺ بعد أن رجع من غزوة في سبيل الله، فقال: "هو جهاد النفس بالهجرة من المعاصي إلى الطاعات".
ومن الصور الأدبية البليغة تكرار لفظ الجلالة ولفظ الرسول وإظهارهما، وكان يغني عنها الضمير الذي يعود على ما سبق، لتعظيم الهجرة وتعظيم المهاجر إليه وهو الله ورسوله في قوله: "فهجرته إلى الله
1 / 8
ورسوله"، بينما لم يكرر الاسم الظاهر في الهجرة إلى الدنيا أو المرأة ولم يظهرها، بل اكتفى بالضمير العائد عليها في قولها: "فهجرته إلى ما هاجر إليه"، للتحقير والتهوين من شأن هذه الهجرة، لأنها في غير ابتغاء وجه الله ﷿ وفي غير مرضاته، وكذلك مع الدنيا، لذلك قال الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ . وقال النبي ﷺ: "ما تركت من بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء".
القيم التشريعية والأخلاقية في الحديث الشريف:
١- لا ثواب في القول والعمل إلا بالنية والإخلاص فيها، أما الغافل والناسي والمخطئ لا يحاسب على النية، كما أن الأفعال العادية لا تحتاج إلى نية كالجلوس والقيام والمشي في ذاته إلا إذا اقترن بما أمر الله تعالى به أو نهى عنه.
٢- ما يتصل بالقلب والعاطفة والمشاعر لا يحتاج إلى نية كالخشية والخوف والتوبة والتصديق والمحبة وما أشبه ذلك.
٣- معرفة الحكم وشروط الصحة في العبادة قبل التطبيق والعمل؛ لأن صحة العبادة تترتب على النية، فإذا انقطعت النية أثناء العبادة بطلت.
٤- سجود التلاوة يحتاج إلى نية عند الجمهور لأنه عبادة.
٥- يدخل في مفهوم الهجرة التاريخية الهجرة من المعاصي والمحرمات إلى الطاعات وأعمال الخيرات والسعي على المعيشة ليعف النفس عن السؤال، وتقوى على فعل الطاعات.
٦- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.
1 / 9
حلاوة الإيمان:
أخرج البخاري عن أنس ﵁ عن النبي ﷺ قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
التصوير البلاغي: المستمد من وحي المعاني الوضعية للأسلوب في هذا الحديث الشريف في صور أدبية متنوعة منها: كلمة "ثلاث" جاءت منكرة، تنوعت فيها مصادر الجمال، فتجد فيها الإبهام، والمراد به إثارة انتباه السامع، وتشويقه للبيان الكاشف في قوله بعد ذلك: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما".. إلخ، فتتمكن في النفس وتستقر في الأعماق، ليظل رصيدًا شعوريًا وزادًا روحيًا، يقاوم تقلبات الزمن وصراعات الحياة، وتجد فيها أيضًا معاني التعظيم والإكبار، أي فهي ثلاثة عظيمة الشأن، وقوية في صدق الإيمان وسعادة النفس، وتجد فيها كذلك معاني العموم والشمول، فهي ثلاث في العدد، لكن شاملة النفع، تعم جميع أنواع البر والطاعة لله ﷿، ولرسوله ﷺ، وكلمة "حلاوة الإيمان" تفيد التذوق الحسي والمعنوي، فأما الحلاوة الحسية فحقيقة واقعة في القلب السليم من أمراض الغفلة والهوى؛ فيتذوق طعم الإيمان ويتنعم به، كما يتذوق اللسان حلاوة العسل ولذة الحلاوة، وكما يتلذذ القلب بالطاعات، ويستعذب المشقات، ويُؤْثر ذلك على أغراض الدنيا ومتاعها الحسي الفاني، وأما الحلاوة المعنوية تكون في الاقتناع والرضا بشريعة الله؛ فيحب الطاعة وينفر من المعصية، فلا يجد في النفس حرجًا مما قضى الله، ولا يبحث عن علاج لمشكلاته في غير ما جاء به التشريع الإلهي،
1 / 10
﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ .
وتجد أسلوب القصر والتأكيد في قوله: "لا يحبه إلا لله" ليفيد قصر حب المرء على أن يكون لوجه الله وابتغاء مرضاته، فيلتزم فيه طاعته، ويكف عن معصيته، منزها عن المقاصد المادية والأغراض الدنيوية، قال يحيى بن معاذ ﵁: "لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء"، بل يقتصر حب المرء على أن يكون لله ولرسوله على سبيل التأكيد، فلا يتعداه إلى غير ذلك بحال، وكذلك وحي الكلمات في "أحَبَّ" بأفعل التفضيل. واختيار كلمة يُكْرَهُ ويُقْذَفُ، والظرفية بحرف الجر "في" وغيرها.
التصوير الفني: في بلاغة الأسلوب البياني المستمد من ألوان الخيال البديعة، تتخذ صورًا أدبية حية ومؤثرة في القلب والعقل والوجدان، وذلك في صورة "حلاوة الإيمان"، تقوم على الاستعارة بالكناية، حين شبِّه الإيمان بالحلاوة الحسية للعسل وغيره، بجامع ميل القلب وتمتعه باللذة والحب والرضا، معبرًا بالحلاوة كناية عن العسل والثمرة الطيبة من شجرة طيبة، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ .
وعبر بحرف الجر "في" بدلًا من "إلى" في قوله: "يعود في الكفر ويقذف في النار"؛ لأن الشأن في الفعلين هنا "يعود" و"يُقْذَف" يتعديان بحرف الجر "إلى"، لا "بفي" الظرفية التي جاءت هنا على سبيل الاستعارة، للدلالة على الاستقرار في أعماق النار، حين يتمكن الظرف من المظروف؛ ليكون ذلك أعظم تنفيرًا منهما، وأشد ترهيبًا من عواقبهما الوخيمة.
1 / 11
أما الصورة البيانية في تشبيه كراهية العودة إلى الكفر بكراهية القذف في النار، فهي تصور بشاعة الكفر وفظاعته، لأن الكفر أمر قد لا يهتم به الكافر لغفلته عن ضرره واستغراقه في لهوه، فالكفر ليس محسوسًا ولا مجسدًا تجسيدًا عينيًا يحذر منه العبد، ويخافه إلا إذا انغمس في عقاب محسوس، يعانيه في الدنيا كما يعاني لهيب النار، التي تحرقه ويتفحم بها جسده، وأنها في الآخرة ستكون أشد عذابًا وأنكى، لأن صفة المشبه به -وهو كراهية النار- أبلغ وأقوى في الحس من المشبه، وهو كراهية الكفر، ليدرك العبد فظاعة الكفر والنار، وبشاعة الضلال والعذاب فيهما، نعوذ بالله الرحمن الرحيم من شرهما معًا.
القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف:
١- تربية المسلم على العزة والترفع والسمو، فإذا أحب لا يحب إلا ابتغاء مرضاة الله ورسوله، وإذا كره لا يكره إلا لله ورسوله، فتكون محبة الله ﷾ ورسوله ﷺ في الطاعة أمرًا ونهيًا مقدمة على ما عداهما خالصة لوجهه الكريم لا من أجل نعمة عليه أو متاع الحياة الدنيا.
٢- أن تكون محبة المؤمن للمؤمن خالصة في الله ولله تعالى لا لغرض أو مصلحة أو عرض من متاع الدنيا، وطمعًا في جاه أو سلطان، أو منصب أو مال.
٣- أن يتحلى المؤمن بمكارم الأخلاق وكريم الشيم مترفعًا عن الرذائل والمكاره.
٤- الإيمان الصادق يملأ القلب بالنعيم واللذة فيمقت الكفر، ويفزع منه كما يخشى العذاب الأليم ولهيب النار المحرقة.
٥- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.
1 / 12
كمال الإيمان:
أخرج البخاري عن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: "الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" زاد مسلم: "فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
بلاغة التعبير بالإيمان دون غيره:
أما أسرار روعة التصوير الأدبي والفني في إيثار بلاغة التعبير بالإيمان، دون غيره من مراحل الإسلام فتعود إلى: أن الإيمان هو مرحلة الكمال والصدق والإخلاص في العمل، ابتغاء مرضاة الله ﷿، لا يشوبها الرياء أو التظاهر أو النفاق في مرحلة الإسلام حينًا، لأن المسلم قد يصلي ويصوم ويزكي في الظاهر، وليس لوجه الله ﷿ بعكس المؤمن، لأن الإيمان يزيد حتى يصل إلى أسمى درجاته وهو الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، كما جاء في حديث جبريل، حين سأل عن مراحله مُرتَّبة حسب تمامها وكمالها، فالإسلام أولًا ثم الإيمان ثم الإحسان، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ .
وعبر عن الإيمان أيضًا بأداة التعريف "أل"، لبلاغة الدلالة على مكملات الإيمان أي الإيمان الكامل، لأن أداة التعريف تفيد استغراق قيم الإيمان، وتشمل جميع مكملاته كما نقول: الرجل، أي الذي اكتملت صفات رجولته وقيمها، وكمال الإيمان يجمع بين مكملاته من الإقرار والتصديق والعمل والإخلاص؛ لذلك فسره الحديث بأن الإيمان بضع وستون شعبة، وجاءت زيادة مسلم في روايته لتوضح مكملاته أكثر في قوله: "أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"؛ فقد
1 / 13
حصرها كثير من العلماء ومنهم أبو حيان التوحيدي؛ فجعلوا هذه الشعب تتفرع إلى ثلاثة؛ أولًا: أعمال القلب وهي المعتقدات والنيات في أربع وعشرين خصلة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وما يتصل بالقبر، وبيوم القيامة والتوبة والخوف والرجاء وهكذا، ثانيًا: أعمال اللسان في سبع خصال: التلفظ بالشهادة، وتلاوة القرآن، والعلم، والدعاء، والذكر ... إلخ، ثالثًا: أعمال البدن في ثمان وثلاثين خصلة: كالتطهر والصلاة والصيام.. إلخ، ومجموعها تسع وستون خصلة كما قال القاضي عياض.
بلاغة التعبير عن كمال الإيمان بقوله: "بضع وستون شعبة":
ترجع روعة التصوير البلاغي في هذه الفقرة إلى أسرار فنية وجمالية منها: اختيار كلمة "بضع" دون غيرها مثل نيف، لدلالة بضع على العدد من ثلاثة إلى تسعة، بينما نيف، من واحد إلى ثلاثة غالبًا، وبإضافة التسع إلى الستين يكون المجموع تسعًا وستين؛ أي: سبعين قيمة إسلامية، هي التي تكمل الإيمان لأن كمال الأعداد سبعة، ومضاعفاتها سبعون وسبعمائة وسبعة آلاف، وهكذا فالسبعة هي نهاية العدد وكماله، وما بعده مكرر ومعطوف ومضاف إليه، لذلك كانت الأراضين سبعًا والسموات والأسبوع سبعًا، وكمال الاستغفار سبعين وهكذا، ومن هنا جاءت رواية أخرى لمسلم "بضع وسبعون شعبة" للدلالة على الغاية ونهاية الكثرة.
ومنها التعبير بالبضع للدلالة على شرف قيم الإسلام وعزتها ونفاستها؛ لأن البضع هو أعز شيء يحافظ عليه الإنسان وأشرفه وأنفسه؛ فهو موطن الشرف والعزة والنفاسة، وهي من معاني البضع في اللغة العربية ومنها التعبير البلاغي بقوله: "شعبة"، فجاءت الصورة الأدبية على
1 / 14
سبيل التشبيه والتصوير الحسي؛ ليكون أقوى تأثيرًا وأسرع نفاذًا إلى القلب والنفس، فقد شُبه الإيمان ومكملاته بالشجرة الضخمة وشعبها، التي تحمل كل شعبة فروعًا وأوراقًا وأزهارًا وثمارًا، فشبه الإيمان بأصل الشجرة جذوعًا وسيقانًا، وشبه مكملات الإيمان بالسبعين شعبة، وما تحمل كل شعبة، وجاء هذا التشبيه التمثيلي البليغ على سبيل الاستعارة بالكناية؛ فحذف المشبه به وهو الشجرة وطوى ذكرها، وأثبت شعبها وفروعها وغيرها من مستلزمات الشجرة على سبيل المجاز والتخييل؛ لأن التصوير بالمحسنات من الواقع بالشجرة أبلغ تأثيرًا في النفس من تصوير الإيمان بالمعاني الذهنية المجردة.
بلاغة التعبير بقوله: "والحياء شعبة من الإيمان":
ذكر الحديث الشريف الحياء وخصه بالذكر دون غيره من السبعين، لأن الحياء يشمل جميع شعب الإيمان الثلاث، وما يتفرع عنها وهي أعمال القلب وأعمال اللسان وأعمال البدن؛ لأن معنى الحياء هو الخلق السامي الذي يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، لذلك ورد في حديث آخر "الحياء خير كله" لأن الحياء من الله ألا يراك حيث نهاك؛ لأن الله يراقبك ويراك وهو المراد من الحديث الشريف: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وأخرج الترمذي قول رسول الله ﷺ: "واستحيوا من الله حق الحياء" قالوا: إنا نستحي والحمد لله فقال: "ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى؛ فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" قال الطيبي: أفرد الحياء بالذكر بعد دخوله في الشعب، كأنه يقول هذه شعبة واحدة من شعبة، فهل تُحْصَى شعبُه كلها
1 / 15
هيهات هيهات، أي كثيرة لا تحصى وتؤكد ذلك رواية مسلم: "أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف:
١- كمال الإيمان الذي ينجي صاحبه ويسعده يقوم على اتباع ما أمر الله تعالى به، واجتناب ما نهى الله ﷿ عنه.
٢- شعب الإيمان كثيرة ومتنوعة ما بين شعب عليا ووسطى ودنيا، فعلى المؤمن أن يحرص عليها.
٣- الحياء أعظم شعب الإيمان، "فلا إيمان لمن لا حياء له"، والإيمان والحياء مقترنان".
٤- الإيمان ينقص ويزيد، حتى يصل إلى قمته، وهو الإحسان وهو العروة الوثقى.
٥- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.
1 / 16
الإيمان الكامل:
أخرج الترمذي عن أبي هريرة ﵁ قال:
قال رسول الله ﷺ: "من يأخذ عني هذه الكلمات؛ فيعملُ بهن أو يُعْلِمُ من يعمل بهن"؟ فقال أبو هريرة قلت: أنا يا رسول الله فأخذ بيده فعدَّ خمسًا فقال:
"اتّقِ المحارم تكنْ أعبدَ الناس".
وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس.
وأحسنْ إلى جارك تكنْ مؤمنًا.
وأحبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك تكنْ مسلمًا.
ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب".
التصوير الأدبي في بلاغة التوازن بين الشرط والجزاء على سبيل اللزوم والجزم كما تستلزم المقدمةُ النتيجة على سبيل الإلزام والتحقيق، وخاصة إذا صدرت عن النبي ﷺ الصادق الأمين: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ وذلك في استخدام أسلوب الشرط والجزاء في الصور الأدبية الخمسة البليغة، التي وردت في الحديث الشريف على سبيل الجزم والتحقيق، وأعانت على ذلك روافد بلاغية أخرى وهي ورود فعل الشرط بصيغة الأمر مثل: اتق وارض.. إلخ ومعناها أيضًا الجزم والتحقيق، ودلالة جواب الشرط على الأمر وإن جاء على صيغة الفعل المضارع، مثل: تكن أعبد الناس، وتكن أغنى الناس" وهكذا، وكذلك انتقاء أفعال غزيرة القيم السامية، لا يقوى عليها غيرها مما يقوم مقامها، مثل كلمة "اتق" فهي تتضمن قيمًا سامية شريفة كثيرة، لا تدخل تحت الحصر ولا تغني عنها في ذلك كلمة: ابتعد أو تجنب، وكذلك اختيار كلمة "وارْضَ" فالرضا هو الغاية السامية من التقوى، وكذلك كلمة "أحْسِنْ" والإحسان قمة الإيمان قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾، وكذلك كلمة "أَحِبَّ" والنهي عن كثرة الضحك؛ لأن الإسراف فيه يميت القلب، فالإسلام يحث على التفاؤل والترويح عن النفس بالابتسامة والضحك ساعة بعد ساعة لكي لا تمل النفس، فإذا ملّت كلت وسئمت وتشاءمت، ولا طيرة ولا تشاؤم في الإسلام.
التصوير الأدبي في بلاغة الإيقاع القوي، والموسيقى المتدفقة الهادرة، مما يتلاءم مع القيم السامية التي تحث عليها شريعة الإسلام في هذا الحديث الشريف؛ فتأمل الإيقاع الصوتي في الحروف والكلمات، فهو إيقاع قوي
1 / 17
جازم يُلْزِمُ المؤمن بالقيم، وهو واثق من عظيم الثواب وأفضل الجزاء، وذلك في الإيقاع الصوتي النابع من صيغ الأمر الكثيرة في "اتق وارض وأحسن وأحبَّ" وصيغة النهي في "ولا تكثر من الضحك" وكذلك الإيقاع الصوتي الجازم القوي الصادر من ترتب جملة الجواب والجزاء على الشرط في توازن واتزان مثل: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وهكذا في الصور البلاغية الخمسة، فكأنَّ الإنسان يضع بيده شيئًا هنا بينما يضع بيده الأخرى شيئًا هناك، في اتساق وتوازن واتزان، تلك هي الإيقاعات القوية التي تثير العقل والعاطفة، وتحرك الانتباه والمشاعر والأحاسيس.
ثم تأمل الإيقاع الصوتي والتدفق الموسيقي في صيغ أفعل التفضيل، وذلك في هذه التقاسيم: "أعبد الناس" و"أغنى الناس" ثم ما يوحي به التقسيم الموسيقي في قوله: "تكن مؤمنًا" من التدفق في الإيقاع والجزم والقطع، مع أنه ورد في صيغة الفعل المضارع الذي يتراوح معناه بين الحال والاستقبال، ثم تأمل الموسيقى المتراخية الممتدة والإيقاع الهادي العميق في تصوير الحب وموت القلب النابعان من كثرة حروف اللين والتضعيف في الشدات، وأيضًا كلمة "مسلمًا" لتسلم النفس من العقد والعلل النفسية مما يتناسب مع قيم الحب التي تتسم بطبيعة العمق ودوام الصدق والإخلاص والسلامة، ومما يتلاءم أيضًا مع إحياء القلب وبعثه بعد جموده وموته من كثرة الضحك وتراخي عضلاته وامتدادها من التواصل فيه.
القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف:
١- أن يتحول العلم إلى منهج وسلوك في الحياة؛ فيعمل الإنسان بما علم، حتى يعود عليه وعلى المسلمين بالسعادة: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ .
1 / 18
٢- اتقاء المحارم واجتناب المحرمات هو أفضل العبادات؛ لأنه يمكن صاحبه من اتباع الأوامر؛ فيجمع بين ما أمر الله به وما نهى عنه؛ فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
٣- أفضل الناس وأغناهم من يعف نفسه، ويرضى بما قسم الله ﷿ له ويقنع بعطاء الله في كل شيء؛ فلا يظلم ربك أحدًا.
٤- إذا كان مؤمنًا حقًا فعليه أن يحسن الجوار، ويعامل جيرانه بالحسنى وهم كما في قوله تعالى: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾ .
٥- امتلاء القلب بالمحبة للناس بمثل ما تحبه لنفسك، حتى يشيع الأمن والتعاون والرخاء والترابط والوحدة، فتكون الأمة قوية عزيزة ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ .
٦- روحوا عن أنفسكم ساعة فساعة، حتى لا تكل النفس فتمل، ولا تكثروا من الضحك وتتمادوا فيه؛ فإن ذلك يميت القلب، فلا يحيا ولا يتجدد نشاطه إلا بالقليل ترويحًا عن النفس؛ فيقوى ويتجدد نشاطه من حين إلى آخر.
٧- بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي من الحديث الشريف.
1 / 19
النخلة كالمسلم:
أخرج البخاري عن ابن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي"؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: "هي النخلة".
بلاغة التصوير الأدبي في ضرب المثل: جاء الحديث الشريف على سبيل ضرب المثل من الواقع الذي يعيش فيه الإنسان؛ فقد جمع في المثل بين النخلة وما يتعلق بها من الثمار والجريد والليف، والساق ودوامِ الخضرةِ طوال العام، والإيواء إلى ظلها وقاية من الحر وحلاوة الثمر، وتستريح الأذنُ إلى حفيف السعفِ والجريد وغيرها مما هو مألوفٌ، وبين المسلم وما يصدر عنه من الطاعات وعمل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلاهما يُشبِه الآخر في دوام الانتفاع وعمومه.
لكن الشأن في ضرب الأمثال أن يكون المشبهُ به هو المحس في الواقع كالشجرة هنا، ويكون المشبهُ هو المسلم، حتى تتجسم المعاني المجردةُ في صورة محسوسةٍ تدرك بجميع الحواس، وهي شجرةُ النخيل، فهي هنا تقديرًا في موقع المشبه هنا؛ لأنها أقربُ إلى الفهم من المعاني المجردة في المسلم وهو المشبه.
لكن روعة البلاغة في الحديث الشريف أنْ جاء التشبيهُ التمثيلي مقلوبًا، فكان المشبهُ هو النخلةُ المحسوسةُ، والمشبهُ به هو المسلمُ، للدلالة على أن المسلم أبلغُ في صفاته المعنوية والخلقية من النخلة المحسوسة للتصريح بأن المسلم أعزُّ عند الله وعند الناس، وأن النخلة مع أنها شبيهةٌ به في جميع منافعها إلا أن منافع المسلم أكثر منها؛ لاستكثاره من الخير والعمل الصالح والتمسك بالفضائل، والتحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن القبيح والصفات الذميمة، علاوة على تميزه عن الخلائق بالعقل والتكليف.
بلاغة التصوير الأدبي في العرض القصصي بأسلوب الحوار: حينما عرض النبي ﷺ على الصحابة ﵃ سؤالًا عن شجرةٍ لا يسقط
1 / 20
ورقها، وذكر لهم بعض خصائصها التي تلتقي فيها صفات المسلم، لكي يحرك العقل والمشاعر، وينمي الذكاء في النفس، ويتنافس المتلقي مع غيره في المهارات العقلية، لتعميق التجارب الإنسانية في الحياة، والكشف عن أعماق الخبرة والحنكة في فهم أسرار الواقع، مما دعا كل المستمعين أن يتسابقوا في عرض خبراتهم في الحياة، وإظهار ذكائهم وقدراتهم العقلية والفكرية، فانطلق كل واحد يفسرها حسب خبرته وتجاربه الفكرية والعلمية والواقعية في الحياة، ويذكر نوعًا من الأشجار الكثيرة التي انتشرت في البوادي، وتنوعت أشكالها وأنواعها في الصحراء والوديان وعلى الجبال، لكن هذه الإجابات المتنوعة ابتعدت عن المطلوب، ولم تتفق مع صفات الشجرة المطلوبة، التي رمز إليها الرسول ﷺ ببعض صفاتها، حتى يحرك الأذهان وينمي الذكاء ويعمق التفكير، وابتعدوا جميعًا عن النخلة ورسول الله يتلقى الإجابات بصدر واسع وقلب مفتوح، ما عدا الراوي عبد الله بن عمر الذي خطر في باله وهداه تفكيره وذكاؤه وعمقُ تجربته هنا إلى أنها النخلةُ، فكاد أن ينطق ويعلن عما دار في عقله وخلده، ليسمع رسول الله ﷺ الإجابة الصحيحة، لكن حياءه منعه من أن يعلن ذلك، وحوله كبار الصحابة ﵃، ومنهم شيخ الإسلام أبو بكر الصديق، وأعدل أهل الأرض بعد رسول الله الكريم والده عمر بن الخطاب وغيرهما ﵃ هيبة منهم وتوقيرًا لهم، وخاصة وفي كل مرة يطرح هذا السؤال بصفات أخرى، ويتلقى الإجابة غير الصحيحة، ثم يزيدهم بعض الصفات لها، حتى تكون أكثر وضوحًا كما ورد في رواية: "إنها لا ينقطع ثمرها ولا يُعدم نيله ولا يبطل قطعها"، وفي رواية ثانية: "لا يسقط لها أبلمة - أي: خوصة - كما لا يسقط لمسلم دعوة"، وفي رواية رابعة:
1 / 21
"إن من الشجر ما بركته كبركة المسلم" فعجزوا، حتى قالوا: حدثنا عنها يا رسول الله، فقال مجيبًا عن السؤال بعد هذا الحوار القصصيَّ الشيق، الذي اشتركت فيه الشخصيات القصصية المختلفة، قال ﷺ: "إنها النخلة"، لأنها كالمسلم ينتفع بجميع أجزائها المتنوعة كالثمرة والجريدة والليف والخوص والعرجون حتى النوى في علف الدواب، والظلال، لأن المسلم كله خير، كما ورد في الحديث الشريف: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير".
القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف:
١- الترغيب في اختبار الذكاء والتفكير، وتحريك العقل بالألغاز لظهور الشخصية وإبداء الرأي.
٢- تقريب المعاني إلى العقل بالتصوير وضرب الأمثال.
٣- الترغيب في الحياء، وتوقير الكبير، ومجالسة الكبار وأهل العلم والمنازل السامية.
٤- النخلة أفضل أنواع الشجر لقلة تكاليفها، وعموم منافعها، وطيب ثمرتها.
٥- المسلم متعدد المنافع كثير الفضائل، لا يقتصر خيره على نفسه، وإنما يتعداه إلى غيره من المسلمين، وإلى كل ما خلق الله ﷿.
٦- بالإضافة إلى ما ذكرته في التصوير النبوي في الحديث الشريف.
1 / 22