ويتجلى غضب يسوع في أعنف أشكاله في مشهد طرد الصيارفة والباعة من باحة الهيكل «واقترب فصح اليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم فرأى في الهيكل باعة البقر والغنم والحمام، والصيارفة جالسين إلى مناضدهم. فجدل سوطا من حبال وطردهم جميعا من الهيكل مع الغنم والبقر، ونثر دراهم الصيارفة وقلب مناضدهم» (يوحنا، 2: 13-15).
ويظهر مشهد طرد الصيارفة والباعة من باحة الهيكل مدى ما تمتع به يسوع من جرأة في مواجهة خصومه. وقد بلغت جرأته على السلطة السياسية والدينية مبلغا لا يتفق وقلة حيلته في مواجهتها. فعندما جاء إليه من يخبروه بأن هيرود أنتيباس ملك الجليل يطلب قتله، ونصحوه بالاختفاء في المواطن التي لا سلطة لهيرود عليها، قال لهم: «اذهبوا فقولوا لهذا الثعلب إني أطرد الشياطين وأجري الشفاء اليوم وغدا ... إلخ» (لوقا، 13: 31-32). وعندما جرى القبض على يسوع وسيق إلى المحاكمة أمام الوالي بيلاطس أحاله هذا إلى ملك الجليل الذي كان يزور أورشليم في ذلك الوقت للمشاركة بعيد الفصح، باعتبار أن يسوع مواطن جليلي. ولكن يسوع رفض التحدث إلى «الثعلب» ولم يجبه على أي من أسئلته، فأعاده هيرود إلى بيلاطس (لوقا، 23: 5-11). وعندما مثل أمام بيلاطس لم يجبه إلا على اثنين من أسئلته باقتضاب ثم لزم الصمت. فقال له بيلاطس: «أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطانا أن أصلبك وسلطانا أن أطلقك؟ فأجابه يسوع: لم يكن لك سلطان علي البتة لو لم تكن أعطيت (هذا السلطان) من فوق» (يوحنا، 19: 8-10).
ولم تكن جرأته على السلطة الدينية بأقل من جرأته على السلطة السياسية. فقد انتهك الشريعة التوراتية عندما كان يجري الشفاء يوم السبت وعندما كان تلاميذه يقطفون من السنابل ويأكلون في السبت، وعندما برر عدم التزام تلاميذه بالصيام اليهودي، وعندما أعلن عدم التزامه بالطاهر والنجس في المأكل والمشرب وجعل كل الأطعمة طاهرة، وعندما عفا عن المرأة الزانية التي تأمر الشريعة برجمها، وعندما لم يكن يصلي في هيكل أورشليم ولا قرب قربانا واحدا فيه، وأعلن عن سدى العبادة في الهيكل عندما قال: «ستأتي ساعة تعبدون فيها الآب لا في هذا الجبل (= جبل جرزيم في السامرة) ولا في أورشليم. أنتم تعبدون ما لا تعلمون ونحن نعبد ما نعلم. لأن الخلاص هو آت من اليهود» (يوحنا، 4: 21-22).
وفي قصة عفوه عن الزانية، يظهر يسوع إلى جانب رفضه للجوانب غير الإنسانية في الشريعة اليهودية، تعاطفا مع الضعف الإنساني قل مثيله: «فأتاه الفريسيون بامرأة أخذت في زنا وقالوا له: يا معلم، إن هذه المرأة أخذت في الزنا المشهود، وقد أوصانا موسى برجم أمثالها، فماذا تقول أنت؟ وإنما قالوا ذلك ليحرجوه فيتهموه. فأكب يسوع يخط بإصبعه على الأرض. فلما ألحوا عليه في السؤال جلس وقال لهم: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر. ثم أكب ثانية يخط في الأرض. فلما سمعوا هذا الكلام انصرفوا واحدا بعد واحد مبتدئين بالشيوخ إلى الآخرين، ولبث يسوع وحده والمرأة في مكانها. فجلس يسوع وقال لها: أين هم أيتها المرأة؟ أما أدانك أحد؟ فأجابت: لا يا سيدي. فقال لها يسوع: ولا أنا أيضا أدينك. اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة» (يوحنا، 8: 1-11). ولعل في قول يسوع هنا: «ولا أنا أيضا أدينك» ما يشير إلى أن يسوع قد عرف الخطيئة مثله مثل سائر البشر؛ ولذلك فإنه لم يدن المرأة.
وكان يسوع عازفا عن إظهار التواضع الزائف الذي يسم سلوك الفلاسفة والمتفلسفين، شديد الفخر بنفسه مؤكدا على علو مكانته. فقد شبه نفسه في هذه الدنيا بالعريس الذي هو مركز الحدث والشخصية الرئيسية في الحفل: «فجاء بعض الناس وقالوا ليسوع: لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين ولا يصوم تلاميذك؟ فقال لهم: أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟» (مرقس، 2: 18-19). وعندما انتهر البعض المرأة التي سكبت على رأسه حقة العطر، بحجة أن الفقراء أولى بثمنها، قال لهم: «الفقراء عندكم في كل حين، أما أنا فلست عندكم في كل حين» (متى، 26: 11).
وقد بلغ من فخره بنفسه أنه اعتبر كل من سبقه في التاريخ النبوي اليهودي لصوصا وسارقين، وذلك بالمعنى المجازي لا الحرفي: «أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي وخرافي تعرفني» (يوحنا، 10: 14). «الحق أقول لكم، من لم يدخل حظيرة الخراف من الباب بل تسلق إليها من طريق آخر كان لصا سارقا، ومن يدخل من الباب كان راعي الخراف، البواب يفتح له والخراف تصغي إلى صوته وتتبعه لأنها تعرف صوته أما الغريب فلا تتبعه. الحق أقول لكم: أنا باب الخراف. جميع الذين جاءوا قبلي لصوص سارقون ولكن الخراف لم تصغ إليهم» (يوحنا، 10: 1-8). وقد قارن نفسه ببعض أنبياء إسرائيل وبأعظم ملوكهم، وأعلن أنه أعلى منهم شأنا: «أهل نينوى سيقومون مع أهل هذا الجيل ويحكمون عليه لأنهم تابوا بإنذار النبي يونان، وها هنا أعظم من يونان. ملكة الجنوب ستقوم يوم الدين مع هذا الجيل وتحكم عليه، لأنها جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وها هنا أعظم من سليمان» (متى، 12: 41-43). وهو أعلى شأنا من إبراهيم الأب الأعلى لليهود وأعظم الأنبياء: «ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي، ورآه ففرح. قال له اليهود: أرأيت إبراهيم وما بلغت الخمسين؟ فقال لهم يسوع: الحق، الحق أقول لكم: كنت قبل أن يكون إبراهيم» (يوحنا، 8: 56-58). وهو أعظم من هيكل أورشليم محور التاريخ الديني والدنيوي لليهود. فعندما شغب عليه اليهود لانتهاكه حرمة السبت قال لهم: «أوما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت يستبيحون حرمة الهيكل ولا حرج عليهم؟ فأقول لكم: ها هنا أعظم من الهيكل» (متى، 12: 5-6). والمقصود من استباحة الكهنة للسبت في الهيكل، هو ما نصت عليه الشريعة من تقديم قرابين معينة في يوم السبت (راجع سفر العدد، 28: 9).
وقد تمتع يسوع بأهم خصيصة في المعلم الروحي، ألا وهي قوة الشخصية والجاذب الطبيعي أو الكاريزما. وكان يتحدث دوما كمن له سلطان، على حد تعبير الأناجيل: «فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (متى، 7: 29). «فتحيروا كلهم حتى سأل بعضهم بعضا قائلين: ما هذا؟ وما هو هذا التعليم الجديد؟ لأنه يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه» (مرقس، 1: 27). «ولما جاء إلى الهيكل، تقدم إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وهو يعلم قائلين: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان» (لوقا، 20: 1-2). وعلى الرغم من عدم امتلاكه لأي حق في التدخل بالأنظمة المتبعة في الهيكل، فقد ألقى الرعب في قلوب الصرافين وباعة حيوانات قرابين الهيكل ففروا من أمامه مذعورين عندما انقض عليهم وفرقهم بسوطه. وهذه الهيبة التي تمتع بها يسوع منعت حراس الهيكل من القبض عليه عندما أمروا بذلك: «فأرسل الفريسيون والأحبار خداما ليمسكوه ... فعاد الخدام إلى الأحبار والفريسيين، فقال لهم هؤلاء: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدام: لم يتكلم إنسان هكذا مثل هذا الإنسان. فأجابهم الفريسيون: «ألعلكم أنتم أيضا قد ضللتم»» (يوحنا، 7: 32-47). وغالبا ما كان تلاميذه يهابون أن يسألوه شرح ما غمض عليهم من أقواله. فعندما قال لهم: «إن ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد أن يقتل يقوم في اليوم الثالث، لم يفهموا القول وخافوا أن يسألوه» (لوقا، 9: 44-45). وعندما قال لهم في جلسة العشاء الأخير إن واحدا منهم سيسلمه، تردد الجميع في سؤاله عن هوية الخائن، ولم يجرؤ على ذلك سوى التلميذ المحبوب (يوحنا، 13: 21-26). وفي ظهوره الأخير لهم عند بحيرة طبريا، عندما جلس معهم بعد انتهاء الصيد وأكل: «لم يجرؤ أحد أن يقول له: من أنت؟ لعلمهم أنه الرب» (يوحنا، 21: 4-13).
ولقد جزع يسوع من الموت كما يجزع بقية البشر. فبعد العشاء الأخير عندما مضى مع تلاميذه إلى جبل الزيتون ودخل بستان جتسيماني، شعر بقرب وصول الخائن يهوذا مع جند الهيكل، فمضى ببطرس ويعقوب ويوحنا وراح يستشعر حزنا وكآبة، وقال لهم: «نفسي حزينة حتى الموت، امكثوا هنا واسهروا. ثم أبعد قليلا ووقع على الأرض يصلي لتبتعد عنه الساعة إن يستطاع. قال: يا أبتا، إنك على كل شيء قدير فاصرف عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء. وأخذه الجهد فأمعن في الصلاة وكان عرقه كقطرات دم تتساقط على الأرض» (مرقس، 14: 32-42؛ + لوقا، 22: 39-45). وفي الدقائق الأخيرة على الصليب بلغ به اليأس الإنساني ذروته فصاح بأعلى صوته: إلهي، إلهي لماذا تركتني (متى، 27: 46).
هل أفلح يسوع خلال حياته؟
إن الإجابة على هذا السؤال المطروح في العنوان، هي مسألة حيوية لفهم ما وراء السطور في الرواية الإنجيلية، لا سيما فيما يتعلق بأحداث الأسبوع الأخير من حياة يسوع.
نامعلوم صفحہ