66

على أن «زرادشت» قد استخلص من أخلاط المجوسية عقيدة وسطا بين العقيدة الوثنية الأولى والعقيدة الإلهية الحديثة، سواء في تصحيح الفكرة الإلهية أو مسائل الأخلاق ومسائل الثواب والعقاب.

فالله في مذهب زرادشت موصوف بأشرف صفات الكمال التي يترقى إليها عقل بشري يدين على حسب نشأته بالثنائية وقدم العنصرين في الوجود.

فالخير عند زرادشت غالب دائم، والشر مغلوب منظور إلى أجل مسمى، وما زال «أهرمن» يهبط في مراتب القدرة والكفاية على هذا المذهب حتى عاد كالمخلوق الذي ينازع الخالق سلطانه، ولا محيص له في النهاية من الخذلان.

وفي «الزندفستا» يقول زرادشت إنه سأل هرمز: «يا هرمز الرحيم! صانع العالم المشهود، يا أيها القدس الأقدس: أي شيء هو أقوى القوى جميعا في الملك والملكوت؟

فقال هرمز: إنه هو اسمي الذي يتجلى في أرواح عليين، فهو أقوى القوى في عالم الملكوت.

فسأله زرادشت أن يعلمه هذا الاسم فقال له إنه «هو السر المسئول» وأما الأسماء الأخرى فأولها هو «واهب الأنعام» وثانيها هو المكين، وثالثها هو الكامل، ورابعها هو القدس، والاسم الخامس هو الشريف، والاسم السادس هو الحكمة، والاسم السابع هو الحكيم، والاسم الثامن هو الخبرة، والاسم التاسع هو الخبير، والاسم العاشر هو الغنى، والاسم الحادي عشر هو الغني، والاسم الثاني عشر هو السيد، والاسم الثالث عشر هو المنعم، والاسم الرابع عشر هو الطيب، والاسم الخامس عشر هو القهار، والاسم السادس عشر هو محق الحق، والاسم السابع عشر هو البصر، والاسم الثامن عشر هو الشافي، والاسم التاسع عشر هو الخلاق، والاسم العشرون هو «مزدا» أو العليم بكل شيء.»

وقد حرم زرادشت عبادة الأصنام والأوثان وقدس النار على أنها هي أصفى وأطهر العناصر المخلوقة، لا على أنها هي الخلاق المعبود، وقال إن الخلائق العلوية كلها كانت أرواحا صافية لا تشاب بالتجسيد، فخيرها الله بين أن يقصيها من منال «أهرمن» أو يلبسها الجسد لتقدر على حربه والصمود في ميدانه؛ لأن عناصر الفساد لا تحارب بغير أجساد، فأبت أن تعتصم بمعزل عن الصراع القائم بين هرمز وأخيه، واختارت التجسد لتؤدي فريضة الجهاد في ذلك الصراع.

ويتخيل زرادشت «هرمز» أو أورمزد أو «أهورا مازدا» أو يزدان - على اختلاف اللهجات في نطقه - مستويا على عرش النور محفوظا بستة من الملائكة الأبرار، تدل أسماؤهم على أنهم صفات إلهية كالحق والخلود والملك والنظام والصلاح والسلامة، ثم استعيرت لها سمات «الذوات » بعد تداول الأسماء أو تداول الأنباء عما تفعله وما تؤمر به وما تتلقاه من وحي الله.

وتفيض أقوال «زرادشت» كلها باليقين من رسالته واصطفاء الله إياه للتبشير بالدين الصحيح والقضاء على عبادة الأوثان، ومن أمثلة هذا اليقين قوله: «أنا وحدي صفيك الأمين، وكل من عداي فهو عدو لي مبين.» وأن الله أودع الطبائع عوامل الخير جميعا، فإن هي حادت عن سواء السبيل كان إرسال الرسل للتذكير والتحذير آخر حجة لله على الناس، وأن زرادشت هو هو هذه الحجة التي أبرزها الله إلى حيز الوجود لتهدي من ضل وتذكر من غفل وتستصلح من فيه بقية للصلاح، وكلما انقضى ألف عام برز إلى حيز الوجود خليفة له من سلالته، ولكن الأرواح التي تحف بالعرش هي التي تحمل بذرته إلى رحم عذراء تلهمها تلك الأرواح أن تتطهر في تلك الساعة بالماء المقدس في عين صافية مدخرة في ناحية من الأرض ليومها الموعود.

ويتخيل زرادشت أنه يناجي هرمز ويسمع جوابه ويسأله سؤال المتعلم المسترشد لمرشده وهاديه. فيناديه: رب! هب لي عونك كما يعين الصديق أخلص صديق، ويسأله: رب ألا تنبئني عن جزاء الأخيار؟ أيجزون يا رب بالحسنة قبل يوم المعاد؟ أو يسأله: من أقر الأرض فاستقرت ورفع السماء فلا تسقط؟ ومن خلق الماء والزرع؟ ومن ألجم للرياح سحب الفضاء وهي أسرع الأشياء؟

نامعلوم صفحہ