ويتحدث يسوع في إنجيل يوحنا عن غربة المؤمنين في عالم تحكمه القوى الظلامية: «من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية» (يوحنا، 12: 25). «من أحب حياته هلك، ومن كره حياته في هذه الدنيا حفظها إلى الأبدية». (12: 25) «لو كنتم من العالم لأحب العالم من كان منه، ولكن أبغضكم العالم لأنكم لستم منه. فاختياري لكم أخرجكم من العالم» (15: 19). «بلغتهم كلامك فأبغضهم العالم، لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم» (17: 14). ولذلك عندما سأله الوالي الروماني أثناء المحاكمة: أأنت ملك اليهود؟ أجابه يسوع: «ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجالي لكيلا أسلم إلى اليهود» (18: 36). هذه المملكة الأرضية التي رفضها يسوع ما عرفت الله قط: «العالم لم يعرفك، أما أنا فقد عرفتك، وعرف هؤلاء (= التلاميذ) أنك أرسلتني» (17: 25).
وإذا كان العالم جاهلا بالله الحق فلأنه واقع تحت سلطان قوة أخرى يدعوها يسوع بسيد هذا العالم، إله اليهود الذي جربه في البرية، والذي رفض يسوع السجود له وأعلن انتهاء سلطانه على المؤمنين بالآب السماوي: «اليوم دينونة هذا العالم، واليوم ينبذ سيد هذا العالم. فإذا رفعت من هذه الأرض جذبت إلى الناس أجمعين» (12: 31-32). «لأن سيد هذا العالم قد حكم عليه» (16: 11). «لن أخاطبكم بعد الآن لأن سيد هذا العالم آت وليس له يد علي. وما ذلك إلا ليعرف العالم أني أحب الآب وأعمل بما أوصاني» (14: 30-31). سيد هذا العالم الذي عرض على يسوع السلطة على كل ممالك الأرض، هو الذي يهب كل سلطان أرضي، وهو الذي أسلم يسوع إلى الصلب. فعندما قال له الوالي ببلاطس أثناء المحاكمة: «ألا تكلمني؟ أفلست تعلم أن لي سلطانا أن أصلبك وسلطانا أن أطلقك؟» أجاب يسوع: «لم يكن لك سلطان علي البتة لو لم تكن أعطيت (هذا السلطان) من فوق، لذلك الذي أسلمني إليك له خطية عظيمة» (19: 10-11). ولكن يسوع بموته على الصليب وقد غلب العالم وسيد هذا العالم: «ستعانون الشدة في هذا العالم، فاصبروا لها، لقد غلبت العالم» (16: 13).
أما مصدرنا الثالث في تتبع التعاليم الخفية ليسوع، فهو إنجيل غير رسمي منسوب إلى توما الرسول يحتوي على 114 قولا ليسوع من غير التعرض لسيرته أو المناسبات الخاصة بهذه الأقوال. وعلى الرغم من بقاء هذا الإنجيل خارج كتاب العهد الجديد، إلا أنه أكثر الأناجيل غير الرسمية قربا إلى الأناجيل القانونية، الأمر الذي أكسبه عن جدارة لقب الإنجيل الخامس. تعود أقدم الشذرات المكتشفة من هذا الإنجيل إلى مطلع القرن الثاني الميلادي، ولكن الباحثين يعتقدون بأنه ترجمة يونانية عن نص آرامي أقدم دون في فلسطين أو مكان آخر من سوريا. وهناك اتجاهات جديدة في البحث تضع تاريخ تدوينه في زمن ما من النصف الثاني للقرن الأول الميلادي، أي إلى فترة تدوين الأناجيل الرسمية.
من الأقوال ال 114 الواردة في إنجيل توما هناك نحو 50 قولا يشترك بها مع أقوال يسوع الواردة في الأناجيل الإزائية الثلاثة (مرقس ومتى ولوقا)، وهذا ما يعطي بقية الأقوال مصداقية تؤكد نسبتها إلى يسوع. إلا أن ما يميزه عن الأناجيل الإزائية هو أن يسوع لا يظهر فيه كمبشر بحلول اليوم الأخير ودينونة العالم، وإنما كمعلم حكمة يرشد إلى سبل الحياة الروحية الكفيلة بتطهير النفس والانعتاق من العالم. وتظهر في أقواله لهجة غنوصية بسيطة وواضحة، وبعيدة عن التصورات الميثولوجية المعقدة التي نواجهها في النصوص الغنوصية التي دونت بعده، والتي ابتعدت عن جو الأناجيل الرسمية على الرغم من اتخاذها لشخصية يسوع المسيح المبعوث مركزا لأفكارها وتصوراتها الدينية.
ومؤلف الإنجيل يصف في فقرته الاستهلالية الأقوال التي يقدمها لنا على أنها: «الكلمات الخفية التي نطق بها يسوع الحي، ودونها يهوذا توما» وأن: «من يتوصل إلى تأويلها لن يذوق الموت أبدا» وتبتدئ كل فقرة من الفقرات ال 114 إما بجملة: «قال يسوع» أو «قال له التلاميذ» أو «سأله التلاميذ». وفيما يلي مقتبسات من هذا الإنجيل مع شروحاتي على المتن:
1
قال يسوع: على من يبحث ألا يتوقف عن البحث إلى أن يجد، وحين يجد سوف يضطرب، وحين يضطرب سوف يعجب ويسود على الكل.
أي إن المعرفة هي أداة الساعي إلى الخلاص، وعليه متابعتها دون كلل أو يأس، لأنها ستقود في النهاية إلى الاستنارة التي تترافق في البداية مع الدهشة والاضطراب، ثم يليها الغبطة والسكون الداخلي.
قال يسوع: عندما تعرفون أنفسكم تعرفون أنكم أبناء الآب الحي. ولكن إذا لم تعرفوا أنفسكم أقمتم في الفقر وكنتم الفقر.
على ما هو معروف في الأدبيات الغنوصية فإن يسوع هنا يقرن الروح بالثروة والجسد بالفقر. فمن عرف نفسه عرف إلهه الذي سيمد له يد الخلاص، ومن لم يعرف نفسه بقي مقيما في الفقر، أي في الجسد المادي، أسيرا لدورة التناسخ. ولذلك قال في فقرة أخرى من إنجيل توما:
نامعلوم صفحہ