المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة
المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة
ناشر
دار ابن الجوزي
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
(١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م)
پبلشر کا مقام
الدمام - المملكة العربية السعودية
اصناف
ـ[المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة دراسة الأسباب رواية ودراية]ـ
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
الناشر: دار ابن الجوزي، الدمام - المملكة العربية السعودية
الطبعة: الأولى، (١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م)
عدد الأجزاء: ٢
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
نامعلوم صفحہ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن دعا بدعوته واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله ﷿ بعلمه وحكمته اختار لصحبة نبيه ﷺ أبر الناس قلوبًا، وأصدقهم ألسنًا، وأوعاهم حفظًا وفهمًا، فشاهدوا التنزيل، وفقهوا التأويل، ووقفوا على ما لم يقف عليه غيرهم من طبقات الأمة، وكان أكبر همهم، ومنتهى سعيهم أن يفهموا خطاب الله لعباده، ويعرفوا مراده من كتابه فبذلك حازوا أفضل العلوم واكتسبوا خلاصة الفهوم.
ولم تزل الأمة تغترف من بحر علمهم وفقههم لا تتجاوز حد فهمهم برأي
أو قياس، سيما إذا كان الأمر يتعلق بكتاب الله حتى قال محمد بن سيرين: سألت عَبيدة عن آية من القرآن. فقال: اتق الله وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيما أُنزل القرآن. يعني الصحابة.
وقد كفى سلف الأمة من العلماء الأعلام والرواة الأثبات من بعدهم مؤنة جمع العلم وتبويبه، وفقهه ودرايته حتى اجتمع للمتأخرين قدر كبير من المرويات في كل باب من أبواب العلم، وجملةٌ أكبر من الشروحات والتعليقات بحسب ما آتاهم الله من الفهم والاستنباط، وصارت مهمة الباحثين المعاصرين النظر والتأمل في ذلك التراث الضخم، والتدقيق، والترجيح، والتفنن في العرض والتأليف لجمع الشوارد، وتقريب البعيد، ولَمِّ الأشباه والنظائر والمقارنة والموازنة للوصول إلى أقرب النتائج للصواب وأسعدها بالدليل.
1 / 5
وقد حظي (علم أسباب النزول) بعناية العلماء قديمًا وحديثًا، ولا غرو، فرغبت بالمشاركة في هذا الفن الشريف، والاشتغال بشعبة منه في دراستي لنيل درجة (الدكتوراه) واخترت لذلك الموضوع التالي:
أسباب النزول
من خلال الكتب التسعة جمعًا ودراسة
وأعني بها موطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الدارمي، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النَّسَائِي وسنن ابن ماجه.
* أهمية الموضوع:
تكمن أهمية البحث في هذا الموضوع في أمور عديدة من أهمها:
أولًا: شرف العلم بأسباب النزول، لشرف التنزيل، وشرف العلم مبني على شرف المعلوم، ولا شيء أشرف وأجل مما تكلم به سبحانه، أعني كلامه الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، فخير ما بذلت فيه الجهود، وصرفت فيه الأعمار الاشتغال بكتابه العزيز وفهمه وتدبره.
ثانيًا: فائدة هذا العلم الجليل في تفسير كتاب الله، والكشف عن وجوه الحِكَم والأحكام التي لا تدرك إلا بالوقوف على أسباب نزول الآيات، قال الواحدي عن أسباب النزول: (إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية، وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها).
وقال ابن دقيق العيد: (بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن).
1 / 6
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب).
بالإضافة إلى ما يتبع ذلك من تخصيص عام، أو دفع إيهام ونحوه.
* أسباب اختيار الموضوع:
أولًا: أهمية جمع أسباب النزول من مصادرها الأصلية مقرونة بدراسة وافية بين دفتي كتاب، وجاء اختياري للكتب التسعة لتكون مصادر لأسباب النزول لجلالة قدر مؤلفيها وعلو إسنادها، وتلقي الأمة للصحيحين منها بالقبول حتى تكاد تستوعب ما في سواها من دواوين السنة ولهذا اقتصرت على ما ورد فيها.
ثانيًا: حاجة المكتبة القرآنية قديمًا وحديثًا إلى مؤلف مفرد يجمع الأسباب ويقدم لها دراسة متكاملةً كي يسهل على القارئ والباحث مقارنة الروايات في مقام واحد، ويلقي الضوء على أوجه الترجيح بينها.
ثالثًا: الحاجة إلى تحقيق المرويات ودراستها دراسة نقدية من الناحيتين التفسيرية والحديثية بسبب تعدد المرويات في الواقعة الواحدة، وتعارضها أحيانًا في أصلها أو أجزائها، وفشو المرويات الضعيفة في كتب التفسير والسنة وشيوعُها في الأمة، فكان لا بد من عمل علمي يستنبط الحقيقة المضيئة من عتامة المرويات المظلمة، ويستخرج الرواية النقية من النبع الصافي الذي كدرته الدلاء الدخيلة.
رابعًا: افتقار المؤلفات المعنية بهذا العلم إلى التحرير والترجيح، حيث يلحظ القارئ وبلا تكلف عناية المؤلفين لهذه المؤلفات بجانب السرد، دون التدقيق والتمحيص واختيار السبب الصحيح، وهذا ما سيضيفه هذا البحث.
خامسًا: قصور بعض المؤلفات في هذا الفن عن استيعاب جميع أسباب النزول خصوصًا المذكورة في الكتب التسعة.
سادسًا: حرصي على أن يكون موضوع أطروحتي لنيل الدكتوراه ذا فائدة علمية لي أولًا، ثم لأهل التخصص وعامة المسلمين ثانيًا.
1 / 7
* الدراسات السابقة:
تتابع العلماء ﵏ في التأليف في علم أسباب النزول من قديم الزمان، وهي ما بين مطبوع، ومخطوط، ومفقود، ومع هذا فقد انبرى للتأليف في هذا الزمان جملة من العلماء والباحثين فأجادوا وأفادوا - جزاهم اللَّه خير الجزاء - وقد يسر الله لي الاطلاع على بعض ما أُلف في هذا الباب فرأيته حسنًا مفيدًا لكنه لم يتناول هذا العلم على النسق الذي أردت والأسلوب الذي رسمت، وفي ظني - إن شاء اللَّه - أنه سيسهم مساهمة فعالةً في تنقيته من الدخيل والغريب.
ومن المؤلفات التي اطلعت عليها في هذا الباب:
١ - أسباب النزول للواحدي، وعليه بعض الملحوظات على أن هذا لا يعني القدح فيه فمنها:
أ - أن المؤلف قد فاته شيء كثير من أسباب النزول فلم يذكرها.
ب - أنه ساق روايات على أنها أسباب نزول وليست كذلك.
جـ - أنه أغفل مرويات قوية واستشهد بمرويات ضعيفة.
ويغني في وصف الكتاب قول أبي حيان: (وقد صنف الواحدي في ذلك كتابًا قلَّما يصح فيه شيء، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح) اهـ.
٢ - العجاب في بيان الأسباب للحافظ ابن حجر.
وهذا الكتاب لا يخرج في مضمونه في بعض الأسباب عن نسق غيره من المؤلفات المهتمة بجانب السرد دون الاستيعاب والتدقيق والترجيح، ودون استخراج الأسباب من المصادر الأصلية كالصحاح والسنن والمسانيد.
٣ - لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي. وعليه الملاحظات التالية:
أ - أن كثيرًا من الآيات لها أسباب نزول لم يذكرها وقد تكون صحيحة مشهورة.
1 / 8
ب - أن بعض الآيات لها أكثر من سبب ولا يذكر إلا واحدًا.
جـ - قد يكون السبب في الصحيحين أو أحدهما ويترك العزو إليهما أو لأحدهما.
د - تصحيحه لبعض الأحاديث الضعيفة.
هـ - صيغة السبب يحولها من غير صريحة إلى صريحة.
٤ - الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
وهذا الكتاب تضمن أسبابًا صحيحة لكنه مع هذا يحتاج للإضافة سواء من حيث العدد، أو تحقيق صحتها، أو الجمع والترجيح.
٥ - أسباب النزول وأثرها في التفسير للدكتور عصام الحميدان، وقد وضع في كتابه قواعد مفيدة في أسباب النزول، وعقد مقارنة بين كتابي: الواحدي والسيوطي، وقام بدراسة لما فيهما دراسة مختصرة تشبه التعليق في أكثر الأحيان.
٦ - أسباب النزول أسانيدها وأثرها في تفسير القرآن الكريم للدكتور جمعة سهل، لم يتيسر لي الاطلاع عليها لكني اطلعت على فهرسها من أحد الفضلاء، ومن خلال اطلاعي على ذلك لم أجد الشيخ ذكر أسباب النزول، لكنه ذكر بعض الضوابط، والقواعد، وحِكم التشريع من خلال أسباب النزول، وما يتبع ذلك.
٧ - جامع النقول في أسباب النزول للشيخ ابن خليفة عليوي، فقد ذكر ما أخرجه الواحدي والسيوطي في كتابيهما ثم شرح الآيات التي تضمنتها أسباب النزول عندهما.
هذه بعض المؤلفات المصنفة في هذا الباب، وهناك العديد غيرها لكنها لا تخرج عن منوالها وطريقتها.
وإني لأرجو أن يكون البحث الذي أُقدم له الآن قد شق طريقًا جديدًا وأضاءَ مصباحًا منيرًا، تأصيلًا وتأطيرًا، لكل سالك في ميدان أسباب النزول.
1 / 9
* خطة البحث:
تتكون خطة البحث من مقدمة وتمهيد وقسمين وخاتمة.
مقدمة البحث: تتناول أهمية الموضوع، وأسباب اختياره والدراسات السابقة، وخطة البحث، ومنهجي في إعداده.
التمهيد: وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: مكانة أسباب النزول وأهميتها.
المبحث الثاني: فوائد معرفة أسباب النزول.
المبحث الثالث: نشأة علم أسباب النزول.
المبحث الرابع: مصادر أسباب النزول.
المبحث الخامس: بواعث الخطأ في أسباب النزول.
القسم الأول: قواعد في أسباب النزول وضوابط الترجيح فيها، وفيه فصلان:
الفصل الأول: قواعد في أسباب النزول، وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: تعريف أسباب النزول ومفهومه لدى العلماء.
المبحث الثاني: أسباب النزول من حيث صيغتها.
المبحث الثالث: تعدد النازل والسبب واحد.
المبحث الرابع: تعدد السبب والنازل واحد.
المبحث الخامس: عموم اللفظ وخصوص السبب.
المبحث السادس: تكرر النزول.
الفصل الثاني: ضوابط الترجيح في أسباب النزول، وفيه ستة مباحث:
المبحث الأول: الترجيح بتقديم الصحيح على الضعيف.
المبحث الثاني: الترجيح بتقديم السبب الموافق لِلفظ الآية على غيره.
المبحث الثالث: الترجيح بتقديم قول صاحب القصة على غيره.
المبحث الرابع: الترجيح بتقديم قول الشاهد للسبب على الغائب عنه.
المبحث الخامس: الترجيح بدلالة السياق القرآني.
المبحث السادس: الترجيح بدلالة الوقائع التاريخية.
1 / 10
القسم الثاني: دراسة أسباب النزول دراسة تفسيريةً وحديثية.
وسيكون ترتيب الدراسة على النحو التالي:
* ذكر الآية أو الآيات النازلة.
* ذكر السبب أو الأسباب التي نزلت بشأنها الآيات.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ أو الأسباب دراسة تفسيرية وحديثية.
* النتيجة وفيها خلاصة الدراسة.
خاتمة البحث: وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها خلال البحث.
فهارس البحث:
فهرس الآيات القرآنية.
فهرس الأحاديث النبوية.
فهرس الأعلام المترجم لهم.
فهرس الأبيات الشعرية.
فهرس الألفاظ الغريبة.
فهرس الأماكن.
فهرس القبائل.
ثبت المصادر والمراجع.
فهرس محتويات الرسالة.
* منهجي في إعداد البحث:
وينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: منهجي في إعداد الدراسة النظرية لعلم أسباب النزول.
وبتمثل عملي هنا في الآتي:
أ - قمت باستقراء ما كتب عن أسباب النزول قديمًا وحديثًا في المؤلفات التي تختص بهذا العلم، أو في المؤلفات التي تناولت علوم القرآن بوجه عام ومنها أسباب النزول، فإن أصبتُ فيها ما أُريد استخرجته، واستفدت منه.
1 / 11
ب - قمت بالبحث في كتب التفسير خصوصًا، وفي غيرها من المؤلفات، طلبًا لأقوال العلماء كي أستعين بها في ترسيخ القواعد والضوابط التي ذكرتها وتأصيلها.
جـ - بعد أن نقلت من أقوال العلماء ما أفادني، قمت باستخراج الأمثلة التي درستها في القسم الثاني من رسالتي، والتي أراها تناسب تلك القواعد وتؤيدها إذ لا يخفى أثر المثال في ترسيخ المقال، وقد أكثرت من الأمثلة، وكنت حريصًا على عدم التَّكرار.
والذي دعاني لهذا أن من سبقني من المؤلفين يكررون الأمثلة، وفي أكثر الأحيان لا تخلو من مقال، فأردت أن يدرك القارئ الكريم أمرين:
الأول: أن الأمثلة لا تعاني شحَّا. الثاني: أنها سليمة من المقال.
القسم الثاني: منهجي في إعداد الدراسة التطبيقية لأسباب النزول:
ويتمثل عملي هنا في الآتي:
١ - أبدأ بكتابة الآيات التي تضمنها سبب النزول.
٢ - إذا اختلفت ألفاظ الأحاديث في ذكر الآيات النازلة، فبعض الألفاظ مثلًا يذكر آيةً فقط، وبعضها يذكر أكثر من آية، فإني في البداية أذكر الزيادة وإن كنت لا أذكر اللفظ الذي وردت فيه.
٣ - قمت بترتيب الآيات حسب ورودها في المصحف.
٤ - قمت بعزو الآيات إلى مواضعها من القرآن.
٥ - قمت بجمع المادة العلمية (أسباب النزول) من مصادرها الأصلية بالبطاقات أقرأها كتابًا كتابًا فإذا وجدت السبب دونته في البطاقة وذكرت رقمه ورقم الجزء، والصفحة ومن أخرجه، ثم لما فرغت، قمت بترتيب البطاقات حسب الآيات، ثم رتبت البطاقات في كل آية حسب الوفيات، وقد استغرق هذا العمل مني سنةً وسبعة أشهر.
٦ - جعلت تحت الآيات عنوانًا سميته (سبب النزول)، أسوق تحته الحديث الوارد في نزول الآية، أو الأحاديث الواردة إن كانت أكثر من حديث.
٧ - إذا كان الحديث قد أُخرج في أكثر من مصنف فإني أُقدم من ذكرتُ
1 / 12
لفظه، ثم من بعده على حسب الوفاة، باستثناء ابن ماجه فإني أجعله الأخير دومًا وإن تقدمت وفاته لأن العلماء أخروا كتابه في الرتبة.
٨ - إن كان لنزول الآية أكثر من سبب فإني أجعل لكل سبب رقمًا مستقلًا، فإن كان للحديث لفظ آخر من طريق صحابي آخر فإني أجعل له أيضًا رقمًا مستقلًا، وإن كان للحديث لفظ آخر من طريق الصحابي ذاته ذكرته بدون ترقيم.
٩ - أختار من ألفاظ الأحاديث ما اجتمع فيه صحة الإسناد، والتصريح بالنزول، فإن لم يجتمعا قدمت اللفظ الذي وقع فيه النزول لأن البحث يختص بأسباب النزول.
١٠ - إن كان الحديث في غير الصحيحين فإني أقوم بدراسة إسناده تارة بتوسع وتارةً باختصار حسبما يقتضيه الوصول إلى النتيجة.
١١ - في دراستي لأسانيد الأحاديث لا أنقل عن المتأخرين شيئًا في الحكم على الحديث.
١٢ - أحكم على أسانيد الأحاديث - ما وسعني ذلك - بالصحة والضعف، والرفع والوقف، والوصل والإرسال.
١٣ - بعد ذكر الأسباب وضعت عنوانًا سميته (دراسة السبب) ثم أبدؤه بقولي: هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، أو الآيات، وقد ذكر هذا الحديث جمهور المفسرين منهم ......... ثم أنقل بعض أقوال المفسرين التي تؤيد كون الحديث سببًا للنزول فإن رأيته يتفق وقواعد النزول أعتمده ثم أمضي، وإن كان لي وجهة نظر فيما قالوه أبديتها، وإن كان لي دليل ذكرته، ثم أخلص إلى ما أراه صوابًا في المسألة.
فإن كان العلماء مختلفين في اعتبار الحديث سببًا للنزول ذكرت من يختاره منهم، ثم ذكرت من يخالفهم، وإن ذكروا أدلةً ذكرتها لهم، ثم ناقشتها وخلصت إلى النتيجة.
فإن كان للآية أكثر من سبب نقلت ما يفيد من أقوال العلماء، ثم قارنت بين الأسباب، وناقشتها نقاشًا علميًا، ثم خلصت إلى الصواب الذي أراه.
١٤ - عند المناقشة أسعى للجمع بين الأقوال ما أمكن، بشرط أن يكون الجمع سائغًا، فإن لم يكن سائغًا عدلت عنه إلى الترجيح.
1 / 13
١٥ - عند ترجيحي لأحد الأقوال أحاول تفنيد الأقوال الأخرى كلها إن استطعت، فإن لم أستطع فنَّدت بعضها، وتركت الأقوال الباقية مرسلةً بلا جواب، لأن القول إذا بانَ صوابه بالأدلة اليقينية صار الجواب عنه من باب النافلة، والتبرع.
١٦ - أكثرت من نقول العلماء في بحثي لأن هذا مما يزيد الأسباب رسوخًا وتثبيتًا.
١٧ - إن كان في الأسباب إشكالات علمية لا تمس النزول، ذكرتُها، وأجبتُ عنها.
١٨ - بعد الفراغ من الدراسة ذكرت عنوانًا سميته (النتيجة) ذكرت فيه خلاصة ما انتهيت إليه، والأسباب التي دعتني إلى اختيار هذه النتيجة.
١٩ - في غالب دراستي للأسباب اعتمدت الكتب الآتية كمراجع ثابتة:
أ - جامع البيان للطبري. ت ٣١٠ هـ.
ب - معالم التنزيل للبغوي. ت ٥١٦ هـ.
جـ - أحكام القرآن لابن العربي. ت ٥٤٣ هـ.
د - المحرر الوجيز لابن عطية. ت ٥٤٦ هـ.
هـ - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. ت ٦٧١ هـ.
وتفسير القرآن العظيم لابن كثير. ت ٧٧٤ هـ.
ز - تيسير الكريم الرحمن للسعدي. ت ١٣٧٦ هـ.
ح - أضواء البيان للشنقيطي. ت ١٣٩٣ هـ.
ط - التحرير والتنوير لابن عاشور. ت ١٣٩٣ هـ.
وإنما اخترت هذه المراجع بخصوصها لأمور:
الأول: أن مناهج مؤلفيها متباينة، وهذا التباين يفتح آفاقًا أرحب للدارس.
الثاني: أن عامة هؤلاء المؤلفين ينزعون إلى الاجتهاد وترك التقليد.
الثالث: أن عصور مؤلفيها تمتد من القرن الرابع إلى العصر الحاضر.
٢٠ - قمت بشرح الألفاظ الغريبة في الأحاديث، معتمدًا في ذلك على كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير باعتباره معنيًا بألفاظ الأحاديث، فإن لم أجده فيه رجعت إلى لسان العرب لابن منظور لكونه
1 / 14
يجمع عددًا من المصادر، فإن لم أجده فيه رجعت إلى شروح الأحاديث.
٢١ - قمت بالتعريف بالقبائل المذكورة معتمدًا في هذا على كِتَابَي: (جمهرة أنساب العرب) لابن حزم، و(نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب) للقلقشندي.
٢٢ - قمت بترجمة الأعلام غير المشهورين الذين يرد ذكرهم في الأحاديث، وأما الأعلام الذين ترد أسماؤهم في الدراسة فلم ألتزم بالترجمة لهم.
٢٣ - قمت بعزو الأبيات الشعرية إلى قائليها.
٢٤ - ألتزم بجعل أقوال العلماء التي أنقلها بين قوسين، فإن تصرفت فيها يسيرًا أو اختصرت قليلًا، قلت: اهـ باختصار، أو بتصرف يسير.
أما إذا نقلت مضمون الكلام دون نصه فأنا لا ألتزم بهذا - أعني جعله بين قوسين -.
٢٥ - إذا نقلت أقوال العلماء فإني أرتبها حسب الوفاة إلا إذا اقتضى الأمر خلاف ذلك.
٢٦ - حين أذكر العلماء فإني لا ألتزم بالترحم عليهم؛ لأن التزام ذلك يطول، لكني أسأل الله لهم المغفرة والرحمة والرضوان على العلم النافع الذي تركوه لمن بعدهم.
٢٧ - إذا ذكرت المرجع أول مرة فإني أذكر اسمه كاملًا، واسم مؤلفه، وعند التكرار لا أذكر المؤلف، بينما المراجع تختلف، فمنها ما أذكره كاملًا، ومنها ما أذكر بعضه كجامع البيان.
٢٨ - تعيين الحديث من الكتاب، يتطلب ذكر اسم الكتاب، والترجمةِ في الباب وهنا أرمز إلى الكتاب بـ ك، وأما الترجمة في الباب فإن كانت مختصرة ذكرتها كاملة، وإن كانت طويلة اقتصرت على بعضها.
٢٩ - إذا تكرر السبب في موضعين فإني أحيانًا أقوم بدراسته في الموضع الأول وفي الموضع الثاني أُحيل على الأول، وأحيانًا أُرجئُ دراسته إلى الموضع الثاني وفي الموضع الأول أُشير إلى ذلك بقولي ستأتي دراسته في موضع كذا.
1 / 15
٣٠ - في مناقشة الأقوال حاولت أن أُراعي الأدب مع العلماء والإنصافَ ما استطعت، والبعدَ عن التشنج لأن هذا هو دأب علمائنا مع مخالفيهم.
وفي خاتمة العمل فإني أحمد اللَّه - تعالى - وأشكره على التيسير والتسهيل، وأسأله سبحانه أن يقبل العمل مني، ويغفر زللي فيه، ثم أشكر والديَّ الكريمين على دعائهما، وتوجيههما، وأسأله جل وعلا أن يغفر لهما ويرحمهما كما ربياني صغيرًا.
ثم أتقدم بالشكر الجزيل لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ولكلية أصول الدين في الرياض، وعلى وجه الخصوص قسمُ القرآن وعلومه الذي أتاح لي هذه الفرصة.
كما أدعو لشيخنا ووالدنا الفقيه العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل ما قدمه في ميزان حسناته، فإني لا أعلم في نفسي أحدًا أمنَّ عليَّ في صحبته وعلمه من فضيلته، وذلك أني لم أتلق العلم من عالم سواه، ولم أطوِ ركبتيَّ عند غيره، ولئن كان فضله عامًا على كل من تتلمذ عليه، ففضله على كاتب هذه السطور خاص، حتى في هذا البحث الذي أمرني بتسجيله، وعرض عليَّ المساعدة في ذلك.
ثم أشكر الشكر الجزيل شيخي الكريم الأستاذ الدكتور علي بن سليمان العبيد، حيث لم يأل جهدًا في قراءة هذا البحث، وتصويبه، بل بذل الكثير من جهده، ووقته، وفكره، فكان مثالًا رائعًا ساميًا في خلقه، ودينه. والحق أني أشعر بالفخر لإشرافه على رسالتي، وأسأل اللَّه جلّت قدرته أن يحسن إليه في الدنيا والآخرة، وأن يجزيه خير الجزاء وأن يبارك في علمه وعمره وذريته وأن يكثر من أمثاله.
كما لا يفوتني أن أشكر إخواني الكرام من طلاب العلم وأهله على جهودهم التي بذلوها سواءٌ ما كان يتعلق بتحقيق الأحاديث، أو إعارة الكتب، أو حتى المناقشات العلمية وإسداء النصيحة فجزاهم اللَّه خيرًا، وأعظم أجورهم، وبارك في أعمارهم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٢).
خالد بن سليمان المزيني
1 / 16
التمهيد
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: مكانة أسباب النزول وأهميتها.
المبحث الثاني: فوائد معرفة أسباب النزول.
المبحث الثالث: نشأة علم أسباب النزول.
المبحث الرابع: مصادر أسباب النزول.
المبحث الخامس: بواعث الخطأ في أسباب النزول.
1 / 17
المبحث الأول
مكانة أسباب النزول وأهميتها
القرآن العظيم هو حبل اللَّه المتين وصراطه المستقيم، وحجته البالغة على العالمين يقول - جل وعلا - في وصفه: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (٤١) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢).
أنزله ﷿ لهداية المتقين فقال - جل شأنه -: (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢).
وجعل من حِكم إنزاله إخراج الناس به من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان به، فقال تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١).
ثم لم يقصر المنعم المتفضل النعمة على إخراجهم من الظلمات إلى النور بل زادهم من لدنه خيرًا كثيرًا ثباتًا وهدى وبشرى فقال - جل وعلا -: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢).
وهذه الأوصاف العظيمة وغيرها من المنح الإلهية لا تتحقق للعبد بدون التفكر في القرآن وتدبر معانيه، والنظر في حكمه، وأسراره، ونحن نشاهد أن أرسخ الناس إيمانًا وأعمقهم فهمًا هم العلماء الربانيون الذين أُوتوا من التدبر والتفكر حظًا عظيمًا.
وإذا كان الشأن كذلك فلن يكون الأمر غريبًا أن يعيب اللَّه على أولئك المعرضين عن التدبر بقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤)، لأن اللَّه أخبر وهو أصدق القائلين أنه إنما أنزل القرآن للتدبر والتذكر فقال جل شأنه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو
1 / 19
الْأَلْبَابِ (٢٩)، وهذا التدبر لا يتأتى إلا بمعرفة تفسير الآية، لأن التدبر بدون فهم المعنى ممتنع ومعرفة تفسيرها لا تمكن بغير معرفة سبب نزولها، قال الواحدي: (إنه يمتنع معرفة تفسير الآية وقصدِ سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها) اهـ.
فإذا كان التدبر لكتاب اللَّه، وهو مفتاح العلوم والمعارف موقوفًا على التفسير، والتفسير موقوفًا على سبب النزول، فإننا ندرك بذلك المنزلة العالية، والمكانة السامية التي تحظى بها أسباب النزول.
ولا شك أن لأسباب النزول أثرًا في التفسير وبيان المراد، ومن ذلك:
١ - أن أسباب النزول في غالبها حكايات وقصص، منها ما هو مختصر ومنها ما هو طويل مبسوط، وهذه القصص تصور العصر الإسلامي الأول، وتصور واقع الذين كانت تتنزل عليهم الآيات القرآنية لتعليمهم، وتوجيههم، وتربيتهم، وتصور بيئتهم العامة، ومفاهيمهم التي كانت سائدة بينهم، من الأمور التي تقدم نفعًا جليلًا في فهم المعنى، إذ هي تبصرة بالمناخ الذي نزل فيه النص، وكثيرًا ما يقع المفسِّر في الخطأ؛ لأنه فهم النص وهو يضع في اعتباره واقع المجتمع الذي يعيش فيه، لا واقع البيئة والمجتمع الذي نزل النص لمعالجته بالتعليم والتوجيه والتربية.
وإذا أردت أن تتحقق من هذا فانظر في قصة الإفك مثلًا فإنها تصوِّر لك البيئة العامة، والخاصة، وتكشف لك الأنماط السائدة ذلك الوقت.
٢ - أن أسباب النزول تكشف لنا عن الظرفين الزماني والمكاني اللذين أنزلت فيهما الآيات، فهو يقدم للمفسر نفعًا جليلًا، ويهديه إلى مفهوم أدق وأقرب إلى المراد، وذلك أن من الآيات ما يلائم ظرفًا من الظروف في حين أنه قد لا يلائم ظرفًا آخر، إذ ما يلائم في مواسم الأعياد قد لا يلائم في أوقات التحريض على الجهاد، وما يلائم حال المناسك قد لا يلائم في مواضع البيع والشراء.
٣ - أن أسباب النزول تبين الحال النفسية والفكرية والاجتماعية التي كان
1 / 20
عليها الذين أُنزلت عليهم الآيات، وهذا يفيد المفسر في فهم المعنى، أو في استنباط الفوائد من الآيات.
ويدخل في ذلك تصور حالات السلم والحرب، والأمن والخوف، وسعة الرزق والجوع، والنصر والهزيمة، والإيمان والكفر والنفاق ونحو ذلك من الأحوال النفسية التي يستدعي كلٌ منها ما يلائمه من التعليم والتوجيه والتربية.
ويدخل في ذلك تصور الحالات الاجتماعية كالبداوة والتحضر، والرفعة والضعة والقوة والضعف، والقيادة والانقياد وغيرها من الأحوال التي تتطلب ما يلائمها من البيان.
وكل هذا إنما ينكشف ويتبين بمعرفة أسباب النزول.
ومما يبرز أهمية أسباب النزول ومكانتها احتواؤها على حِكم التشريع البالغة وأسرارها الباهرة التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى، وحكمته، ورحمته وبره بعباده، ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها، وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة. ولم يحسن إليهم إحسانًا أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة، ولهذا لم يذكر في القرآن لفظة المن عليهم إلا في سياق ذكرها كقوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١٦٤)، وقوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧).
وليس يخفى على كل منصف أن العلم بالحكمة الداعية إلى التشريع، يزيد الإيمان واليقين في قلوب المكلفين، وتطمئن به نفوسهم، وتقر به عيونهم،
1 / 21
ولهذا نجد أن الله يقرن الحكم بعلته في مواضع عديدة من كتابه الكريم كقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).
وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
وقوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (٣).
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١).
فأسباب النزول تكشف حِكَم الشريعة وأسرارها وفي هذا من الخير ما لا يخفى.
ومن الآثار الحسنة لأسباب النزول، والتي تظهر فيها مكانتها وتسمو بها منزلتها إزالتها للإشكالات التي قد تنشأ عند بعض الناس من فهم غير سديد لآيات القرآن فيفهم منها ما لا يُفهم، ويظن فيها ما لا يُظن، وما ذاك إلا لخفاء أسباب نزول الآيات على أولئك، وعدم علمهم بها، ولو علموا هذه الأسباب وفيما كانت، لتحولت أفهامهم، واستقامت على الصواب نظرتهم وإذا كانت المعاني القرآنية قد تشكل على بعض الصحابة كما وقع لقدامة بن مظعون ﵁ حين ظن أن شرب الخمر جائز واستدل على ذلك بالكتاب، حتى بيّن له عمر وابن عبَّاسٍ ﵄ أن الآية التي استدل بها هي حجة عليه، وعذرًا لمن مات من الصحابة ﵃ وهم يشربون الخمر قبل تحريمها.
أو تشكل على بعض كبار التابعين كما جرى لعروة بن الزبير ﵁ مع خالته عائشة ﵂ حين ظن أن السعي بين الصفا والمروة ليس واجبا أخذًا من قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فبينت له أم المؤمنين ﵂ سبب نزولها، وأن اللفظ لا يدل على عدم الوجوب.
أو كما جرى لمروان ﵁ حين أشكل عليه قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ
1 / 22
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨). فأزال ابن عبَّاسٍ ﵄ الإشكال من قلبه ببيان سبب نزولها وأنها ليست كما يظن مروان.
أقول إذا كانت هذه الإشكالات تقع من هؤلاء الأكابر مع رسوخهم في الدين والعلم، فكيف الظن بمن بعدهم من الذين لم يدركوا ما أدرك هؤلاء السابقون من الخير والدين، ولم تسعفهم علومهم في فهم شيء من أسباب النزول بتة، ولم تنطلق ألسنتهم بلغة القرآن والسنة.
أليس هؤلاء أحوج ما يكونون إلى فهم أسباب النزول أجمعَ والعنايةِ بها ليتمكنوا من فهم معاني القرآن، وفيم نزل، وفيم أُريد به؟
والجواب: بلى وفي ظني وتقديري القاصرَيْن أن حاجتهم ماسة للجميع وليس للآيات المشكلة فحسب؛ لأن السحب بينهم وبين فهم القرآن جِدُّ كثيفة.
وقد تحدث ابن عاشور عن أهمية أسباب النزول ومكانتها في مقدمة تفسيره حيث قال: إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه؛ لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرًا، ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة، التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك، ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عبَّاسٍ يقول: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون، يشير إلى قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)، فأجاب ابن عبَّاسٍ قائلًا: إنما دعا النبي ﷺ، اليهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عبَّاسٍ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ...) الآية.
وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول اللَّه تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ
1 / 23
مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا (١٥٨) فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (١٥٨) ومنها: ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات، فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام.
ثم ذكر أنه تصفح أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدها أقسامًا:
منها: ما هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلا بد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾، ونحو: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ ومثل بعض الآيات التي فيها ﴿مِنَ النَّاسِ﴾.
ومنها: ما يفيد البحث فيه زيادة تفهم في معنى الآية، وتمثيلًا لحكمها وهي مساوي لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها مثل قصة عويمر العجلاني الذي نزلت عليه آية اللعان، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عليه آية: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ ... (١٩٦)﴾.
ومنها: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤)﴾.
فإذا ظن أحد أن (من) للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرًا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن (من) موصولة، وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد ﷺ.
ومنها: ما لا يبين مجملًا، ولا يؤول متشابهًا، ولكنه يبين وجه تناسب الآي بعضها مع بعض كما في قوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
1 / 24