وقد ذكرت أسفار العهد الجديد عددا من الأباطرة الرومان ممن تعيننا فترات حكمهم على رسم الإطار التاريخي لأحداث الإنجيل، ومنهم أوغسطس وكلاوديوس وتيبيريوس.
إننا لا نستطيع لوم مؤلفي الإنجيل عما لم يوردوه، لأن ما أوردوه كان في رأيهم كافيا للغرض الذي من أجله دونت الأناجيل، وهو إعلان يسوع مسيحا يفتتح بقدومه الثاني ملكوت السماوات، وبالتالي فقد أسقطوا كل ما لا يمت بصلة إلى غرضهم هذا. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء المؤلفين كانوا يكتبون مادتهم بعد مضي أكثر من أربعين سنة على الأحداث التي يروونها، وكانت الحرب اليهودية الرومانية (66-70م) قد أدت إلى مقتل الكثيرين ممن رأوا يسوع وسمعوا منه، وإلى ضياع الوثائق المكتوبة في حال وجودها. وعلى ما يقوله يوسيفوس فإن أكثر من مليون شخص قد لقوا حتفهم أثناء حصار أورشليم، ثم اقتحامها عام 70م وإحراقها وتدمير هيكلها، هذا عدا عن الذين قتلوا أثناء قيام القائد الروماني تيتوس بتمشيط الجليل وأراضي اليهودية قبل إلقائه الحصار على العاصمة. ففي الجليل موطن يسوع وتلاميذه قام الرومان بقتل كل قادر على حمل السلاح، حتى إن بحر الجليل (= طبريا) تحول إلى بركة من الدم والنار والجثث الطافية. وخلال عملية التمشيط هذه كان الناس يهربون من وجه الجيش الروماني نحو أورشليم المحصنة التي ضاقت بالعدد الكبير من النازحين إليها، وهذا هو السبب وراء ذلك العدد الكبير من القتلى الذي خلفه اقتحام المدينة. وأما الذين نجوا بحياتهم فقد بيعوا في أسواق النخاسة، حتى صار سعر العبد اليهودي أرخص من سعر الحمار، وبما أن المسيحيين في ذلك الوقت لم يكونوا قد تميزوا عن اليهود، فلا بد من أن عددا كبيرا منهم قد لقي حتفه، لا سيما وأن الوفيات كانت مرتفعة في صفوف العجز وكبار السن، وبينهم العديد ممن عاصروا أحداث الإنجيل. وأما من نجا بحياته من هؤلاء فقد صار إلى حالة من الشرود وبلبلة الذهن وضعف الذاكرة، لا تسمح له بتقديم شهادة متماسكة يركن إليها.
إن قليل المعلومات الذي حفظه لنا الإنجيليون قد لا يكفي في حد ذاته لوضع إطار تاريخي وكرونولوجي دقيق لسيرة يسوع، ولكنه يصلح لرسم شبكة من التقاطعات بين المفاصل الرئيسة للرواية الإنجيلية والمصادر الخارجية، تقودنا إما إلى إثبات هذه الرواية أو إلى نفيها. وهذا ما سنعمد إليه فيما يلي بعد استبعاد قصة الميلاد العذري وبقية الغيبيات الواردة في الأناجيل، لأنها تنتمي إلى مجال العقيدة والتقوى الدينية لا إلى مجال التاريخ. وقد اخترنا ثلاثة مفاصل رئيسة من أجل مقاطعتها مع ما صرنا نعرفه من أحداث تلك الفترة، وهي: الصلب، والظهور العلني بعد المعمودية، والميلاد.
ومصدرنا التاريخي الرئيس هو كتاب «عاديات اليهود
Antiquities of the Jews » للمؤرخ اليهودي يوسيفوس. (1) الصلب
نفهم من الرواية الإنجيلية أن نشاط يسوع التبشيري ابتدأ قبل زمن قصير من قيام هيرود أنتيباس بسجن يوحنا المعمدان، وأن صلبه حدث بعد زمن ليس بالبعيد من إعدام يوحنا، عندما كان بيلاطس واليا على اليهودية وقيافا رئيسا للكهنة. وهذا ما يعطينا شيئا ملموسا ننطلق منه. فلقد ابتدأت فترة ولاية بيلاطس على اليهودية والسامرة عام 27م، وانتهت إما في أواخر عام 36م أو في أوائل عام 37م، عندما أمره المفوض الروماني العام في سوريا المدعو فيتيليوس بالتوجه إلى روما من أجل استجوابه من قبل الإمبراطور تيبيريوس بخصوص التهم الموجهة إليه من قبل اليهود والسامريين بالقسوة والظلم وسوء استخدام السلطة. وبعد ذلك حضر فيتيليوس بنفسه إلى أورشليم في عيد الفصح من عام 37م، بعد أن وصلته أخبار عن تململ اليهود وإمكانية حدوث فتنة عامة نتيجة لفساد حكم بيلاطس، وهناك قام بعزل قيافا من منصب الكاهن الأعلى وعين آخر بدلا عنه. من هنا نستطيع تحديد آخر تاريخ ممكن لصلب يسوع وهو عيد الفصح من عام 36م.
ومن الممكن أيضا وجود صلة بين صلب يسوع وعزل الشخصيتين الرئيستين المسئولتين عن ذلك، أي بيلاطس وقيافا، وذلك مقارنة مع ما حدث بعد ذلك عام 62م، عندما جرى عزل رئيس كهنة آخر لأنه عقد اجتماعا غير قانوني للسنهدرين، واستصدر منه حكما بالموت رجما على يعقوب الأخ الأكبر ليسوع وأحد أعمدة كنيسة أورشليم، مستغلا فترة الفراغ الواقعة بين سفر الوالي القديم ووصول الوالي الجديد الذي يفترض به إعطاء الموافقة على أي اجتماع للسنهدرين.
1 (2) المعمودية والظهور العلني
يورد لنا مرقس الخبر التالي عن اعتقال يوحنا ومقتله: «كان هيرود (أنتيباس) قد أرسل إلى يوحنا من أمسكه وأوثقه في السجن، من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلبس لأنه تزوجها (في حياة أخيه). فكان يوحنا يقول له: لا يحق لك أن تأخذ امرأة أخيك. وكانت هيروديا ناقمة عليه تريد قتله فلا تستطيع، لأن هيرود كان يهاب يوحنا لعلمه أنه رجل قديس وبار، وكان يحميه. وجاء يوم مؤات لها إذ أقام هيرودوس مأدبة في ذكرى مولده للأشراف والقواد وأعيان الجليل. فدخلت ابنة هيروديا ورقصت فأعجبت هيرود والمدعوين. فقال الملك للفتاة: سلي ما شئت أعطيك. وأقسم لها. فخرجت وسألت أمها ماذا أطلب؟ فقالت: رأس يوحنا المعمدان على طبق. فاغتم الملك، ولكنه من أجل الأيمان التي أقسمها بمسمع من المدعوين لم يشأ أن يرد طلبها. فأرسل الملك من ساعته حاجبا وأمره بأن يأتي برأسه، فمضى وضرب عنقه في السجن وأتي بالرأس على طبق» (مرقس، 6: 16-29 قارن مع متى 14: 3-12).
يورد لنا يوسيفوس خبرا مشابها للرواية الإنجيلية، ولكنه يضيف إليه أحداثا تساعدنا في مهمتنا الاستقصائية هذه. فبعد زواج هيرود من امرأة أخيه فيلبس (الابن الثالث لهيرود الكبير)، لم تقبل زوجته الأولى ابنة الحارثة (الرابع) ملك الأنباط (9ق.م.-40م) بهذا الوضع، وفرت عائدة إلى عاصمة أبيها في البتراء. وردا على هذه الإهانة قرر الحارثة شن الحرب على هيرود وراح يعد العدة لذلك وينتظر الظروف المؤاتية، وعندما سمع هيرود بخروج الحارثة إليه، دفع قواته إلى قلعة مخايروس الواقعة إلى الشرق من البحر الأحمر على الحدود الفاصلة بين ممتلكاته وممتلكات الحارثة، واتخذ منها مقرا لقيادته. وإلى هذه القلعة ساق يوحنا سجينا لخوفه من تأليب الشعب عليه خلال هذه المرحلة، ثم أمر بإعدامه. في شتاء عام 35-36م وقع الصدام بين الجانبين ومني هيرود بهزيمة منكرة أمام قوات الحارثة، فعاد إلى الجليل وأرسل إلى راعيه الإمبراطور تيبيريوس يطلب منه عونا على الحارثة. فأمر الإمبراطور مفوضه العام على سوريا فيتيليوس (الذي استلم مهام منصبه عام 35م) أن يجرد حملة ضد الأنباط ويأتي بالحارثة مكبلا بالأصفاد أو يبعث إليه بخبر مقتله. وعندما استكمل فيتيليوس استعداداته من أجل الخروج إلى الحارثة، جاءه خبر وفاة الإمبراطور تيبيريوس التي حصلت في شهر آذار/مارس من عام 37م. فتريث في انتظار تعليمات جديدة.
نامعلوم صفحہ