الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة
الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة
ناشر
(بدون)
اصناف
ـ[الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة]ـ
المؤلف: أمين بن عبد الله الشقاوي
الناشر: [بدون]
الطبعة:
جـ ١ - ٣ / الثامنة، ١٤٣٤ هـ - ٢٠١٣ م
جـ ٤ - ٥ / الثالثة، ١٤٣٤ هـ - ٢٠١٣ م
جـ ٦ - ٧ / الأولى، ١٤٣٤ هـ - ٢٠١٣ م
ج ٨ / الأولى، ١٤٣٥ هـ - ٢٠١٤ م
ج ٩/ الأولى، ١٤٣٧ هـ - ٢٠١٦ م
عدد الأجزاء: ٩ أجزاء في ٥ مجلدات
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة دروس يومية (١٥٠) درسًا للدعاة والخطباء وأئمة المساجد للقراءة على المصلين إعداد د. أمين بن عبد الله الشقاوي عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد «الجزء الأول»
الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة دروس يومية (١٥٠) درسًا للدعاة والخطباء وأئمة المساجد للقراءة على المصلين إعداد د. أمين بن عبد الله الشقاوي عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد «الجزء الأول»
نامعلوم صفحہ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين:
أما بعد: فقد اطّلعت على الكتاب الموسوم بـ «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة»: دروس يومية إعداد الشيخ الدكتور أمين بن عبد اللَّه الشقاوي عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.
والشيخ أمين معروف لديّ وهو من الدعاة المعروفين بالعلم والبصيرة، وقد سمعتُ عددًا من كلماته التي يلقيها في المساجد.
ولما تصفّحتُ الكتاب وجدتُه منوعًا يشمل موضوعات متعددة في العقيدة والتفسير والحديث والفقه، وفي العلم، والوصايا، والأدعية والأذكار، وآداب الطعام، والمحرمات، وصيانة الأعراض واللباس، والمواعظ والرقائق والفضائل والأخلاق، وقضايا اجتماعية كقضية المرأة وغيرها وتوجيهات عامة وغيرها.
ولا شكّ أن هذه الموضوعات شاملة لقضايا متعددة من أمور الدين، الناس بحاجة إليها، فهذه الكلمات مفيدة لعامة الناس، وهي مفيدة للدعاة والخطباء وأئمة المساجد يقرؤونها على الناس دروسًا يومية.
وإنني أوصي عموم المسلمين بقراءة هذا الكتاب والاستفادة منه، وأوصي أيضًا أئمة المساجد والخطباء والدعاة بالاستفادة من هذا الكتاب على شكل دروس يومية تقرأ على المصلين.
1 / 5
والمؤلف - وفقه اللَّه - بذل جهده في اختيار الموضوعات المهمة، ودعمها بالأدلة من كتاب اللَّه وسنة رسوله ﷺ وأقوال الصحابة والتابعين وأهل العلم المعتبرين، ورجع إلى كتب التفسير وكتب الفقه وكتب الحديث وكتب التاريخ والسِّير، فجاء هذا الكتاب - بحمد اللَّه - وافيًا بالغرض نافعًا يجد فيه الباحث بغيته.
وأسأل اللَّه أن ينفع بهذا الكتاب وبكلمات الشيخ أمين التي يلقيها في المساجد، وأن يجعلنا وإياه من الهداة المهتدين، وأن يرزقنا الإخلاص في العمل والصدق في القول، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه جواد كريم.
وصلى اللَّه وبارك على عبد اللَّه ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
كتبه
عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
١٢/ ٤ / ١٤٢٧ هـ
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المكرم الأخ الدكتور أمين بن عبد اللَّه الشقاوي - وفقه اللَّه -:
سلام اللَّه عليكم ورحمته وبركاته. وبعد:
أشكركم على هديتكم كتاب «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة» وقد تصفحت سفركم الجميل وألفيته من الكتب النافعة في بابه ومناسبًا في وقتنا هذا لما اشتمل عليه من موضوعات تهم العامة والخاصة، وتقرب كثيرًا من المعاني إلى الأفهام وتصلح حال كثير من الناس بأسلوب لطيف وتأصيل شرعي مستمد من الكتاب والسنة وأقوال السلف.
وفقكم اللَّه وجعلكم مباركين أينما كنتم
ونفع بعلمكم ورزقنا وإياكم حسن القصد والعمل.
كتبه
ناصر بن سليمان العمر
الاثنين ١٢ ربيع الأول ١٤٢٧ هـ
1 / 7
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد اطلعت على كتاب «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة» الذي ألفه أخونا الشيخ أمين بن عبد اللَّه الشقاوي عضو الدعوة بوزارة الشؤون الإسلامية - وفقه اللَّه -، فوجدته كتابًا نافعًا مناسبًا لعموم المسلمين، وبخاصة الدعاة والخطباء وأئمة المساجد، فقد ضمَّنه مؤلفه خمسين ومئة درس في موضوعات متعددة في العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والقضايا الاجتماعية والأسرية، وما يخص المرأة، وبعض القضايا المعاصرة، كما حرص المؤلف على تجنب الأحاديث الموضوعة والضعيفة ما أمكن، فنسأل اللَّه تعالى أن يجزل له المثوبة، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد.
كتبه
سعد بن عبد الله الحميد
٧ ربيع الأول ١٤٢٧ هـ
1 / 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد:
فقد استمعت إلى بعض الكلمات والدروس التي كان يلقيها الشيخ: أمين بن عبد اللَّه الشقاوي، وكانت هذه الدروس والكلمات مفيدة وقيِّمة، فهي جامعة ومختصرة مع الاعتناء بالأدلة من الكتاب والسنة، والنقل عن أهل العلم.
وقد قام - وفقه اللَّه - بجمع هذه الكلمات والدروس في كتاب أسماه: «الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة» وهي شاملة لكثير من قضايا الشريعة من: التوحيد، والعقيدة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتفسير، والحديث، وغير ذلك من القضايا والمسائل.
فبارك اللَّه فيه ونفع به الإسلام والمسلمين.
كتبه
عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد
1 / 11
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فقد كُلفتُ من قِبَلِ إدارة شؤون الدعوة والإِرشاد بفرع وزارة الشؤون الإِسلامية والأوقاف والدعوة والإِرشاد بالرياض، بإلقاء كلمات وعظية في مساجد مدينة الرياض، وفي أثناء تنقلي بمساجد المدينة أَشار عليَّ بعض الفضلاء من أئمة المساجد بكتابة ما يُلقى من هذه الكلمات؛ لكي يستفيد منها أئمة المساجد وطلبة العلم، وعامة الناس.
فاستخرت الله ﷿، ثم شرعت في كتابتها لعل الله أن ينفع بها.
والجزء الأول من كتاب الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة، جمعتُ فيه ثلاثين كلمة متنوعة، وقد طُبع الطبعة الأولى عام ١٤٢٢ هـ، ثم بدا لي أن أضيف عليه أربعين كلمة أخرى، فطُبع الكتاب الطبعة الثانية (الجزء الأول والثاني) في مجلد واحد عام ١٤٢٣ هـ.
وفي عام ١٤٢٦ هـ طُبع الكتاب للمرة الثالثة، بإضافة ثمانين كلمة (الجزء الأول والثاني والثالث) في مجلد واحد، فأصبح المجموع (مئة وخمسين كلمة).
وقد بذلت جهدي ألَاّ أورد فيها من الأحاديث إلا ما صُحح، والله أسأل أن يجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلَاّ من أتى الله بقلبٍ سليم.
المؤلف
1 / 13
الكلمة الأولى: الإِخلاص
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإِنّ أعظم الأصول المهمة في دين الإِسلام تحقيق الإِخلاص لله تعالى في جميع العبادات، قال بعضهم: الإِخلاص هو ألا تطلب على عملك شاهدًا غير الله تعالى، ولا مجازٍ سواه (^١).
قال أبو عثمان سعيد النيسابوري: صدق الإخلاص نسيان رؤية الخلق لدوام النظر إلى الخالق، والإخلاص: أن تريد بقلبك وعملك وفعلك رضا الله تعالى خوفًا من سخط الله كأنك تراه بحقيقة عملك بأنه يراك حتى يذهب الرياء عن قلبك، ثم تذكر منّة الله عليك إذ وفقك لذلك العمل حتى يذهب العجب من قلبك وتستعمل الرفق في عملك حتى تذهب العجلة من قلبك.
وقال رسول الله ﷺ: «مَا جُعِلَ الرِّفقُ فِي شَيءٍ إِلَاّ زَانَهُ وَمَا نُزِعَ مِن شَيءٍ إلَاّ شَانَهُ» (^٢).
والعجلة اتّباع الهوى، والرفق اتّباع السنة، فإذا فرغت من عملك وجل قلبك خوفًا من الله أن يردّ عليك عملك فلا يقبله منك. قال الله تعالى:
_________
(^١) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم ﷺ (٢/ ١٢٤).
(^٢) صحيح مسلم برقم (٢٥٩٤).
1 / 15
﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٠]، ومن جمع هذه الخصال الأربعة كان مخلصًا في عمله إن شاء الله (^١).
والإِخلاص هو حقيقة الدِّين، ومفتاح دعوة الرسل ﵈.
قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: ٥].
وقال تعالى: ﴿قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ [الزمر: ١٤]، وقال سبحانه: ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ﴾ [الملك: ٢]. قال الفضيل: ﴿أَحْسَنُ عَمَلًا﴾: أخلصه وأصوبه، وقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان على السُّنَّة (^٢).
وقال سبحانه: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى: ١٣].
قال أبو العالية: «وصاهم بالإِخلاص في عبادته»، والإِخلاص أعظم أعمال القلوب.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن تأمّل الشريعة في مصادرها ومواردها، علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد من
_________
(^١) البيهقي في شعب الإيمان رقم (٦٤٧٥) طبعة الشؤون الإسلامية بدولة قطر.
(^٢) مدارج السالكين (٢/ ٦٩).
1 / 16
الأعمال التي ميزت بينهما؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح، وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت» (^١).
وقال أيضًا: لو نفع العلم بلا عمل لما ذمّ الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بغير إخلاص لما ذم المنافقين (^٢).
والإِخلاص شرط لقبول العمل، فإن العمل لا يُقبل إلا بشرطين:
أولًا: أن يكون العمل موافقًا لما شرعه الله في كتابه، أو بيَّنه رسول الله ﷺ؛ فعن عائشة ﵂: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (^٣).
ثانيًا: أن يكون العمل خالصًا لوجه الله تعالى.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب ﵁: أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى الله وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» (^٤).
ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
والإِخلاص هو الأساس في قبول الدعاء، قال تعالى: ﴿فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ﴾ [غافر: ١٤].
_________
(^١) بدائع الفوائد (٣/ ٣٣٠) نقلًا عن كتاب الإخلاص والشرك الأصغر ص: ٥.
(^٢) الفوائد ص: ٦٦.
(^٣) صحيح البخاري برقم (٢٦٩٧)، وصحيح مسلم برقم (١٧١٨) واللفظ له، طبعة بيت الأفكار الدولية.
(^٤) صحيح البخاري برقم (١)، وصحيح مسلم برقم (١٩٠٧).
1 / 17
وفقدان الإِخلاص سبب لرد العمل. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ﵁: أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَاتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَاتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَال: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَاّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (^١)
ولما بلغ هذا الحديث معاوية بكى بكاءً شديدًا، فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (^٢) [هود: ١٥ - ١٦].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديثِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ ﵁: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهْوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» (^٣).
_________
(^١) صحيح مسلم برقم (١٩٠٥) ..
(^٢) صحيح ابن حبان برقم (٤٠٩).
(^٣) صحيح البخاري برقم (٢٨١٠)، وصحيح مسلم برقم (١٩٠٤).
1 / 18
وروى النسائي في سننه من حديث أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ﵁: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا شَيْءَ لَهُ». فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا شَيْءَ لَهُ». ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَاّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» (^١).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى أو قيام ليل أو غير ذلك فإنه يصليه حيث كان ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرًّا لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء ومفسدات الإخلاص (^٢).
وقيل لسهل التستري: أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإِخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب (^٣).
وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئًا أشد عليَّ من نيتي، إنها تتقلب عليَّ.
وقال سليمان الدّاراني: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء.
وقال بعض السلف: من سلم له من عمره لحظة خالصة لوجه الله، نجا وذلك لعزة الإِخلاص، وعسر تنقية القلب من هذه الشوائب؛ فإن الخالص هو الذي لا باعث له إلا طلب القرب من الله تعالى (^٤).
والخلاصة: إن الإخلاص لله تعالى وإرادة وجهه رأس مال العبد وملاك أمره، وقوام حياته الطيبة، وأصل سعادته وفلاحه ونعيمه، وقرة
_________
(^١) سنن النسائي برقم (٣١٧٤٠)، وقال النووي: إسناده جيد "الترغيب والترهيب" (١/ ٦١).
(^٢) الفتاوى (٢/ ٢٦٣).
(^٣) مدارج السالكين (٢/ ٦٩).
(^٤) انظر: "الإخلاص طريق الخلاص" لأخينا الشيخ عبدالهادي وهبي ص: ١٧٦.
1 / 19
عينه، ولذلك خُلق وبه أُمر، وبذلك أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، ولا صلاح للقلب ولا نعيم إلَّا بأن تكون رغبته إلى الله ﷿ وحده، فيكون هو وحده مرغوبه ومطلوبه ومراده، ومن كان كذلك كفاه الله كل مهمٍّ، وتولاه في جميع أموره، ودفع عنه ما لا يستطيع دفعه عن نفسه، ووقاه وقاية الوليد، وصانه من جميع الآفات. ومن كان لله كان الله له، حيث لا يكون لنفسه (^١).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
(^١) روضة المحبين لابن القيم ص: ٤٠٨، بتصرف.
1 / 20
الكلمة الثانية: السبعة الذين يظلهم الله في ظله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَاّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (^١).
يجمع الله الخلائق يوم القيامة، الأولين منهم والآخرين ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى﴾ [النجم: ٣١].
في يوم طويل قدره، عظيم هوله، شديد كربه، حذّر الله منه عباده وأمرهم بالاستعداد له، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ١ - ٢].
في ذلك اليوم العظيم تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ قَدْرَ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى
_________
(^١) صحيح البخاري برقم (١٤٢٣)، وصحيح مسلم برقم (١٠٣١).
1 / 21
كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا (^١).
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ﵁: أن النبي ﷺ قال: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ» (^٢).
في ذلك الموقف العظيم يظل الله في ظله هؤلاء السبعة، فلنتأمل أعمالهم التي أوجبت لهم هذا الجزاء العظيم.
فالأول: الإِمام العادل الذي يحكم بين الناس بالحق ولا يتبع الهوى، كما قال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ﴾ [ص: ٢٦].
ممتثلًا أمر ربه له سبحانه إذْ يقول: ﴿إِنَّ اللهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: ٥٨].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ ﷿، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَمَا وَلُوا» (^٣).
فهذا ثواب من عدل في حكمه وأعطى الحق أهله، فانظر إلى جزاء من جار في حكمه وظلم ولم يعدل، وأغلق بابه دون أصحاب الحاجات.
قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا
_________
(^١) معنى حديث أخرجه مسلم في صحيحه برقم (٢٨٦٤).
(^٢) صحيح البخاري برقم (٦٥٣٢)، وصحيح مسلم برقم (٢٨٦٣).
(^٣) صحيح مسلم برقم (١٨٢٧).
1 / 22
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: ٤٢].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي أُمامة ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَاّ أَتَى اللهَ ﷿ مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَكَّهُ بِرُّهُ أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ، أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ، وآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (^١).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث معقل بن يسار ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَاّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (^٢).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمرو بن مرة أنه قال: يا معاوية إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَا مِن إِمَام أَو وَالٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الحَاجَةِ وَالخَلَّةِ وَالمَسْكَنَةِ إِلَاّ أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ» قَالَ: فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ (^٣).
والثاني: شاب نشأ في عبادة الله، وقد وفقه الله منذ نشأ للأعمال الصالحة، وحببها إليه، وكرَّه إليه الأعمال السيئة وأعانه على تركها، إما بسبب تربية صالحة، أو رفقة طيبة، أو غير ذلك، وقد حفظه مما نشأ عليه كثير من الشباب من اللهو واللعب وإضاعة الصلوات والانهماك في الشهوات والملذات، وقد أثنى الله على هذا النشء المبارك بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣].
ولما كان الشباب داعيًا قويًا للشهوات، كان من أعجب الأمور
_________
(^١) مسند الإمام أحمد (٥/ ٢٦٧)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (٥٧١٨).
(^٢) صحيح البخاري برقم (٧١٥٠)، وصحيح مسلم برقم (١٤٢) واللفظ لمسلم.
(^٣) مسند الإمام أحمد (٢٩/ ٥٦٥) برقم (١٨٠٣٣)، وقال محققوه: صحيح لغيره.
1 / 23
الشاب الذي يلزم نفسه بالطاعة والاجتهاد فيها، فاستحق بذلك أن يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله.
لقد علم أنه مسؤول عن شبابه فيم أبلاه، فعمل بوصية نبيه ﷺ التي أوصى بها حيث يقول: «اغتَنِمْ خَمسًا قَبلَ خَمسٍ: شَبَابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبلَ مَوتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ» (^١).
والثالث: رجل قلبه معلق بالمساجد، فلا يكاد إذا خرج من المسجد أن يرتاح لشيء حتى يعود إليه، لأن المساجد بيوت الله، ومن دخلها فقد حلَّ ضيفًا على ربه، فلا قَلْبَ أطيب ولا نفسَ أسعد من رجلٍ حلَّ ضيفًا على ربه في بيته وتحت رعايته.
وهؤلاء عمَّار المساجد على الحقيقة الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: ١٨].
روى أبو نعيم في حلية الأولياء من حديث أبي الدرداء ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ كَانَ الْمَسجِدُ بَيْتَهُ، بِالرَّوْحِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، إِلَى رِضْوَانِ اللهِ إِلَى الْجَنَّةِ» (^٢).
وهذه الضيافة تكون في الدنيا: بما يحصل في قلوبهم من الاطمئنان والسعادة والراحة، وفي الآخرة: بما أعدَّ لهم من الكرامة في الجنة.
_________
(^١) مستدرك الحاكم (٤/ ٣٤١) رقم (٧٨٤٤)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (١٠٧٧).
(^٢) حلية الأولياء (٦/ ١٧٦)، وقال المنذري في كتابه: الترغيب والترهيب (١/ ٢٩٨)، رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار، وقال إسناده حسن وهو كما قال ﵀. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٧١٦).
1 / 24
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ رَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا (^١) كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ» (^٢).
والرابع: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، لأن أوثق عرى الإِيمان الحب في الله والبغض في الله.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٥٤].
روى أبو داود في سننه من حديث أبي أُمامة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ» (^٣).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ﵁: أن النبي ﷺ قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» (^٤).
وهذه إحدى الخصال التي يجد بها العبد حلاوة الإِيمان ولذته، فهذان الرجلان لم تجمعهما قرابة ولا رحم ولا مصالح دنيوية، وإِنَّما جمع بينهما حب الله تعالى حتى فرَّق بينهما الموت وهما على ذلك.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي مالك الأشعري ﵁:
_________
(^١) نزله: مكانًا ينزله.
(^٢) صحيح البخاري برقم (٦٦٢)، وصحيح مسلم برقم (٦٦٩) واللفظ له.
(^٣) سنن أبي داود برقم (٤٦٨١)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (٥٩٦٥).
(^٤) صحيح مسلم برقم (٥٤).
1 / 25
أن النبي ﷺ قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ ﷿ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ». فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ، وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللهِ ﷺ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، نَاسٌ مِنَ النَّاسِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللهِ؟ ! انْعَتْهُمْ لَنَا - يَعْنِي: صِفْهُمْ لَنَا - فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِسُؤَالِ الأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللهِ وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَثِيَابَهُمْ نُورًا، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَفْزَعُونَ؛ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (^١).
والخامس: رجل دعته امرأة إلى نفسها، وليست كأي امرأة، بل هي امرأة لها مكانة ومنزلة رفيعة، وقد أعطاها الله من الجمال ما يجعل الفتنة بها أشد، والتعلق بها أعظم، فيا الله كيف ينجو من وقع في مثل ذلك الموقف، إلا بإيمان عميق وبصيرة نافذة؟ !
قال القاضي عياض: «وخص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها، وعسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال، لا سيما وهي داعية إلى نفسها طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى، وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب
_________
(^١) مسند الإمام أحمد (٥/ ٣٤٣) طبعة دار صادر، وشرح السنة للبغوي (١٣/ ٥٠ - ٥١) برقم (٣٤٦٤)، وقال محققاه شعيب، وزهير: وأخرجه أحمد (٥/ ٣٤١، و٣٤٣) وشهر بن حوشب مختلف فيه وله شاهد بنحوه من حديث ابن عمر. أخرجه الحاكم في المستدرك (٤/ ١٧٠ - ١٧١)، وصححه، وأقره الذهبي وآخر من حديث أبي هريرة عند ابن حبان في صحيحه (٢٥٠٨) وإسناده صحيح.
1 / 26
والجمال من أكمل المراتب، وأعظم الطاعات، فرتب الله تعالى عليه أن يظله في ظله. وذات المنصب هي ذات الحسب والنسب الشريف» (^١).
قال تعالى في هذا وأمثاله: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَاوَى﴾ [النازعات: ٤٠ - ٤١].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلهِ، فَادْعُوا اللهَ تَعَالَى بِهَا لَعَلَّ اللهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ. فَقَالَ أَحَدُهُمُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِئَةَ دِينَارٍ فَجِئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلَاّ بِحَقِّهِ. فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، فَفَرَجَ لَهُمْ ... الحديث» (^٢).
والسادس: رجل تصدَّق بصدقة، وما أكثر المتصدقين! وما أعظم أجورهم عند الله! لكن الذي تميز به هذا المتصدق ونال به هذا الأجر العظيم - وهو إظلال الله له -، إخلاصه في صدقته، فقد بلغ به الإِخلاص حتى كاد أن يخفيها عن نفسه لو استطاع. وقد مدح الله المتصدقين، فقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾ ثم خص المسرِّين فقال: ﴿وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ
_________
(^١) صحيح مسلم بشرح النووي (٣/ ١٢٢).
(^٢) قطعة من حديث في صحيح البخاري برقم (٢٢١٥)، وصحيح مسلم برقم (٢٧٤٣) واللفظ له.
1 / 27