النظام القضائي
النظام القضائي
ناشر
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
اصناف
القضاء في الإسلام
القضاء في الاصطلاح:
يمكن أن نستخلص تعريفا شاملا ومبسطا للقضاء بأنه: (الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للنزاع بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة) .
1 / 1
مشروعية القضاء
1 / 2
القضاء من عمل الرسل عليهم الصلاة والسلام، يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾، وقوله: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ ورسول الإسلام محمد ﷺ صاحب الرسالة الخاتمة والدائمة كما كان مأمورا بالدعوة والتبليغ كان مأمورا بالحكم والفصل في الخصومات وقد ورد في القرآن الكريم في غير ما آية ما يشير إلى ذلك، منها قوله تعالى: ﴿احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ وقوله: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ وقوله: ﴿
1 / 3
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ وأما السنة المطهرة فتدل لمشروعية القضاء أحاديث كثيرة منها ما رواه عمرو بن العاص ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» وقوله ﷺ: «لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» وقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع على مشروعية القضاء قال ابن قدامة: (وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس) .
1 / 4
الحكمة من مشروعية القضاء
القضاء أمر لازم لقيام الأمم ولسعادتها وحياتها حياة طيبة ولنصرة المظلوم، وقمع الظالم، وقطع الخصومات، وأداء الحقوق إلى مستحقيها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد، كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد على نفسه وماله، وعلى عرضه وحريته، فتنهض البلدان ويتحقق العمران ويتفرغ الناس لما يصلح دينهم، ودنياهم فإن الظلم من شيم النفوس، ولو أنصف الناس استراح قضاتهم ولم يحتج إليهم.
1 / 5
حكم القضاء
1 / 6
اتفق الفقهاء على أن القضاء، فرض كفاية إذا قام به بعض الأمة سقط الوجوب عن الباقين وإذا لم يقم به أحد منها أثمت الأمة جميعا. أما كونه فرضا فلقوله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ وأما كونه على الكفاية، فلأنه أمر، بمعروف أو نهي عن منكر وهما على الكفاية، ولأن أمر الناس لا يستقيم بدون القضاء، فكان واجبا عليهم كالجهاد والإقامة قال الأمام أحمد: (لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس) ولأن فيه أمرا بالمعروف ونصرة للمظلوم وأداء للحق إلى مستحقيه وردعا للظالم عن ظلمه، وهذه كلها واجبات لا تتم إلا بتوالي القضاء، لذا كان تولي القضاء واجبا والقاعدة الفقهية تقول: (إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) هذا عن حكم القضاء بصفة عامة أما عن حكم الدخول فيه بالنسبة للأفراد فإنه يختلف باختلاف حالاتهم، فيجب على الشخص إذا تعين له ولا يوجد من يصلح غيره، ويكره إذا كان صالحا مع وجود من هو أصلح منه، ويحرم إذا علم من نفسه العجز عنه وعدم الإنصاف فيه لميله للهوى ويباح له فيخير بين قبوله ورفضه إذا استوى هو وغيره في الصلاحية والقيام به وقد سئل مالك ﵁: (أيجبر الرجل على ولاية القضاء
1 / 7
؟ قال نعم إذا لم يوجد منه عوض. قيل له بالضرب والحبس؟ قال نعم) .
1 / 8
أولا: البلوغ:
فلا يجوز تقليد الصبي القضاء وإذا قلد فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ لأن الرسول ﷺ قد أمر بالاستعاذة من إمارة الصبيان فقد روى الإمام أحمد أنه ﷺ قال: «تعوذوا بالله من رأس السبعين ومن إمارة الصبيان» والتعوذ لا يكون إلا من شر، فيكون تقليد الصبيان فسادا في الأرض ومضارة ولأنه لا ولاية للصبي على نفسه فلا تكون له ولاية على غيره بالقضاء ونحوه.
ولأن القضاء ليس في حاجة إلى كمال العقل بكمال البدن فحسب، بل يحتاج كذلك إلى زيادة فطنة وجودة رأي. ولا يشترط في القاضي أن يكون طاعنا في السن، بل المراد اجتماع الشروط المعتبرة في ولايته بعد بلوغه، ولو كان حديث السن، فقد روي أن الخليفة المأمون قلد يحيى بن أكثم قضاء البصرة، وكان ابن ثماني عشرة سنة، فطعن بعض الناس في ولايته لحداثة سنه فكتب إليه المأمون: كم سن القاضي؟ فأجاب يحيى بقوله أنا في سن عتاب بن أسيد حين ولاه الرسول ﷺ على مكة) على أن ارتفاع السن يجيء من باب الوقار والهيبة التي استحبها العلماء في القاضي.
1 / 9
ثانيا: العقل:
فلا يجوز تقليد المجنون أو المعتوه أو مختل النظر لكبر السن أو مرض قياسا على الصبي، بل أولى وإذا قلد أحد هؤلاء فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ، قال الماوردي في هذا الشرط: (وهو مجمع على اعتباره ولا يلتقي فيه العقل الذي يتعلق به التكليف من عمله بالمدركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيد من السهو والغفلة يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعطل) .
1 / 10
ثالثا: الحرية:
والمراد كمالها، فلا يجوز تقليد من فيه شائبة رق كالمكاتب والمدبر فضلا عن القن (وهو العبد الخالص) وإذا قلد القضاء فلا يصح قضاؤه ولا ينفذ، وذلك لأن العبد ناقص عن ولاية نفسه فمن باب أولى أن يكون ناقصا عن ولاية غيره، كما أن العبد مشغول بحقوق سيده، فمنافعه كلها له، هذا بالإضافة إلى أن القضاء منزلة وحرمة وهيبة لكي يردع أصحاب اللدد وأهل الباطل، ولا شك أن هذه الصفة لا تتوفر في العبد. هذا مذهب جمهور العلماء، خلافا لابن حزم ومنه وافقه في قبول شهادة العبد ويقولون إن أهلية القضاء كأهلية الشهادة.
1 / 11
رابعا: الإسلام:
وذلك لأن القضاء ولاية ولا تجوز ولاية الكافر على المسلم، قال تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ ثم إن القاضي يطبق أحكام الشريعة الإسلامية وهي دين، وتطبيق الدين يحتاج إلى إيمان به من قبل من يطبقه وخوف من الله يمنعه من الحيدة عن التطبيق السليم لأحكامه ولا يتأتى ذلك من غير المسلم الذي لا يؤمن بهذا الدين بل حمله كفره بالإسلام على تعمد مخالفة أحكامه أو العبث بها. ولا خلاف بين الفقهاء في اشتراط الإسلام في من يتولى القضاء على المسلمين أما تولية القضاء لغير المسلم على غير المسلمين، فقد منعها ولم يجزها جمهور الفقهاء لأن شرط الإسلام عندهم شرط ضروري لا بد منه في من يتولى القضاء سواء كان قضاؤه على المسلمين أو على غير المسلمين. وذهب الحنفية إلى جواز تقليد الذمي وهو غير مسلم القضاء على أهل الذمة وعللوا ذلك بأن أهلية القضاء كأهلية الشهادة والذمي من أهل الشهادة على الذميين فهو أهل لتولي القضاء عليهم.
1 / 12
وكونه قاضيا خاصا بهم لا يقدح في ولايته ولا يضر كما لا يضر تخصيص القاضي المسلم بالقضاء بين أفراد جماعة معينة من المسلمين. ويرى الماوردي أن إسناد القضاء في غير المسلمين إلى قضاة منهم هو في الصورة تقليد قضاء، وفي الحقيقة تقليد رياسة، بدليل أن لهم أن يدعوا قضائهم هؤلاء ويتحاكمون إلى قضاة المسلمين، وفي هذه الحالة يكون حكمنا بينهم متروكا لاختيارنا كما في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ فإن تحاكموا إلى قضائهم فقد التزموا بما يحكمون به لالتزامهم له، وليس لأنه لازم لهم من الأصل.
1 / 13
خامسا: الذكورة:
1 / 14
وهي شرط عند جمهور الفقهاء، فلا يجوز عندهم تولية المرأة القضاء وإذا وليت يأثم المولىّ وتكون ولايتها باطلة وقضاؤها غير نافذ ولو فيما تقبل فيه شهادتها. وحجتهم الحديث النبوي الشريف: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ولأن المرأة لا تصلح للإمامة العظمى أي رئاسة الدولة ولا الولاية على البلدان، ولهذا لم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن أحد من خلفائه الراشدين من بعده أنهم ولوا امرأة قضاء ولا ولاية بلد، ولو جاز ذلكم لوقع ولو مرة واحدة وللمم يخل منه جميع البلدان غالبا، وأيضا فإن القاضي يحتاج إلى مخالطة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم، والمرأة في الأصل ممنوعة من مخالطة الرجال لما يخاف عليها من الفتنة بسبب هذه المخالطة التي لا ضرورة لها. وقال فقهاء الحنفية يجوز أن تكون المرأة قاضية في غير الحدود والقصاص لأنه لا شهادة لها في هذه الجنايات ولها شهادة في غيرها وأهلية القضاء عندهم تدور مع أهلية الشهادة. وذهب ابن جرير الطبري إلى أن الذكورة ليست شرطا لتولي القضاء كالإفتاء عنده، والإفتاء لا تشترط فيه الذكورة وعلى هذا يجوز للمرأة أن تكون قاضية في الأموال وغيرها وبهذا القول قال فقهاء
1 / 15
المذهب الظاهري كذلك.
1 / 16
سادسا: العدالة:
وهي معتبرة في كل ولاية عند جمهور الفقهاء، والمقصود بها أن يكون القاضي قائما بالفرائض والأركان، صادق اللهجة، ظاهر الأمانة عفيفا عند المحارم، متوقيا المآثم بعيدا عن الريب، مستعملا لمروءة مثله في دينه ودنياه. لهذا لا تجوز ولاية الفاسق للقضاء لأنه متهم في دينه، والقضاء أمانة من أعظم الأمانات.
1 / 17
سابعا: الاجتهاد:
وهو الأهلية لاستنباط الأحكام من مصادر التشريع فالمجتهد هو من يعرف من القرآن والسنة ما يتعلق بالأحكام خاصة وعامة ومجملة ومبنية وناسخة ومنسوخة ومتواتر السنة وغيره، والمتصل والمرسل وحال الرواة قوة وضعفا ولسان العرب لغة ونحوا، وأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعا، واختلافا والقياس بأنواعه.
1 / 18
ثامنا: سلامة الحواس:
والمراد بها السمع والبصر والكلام: وهذا شرط جواز وصحة عند جمهور العلماء فلا تجوز تولية الأصم لأنه لا يسمع كلام الخصمين ولا تجوز تولية الأعمى لأنه لا يعرف المدعي من المدعى عليه ولا المقر من المقر له، ولا الشاهد من المشهود له أو عليه، ولا تجوز تولية الأخرس لأنه لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته أما سلامة باقي الأعضاء فهي هنا إنما تعتبر استحبابا لا لزوما لأن السلامة من الآفات أهيب لذوي الولاية، والهيبة هنا مستحبة لا مستحقة ومن ثم فلا مانع من أن يكون القاضي مقعدا أو أقطع أو أعرج، ومثل هذا يقال في شأن ضعيف النطق أو السمع أو البصر لعدم فوات المقصود من ولاية القضاء.
1 / 19
هذا ومن الجدير بالذكر أن القاضي لا يأخذ شرعيته إلا بتعيين من ولى الأمر أو نائبه وذلك حفاظا على وحدة المسلمين وصيانة دمائهم، فالقضاء كما هو معلوم منصب من مناصب الدولة لا يجوز لغير ولي الأمر تعيينه إلا في حالة الضرورة كما لو لم يوجد حاكم في بلد ما فإن لأهل العلم والرأي تعيين قاض يحكم بينهم. على أنه في حالة وجود حاكم بعد ذلك فلا بد من إذنه. كما أن ولاية القاضي تعمم وتخصص، فيجوز أن يكون قاضيا في جميع بلاد المسلمين وفي كل دعوى كما يجوز للحاكم أن يوليه القضاء في مكان معين لا يتعداه أوفي نوع من الدعوى كالحكم بين أهل الذمة. وفي كل ذلك لا يجوز للقاضي أن يتعدى ما رسم له، ولا أن يتجاوز حدود ولاياته. وهو ما يسمى بالاختصاص القضائي. زمانا ومكانا وموضوعا.
1 / 20