فإذا كان يسوع هو المسيح فعلا فإن ذلك يستدعي بالضرورة أن الرب قد جعله ابنا بالتبني. وإذا لم يكن هو المسيح فإن ادعاء بنوته للرب هو ادعاء شخص فاقد الرشد يستحق الجلد والتأديب لا المحاكمة والصلب. (8)
تركز استجواب رئيس الكهنة ليسوع حول ادعائه للقب المسيح أو ابن الله، ولكنه لم يستجوبه عما إذا كان ينشط بدافع من هذا الادعاء ويدعو لنفسه كملك، أو عما إذا كان قد مارس التحريض ضد روما. والشهادة الوحيدة التي حصلوا عليها ضده وكانت شهادة ضعيفة وهي أنه قال: «سأنقض هذا الهيكل الذي صنعته الأيدي وأبني في ثلاثة أيام هيكلا آخر لم تصنعه الأيدي.» وقائل هذا الكلام إما أنه يستهزئ بعبادة الهيكل التي تقوم على تقريب الذبائح الحيوانية، ويدعو إلى عبادة الله بالروح، أو أنه شخص مختل يدعي ما لا طاقة لبشر عليه. وفي كلا الحالين فإنها مسألة لا تعني السلطة الرومانية بشيء. من هنا فإن المرء يعجب من رفع السنهدرين القضية إلى بيلاطس للفصل بها في ظل عدم وجود قضية من حيث الأساس.
يوحنا
في رواية يوحنا لا يقوم رئيس الكهنة باستجواب يسوع عما إذا كان المسيح أو ابن الله، وبالتالي لا يوجد ادعاء ليسوع بقبول هذين اللقبين أو نفيه لهما. وهذا ما يكسب رواية يوحنا مصداقية أكثر من الرواية الإزائية. والنقطة الجوهرية في جواب يسوع هنا هي أنه كان يعلم علنا ولم يقم بأي نشاط سري: «فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. فأجابه يسوع: كلمت الناس علانية وعلمت في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء. لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين سمعوني عما كلمتهم به فهم يعرفون ما قلت. ولما قال هذا لطمه واحد من الخدام كان بجانبه وقال له: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ فأجابه يسوع: إن كنت قد أسأت في الكلام فقل لي أين الإساءة، وإن كنت قد أحسنت في الكلام فلماذا تضربني؟ فأرسل به حنان موثقا إلى قيافا رئيس الكهنة. وذهبوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الحاكم» (يوحنا، 18: 19-28).
في هذه الرواية، وعلى عكس رواية التقليد المرقسي، فإن رئيس الكهنة لم يسأل يسوع عما إذا كان هو المسيح ابن الله، ويسوع من ناحيته لم ينطق بالتصريح المجلجل: «أنا هو» أو بالتصريح الغامض: «أنت قلت» أو «أنتم تقولون إني أنا هو». وهذا يعني أن تهمة ادعاء يسوع المسيحانية لم تكن النقطة المحورية في الاستجواب المبدئي. لقد كان رئيس الكهنة مهتما بمعرفة طبيعة تعاليم يسوع، وعندما سأله عن تلاميذه كان مهتما بمعرفة مدى انتشار دعوة يسوع وعدد الذين آمنوا به أو تبعوه. وعلى عكس التقليد المرقسي أيضا فإن رئيس الكهنة لم يحشد الشهود ضد يسوع من أجل ترتيب قضية يرفعها إلى الوالي الروماني لإدانة يسوع بتهمة التحريض ضد روما. فلماذا رفعت هذه القضية إلى بيلاطس؟ (2) في قصر بيلاطس
إن ما جرى في قصر بيلاطس هو أكثر غموضا مما جرى في بيت رئيس الكهنة. فالشهادات الإزائية هنا تناقض بعضها البعض مثلما تناقض شهادة يوحنا.
مرقس «وما إن أسفر الصبح حتى اجتمع للشورى الأحبار والشيوخ والكتبة والمجلس كله، ثم أوثقوا يسوع وساقوه وأسلموه إلى بيلاطس، فسأله بيلاطس: أأنت ملك اليهود؟ فأجابه: أنت تقول. وكان الأحبار يتهمونه اتهامات كثيرة، فسأله بيلاطس ثانية: أما تجيب بشيء؟ انظر كم يشهدون عليك. فلم يجب يسوع بشيء حتى تعجب بيلاطس. وكان يطلق لهم في كل عيد سجينا، أي واحد طلبوا. وكان المسمى براباس مسجونا مع رفقائه الذين اجترموا القتل في فتنة. فصعد الجمع وأخذوا يطلبون ما تعودوا أن يمنحهم. فأجابهم بيلاطس: أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ لأنه كان يعلم أن الأحبار كانوا قد أسلموه حسدا. فأثار الأحبار الجمع لكي يختاروا إطلاق براباس. فخاطبهم بيلاطس ثانية وقال لهم: وأي شر عمل؟ فازدادوا صراخا: اصلبه. وأراد بيلاطس أن يرضي الجميع فأطلق لهم براباس، وبعدما جلد يسوع أسلمه للصلب» (مرقس، 15: 1-15).
لا يخبرنا نص مرقس هذا عن الاتهامات الكثيرة التي وجهها الأحبار إلى يسوع أمام بيلاطس، ولكن يبدو أنها تركزت حول نقطة هامة واحدة وهي ادعاء يسوع بأنه ملك اليهود. وهنا نجد أن الأحبار قد خاطبوا بيلاطس بما يفهمه كروماني لا يعرف شيئا عن مصطلحات الدين اليهودي، فقالوا «ملك اليهود» عوضا عن «المسيح» أو «ابن الله». وعندما سأله بيلاطس: «أأنت ملك اليهود؟» وأجابه يسوع: «أنت تقول ذلك»، فهم بيلاطس هذا الجواب على حقيقته، أي: «أنت تقول ذلك لا أنا». ولذلك لم يجد في المتهم علة، وقال للطالبين صلبه: «وأي شر عمل؟» ولو أنه فهم من إجابة يسوع ادعاءه الفعلي لملوكية اليهود لسارت المحكمة في اتجاه مختلف تماما، ولما أعلن بيلاطس عن قناعته ببراءة يسوع. وفي جميع الأحوال فإن ادعاء أي شخص بأنه ملك شيء، والعمل بموجب الادعاء شيء آخر. ومتهمو يسوع لم يقدموا لبيلاطس من البينات ما يدل على قيام يسوع بالدعاية لنفسه كملك أو بالتحريض السياسي ضد السلطة المدنية أو السلطة الرومانية، فحاول أن يجد له مخرجا بجعله السجين الذي يطلقه لليهود كل عام في عيد الفصح.
وهناك نقطة إجرائية مهمة لم تراع في هذه المحاكمة، وهي أن يسوع لم يكن خاضعا لسلطة بيلاطس ولا للسلطة المدنية في مقاطعة اليهودية، وإنما لسلطة هيرود أنتيباس ملك الجليل باعتباره مواطنا جليليا، ولهيرود وإدارته المدنية فقط الحق في محاكمته. وهذا ما يجعل محاكمة يسوع باطلة من الناحية الإجرائية. وقد انتبه لوقا وحده إلى هذا الخلل الإجرائي، فأشرك هيرود في محاكمة يسوع ولكنه جعل محكمة بيلاطس في النهاية مسئولة عن إصدار هذا الحكم الباطل.
متى
نامعلوم صفحہ