البرٹ کیمو: مقدمہ قصیرہ
ألبير كامو: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
شكر وتقدير
تمهيد: بأي كامو نحتفي؟
1 - كامو، ابن فرنسا في الجزائر
2 - كامو، بين مراسل ومحرر
3 - كامو والعبث
4 - متمرد بلا قضية
5 - كامو وسارتر - الشقاقات التي جعلتهما لا ينفصلان
6 - كامو والجزائر
7 - إرث كامو
المخطط الزمني لحياة ألبير كامو
نامعلوم صفحہ
قراءات إضافية
المراجع
مصادر الصور
شكر وتقدير
تمهيد: بأي كامو نحتفي؟
1 - كامو، ابن فرنسا في الجزائر
2 - كامو، بين مراسل ومحرر
3 - كامو والعبث
4 - متمرد بلا قضية
5 - كامو وسارتر - الشقاقات التي جعلتهما لا ينفصلان
نامعلوم صفحہ
6 - كامو والجزائر
7 - إرث كامو
المخطط الزمني لحياة ألبير كامو
قراءات إضافية
المراجع
مصادر الصور
ألبير كامو
ألبير كامو
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
نامعلوم صفحہ
أوليفر جلوج
ترجمة
مؤمن محمود رمضان أحمد
مراجعة
عبد الفتاح عبد الله
إلى تريسي
شكر وتقدير
يدين هذا الكتاب بالكثير لما قدمه فريدريك جيمسون من دعم ونصح. أدين بالفضل أيضا إلى فريدريك إيرارد الذي ساعد - إلى جانب عزرا سليمان - في إفساح المجال في وقت يسوده الاضطراب. أود أيضا أن أشكر فابيان لو دانتك وسارة صمدي، ودارين ووترز، وخوان سانشيز-مارتينيز، وجون كراتشفيلد، ومات إشلمان.
يعتمد الكتاب على تنوع وجهات النظر للعديد من المعلقين، وأود أن أعرب عن تقديري للتأثير المشترك للعديد من الكتاب الذين سبق أن كتبوا عن كامو، وخاصة إيان بيرشال، وأليس كابلان، وكونور كروز أوبراين، وإدوارد سعيد.
ويباري طلابي في غربي كارولاينا الشمالية بعضا من أفضل المناحي في مسيرة كامو؛ وذلك في سعيهم الدءوب للتعليم، إذ يمثلون مصدر إلهام.
نامعلوم صفحہ
لقد وافى الأجل كلا من كارول أكيمان وباسكال كازانوفا قبل الأوان، وقد ساعداني بطرق شتى في عملي عن كامو، فأنا ممتن لمعرفتي بهما.
وختاما، أود أن أشكر زوجتي تريسي هايز؛ إذ لم أكن لأكتب هذا الكتاب دون مساعدتها ودعمها.
تمهيد: بأي كامو نحتفي؟
اليوم، يعد ألبير كامو أحد أشهر الفلاسفة الفرنسيين - رغم أنه لم يكن يعتبر نفسه فيلسوفا - ولربما كان أكثر الروائيين الفرنسيين المقروء لهم في العالم. فقد ألهمت أعماله العديد من الأفلام، وحتى موسيقى البوب، وعادة ما يقتبس رجالات الدولة في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية منها ما يؤيد آراءهم.
ولكن بأي كامو نحتفي؟ هل هو المراسل الشجاع الذي استقصى دون كلل الأوضاع الفظيعة للسكان الأصليين لمنطقة القبائل الجزائرية، التي احتلتها فرنسا في ثلاثينيات القرن العشرين؟ أم الرجل الذي كتب أن العلاج الوحيد لفرنسا هو أن تبقى «قوة عربية»؟ أنحتفي بالكاتب الذي نشر مقالات في صحف المقاومة السرية أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا؟ أليس هو الكاتب الطموح الذي وافق على حذف الفصل الخاص بكافكا في أطروحته الفلسفية ليضمن موافقة الرقابة النازية على نشره؟ هل ثناؤنا محفوظ للمؤلف الذي انتقد الزواج والحداد والحراك الاجتماعي في روايته الأكثر شهرة، «الغريب»، أم الرجل الذي لا يورد اسما لأي شخصية عربية في العمل نفسه؟ عندما نتحدث عن كامو، هل نتحدث عن المقاوم الذي كان مؤيدا لعقوبة الإعدام، أم الفيلسوف الذي أدانها لاحقا؟
كان كامو متناقضا إلى أقصى حد. كان مؤمنا إيمانا صارما بمبادئ المساواة التي ظهرت في فرنسا خلال عصر التنوير، ويرجع ذلك جزئيا إلى دعم الدولة الفرنسية له على نحو فعال بعدما فقد والده في الحرب العالمية الأولى، ووفرت له من خلال التعليم وسائل انتشال نفسه من الفقر الذي عايشه منذ الصغر. مع ذلك، فإن الصعوبات التي عايشها في تلك الفترة ونشأته في الجزائر المستعمرة فرنسيا جعلتاه يعي على نحو متزايد أن الضيم الذي توقعه فرنسا على العرب والبربر متناقض مع مبادئ المساواة. وعلى مدار حياته وأعماله، تأرجح كامو بين تجنب هذا التناقض ومواجهته. انتهى به الأمر إلى أن تكون تلك الازدواجية هي هويته. تلك الدوافع المتضاربة بين كبت هذا الإدراك والتصالح معه وجهت كتاباته بطرق مختلفة في أوقات مختلفة.
من شأن هذا الكتاب القصير أن يزود القارئ بملخص لحياة كامو وأعماله، وسيتصدى بجرأة أيضا إلى أوجه الغموض في مواقف كامو؛ لأنها عنصر أساسي للتوصل إلى فهم واضح اليوم لكل من أعماله الكبرى وشعبيته المتجددة.
الفصل الأول
كامو، ابن فرنسا في الجزائر
كثيرا ما ينظر إلى أعمال كامو (خاصة رواية «الغريب») بوصفها من الروائع الفنية المنقطعة النظير في الأدب الفرنسي. ورغم ذلك، يزداد طرح مسألة الهوية والسياق التاريخي في الموقف الاستعماري. ولكي نعي إنجازات كامو والإشكاليات التي تتضمنها أعماله ونفيها حقها، من المهم أن نضع في الحسبان السياق التاريخي الذي شكل سنوات تكوينه.
نامعلوم صفحہ
ألبير كامو (1913-1960) مواطن فرنسي ولد في الجزائر. وكان من المفترض أن يعيش هناك منذ مولده وحتى منتصف الحرب العالمية الثانية. عمل والده واسمه لوسيان كامو مراقب عمال في كرمة في مقاطعة موندوفي، التي تبعد حوالي 100 ميل إلى الشرق من الجزائر العاصمة. في الثالث عشر من نوفمبر عام 1910، تزوج لوسيان بكاثرين هيلين سينتس، وهي ربة منزل، وبعد ثلاثة أشهر ولد أخو ألبير الأكبر، الذي سمي لوسيان أيضا. ولد ألبير في موندوفي بعد حوالي ثلاث سنوات، في السابع من نوفمبر عام 1913.
يرتبط سلف عائلة كامو ارتباطا وثيقا بالوجود الفرنسي في الجزائر. تبين السجلات أن جده الأكبر لوالده، كلود كامو، جاء إلى الجزائر عام 1834، بعد الغزو الفرنسي بفترة قصيرة. أما جده لوالدته واسمه إتيان سينتس، فقد ولد في الجزائر العاصمة عام 1850، لكن زوجته كاثرين ماري كاردونا ولدت في إسبانيا. كان نسب كامو نموذجا للمواطنين الفرنسيين المولودين في الجزائر والقاطنين فيها، الذين كان يطلق عليهم بالفرنسية ما يترجم حرفيا إلى «الأقدام السوداء». في بدايات القرن العشرين، كان هذا المصطلح يطلق عادة على البحارة العرب الذين كانوا يعملون حفاة الأقدام في مستودعات الفحم الموجودة في السفن. خلال حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1962)، تحول هذا المصطلح ليرمز إلى المواطنين الفرنسيين المولودين بالجزائر والقاطنين فيها. (وسوف أشير إلى المستوطنين الفرنسيين بهذا المصطلح في بقية الكتاب.)
في الوقت الذي ولد فيه كامو، وهو عشية الحرب العالمية الأولى، كانت الجزائر إقليما فرنسيا رسميا مقسما إلى ثلاث مقاطعات (وهران، والجزائر، وقسنطينة) وثلاث مناطق عسكرية كلها تحت سلطة حاكم عام. ومع ذلك، كانت الجزائر مقسمة فعليا إلى قسمين. أحدهما كان منطقة فرنسية يقطنها 750 ألفا من «البيد نوار»، يتمتعون بكل الحقوق والحماية التي تقدمها الجمهورية الفرنسية. كانوا مواطنين فرنسيين، متساوين تحت مظلة نظام قانوني واحد؛ فكان لهم الحق في التصويت، ويعيشون تبعا لشعار الثورة الفرنسية الشهير: الحرية، والمساواة، والإخاء. أما القسم الآخر، فهو إقليم محتل، يسكنه 4,7 ملايين «مسلم» كما كان يطلق عليهم رسميا في التعداد الفرنسي. لم يكن هؤلاء الرجال والنساء مواطنين فرنسيين (رغم أن كل واجبات الرعايا الفرنسيين كانت مفروضة عليهم)، وكانوا يعيشون تحت وطأة مجموعة من قوانين العقوبات التي جعلت من الصعب عليهم تلقي التعليم، أو كسب العيش، أو التحدث بلغتهم، أو ممارسة شعائرهم الدينية، أو تملك أرض. (لأغراض هذا الكتاب، سنطلق عليهم اسم الجزائريين (الذين يتضمنون العرب والبربر)، لكن السلطات الفرنسية كانت عادة ما تشير إليهم ب «السكان الأصليين» أو المسلمين.)
كان تاريخ التدخل الفرنسي في شئون الجزائر قد مضى عليه 100 عام تقريبا في الوقت الذي ولد فيه كامو. فقد اجتيحت الجزائر عام 1830 على يد جيش الملك شارل العاشر، وكان ذلك في الأصل محاولة للإلهاء عن الاعتراضات الداخلية على مشروعية حكمه. بعد الغزو تنامى الوجود الفرنسي تدريجيا. وحتى عام 1870 كانت الجزائر تحت سيطرة الجيش الفرنسي، يتتابع الجنرالات على حكمها. كان غزو فرنسا للجزائر طويلا وممتدا، ويقدر بعض المؤرخين أن ما يربو على 6 ملايين جزائري ماتوا خلال المائة عام التي دام فيها الاحتلال.
خلال الغزو، استولى الفرنسيون على ملايين الأفدنة من أراضي الجزائريين، واقتلعوا منها المحاصيل بالكامل. (كالعادة، استبدلوا بأشجار الزيتون الكروم لإنتاج النبيذ لفرنسا.) خلال تلك الفترة وسعيا لإحكام السيطرة على الأقاليم، لجأ الفرنسيون إلى تدمير قرى بأكملها وقتل الكثيرين من قاطنيها (في ممارسة يطلق عليها «الغارة»)، وأجبروا المقاتلين على اللجوء إلى الكهوف، التي أشعلوا النار في مداخلها، فقتلوا من بداخلها خنقا (بالدخان). كانت السلطات تجيز تلك الممارسات رسميا، ويثني عليها أعلام الثقافة في تلك الفترة، ومن بينهم ألكسيس دي توكفيل، الذي كتب في تقرير له عن الجزائر: «أرى أن قوانين الحرب تتيح لنا نهب البلاد، وينبغي لهذا أن يحدث إما عن طريق تدمير المحاصيل ... وإما بتلك التوغلات السريعة التي نطلق عليها «غارات» ...»
نتيجة لذلك، اندلع العديد من الانتفاضات والثورات ضد الحكم الفرنسي، أكبرها هي التي استمرت ست سنوات وقادها عبد القادر، الذي هزم الحاكم العام توماس-روبير بيجو، قبل أن ينتهي به الأمر أسيرا لدى الفرنسيين عام 1847. وبحلول عام 1871، فشلت آخر الانتفاضات الكبرى. وقد حكمت حكومات مدنية فرنسية الجزائر طيلة ثلاثة وثمانين عاما تالية، وذلك حتى السنة الأولى من حرب الاستقلال الجزائرية عام 1954.
ربما لم يعرف كامو بوصفه طفلا التاريخ الحقيقي لغزو الجزائر واحتلالها. فقد قدم النظام التعليمي الفرنسي مجموعة من الحقائق «الرسمية» البديلة؛ «السكان الأصليون هم من أشعلوا فتيل الهجمات الفرنسية عليهم»، وهي عبارة معتادة في كتب التاريخ الفرنسية في عشرينيات القرن العشرين، الكتب التي تمسكت بالثناء على «الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية المهيبة»، وأغفلت أي ذكر ل «الغارات» و«التسميم بالدخان» ومصادرة الأراضي. دامت حالة الإنكار تلك سنوات عديدة، ولم تعترف فرنسا بحرب الاستقلال الجزائرية رسميا إلا عام 2002.
ما لم يستطع كامو اليافع تجاهله وشرع في التصدي له في منتصف العشرينيات من عمره هو كون الجزائريين مواطنين من الدرجة الثانية. فبعد قمع الانتفاضة الأخيرة عام 1871، وبعد سقوط نابليون الثالث، شهدت الجزائر المحتلة تغييرا جذريا. ففي ظل حكم الجمهورية الثالثة، أهملت تماما السياسة العسكرية التي تنتهج التعاون مع زعماء قبائل العرب والبربر، ومارست القيادة المدنية الجديدة سلطتها المباشرة على العرب والبربر من خلال قوانين السكان الأصليين. على النقيض من القانون المدني الذي كان وما زال ممثلا للسيادة القانونية على المواطنين الفرنسيين، عرض قانون السكان الأصليين - الذي وضع حيز التنفيذ عام 1881، وأبطله الرئيس شارل ديجول جزئيا عام 1944 - قوانين تأديبية وأحكاما خاصة بالعرب والبربر. وعلى غرار العبيد المحررين في جزر الكاريبي الفرنسية، كان على الجزائريين أن يحصلوا على إذن للسفر خارج قراهم. كما كانت الممارسات الدينية الإسلامية تدخل باطراد تحت سيطرة الدولة الفرنسية (على سبيل المثال، أغلق العديد من الكتاتيب، ونادرا ما كان يسمح بالحج إلى مكة)، ولم تدعم محاكم المسلمين - التي يترأسها قضاة فرنسيون - حق الاستئناف قط. وكان على غير الأوروبيين دفع «ضريبة عربية» إضافية خاصة، ولم يسمح للجزائريين بالتصويت في أي انتخابات.
في الدليل الإرشادي المعياري للقوى الاستعمارية، تمثلت إحدى الإجراءات التقليدية في تجنيد أقلية عرقية أو جماعة دينية عن طريق منحهم وضعا اجتماعيا يتمتع بامتيازات للمساعدة في حكم الأرض المستولى عليها. جربت فرنسا هذا الإجراء مع اليهود الجزائريين، رغم أنها فشلت فشلا ذريعا في البداية. كان لليهود الذين يعيشون في الجزائر (أطلقت عليهم الحكومة الفرنسية السكان الأصليين الإسرائيليين) الوضع القانوني نفسه الخاص بالعرب والبربر، ولم يعتبروا مواطنين فرنسيين. عام 1869، منحوا الجنسية الفرنسية لكن جميعهم تقريبا رفضوها؛ فمعظمهم كان يتحدث العربية، ولم تكن لديهم روابط تجمعهم بفرنسا أكثر من أي شعوب أصلية أخرى تقطن الجزائر؛ كانوا ينتمون إلى العرب ثقافيا وعرقيا ولغويا.
نظرا لعدم الاكتراث الذي واجهته من جانب اليهود الجزائريين والذي اعتبرته رفضا، أعلنت الحكومة الفرنسية منفردة أن جميع اليهود الجزائريين مواطنون فرنسيون في أكتوبر عام 1870. أطلق مرسوم كريميو الشهير الخاص بالتجنيس الجماعي العنان لسيل من معاداة السامية من الأقدام السوداء نحو اليهود الجزائريين. كانت الأقدام السوداء من جميع الأحزاب السياسية خائفة حقا من كون تجنيس اليهود الجزائريين نذيرا لأمور أخرى؛ باختصار، أنه قد ينتهي الحال بتجنيس العرب والبربر أيضا، وحينها سيكون وضعهم المتميز في الجزائر الفرنسية مهددا.
نامعلوم صفحہ
بدءا من عام 1870 فصاعدا، أصبحت المعاداة الخبيثة والعنيفة أحيانا للسامية سمة راسخة في الجزائر الفرنسية. كان هناك أكثر من «رابطة معادية لليهود»، حتى إنه كان هناك حزب معاد لليهود واسع الشعبية. وقعت مذابح لليهود في وهران عام 1897، وفي قسنطينة عام 1934، والتي أسفرت عن كثير من الوفيات وحالات التشويه في حق اليهود الجزائريين. وعندما تولى المارشال بيتان الحكم في يوليو 1940، أبطل مرسوم كريميو: أسقطت عن اليهود الجزائريين جنسياتهم الفرنسية، وصاروا مجددا في نفس وضع العرب والبربر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
رغم تعرضهم للتشويه المستمر، وفي بعض الأحيان إلى هجمات الأقدام السوداء العنيفة، كان اليهود الجزائريون رغم كل ذلك فرنسيين بحكم القانون في الفترة من عام 1870 إلى عام 1940. وبمرور الوقت أصبحوا يعتبرون أنفسهم من الأقدام السوداء، واتخذ كثير منهم جانب الفرنسيين خلال حرب الاستقلال الجزائرية.
مع أن الدولة الفرنسية لم تهتم قط بتجنيس كل العرب والبربر، كان التمييز القانوني الواقع على الجزائريين تبعا لقانون السكان الأصليين يسير جنبا إلى جنب مع سياسة الدمج التدريجي. هذا الهدف المتناقض ظاهريا بشأن دمج أقلية صغيرة من الجزائريين في نظام المدارس لتنشئة نخبة تعمل لاحقا داخل الجمهورية الفرنسية ولصالحها أثار الجدل بشدة لدى غالبية الأقدام السوداء. هذه السياسة الخاصة بالدمج المحدود للجزائريين - تلك الأقلية التي كان بمقدورها توفير رسوم الطعام (والإيواء إذا كانت المدرسة داخلية) - كانت تعني أنه أصبح مسموحا لهم الالتحاق بالمدارس العامة، وإن كان بأعداد محدودة للغاية. في مدرسة كامو الثانوية على سبيل المثال، لم يكن يوجد سوى ثلاثة طلاب عرب فقط من واقع ثلاثين طالبا.
قام بعض أعضاء النخبة المتعلمة الجزائرية بحركة نضالية نحو مزيد من الدمج. ففي عام 1912، نظم ائتلاف من هذه النخبة نفسه في مجموعة تدعى «الشبان الجزائريون»، وسافروا بقيادة ابن التهامي ولد حميدة إلى باريس لعرض «بيان الشبان الجزائريين». لم تعترض المطالب المتضمنة في البيان على الوجود الفرنسي في الجزائر إجمالا، ولكنها احتوت على المطالبة بإلغاء قانون السكان المحليين. رفضت الحكومة الفرنسية البيان، ولكن قوة الحركة ازدادت لتصبح قوة سياسية منظمة في ثلاثينيات القرن العشرين. وعام 1936، دعم كامو نفسه إلغاء قانون السكان المحليين ومنح الجنسية لأقلية صغيرة من الجزائريين. كان يتمنى أن يشهد الوقت الذي تكون فيه معاملة فرنسا للجزائريين انعكاسا للخطاب الإنساني للجمهورية الفرنسية.
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، استدعت فرنسا الجزائريين للالتحاق بالجيش الفرنسي. تحمس عدد قليل للقتال لصالح من كانوا يرون قوات احتلال. ففي إحدى الحوادث المسجلة على الأقل، ثار قاطنو إحدى المناطق (الأوراس) ضد التجنيد. قمعت الانتفاضة بوحشية، وقصفت المنطقة بالمدافع، وقتل المئات من المتمردين. كما قتل عدد هائل من الفرق العسكرية الجزائرية الكبيرة التي حاربت في أوروبا تحت الرايات الفرنسية، حيث كانوا عادة ما يرسلون إلى مناطق القتال الأشد خطورة. ومع ذلك، لقي العديد من الأقدام السوداء أيضا حتفهم، وكان لوسيان والد كامو واحدا منهم.
آباء كامو الثلاثة
مات لوسيان أوجست كامو متأثرا بجراحه في مستهل الحرب العالمية الأولى، عندما كان ابنه ألبير لا يتعدى عمره عاما واحدا. ولم تكن كاثرين والدة كامو - الأمية والمصابة بالصمم - قادرة على تنشئة ولديها وحدها. ومن ثم، نشأ كامو في بيئة شديدة التواضع في بيت جدته الصارمة (كاثرين-ماريا سينتس)، التي كانت عادة ما تضربه، وكانت تعارض تماما إتمامه لدراساته (كانت هي في الغالب من ألهمته شخصية الأم غير المأسوف عليها في رواية «الغريب»). وكان عمه صانع البراميل - الذي كان بالكاد يستطيع التحدث - يعيش معهم أيضا (كان موضوع إحدى قصصه القصيرة، «الرجل الصامت»)، إضافة إلى أمه ولوسيان أخيه الأكبر (انظر شكل
1-1 ). عاش أفراد عائلة كامو-سينتس الخمسة في شقة صغيرة بمرحاض خارجي. وتشارك كامو وأخوه لوسيان سريرا في نفس غرفة أمهما.
شكل 1-1: في ورشة عم كامو في الجزائر العاصمة عام 1920: يظهر ألبير كامو (في عمر السابعة) في المنتصف مرتديا زيا أسود.
بفقده أباه، الذي كان العائل الوحيد لأسرته حتى ذلك الحين، تبنت الدولة الفرنسية ألبير الصبي، على نحو فعلي وليس بالمعنى المجازي للكلمة. وبتبنيهم له، أصبح كامو وأخوه قاصرين تحت رعاية الدولة مباشرة؛ وهو ما خول لكل منهما الحق في الرعاية الصحية المجانية طوال حياتهما، وإعانة مادية متواضعة. انصرفت أم كامو إلى تنظيف المنازل، وكأرملة مات عنها زوجها في الحرب تلقت أيضا معاشا سنويا قيمته 800 فرانك، وهو مبلغ متواضع بالمقارنة بمتوسط الراتب الشهري للأقدام السوداء، وإن كان جيدا بالمقارنة مع حال العمال الجزائريين الذين يجبرون على العمل في الحقول نظير فرانك واحد في اليوم.
نامعلوم صفحہ
أصبح لكامو معلمان مهمان في صغره: معلمه في المدرسة الابتدائية لويس جيرمان، وبعده الفيلسوف والأستاذ جين جرينييه في سنوات مدرسته الثانوية وسنوات الجامعة. سيلعب كل منهما دورا محوريا في حياة كامو. وكما كان يردد جول فيري (1832-1893)، مؤسس النظام المدرسي الفرنسي الإلزامي العلماني المجاني، «إن المعلمين في الواقع هم جنود الجمهورية الفرنسية»، ومهمتهم أن يكونوا معاونين لرب الأسرة، وفي بعض الأحيان بدلاء عنه.
في رواية كامو المنشورة بعد وفاته بعنوان «الرجل الأول»، التي تحمل طابع السيرة الذاتية إلى حد كبير، يوجد العديد من الإشارات إلى علاقته بمعلمه لويس جيرمان، ودوره الذي تعدى كونه أستاذا. اهتم جيرمان بكامو اهتماما خاصا، فكان يحضر إلى بيته ويعطيه دروسا خاصة دون مقابل، ليساعده في الحصول على منحة والالتحاق بالمدرسة الثانوية (التي ما كان لكامو أن يتحمل مصاريفها لولا ذلك). كان جيرمان أيضا انضباطيا صارما يعتاد ممارسة العقاب البدني على تلاميذه (بمن فيهم كامو حين كان صبيا). وعندما قبل كامو في المدرسة الثانوية، أقنع جيرمان جدة كامو بالسماح له بالالتحاق بها - حتى وإن لم يكن يعمل ويساهم ماليا في شئون المنزل. تلقى هذا الصبي اليتيم الأب، الذي يتحدر من حي الأقدام السوداء القاسي، الرعاية والتشجيع (أحيانا بخشونة وقسوة) إلى أن التحق بالمدرسة الثانوية بمنحة ثم بالجامعة، وهذا كله بسبب دعم جيرمان له. ولنا أن نتخيل كيف أصبحت هذه المدرسة ومادة الأدب الفرنسي خاصة - وهي المادة التي امتاز فيها كامو - مهربا له من وحشة مجتمعه والفقر النسبي في بيته.
لم يكن امتنان كامو تجاه جيرمان قصير المدى؛ فبعد ثلاثين عاما، وكما هو معروف، أهدى كامو جائزة نوبل للآداب التي تلقاها إلى معلمه في المدرسة الابتدائية قائلا: «دونك، دون تلك اليد الداعمة التي مددتها إلى الطفل المسكين الذي كنت عليه، دون تعليمك ودون الاقتداء بك، لما كنت أساس ما أنا عليه الآن.»
عندما كان في السابعة عشرة من عمره، اجتاز كامو أولى مراحل البكالوريا. كان هذا الإنجاز في شهر يونيو 1930، في ظل الاحتفال بمئوية الوجود الفرنسي في الجزائر. وعلى جانب الأقدام السوداء الذين كان عددهم آنذاك يقارب المليون، كانت احتفاليات طويلة. نظمت السلطات الفرنسية العديد من المواكب والحفلات الموسيقية ومولتها، وكشفت النقاب عن النصب واللوحات التذكارية، وافتتحت المتاحف؛ هذا كله إجلالا لمهمة «نشر الحضارة» الفرنسية. حتى إنهم كلفوا المخرج الفرنسي الشهير ذا الميول اليسارية جين رينوار بعمل فيلم مغامرات (اسمه «لو بليد») لتمجيد المستعمرين. وقد شارك عدد قليل من العرب والبربر البالغ عددهم ستة ملايين شخص. فهل شارك كامو في الاحتفالات؟ لا نعرف عن تفاصيل هذه المرحلة من حياته إلا القليل، مثل أنه كان يحب أن يلعب كرة القدم في الفريق المحلي شأن كثير من الفتية من أبناء السابعة عشرة.
بدأ كامو السنة المفترض أن تكون الأخيرة في مدرسته الثانوية في خريف 1930، ولكن حياته تغيرت تغيرا مأسويا عندما بدأ يسعل دما في أحد أيام شهر ديسمبر. كان تشخيص المستشفى محبطا؛ إذ أعلن إصابته بمرض السل. كان علاج السل مقتصرا على التدفئة، والراحة، والتغذية السليمة، وكان هذا المرض مزمنا يستمر مدى الحياة. بعدها بسنوات كثيرة، أخبر كامو صديقا له أنه قد تملكه شعور بالخوف على حياته في ذلك اليوم في المستشفى، وأن تعبيرات وجه الطبيب عززت من مخاوفه. ولربما كان رد فعله أيضا لمكوثه في غرفة مشتركة في مستشفى مصطفى باشا: وهي منشأة أغلب المرضى فيها من العرب. طبقا لأحد كتاب سيرته، كره كامو الأجواء الكئيبة في المستشفى، وأراد الرجوع إلى منزله على الفور.
من هذا الوقت فصاعدا، ظهر لكامو منظور جديد جذريا، من المستحيل فيه تجاهل حتمية الموت وتعسفه. عندما كان في السابعة عشرة فقط من عمره، أدرك كامو فناءه. وسيكون لهذا الإدراك المفاجئ للموت كثير من التداعيات. في عمله الفلسفي الأول، «أسطورة سيزيف»، يرتبط الإحساس القوي بالفناء بنظريته في العبث ارتباطا لا ينفصم. والموت المحدق والعشوائي هو محور أدبه أيضا: كالموت الحاضر حضورا غير مبرر كما في «كاليجولا»، والموت كأمر حتمي (وإن كان مصدرا للخلاص والتحرر أيضا) كما في «الغريب»، والموت نتيجة الإصابة بمرض كما في «الطاعون».
دفع تغيبه الطويل عن المدرسة أستاذه في مادة الفلسفة جين جرينييه إلى أن يزوره، وهو تصرف غير معتاد من أستاذ. خلال تلك الزيارة، التي استعاد ذكراها كل من كامو وجرينييه في مراسلاتهما وفي مذكرات جرينييه، ظل كامو صامتا، وبدا متحفظا، لكنه كتب فيما بعد أنه كان متأثرا بتلك اللفتة الكريمة، وعاجزا عن التعبير عن مشاعره في آن واحد. كانت تلك الزيارة بداية صداقة بينهما استمرت لبقية حياتهما. ربما تفرد جرينييه بكونه المؤثر الثقافي الأبرز والأهم في حياة كامو، وعمل معلما ومرشدا فكريا وسياسيا حقيقيا في بدايات كامو. وسيهدي كامو كتابه الأول - وهو مجموعة مقالات بعنوان «بين هذا وذاك» - إلى جرينييه.
لم يكن جرينييه مجرد أستاذ، بل كان مفكرا حرا رافضا لكل النظم والمعتقدات التقليدية. كان قد نشر بحثين فلسفيين قبل أن يلتقي كامو. ومن الجدير بالذكر أنه كان لجرينييه علاقات في باريس، حيث عمل فيها لصالح «نوفل ريفو فرانسيز»، وهي مجلة كانت تقدم كتابات أفضل كتاب العصر الذهبي الحقيقي للأدب الفرنسي. عرف جرينييه شخصيات أدبية شامخة وعمل معها، كأندريه مارلو، وأندريه جيد، وهنري دي مونترلان، وماكس جاكوب. وتتجلى أهمية جرينييه في حياة كامو الثقافية في واحدة من أولى مقدمات يومياته، التي كتبها في التاسعة عشرة من عمره فقط: ... قرأت كتاب جرينييه. إنه حاضر فيه حضورا كاملا، وأشعر بالحب والتقدير اللذين أنبتهما داخلي ينموان. ... دائما ما أستزيد إذا ما قضيت معه ساعتين. فهل سأدرك يوما ما أدين به له؟
لكن في بداية عام 1931، ظهرت على كامو الشاب أعراض أخطر وأشد لمرض السل. فأوصى الأطباء بأن يترك الشقة الضيقة في شارع بلكور في الجزائر العاصمة، والتي لم تكن مناسبة لمرحلة النقاهة الطويلة. بعدها بمدة قصيرة، انتقل كامو ليعيش مع جوستاف أركو، الذي كان يعيش في الجزائر العاصمة أيضا، وهو زوج خالته أنطوانيت سينتس. لن يعود كامو بعدها إلى بيته أبدا. كان لأركو شخصية غريبة، كان جزارا ذا شارب ضخم يشبه مقود الدراجة، ويقضي وقتا طويلا في استقبال المعجبين به في المقهى المحلي. علاوة على ذلك، كان أركو قارئا نهما؛ تكتظ أرفف مكتبته بأعمال فولتير وأناتول فرانس وجيمس جويس.
قرأ كامو كتب أركو، وكان يساعد في العمل بالجزارة حيث حاول أركو أن يهيئه ليكون خليفته فيها. في الوقت الذي قضاه مع الزوجين أركو اللذين لم ينجبا، أصبحت حياة كامو رغدة نسبيا مقارنة بمستوى معيشته في بيت جدته. كانت له غرفة خاصة، وكان يأكل اللحم يوميا. (تبعا لأوامر الطبيب؛ في ثلاثينيات القرن العشرين كان الأطباء الفرنسيون يعتقدون أن اللحم علاج جيد للسل.) عندما تذكر تلك الأيام بعدها بعدة سنوات في مقابلة أجراها مع صديق له، اعتبر كامو أن أركو يمثل شخصية الأب في حياته «بشكل ما».
نامعلوم صفحہ
كان التهديد المستمر الذي مثله السل لحياة كامو مصدر تحرير له أيضا. انغمس كامو في دراسته وهو في بيت أركو بعزيمة متجددة، وإرشاد ودعم من معلمه جرينييه. وتغيرت كذلك طريقته في التفكير. فأصبح يربط بين وعيه بحتمية الموت وبين الحرية، تلك المفارقة الرئيسية التي شكلت فيما بعد جوهر أعماله المستقبلية.
بعد ستة أشهر من النقاهة، عاد كامو ليكمل سنته الأخيرة في مدرسته الثانوية ليحصل بعدها على منحة دراسية للالتحاق ببرنامج تمهيدي صارم مدته سنتان للإعداد لاختبار الالتحاق بالجامعة الوطنية الفرنسية. وكان النجاح في هذا الاختبار يعني الالتحاق بكلية النخبة الباريسية «إيكول نورمال سوبرير»، ومن ثم شغل أرفع المناصب في النظام التعليمي الفرنسي بعد التخرج. لكن، بعد إنهاء السنة الأولى في هذا البرنامج التمهيدي، تخلى كامو عن حلمه في الالتحاق بالكلية. فالسنة الثانية لم تكن تدرس في أي مكان بالجزائر؛ ومن ثم كان عليه أن يعيش في باريس؛ الأمر الذي شكل عبئا ماليا عليه. كما أن اعتلال صحته مثل عائقا كبيرا أمام اتخاذه تلك الخطوة.
استمر كامو في السعي في مسارات مختلفة غير عابئ بهذا العائق، وبإلهام من جرينييه يبدو أنه صاغ طموحه نحو أن يصبح كاتبا عصاميا. فأكمل كامو دراساته في الجزائر، وسجل فيما يكافئ درجة الماجستير في الأدب، ولكنه غير مجاله بعد مرور عام واحد وتخصص في الفلسفة عوضا عن الأدب. بقرار كامو بعدم استكمال البرنامج التمهيدي فقد منحته الاستثنائية، وأصبح عليه أن يبحث عن وظيفة. دائما ما كان كامو يعمل لتوفير نفقاته الدراسية. ففي المدرسة الثانوية كان يعمل في بقالة في مواسم الصيف ثم في جزارة زوج خالته، وكطالب جامعي عمل معلما، وقضى مواسم الصيف يعمل في مدينة الجزائر في مكتب مسئول عن تسجيل السيارات. كره كامو هذا العمل البيروقراطي على وجه الخصوص، الذي وصفه بأنه معطل للعقل. وعانى الفقر على الدوام، حتى تزوج من ميسورة الحال سيمون ييه عام 1934.
كانت ييه حديث عالم كامو، وكانت تشتهر بفساتينها الماجنة وسلوكها اللاأخلاقي. وفي مجتمع الجزائر الذكوري للغاية في ثلاثينيات القرن العشرين، كان ذلك السلوك شائنا. أعجب كامو بها على الفور، ولكن كانت هناك مشكلة: كانت مخطوبة إلى أحد أصدقائه المقربين، ماكس-بول فوشيه، الذي كان دائم الغياب في مهام نضالية لصالح الحزب الاشتراكي. ولدى رجوعه من إحدى تلك المهام، أخبر كامو ماكس-بول أن ييه لن تعود إليه.
وعندما تزوج كامو وييه عام 1934، كان كامو في الحادي والعشرين وهي في العشرين. كانت والدة ييه طبيبة عيون ناجحة، ومثلت سيمون عالما آخر من ناحية القيم والطبقة الاجتماعية؛ ولعل هذا ما شكل جزءا من جاذبيتها. بالتأكيد، كان زواج ابن عاملة من ابنة طبيبة غنية ارتقاء على أية حال. بمجرد أن تزوجا، اشترت والدة ييه شقة لهما في منطقة جميلة من المدينة، قريبة من جين جرينييه. وأرسلت عائلة أركو إلى الزوجين بعض المال، وأعاروهما سيارة لسعادتهما بذلك الزواج.
كان زواجا مضطربا منذ البداية، وشهد العديد من الانفصالات وتسوية الخلافات. وعلى عكس كامو، رسبت ييه في شهادة البكالوريا، ويبدو أنها كانت فاقدة للهدف أو الوجهة. كانت ييه أيضا مدمنة للأفيون. وبمضي الزواج أصبح إدمانها ظاهرا، وصارت تقضي المزيد والمزيد من الوقت في مراكز التأهيل. وفي عام 1936، خلال رحلة إلى أوروبا، اكتشف كامو خطابا مرسلا إلى زوجته من طبيب كان يمدها بالمخدرات، والذي كان يبدو بوضوح أنه عشيقها كذلك. كانت تلك هي القشة الأخيرة بالنسبة إلى كامو: أصبح زواجهما القصير مفرغا من أي قصد أو غاية، ولدى رجوعهما إلى الجزائر ترك المنزل. ثم وقع الطلاق في فبراير 1940.
أكمل كامو دراساته في الجزائر. كان قد قطع شوطا كبيرا في الاضطلاع باختبار وطني آخر: الاختبار التراكمي. وكان اجتياز ذلك الاختبار من شأنه أن يجعله واحدا من أعلى أساتذة المدارس الثانوية شأنا على غرار جرينييه، أو موظفا تابعا للدولة لديه متسع من الوقت للسعي وراء طموحاته الأدبية. بالنسبة إلى كامو ، كان التعليم والدراسات العليا في الأصل وسيلة لبلوغ غاية؛ وهي أن يجد وقتا للكتابة. وحتى معلمه وصديقه جرينييه ساورته شكوك في تفاني كامو وتكريس حياته لدراساته. وفي وقت لاحق، قال جرينييه في كتاب له إنه «لم يكن قارئا نهما». وهي المقولة التي لولاها لأصبح جرينييه بوقا في مدح تلميذه الأشهر. ومع هذا، تأثر كامو كثيرا بالمواد التي درسها في الجامعة. على سبيل المثال، ربما تكون إحدى المحاضرات التي تلقاها عن أباطرة الرومان هي التي ألهمته بموضوع مسرحيته الأولى «كاليجولا»، التي شرع في كتابتها خلال فترة حضوره لهذا المقرر.
رغم قلة شغفه بدراساته، كان على كامو أن يكتب أطروحة ختامية محكمة لأداء الامتحان. كانت الأطروحة بعنوان «الميتافيزيقا المسيحية والميتافيزيقا الأفلاطونية الجديدة: القديس أوغسطينوس وأفلوطين». تحدث كاتب سيرة كامو المخول أوليفر تود بالتفصيل عن كيف أن كامو لم يسند العديد من المصادر إسنادا صحيحا، بل كان في بعض الأحيان ينسب أعمال الباحثين الآخرين إلى نفسه، واستنتج غير عابئ أن كامو كان منتحلا. ولا يبدو أن اللجنة التي قرأت أطروحة كامو (والتي كان جرينييه ضمن أفرادها) قد انزعجت بتلك التجاوزات؛ إذ حصل كامو على شهادته العلمية.
في ربيع عام 1936، حين أصبح كامو شابا في الثانية والعشرين، يحمل شهادته العلمية؛ ومن ثم صار مستعدا للالتحاق بالاختبار التراكمي والانضمام إلى مصاف نخبة أساتذة المدارس الثانوية مثل جرينييه. لكن هذا لم يحدث.
كامو الكاتب الطموح
نامعلوم صفحہ
أول عمل مكتوب لكامو لدينا يتكون أساسا من أوراق من السنة الأخيرة له في المدرسة الثانوية وما بعدها، وقد شجعه جين جرينييه على تقديمها لدار مطبوعات المدرسة، وكانت هذه الأوراق اسمها بالفرنسية «سود» (بالعربية «الجنوب»). القطع المنشورة التي لم تنشر في تلك الحقبة تظهر استشرافا رومانسيا؛ كان كامو يمجد الطبيعة، لا سيما الشمس وضوءها، ورفض التقدم الذي شبهه بالسجن. وفي عمل له عن الموسيقى، بين كامو أن الموسيقى العظيمة والفن العظيم يتعذر فهمهما، بل ينبغي لهما أن يكونا كذلك.
يظهر تناقض كامو الوجداني تجاه المعرفة الثقافية والأكاديمية جليا في تلك المرحلة المبكرة. ففي واحد من نصوصه المبكرة غير المنشورة، تخيل حوارا بين شخص يحكي بصيغة المتكلم وبين رجل مجنون، كتب فيه: «رفض المعرفة تحرر، خطوة حاسمة نحو عتق الروح». كشف تبجيله لقبول ما لا سبيل إلى معرفته عن بعض أوجه العبث الذي سيعرضه في «أسطورة سيزيف». وفي فقرة أخرى في النص غير المنشور نفسه، ينظر الراوي إلى المارة من شرفته، حينها ينصحه المجنون بالتغاضي عن تلك الحيوات غير المسبورة. وتلخص فقرة أخرى لاحقة في عمله «الغريب» هذا التوجه - ينظر من الشرفة إلى المارة المنهمكين انهماكا عاديا في حيواتهم. تظهر هذه الفقرات وكثير غيرها أن كامو كان يشعر فعلا منذ صغره أنه معزول عمن يعيشون حيواتهم دون وعي.
تتسم أيضا كتاباته في تلك الفترة بمسحة شاعرية. فخلال بحثه عن صوت له ككاتب، جرب العديد من الأنواع الأدبية: الشعر، والمقالات، بل حتى قصص الخرافات. إذا قارناه في تلك المرحلة المبكرة من حياته برسام، فربما كانت نظرة كامو للعالم أقرب شبها بلوحات جوزيف مالورد ويليام تيرنر الأكثر تجريدا، حيث يطغى فيها ضوء الشمس على كل شيء، والبشر فيها غير مهمين نسبيا. كانت عقيدة كامو في ذلك الوقت هي «الفن» (كان كامو يكتب كلمة
Art ، وهي اللفظة الإنجليزية المرادفة لكلمة «فن»، بأحرف استهلالية كبيرة على نحو شبه دائم)، وكانت رؤيته متأثرة تأثرا كبيرا بمؤيدي مقولة «الفن لأجل الفن». كان مولعا بصفة خاصة بشاعر القرن التاسع عشر شارل بودلير - في الواقع، هناك تسجيلات لكامو وأصدقائه وهم يلقون قصيدة «الغريب» لبودلير. أهمية تلك القصيدة بالنسبة إلى كامو غنية عن البيان؛ لأنها تحمل نفس اسم الرواية، التي ألفها وصارت أشهر رواياته، وبعض مواضيعها: - قل لي، أيها الرجل الغامض، أيهما تكن له حبا أكبر؟ أبوك أم أمك، أختك أم أخوك؟ - لا أب لي ولا أم، ولا أخت ولا أخ. - وأصدقاؤك؟ - أنت تستخدم كلمة ما يزال معناها مجهولا لي حتى اليوم. - إنه وطنك إذن؟ - إنني أجهل موقعه. - الجمال؟ - الجمال؟ كنت سأحبه عن طيب خاطر، لو كان إلهة خالدة. - الذهب؟ - أكرهه بقدر كرهك للإله. - عجبا! فما الذي تحب إذن، أيها الغريب العجيب؟ - أحب الغيوم ... الغيوم التي تمضي ... بالأعلى ... هناك ... يا لروعة الغيوم!
اقتدى كامو أيضا بتأنق بودلير في ملابسه: كان يرتدي البابيون، وبدلة مزدوجة الأزرار، وقبعات اللبود، والجوارب البيضاء (انظر شكل
1-2 ). لم تعط أي من تلك الثياب الفاخرة أي إشارة إلى أصوله المتواضعة، ولكن كتاباته، وإن لم تكن سيرة ذاتية صريحة، كانت تشير إلى ذلك بالتأكيد. كتب كامو عن أفراد عائلته، وحيه، وحياته هو بما فيها تجربته في غرفة المستشفى المزدحمة في اليوم الذي شخصت فيه حالته بالسل. في مقاله «ما بين هذا وذاك» وصف كامو حياته في الشقة الصغيرة في شارع بلكور. وفي مقاله الثاني «سخرية القدر»، يصف عائلته:
عاش خمستهم معا: الجدة، والابن الأوسط، وابنتها الكبرى، وطفلاها. كان الابن صامتا في العادة، وكانت الابنة معاقة وعصيا عليها التفكير. أما طفلاها، فقد عمل أحدهما لدى شركة تأمين، فيما باشر الآخر دراساته.
وعلى غرار ما حدث في حياته، تموت الجدة بينما لا يشعر الحفيد الأصغر (يمثل كامو نفسه) بأي أسى. جمال الشمس والسماء هو فقط ما يثير المشاعر الحقيقية والمبهجة في المقال.
شكل 1-2: ألبير كامو، شابا متأنقا في فلورنسا.
في تلك الكتابات وغيرها، أصبحت قسوة الحياة اليومية وحتمية الموت مواضيع رئيسية. لكن تبقى قوة لحظات التواصل مع الطبيعة ويبقى تأثيرها. وتقارب العديد من مقالاته بين تلك التناقضات الظاهرية: انعدام المعنى في حياة مآلها الموت ولحظات السعادة السامية، وربما النعيم، التي تستحثها الطبيعة. سيعطي كامو للحظات النعيم تلك اسما شهيرا بالفرنسية؛ وهو «بونير» ويعني «الغبطة». يتسم هذا الاسم في الفرنسية بأنه أبلغ وقعا من مثيله في الإنجليزية. ولا يوجد ما هو أقوى أثرا وأكثر إيجابية من لحظات «الغبطة» تلك في أعمال كامو: إنها الغاية القصوى، تمر سريعا لكنها عزاء متواتر من البيئة البشرية العازمة على العدوانية والعالم العديم المعنى.
نامعلوم صفحہ
كامو الشاب والسياسة
قد يبدو للوهلة الأولى أن كامو لم يكن سياسيا. أعلن كامو في نصوصه الأولى أنه مناهض للتقدم، ويبدو أنه كان يفضل الكتاب المهتمين بالفن لأجل الفن على الفنانين المتحفظين، الملتزمين اجتماعيا وسياسيا، كمن تدرس أعمالهم في المدارس الفرنسية: فولتير وزولا. (ثمة تكهن بين بعض المختصين في حياة كامو يقول إنه ربما عمل محررا لجريدة متطرفة مناصرة للاستقلال، اسمها «إقدام»، بينما كان في المدرسة الثانوية، لكن لا توجد أدلة ملموسة تدعم هذه الفرضية.) لا يوجد ذكر لكونه كان صديقا أو كان له تفاعل ذو قيمة مع الطلاب الجزائريين المعدودين في المدرسة الثانوية، رغم وعيه بمحنة الجزائريين. بعدها بسنوات عندما كتب إلى جرينييه يحدثه عن شبابه المعدم، قارن وضعه بهم، «لقد كنت فقيرا، لكن كنت سأصبح أسوأ حالا لو كنت عربيا.»
لكن في خريف عام 1935، وعلى نحو غير متوقع فيما يبدو، انضم كامو في عمر الحادي والعشرين إلى الحزب الشيوعي، وكلف بضم أعضاء من الجزائريين. توجد عدة تفسيرات محتملة لهذا الالتزام السياسي، الذي يبدو أنه لم ينبع من كتاباته الأولى، والذي يبدو مناقضا أيضا لتصريحاته المعادية للشيوعية والاتحاد السوفييتي لاحقا. ومع أن جرينييه لم يكن عضوا في الحزب الشيوعي، فقد شجع كامو على الالتحاق بالحزب. ولا بد أن نصيحة جرينييه تأثرت بحقيقة أن الحزب الشيوعي كان هو المكان الأمثل لمثقف طموح في ثلاثينيات القرن العشرين. فقد كان العديد من الأسماء الساطعة في الأدب الفرنسي إما موالين للحزب وإما أعضاء فيه، وكان جيد ومالرو - وهما من أكثر الكتاب إثارة لإعجاب كامو في ذلك الوقت - مؤيدين للحزب عندما انضم كامو إليه.
لكن كامو لم يكن ماركسيا. ولا حتى مهتما ولو من بعيد بالقراءة لماركس. أحد أسباب انضمام كامو إلى الحزب أنه مكان يمكن أن يتخذه منبرا للمطالبة بحل وسط للاضطرابات المتنامية في قطاعات بعينها من الشعب الجزائري. أراد كامو الترويج لدمج الجزائريين تدريجيا بوصفهم مواطنين في الجمهورية الفرنسية، وكان مؤيدا لإلغاء قانون السكان الأصليين، ودعم منح الجنسية إلى أقلية مختارة من النخبة الجزائرية. تلك التسوية ستكون سبيلا لمقاومة الاضطرابات المتنامية في الطوائف السياسية الجزائرية التي تطالب بالاستقلال علانية. وقد شكل مقترح منح الجنسية إلى عدد محدود من الجزائريين أساس مشروع قانون بلوم-فيوليت، الذي سمي بذلك نسبة إلى رئيس الوزراء الفرنسي ليون بلوم الراعي الرئيسي لهذا المشروع، وموريس فيوليت، وهو حاكم الجزائر السابق وقتها.
دعم كامو مشروع القانون بحماسة، وكتب عريضة - «بيان المثقفين الداعمين لمشروع قانون فيوليت» - حث فيها على إلغاء قانون السكان الأصليين، الذي وصفه بأنه غير آدمي. كتب كامو أيضا أن المشروع يدعم المصلحة الوطنية؛ لأنه يظهر للعرب الوجه الإنساني لفرنسا، ما كان يراه كامو واجب الحدوث. ولذا دعم كامو موقفا استراتيجيا لكنه إشكالي: الاستعمار ذو الوجه الإنساني - الذي يتمثل هدفه الرئيسي في حماية الوجود الفرنسي في الجزائر.
كان كامو مقتنعا لأسباب وجيهة أن رفض تقديم تنازلات للعرب سيكون له عواقب وخيمة على فرنسا بوصفها قوة استعمارية. كان هذا موقف فيوليت أيضا. فوجه تحذيرا صارما للأقدام السوداء بأن عدم الوصول إلى تراض سيعزز من مصداقية الجزائريين الداعمين للانفصال الكامل عن فرنسا وللاستقلال. لكن التحذير لم يلق أذنا مصغية. وفي مواجهة معارضة مدوية من الأقدام السوداء لم يصبح مشروع القانون قانونا، ورفض في خريف عام 1937. تخلى الحزب الشيوعي أيضا عن تأييده للمشروع التوافقي، الذي أدى إلى خسارته لعدد من أعضائه العرب، وترك كامو محبطا. لا تزال مسألة ما إذا كان هو من ترك الحزب أم أنه استبعد منه خلافية، لكن بعد فشل مشروع قانون بلوم-فيوليت، من الواضح أن كامو لم تكن لديه أي رغبة في استمرارية عضويته.
ترك وجود كامو المؤقت في الحزب الشيوعي تأثيرا دائما على حياته وعلى جهوده الفنية، وإن لم يكن بالطريقة التي كان الحزب يريدها. فقد شارك كامو في تأسيس فرقة مسرحية تدعى مسرح العمال، كانت تقريبا أهم ما خلفه كامو من إرث في السنوات التي كان فيها عضوا بالحزب. كما شارك في كتابة مسرحية نضالية، بعنوان «تمرد أشتورية»، عن إضراب لعمال مناجم متمردين في منطقة أشتورية في إسبانيا قبل الحرب الأهلية الإسبانية مباشرة. رغم أن المسرحية دعمت العمال المتمردين، بدأ يظهر إشكال في معتقدات كامو السياسية. فتتضمن الفقرات التي يقال إن كامو قد كتبها (طبقا للنسخة الفرنسية القياسية) نقدا قويا لعنف كل من الدولة الإسبانية والعمال وحزبهم. رأى كامو أن العنف الثوري ليس مقبولا بقدر ما يكون عنف الدولة غير مقبول. كان من الغريب تبني هذا الموقف في مسرحية كتبت عن أحداث وقعت عشية الحرب الأهلية الإسبانية، والتي ستؤدي إلى زيادة سريعة في الدعم الفني والثقافي للجمهوريين الإسبانيين الذين حاربوا وهزموا في مواجهة فرانكو. وستصبح مشكلة العنف الثوري موضوعا ثابتا في أعمال كامو، وستظهر في نقاشاته اللاحقة مع سارتر وفي مسرحيته «القتلة المنصفون».
كانت الفترة القصيرة التي قضاها كامو في الحزب الشيوعي أول تجل علني لوعيه القوي - لكن الخفي حتى تلك اللحظة - بمظالم الاحتلال الفرنسي. لا شك أنه بانضمامه إلى الحزب الشيوعي تحول فجأة من موقف الصمت على الوقائع الاستعمارية إلى صاحب قرار بمواجهتها. رغم ذلك كان موقف كامو يهدف إلى التسوية؛ فقد أراد الإصلاح وتخفيف وطأة الاستعمار، لكنه لم يشكك قط في تسلط فرنسا على الجزائر، ولم يؤيد الاستقلال الجزائري. وتجربته الأولى في السياسة الثورية والبرلمانية جعلته يعي أن هدفه في إدماج أفضل للجزائريين في النظام الاستعماري الفرنسي، في مواجهة المعارضة الشديدة من قبل الأغلبية الكاسحة من الأقدام السوداء، مستحيل تقريبا. وفي وقت لاحق، أبدى كامو امتعاضا عندما أشار النقاد إلى عضويته في الحزب الشيوعي؛ ليس لأنه أصبح منتقدا بشدة للحزب الشيوعي والاتحاد السوفييتي، لكن أيضا لأن الوقت الذي قضاه مناضلا سياسيا يعد تذكيرا محبطا بالفجوة العميقة بين الجزائريين والأقدام السوداء.
في الفترة التي ترك فيها الحزب، ركز على المسرح بوصفه كاتبا مسرحيا وممثلا. وبينما كان عضوا في مسرح العمال، كان له العديد من الخليلات، لكن حبه الحقيقي كان فرانسين فور، وهي طالبة متفوقة في الرياضيات والموسيقى، ولم تبادله المشاعر من فورها. فدأب على التودد إليها بحرص شديد حتى صارت في النهاية زوجته الثانية.
وسعيا وراء تدبر احتياجاته، التحق بوظيفة كاتب في معهد الأرصاد بالجزائر. كانت مشاريعه الأدبية عديدة؛ إذ عمل على مسرحية «كاليجولا»، ورواية «الموت السعيد » المنشورة بعد موته، ومجموعة المقالات «أعراس»، وحاول إنشاء دورية أدبية مع أصدقائه (صدر منها عددان). لكن، في أكتوبر 1938، غيرت انتكاسة أخرى حياته. بعد فحص طبي إلزامي في الثامن من أكتوبر، منعه نظام التعليم الفرنسي بحكم القانون من الالتحاق بالوظائف الحكومية الفرنسية نظرا لاعتلال صحته. (حفاظا على موارد الدولة، لا يجوز للمواطنين المتوقع لهم أعمارا قصيرة أن يصبحوا موظفين حكوميين.) وقد طعن كامو في الحكم لكن دون جدوى. لا بد أنه شعر وقتها أن كل ما قام به من عمل منذ المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة، كان بطريقة ما بلا معنى. ولم يكن ليسير في درب جرينييه في نهاية المطاف.
نامعلوم صفحہ
بعدما علم برفضه بفترة وجيزة، غير لقاء شديد الأهمية مسار حياته مرة أخرى. ففي الشهر نفسه، التقى كامو بباسكال بيا، وهو صحفي طموح من باريس كان مسئولا عن إنشاء ال «ألجير ريببليكان»، وهي صحيفة يومية يسارية التوجه في الجزائر. وكان بيا وكامو يتشاركان العديد من الأمور. فكلاهما فقد والده في الحرب وتولت أمه تربيته، وكلاهما كان يقدر بودلير. أراد بيا أن يكون كامو محررا مساعدا ومراسلا في صحيفته. وافق كامو رغم تردده. (اعترف كامو في خطاب إلى جرينييه أنه لم يكن لينضم إلى بيا لو لم يرفض في الوظائف الحكومية الفرنسية.)
ورغم تردده الظاهر، تقبل كامو منصبه الجديد سريعا؛ فعمل في كل مكان في الجريدة: في غرفة الطباعة، ومصححا، وفي مجلس الإدارة، وكما اشتهر به مراسلا استقصائيا ومحررا. استمر انهماك كامو في الصحافة لبقية حياته. وقاده هذا إلى تحدي السلطات في العديد من المقالات (ما يزيد على 150 مقالا)، وأخيرا إلى تحرير صحيفة المقاومة الأعلى منزلة في فرنسا. ومع ذلك، شرع كامو عام 1938، عشية الحرب العالمية الثانية، في نشر الفضائح بلا غش أو زيف. فمن تراه كان المستهدف بانتقاداته دوما؟ إنها الإدارة الاستعمارية الفرنسية.
الفصل الثاني
كامو، بين مراسل ومحرر
أصبح كامو صحفيا في فترة الثلاثينيات التي تميزت بالصخب والاضطرابات. كان هتلر في سدة الحكم في ألمانيا. والحرب الأهلية الإسبانية كانت على أشدها منذ عامين، وانتهت عام 1939 بانتصار الديكتاتورية العسكرية بقيادة فرانكو. في هذه الأثناء في فرنسا، استولى ائتلاف من نوع مختلف على السلطة: أدى اجتماع جميع أحزاب اليسار معا إلى أن يترأس يهودي الحكومة لأول مرة، وهو ليون بلوم. بعد توليه السلطة، احتل العمال المصانع في كل أرجاء فرنسا، الأمر الذي دفع الحكومة المنتخبة حديثا إلى إصدار العديد من الإصلاحات الاجتماعية التقدمية التي كان من بينها تقليل عدد أيام العمل وإدخال الإجازات المدفوعة الأجر. ساهمت تلك التغييرات في تحسين نوعية الحياة لمعظم المواطنين الفرنسيين في فرنسا تحسنا هائلا. وقد عرف هذا الحراك، وحكومته، وسياسته باسم الجبهة الشعبية.
في هذا السياق، استمر كامو في التزامه تجاه العدالة الاجتماعية بوصفه صحفيا في جريدة «ألجير ريببليكان» لدى بسكال بيا. كانت صحيفة صغيرة، عدد موظفيها قليل. وكان كامو مسئولا عن الأخبار القضائية، الأمر الذي أكسبه خبرة أحسن استغلالها في رواية «الغريب». لم يكن بيا مجرد رئيس تحرير وصحفي يساري، بل كان أديبا وداعما للجبهة الشعبية. كانت ترويسة «ألجير ريببليكان» متبوعة بالعبارة الفرنسية «جورنال دي ترافيير» (التي تعني جريدة العمال). وبرغم أن مقالاتها الافتتاحية كانت مؤيدة لمناصري الديمقراطية في الحرب الأهلية الإسبانية، كانت الجريدة من مؤيدي استرضاء ألمانيا ومهادنتها في عهد هتلر.
كان من أولى مقالات الرأي التي كتبها كامو مقال افتتاحي كتبه في أكتوبر 1938، وكان متحمسا بشدة للجبهة الشعبية، مع أخذ مصلحة العمال الفرنسيين في الاعتبار، وإن كان هذا لبعض العمال دونا عن الآخرين. كانت فكرة كامو الرئيسية هي أن زيادة الأجور الناتجة عن إضرابات الجبهة الشعبية قد انتفى أثرها بزيادة تكاليف المعيشة. وأنهى مقاله بالدعوة إلى جدولة الأجور تماشيا مع تكاليف المعيشة. رغم ذلك، ذكر دون استنكار حقيقة أن في الجزائر نظاما ثنائيا، وأن أجور عمال الأقدام السوداء ارتفعت من 6 إلى 7,20 فرانكات في الساعة، بينما زادت أجور الجزائريين من 1,40 إلى 2,30 فرانك في الساعة. لم يذكر كامو تلك الأرقام لنقد التفاوت بين العمال الأوربيين والسكان الأصليين، بل للتنديد بحقيقة أن زيادة العمال من الأقدام السوداء كانت زهيدة مقارنة بزيادة الأجر التي تكاد تبلغ الضعف تقريبا لدى نظرائهم من الجزائريين. وقد أسس كامو حجته بناء على الهرمية الاستعمارية: حيث سلم بصحة أن تكون أجور الأقدام السوداء لا تزال 3 أضعاف أجور الجزائريين. ومن ثم، يوضح هذا المقال الافتتاحي في هذه المرحلة المبكرة من حياته موقف كامو السياسي الإشكالي: أراد العدالة للجميع، لكن في نطاق مجتمع استعماري غير عادل.
يتصدر تناقض كامو الوجداني تجاه النظام الاستعماري المشهد من جديد في مقال آخر له بعنوان «من محوناهم من الإنسانية»، يصف فيه زيارته لسفينة المساجين التي نقلت على متنها 609 محتجزين. بطريقة ما، يعد مقاله تنديدا صريحا بظروف المعيشة داخل السفينة: الأماكن الشديدة التكدس، حيث توجد أربع زنزانات صغيرة يأوي كل منها 100 سجين، وتنعدم الإضاءة تقريبا. يكتب كامو مضطربا: «لست شديد الفخر بأن أكون هنا.» ومع ذلك، عندما طلب منه أحد المساجين سيجارة - السلوك الذي فسره كامو بأنه استجداء لإبداء شيء من المشاركة والإنسانية - أصبح في مأزق: القوانين معروفة ولا جدوى من ذكر نصوصها؛ ومن ثم قرر أن يتجاهل طلبه. هذا التألم الذي ارتسم ببطء على وجه كامو تجاه محنة السجين كان كاشفا، فرغم تعاطف كامو مع موقف السجين، تجاهل طلبه. يشعر كامو بالشفقة تجاه المضطهد، لكنه لن يخرق القوانين في النهاية. تلك المعضلة، في أوضح صورها، هي ما واجهه كامو مع الاستعمار.
لم يكف كامو عن التفكير في الرجل الذي طلب منه سيجارة. ولم يتبن في الحقيقة موقفا تجاه مساجين الدولة الفرنسية أولئك؛ حيث رأى أن البشاعة الحقيقية لمحنتهم تكمن في انعدام سبل الانتصاف لديهم. وبخلاف هذا التصريح المحايد، تمنى أن يتمكن أولئك المجرمون من استئناف الأحكام الصادرة في حقهم. مرة أخرى جاءت دعوته الإصلاحية مستترة. لم تكن بغيته مناهضة النظام القضائي، بل إصلاحه، وإضفاء مزيد من الحماية على المحرومين من حقوقهم. أراد أن يجعل النظام الاستعماري أكثر إنسانية.
ثمة مقال قصير آخر بعنوان «اعتقالات مؤسفة» يمثل علامة فارقة في موقف كامو تجاه حقوق الجزائريين. في الرابع عشر من يوليو لعام 1939 - يوم الباستيل في فرنسا - تظاهر آلاف المناضلين المطالبين بالاستقلال والمنتمين إلى حزب الشعب الجزائري الذي يرأسه مصالي الحاج ضد الحكم الاستعماري. اعتقل ثلاثة مناضلين وأربعة من قادة الحزب، وحصلوا بعدها على إطلاق سراح مشروط. كانت حكومة الجبهة الشعبية قد حظرت حزب مصالي الحاج السابق، حزب نجم شمال أفريقيا. مارست السلطات الفرنسية في ذلك الحين مناوشات ضد مناضلي حزبه الجديد، ونالت منهم بالضرب والاعتقال. أثارت تلك المعاملة حفيظة كامو واستياءه بشدة. لم؟ لأنه كما يقول: «من شأن تلك التصرفات ... الإضرار بمكانة فرنسا بقدر الإضرار بمستقبلها.»
نامعلوم صفحہ
طالب كامو بعدها بإطلاق سراح المتظاهرين الثلاثة، وهو موقف جريء بالنسبة إلى الجزائر الواقعة تحت وطأة الاستعمار الفرنسي عام 1939. إلا أن عبارة كامو الختامية في مقاله الافتتاحي أظهرت أن هدفه لم يكن مثيرا للجدل مثلما بدا: «... السبيل الوحيد إلى «استئصال» القومية الجزائرية هي قمع الظلم الذي ولدها.» تمثل هذه العبارة صميم موقف كامو من الجزائر؛ أراد أن يستأصل القومية الجزائرية، وارتأى أن تبني نهج تصالحي هو الوسيلة المثلى لهذا الغرض. كان كامو محقا في إحساسه أن تعنت فرنسا تجاه الجزائريين سيكون مدمرا. ومن ثم، اقترح إطلاق سراح المعتقلين، ونادى على الملأ بالمزيد من الحقوق الاجتماعية وحياة أفضل للجزائريين - لكن فقط تحت مظلة الحكم الفرنسي.
باختصار، كان كامو مناصرا لسياسة الاستيعاب والإدماج؛ أراد أن يجد السبيل الأفضل لكي يبقى الجزائريون فرنسيين، وتبقى فرنسا في الجزائر. كان هذا الموقف في صميم مجموعة مقالاته الأكثر شهرة التي كتبها عن منطقة القبائل.
تحقيق صحفي في منطقة القبائل
منطقة القبائل هي منطقة جبلية في الجزائر يسكنها سكان القبائل، وهي مجموعة عرقية بربرية. كان سكان منطقة القبائل من أشرس المقاومين للاحتلال الفرنسي. فقد حاربوا المحتل الفرنسي منذ عام 1830، ولم تأخذ فرنسا بزمام السلطة في المنطقة إلا عام 1857، وإن كان قد تخلل ذلك بعض القلاقل. وكان غالبية الأعضاء المؤسسين في حزب الحاج الداعم للاستقلال من منطقة القبائل. فكان رد فعل فرنسا هو التجاهل؛ وهو توجه عارضه كامو بشدة بناء على أسس إنسانية واستراتيجية .
كتب كامو سلسلة من أحد عشر مقالا تضمنت انطباعاته عن زياراته للقرى الصغيرة في جبال منطقة القبائل وحواراته مع السكان، تخللها حقائق وأرقام تتعلق بالتعليم، ومتوسط العمر المتوقع وما شابه. وفي مجموعة المقالات تلك - المعروفة باسم «مأساة القبائل» - وصف كامو نقص مياه الشرب وشبكات الصرف، وأوضاع البيوت المزرية، والأهم من ذلك كله نقص الأطباء. وبعدها بحوالي عقدين؛ أي عام 1958 في خضم حرب الاستقلال الجزائرية، أعاد كامو طباعة سبعة مقالات من الأحد عشر مقالا الأصلية في محاولة لإبراز اهتمامه المستمر بالجزائريين، وخاصة من هم في منطقة القبائل.
رغم ذلك، كانت المقالات الأربع التي اختار ألا يعيد طباعتها تحوي بعض الفقرات الأشد وقعا. في المقال الأول، «اليونان في أسمال بالية»، وصف كامو رد فعله على ما شهده من تدمير تام لسكان منطقة القبائل:
لا أستطيع أن أنسى ذاك الرجل القاطن في تلك البلدة الأهلية، برج منايل، الذي أراني جسد ابنته الصغيرة، الشديد النحول والمغطى بأسمال بالية، وسألني: «ألا تعتقد أن تلك الفتاة الصغيرة، إذا كسوتها، وإذا ما أبقيتها نظيفة وأطعمتها، ألا تعتقد أنها ستكون بجمال أي فتاة فرنسية؟» وكيف لي أن أنساه بعد ما شعرت به من عذاب الضمير الذي لربما كان يتوجب ألا أكون وحدي من يشعر به.
أراد كامو أن يثير ضمير قرائه من الأقدام السوداء لكن بأسلوب دبلوماسي، من خلال تأكيده على إحساسه الشخصي بعذاب الضمير وبث الأمل في أن يتفاعل الآخرون بالطريقة نفسها مع محنة القبائل.
كانت المقالات أيضا محاولة للوصول إلى غالبية القراء من الأقدام السوداء بطريقة مختلفة، بالإشارة إلى أن منطقة القبائل والجزائر ككل مسئولية فرنسا؛ لأن الجزائر دولة - كما كتب كامو - «انتزعناها لأنفسنا» - وهذا يشكل استهانة باحتلال الجزائر وتهوينا به. في العبارة الأخيرة في ذلك المقال، أعلن كامو أن مهمة الفرنسيين هي أن يوفروا احتياجات منطقة القبائل ولوازمها؛ وهي نظرة انتقدها بشدة كثير من سكان القبائل باعتبارها قائمة على أسلوب الرعاية. رغم ذلك، كانت مقالات كامو عندما نشرت بمثابة صرخة استغاثة، تطالب بتمويل البنية التحتية في منطقة القبائل.
بغض النظر عن ردود أفعال المثقفين الجزائريين لاحقا، وصفت مقالات «مأساة القبائل»، ولا تزال توصف في الغرب وخاصة في فرنسا، بأنها مجموعة مقالات «مناهضة للاستعمار». وبسببها صار ينظر إلى كامو نفسه على أنه مناهض للاستعمار. صحيح أنه أراد أن يحظى سكان منطقة القبائل بظروف معيشية أفضل، ومتوسط عمر أطول، وأجور وتعليم أفضل، لكن ذلك كله تحت سلطة الإمبراطورية الفرنسية، التي لم يتحدها كامو قط. أراد كامو أن يصلح الاستعمار، لا أن ينهيه.
نامعلوم صفحہ
على الرغم من ذلك، غضبت السلطات الاستعمارية الفرنسية من التزام كامو تجاه تحسين ظروف العرب والبربر. في الواقع، كان نشاط كامو الصحفي في سبيل إصلاح الاستعمار أحد الأسباب التي جعلت السلطات الفرنسية في النهاية توقف تمويل جريدة «ألجير ريببليكان» وتغلقها، وإن كان السبب الرئيسي هو موقف الجريدة السلمي. أصدرت الجريدة آخر أعدادها في سبتمبر لعام 1939، في حين واصلت الجريدة الملازمة لها، واسمها «سوار ريببليكان»، نشاطها. كان من الواضح لكل من بيا وكامو أن أيامهما في العمل بالصحافة داخل الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي صارت معدودة. ولم يكن السياسيون في الجزائر وباريس وحدهم من عارضوا إدخال أي إصلاحات في النظام الاستعماري، بل عارضه أيضا الرأي العام بين الأقدام السوداء والسلطات المحلية، حتى وإن كان طفيفا.
خشي كامو من أن يؤدي تعنت سلطات الأقدام السوداء إلى أن تصبح الغلبة لأنصار حل أكثر راديكالية؛ وهو استقلال الجزائر. أراد الأقدام السوداء عدم مشاركة شيء مع الجزائريين، وبالفعل بعد مرور أكثر من عشرين عاما بقليل، رحلوا بخفي حنين. خلال تلك المدة، عزم كامو على عدم التطرق إلى تلك المسألة. ويمكن بالتأكيد أن نستشف نظريته في العبث - التي ترى أن العالم غير عقلاني وغير قابل للتفسير - من موقفه تجاه الإصلاح السياسي في الجزائر؛ حيث امتنع عن محاولة تغيير الأمور، أو بالأحرى إسباغ معنى عليها.
ضد الحرب
في عشية الحرب العالمية الثانية، عبر بيا وكامو عن دعمهما لمعاهدة ميونخ والسلام مع هتلر. لم تكن تلك النظرة شائعة بين السلطات، التي أخضعت العديد من مقالات كامو المتعلقة بهذا الموضوع للرقابة. وقد أوضح كامو وجهة نظره في مقال صاغه بعنوان «موقفنا». في هذا المقال، دعم المفاوضات مع هتلر باعتبارها الطريقة الوحيدة لإضعاف ما اعتبره هيبة الزعيم الألماني. طبقا لما رآه كامو، فإن مصدر شعبية هتلر يكمن بالأساس في معاهدة فرساي المجحفة (التي فرضت التزامات مالية هائلة على ألمانيا كتعويضات لفرنسا وإنجلترا بعد الحرب العالمية الأولى). كتب كامو أن بعض ادعاءات هتلر مشروعة، وعلى الرغم من أنه لم يتفق مع احتلال بولندا وتشيكوسلوفاكيا، فلم يكن يشعر أنها مبرر كاف لاندلاع حرب. قد يكون توجهه السلمي مرتبطا بموت أبيه في الحرب العالمية الأولى؛ ولا شك أن الخوف من المجزرة دفعه إلى ذلك أيضا كما دفع معظم المواطنين الفرنسيين. كان هذا الخوف والفتور يعبران عن نظرة مشتركة متداولة على نطاق واسع في فرنسا في ذلك الوقت، وكثيرا ما يرد كأحد الأسباب التي ساهمت في هزيمة فرنسا المفاجئة.
سرعان ما أصبح الدفاع عن موقف كامو وبيا - المبني على التودد إلى هتلر - أكثر صعوبة. وفي مواجهة الرقابة الحكومية والهجمات العنيفة من الصحف المنافسة، أورد كامو دعما لموقفه عن طريق الحكومة والصحافة البريطانية. ففي أحد المقالات الأخيرة التي كتبها كامو عن الحرب، كتب خطابا إلى شاب إنجليزي مجهول مدح فيه اتزان الرجل وصفاء فكره، كطريقة لدعم السلمية. في تلك المقالات التي كتبها دفاعا عن نفسه، رفض كامو شعارات الشيوعية وأوضح يقول: «نحن سلميون على نحو صارم». تأثر كامو في رفضه لاتخاذ موقف معاد ضد هتلر بمنظوره الخاص عن العدمية، والذي سيطوره في مسرحيته «كاليجولا» المنشورة بعد الحرب العالمية الثانية. في هذه الأثناء، وقع العديد من مقالاته الداعية إلى السلام تحت اسم مستعار هو «نيرو» (وهو اسم إمبراطور روماني آخر مضطرب نفسيا). إلا أن عدمية كامو كانت ذات مسحة مثالية؛ حيث آمن أن اشتعال حرب أوروبية سيبرهن على ضرورة التنديد بالقومية.
هاجم الألمان فرنسا في مايو 1940. هزم الجيش الفرنسي هزيمة سريعة ومدوية. واحتلت القوات المسلحة الألمانية الموحدة (الفيرماخت) باريس بحلول منتصف يونيو. وفي يوليو 1940، صوتت الأغلبية الساحقة من أعضاء البرلمان الفرنسي على إنهاء الجمهورية الثالثة ونقل جميع السلطات إلى الجنرال بيتان، الذي أراد أن يقيم سلاما مع هتلر. انقسمت فرنسا إلى منطقتين، إحداهما يحتلها الألمان (تشمل كل السواحل الغربية والشمالية بالإضافة إلى باريس)، والأخرى تحكمها حكومة المتعاونين مع الألمان، ومقرها مدينة فيشي المشهورة بحمامات المياه المعدنية الصغيرة. والمهم في هذا الأمر، من وجهة نظر كامو، أن تلك كانت تحوي ساحل البحر المتوسط ومعبره إلى الجزائر. كان السفر أسهل في تلك المنطقة الحرة كما كان يطلق عليها، وإن كان كامو قد تنقل بين المنطقتين خلال الحرب.
لكونه عاطلا، كان على كامو أن يبحث مرة أخرى على سبيل إلى كسب العيش. وبتزكية من بيا، ذهب للعمل في صحيفة «باري سوار»، وهي صحيفة يومية متواضعة الشأن كان يحتقرها. عاش كامو في باريس بغرفة فندق صغيرة وعمل على كتاباته. وبعد الاحتلال الألماني، انتقلت صحيفة «باري سوار» إلى المنطقة الحرة في ليون. حينها طلب كامو من خطيبته فرانسين فور - التي كانت قد أنهت دراستها، وأصبحت الآن معلمة رياضيات بديلة - أن تلحق به من الجزائر، فتزوجا في ليون في شهر ديسمبر. كان زفافا بسيطا؛ كان بيا وعمال الجريدة هم الشهود والحضور الوحيدين. لسوء الحظ، لم يكن هناك شيء مضمون خلال الاحتلال. فقد أدى تحديد حصص الورق إلى تخفيضات ضخمة، وسرح كامو. ومن دون أن تكون هناك أي فرص عمل تلوح في الأفق، عاد هو وفرانسين على مضض إلى الجزائر إلى بيت عائلة زوجته في وهران؛ إذ لم يكن لهما مكان آخر يذهبان إليه.
المقاومة ورسائل إلى صديق ألماني
بعد المعاناة لعام ونصف العام في وهران - مدينة كرهها كامو - ولعجزه عن إيجاد وظيفة ثابتة، ولتدهور صحته على نحو خطير، قرر كامو في النهاية الاستجابة لتوصية الطبيب بالعودة إلى فرنسا وقضاء بعض الوقت في أجواء الجبال ليتعافى. بحلول أغسطس 1942، كان في قرية صغيرة بقرب سان إيتان تدعى لي بانلير. خطط كامو للرجوع إلى زوجته في الجزائر بعد قضاء شهور قليلة في الجبال. رغم ذلك، وبعدما أرست الولايات المتحدة سفنها في شمال أفريقيا في نوفمبر 1942، احتل الجيش الألماني المنطقة الحرة الفرنسية، وأصبحت فرنسا دولة حبيسة. فانقطعت خطوط الاتصال بين فرنسا والجزائر. افترق ألبير وفرانسين عنوة إلى أن عادت إلى باريس في سبتمبر 1944. قضى كامو صيف 1943 في لي بانلير. كان ضجرا، ولم يحب صحبة القرويين، واشتاق إلى الجزائر. اشتاق أيضا إلى فرانسين، لكن ليس فرانسين وحدها: طلب من صديقة قديمة، بلانش بالان، أن تأتي وتزوره. قضى كامو معظم وقته يعمل على روايته الثانية «الطاعون»، وبين زياراته لليون، وسان إيتان، وبتردد أقل على باريس. وعلى الرغم من أنه علم في صيف 1943 أن باسكال بيا والشاعر الشهير فرانسيس بونج (الذي كان يراسله كامو) كانا منخرطين في أنشطة المقاومة - التي احتوت بشكل رئيسي على نشر صحف سرية صغيرة تشهر بالاحتلال - فلم ينضم كامو إليهما. سينضم إلى المقاومة في ديسمبر 1943 أو يناير 1944، قبل حوالي 8 أشهر من تحرير باريس في أغسطس 1944. انضم إلى مجموعة تضم بيا وبونج، وكانت تنشر واحدة من أولى صحف المقاومة السرية وأهمها، «كومبات». (انظر شكل
2-1 ).
نامعلوم صفحہ
شكل 2-1: في مكاتب التحرير بجريدة المقاومة الفرنسية «كومبات»، عام 1944: (من اليسار إلى اليمين) بيتي بريتون (مرتديا الزي الرسمي)، فيكتور بيروني، ألبير كامو، ألبير أوليفيير (مدخنا)، جان بلوخ-ميشال (قصير، يظهر بشكل جانبي)، جان شيفو (يحتسي شرابا، يظهر بشكل جانبي)، روجيه جرينييه (يظهر وجهه، يرتدي نظارة)، باسكال بيا، هنري كاليه، فرانسوا برويل، سيرج كارسكي؛ في مقدمة الصورة: مارسيل رابينا وشارولت رو.
كانت «كومبات» تخضع في الأصل لإشراف المقاومين الذين ظنوا أن المارشال بيتان كان عميلا مزدوجا مع ألمانيا، وأنه كان في صفهم. ساهم بيا بخبرته كمحرر وناشر صحفي، وكتب كامو المقالات والافتتاحيات، التي كان معظمها بعد التحرير. كان أول قرار اتخذه للمقاومة هو كتابة أربع «رسائل إلى صديق ألماني»، نشرت منها اثنتان فقط ما بين يناير وأغسطس لعام 1944 في المنشورات السرية. كانت تلك المقالات القصيرة مهمة؛ لأنها تصف دور المقاومة كما يراها كامو والأسباب العقلانية التي جعلته ينضم إليها.
تخيل صديقين في غرفة؛ أحدهما فرنسي والآخر ألماني، يحتكر الرجل الفرنسي الحديث كله - هذا هو المشهد في «رسائل إلى صديق ألماني». إنها ليست برسائل في واقع الأمر، بل حديث منفرد أمام صديق ألماني خيالي يمثل الجمهور الذي نادرا ما يتحدث، وعندما يتحدث يكون ذلك على لسان كامو (الأسلوب الذي استخدمه كامو بعدها بأعوام كثيرة في روايته «السقطة»).
بين كامو في الرسالة الأولى «أسباب التأخر»، التي كان يعني به تأخر رد الفعل الفرنسي تجاه الاحتلال الألماني بوجه عام. ورأى كامو أن السبب وراء هذا التأخر يعزى إلى محاولة البحث عن أسباب عقلانية. فقدم صورة الوطنية المستنيرة التي كانت بحاجة إلى أسباب لخوض غمار الحرب تتعدى الوطنية. كان الفرنسيون ينظرون إلى البطولة بعين الريبة، حيث يخبر كامو صديقه الألماني: «كنا لا نزال نتعلم كيف نتغلب على شكوكنا في البطولة. أعلم أنك تظن أننا دخلاء على البطولة. لكنك مخطئ.» استغرقت فرنسا بعض الوقت للتغلب على شكوكها بشأن البطولة، وكان ذلك سبب هزيمة فرنسا، وسبب أن قلة قليلة فقط هم من قاوموا على الفور عقب الهزيمة. لكنه كان يبين أيضا سبيله إلى الانضمام إلى المقاومة ويبرر سلميته السابقة.
في الرسالة الثانية، يفسر مجددا هزيمة فرنسا وتأخر زيادة عدد المشاركين في المقاومة: «استغرقنا وقتا لنجد ما نتذرع به». أرخ كامو لهذا التأخر منذ بداية الحرب؛ فقد استغرق الأمر ثلاث سنوات لدمج القومية مع السعي إلى المساواة والعدل. وأصبحت وجهة النظر تلك - التي ترى أن المقاومة كان يتحتم عليها أن يكون لها مكون اجتماعي - موضوعا ثابتا في نقاشات الحركة وممثليها بعد الحرب. أرادت المقاومة بعد الحرب أن تعلن حقبة جديدة في السياسة الفرنسية، وأن تكون صحيفة «كومبات» في طليعة هذا النضال.
في الرسالة الثالثة، انطلق كامو في دفاع عن أوروبا، وكتب أن كنه كلمة «أوروبا» تلطخ بارتباطه بالنازية. ادعى كامو أن ألمانيا بدأت ترى أوروبا أرضا تصلح للغزو «بدءا من اليوم الذي خسرت فيه أفريقيا» (متحدثا إلى صديقه الألماني المتخيل). بطرق عدة، تعاملت ألمانيا النازية مع فرنسا كمستعمرة خلال احتلالها. في ذلك الوقت، كان كامو والشعب الفرنسي الواقعان تحت الحكم الألماني أقرب بالفعل إلى الظروف المعيشية العادية للجزائريين تحت الحكم الفرنسي. واستمرارا في ربط الوضع الاستعماري بالقوة والهيبة، كتب كامو يقول إن تفوق فرنسا على ألمانيا سببه أن الأولى كانت قوة استعمارية. لقد آمن كامو بوضوح تام أن مفتاح فرنسا لاستعادة هيبتها وقوتها يكمن في مستعمراتها.
كانت الرسالة الرابعة ذات طابع شخصي أوضح. ذلك حيث أعلن فيها كامو أنه يشارك صديقه الألماني القيم نفسها، وتحديدا أن العالم بلا معنى، وفي ذلك إشارة إلى العبثية والعدمية. من هذا المنطلق، الذي يستوي فيه الخير والشر، اختار الألمان خوض الحرب والغزو في حين عارض كامو «ميل فرنسا الشديد نحو العدالة». كان كامو غاضبا من ألمانيا «لإجبارها فرنسا على دخول التاريخ». (في مقالاته لصحيفة «كومبات»، استوعب كامو التاريخ وضرورة أن نكون جزءا منه؛ على الأرجح أن كامو فهم في أواخر عام 1943 أن عدم انضمامه إلى المقاومة - التي انضم إليها أصدقاؤه بالفعل - من شأنه أن يدمر مسيرته الأدبية. وبحلول الوقت الذي تحررت فيه باريس، أصبح كامو واحدا من أهم الأبواق التي تعبر عن صوت الشعب. أصبح كامو يعيش في باريس بشكل دائم. انضمت إليه زوجته فرانسين من الجزائر العاصمة، وأنجبت بعدها طفليهما التوءم، كاثرين وجين، في الخامس من سبتمبر لعام 1945.)
كامو، محرر المقاومة
بين شهري مارس ويوليو لعام 1944، كتب كامو مجموعة من ستة مقالات صغيرة، لكنه لم يوقعها لأسباب واضحة (وإن اختلفت الآراء بين الباحثين فيما يتعلق بعدد ما كتبه كامو منها) للنسخة السرية من جريدة «كومبات». كانت مقالات دعائية، تستنكر عنف الفيرماخت واستخدام الجيستابو للتعذيب، وتهاجم بيتان، ورئيس وزرائه بيير لافال، والميلشيات الفرنسية الموالية لألمانيا. كان المغزى العام من تلك المقالات هو الدعوة إلى الوحدة وتهديد المتواطئين مع الألمان بالمحاكمة والمعاقبة فور انتهاء الحرب.
بعد تحرير باريس مباشرة في أغسطس 1944، كانت لسلسلة المقالات التالية لكامو نبرة مشابهة، وإن كانت أكثر شمولا وأقل ولعا بالقتال. أراد كامو أن تنضم جميع فئات المعارضة بعضها لبعض كتعبير عن الوحدة الوطنية. كانت تلك الغاية والنبرة المنفتحة والإيجابية بوجه عام ذات أهمية محورية في دولة مزقتها الحرب، ولم تقاوم بالغالبية العظمى من شعبها المحتلين النازيين. كان لا بد أن تختلف أفعال المواطنين الفرنسيين العاديين المنشغلين بكسب العيش عن تلك الخاصة بالنخبة، التي ساندت بيتان - في معظمها تقريبا - بتلهف بمجرد أن وصل للسلطة. في الواقع، كان 90 بالمائة تقريبا من أعضاء البرلمان يساندون بيتان.
نامعلوم صفحہ
ولإنقاذ ماضي فرنسا والحفاظ على مستقبلها، كان لا بد من أن تروى القصة الخيالية عن فرنسا التي تتألف في معظمها من المقاومين. لعب المثقفون دورا محوريا في هذا المشروع كرواة لهذه القصة، بوصفهم منتفعين منها، وبوصفهم أيضا ضحايا لها في بعض الأحيان. كان هناك إجماع غير معلن نحو اتباع الجنرال ديجول من جانب اليسار غير الشيوعي - ومن كل الدوائر الأدبية تقريبا - على منح لقب «مقاوم» تقريبا لأي شخص لم يتواطأ مع الألمان صراحة. تجسد هذا الإجماع في إضفاء الطابع المثالي على الماضي القريب، والذي تردد صداه في الخطاب البلاغي الذي اتسمت به مقالات كامو في جريدة «كومبات».
أصبح كامو متحدثا رسميا عن المعارضة بطريقة ما؛ إذ كان يتحدث على لسانها في افتتاحيات صحيفة «كومبات» بعد التحرير. نبرة الافتتاحيات الأولى كانت نبرة حكم أخلاقي على ذلك الزمان، يدلي بتصريحات عظيمة عن فرنسا وعن مسيرتها في الماضي والحاضر والمستقبل. كان على كامو أن يصارع لأجل هذا اللقب: انخرط في جدال مع الروائي الشهير مورياك عما إذا كان من الواجب معاقبة المتواطئين مع الألمان بشدة. فقال فيما عرف عنه، عن أعداء المقاومة، إن الأمر كان يقتضي وجود المزيد من الشخصيات أمثال سان جاست؛ وهو بطل تاريخي من الثورة الفرنسية كان داعما مع حليفه روبسباير لتطبيق عقوبة الإعدام على أعداء الثورة. رغم ذلك، غير كامو رأيه بعدها بشهور قليلة فقط؛ بعدما رأى ما كان يعتقد أنه تطرف في التطهير، واتجه إلى معارضة عقوبة الإعدام والاتفاق مع مورياك.
كان لدى كامو مخاوف أخرى؛ كان رافضا للعودة إلى جمهورية ثالثة يهيمن عليها المال. كتب كامو أن الألمان أجبروا الفرنسيين إما على القتل وإما على العيش راكعين، واختتم بقوله إن الفرنسيين ليسوا عرقا يعيش راكعا. ووصل المقال إلى ذروته على نحو بطولي: «في 21 أغسطس 1944، في شوارع باريس، بدأ نضال سينتهي بالنسبة إلينا جميعا وبالنسبة إلى فرنسا بالحرية أو الموت.»
هنا أيضا، ساهم كامو في الأسطورة التي شارك شارل ديجول بقدر كبير في نسج خيوطها - أسطورة أن فرنسا كانت قوة كبرى في القتال ضد ألمانيا النازية. كان الهدف من تحرير باريس أن يكون استعراضا للقوة لرفع الروح المعنوية لدى الباريسيين. وفي واقع الأمر، طلب ديجول من الأمريكيين إذا ما كان بإمكان كتائب الجنرال لوكلير المدرعة أن تحرر باريس، فكان هذا موضوع مفاوضات مكثفة إلى حد ما. وعلى الرغم من أن دبابات لوكلير دخلت باريس أولا، فإن رسو الإنجليز في نورماندي - والذي صار ممكنا بسبب ضغط الاتحاد السوفييتي الهائل على الفيرماخت على الجبهة الشرقية - هو الذي أدى إلى تحرير باريس. لكن عندما دخل ديجول مدينة النور، ألقى خطبة شهيرة أعلن فيها أن باريس حررت نفسها؛ ومن ثم فكرة أن فرنسا ستحرر نفسها أيضا.
كان هذا الخطاب جزءا مما رأى ديجول أنه صناعة حاسمة لأسطورة هدفها حماية وحدة فرنسا، وإعادة غرس قليل من الكبر في شعب واهن العزيمة تماما. استعيد «مجد» فرنسا أيضا - والثقة في زعامتها - من خلال إعادة تأطير أفعال مثقفيها. كان المقصود أولا ألا توجد حلول وسطى؛ أن تكون إما مقاوما وإما متواطئا، وإن كان الواقع شديد التعقيد والغموض.
وقد لعب كامو نفسه دورا وجيها في صناعة تلك الأسطورة، لا سيما بعد تحرير باريس مباشرة، في أول مقالاته المنشورة التي كان لها عناوين مثل: «دماء الحرية»، و«ليل الحقيقة»، و«زمن الاحتقار». في تلك المقالات الافتتاحية، برر عنف التحرير، بل مجده. لاءمت تلك اللغة الاحتفالات التي أقيمت في كل أنحاء فرنسا في يوم النصر (عيد النصر في أوروبا). كان ذلك هو التطهير الأخير قبل بزوغ فجر حقبة سلام جديدة. لكن لم يكن الأمر على هذا النحو في الجزائر.
استغل بعض الجزائريين فرصة يوم النصر والاحتفالات لنشر العلم الجزائري والتلويح به - فقد كان كثير منهم، في نهاية المطاف، من الجنود السابقين الذين شاركوا في الصفوف الأمامية في أول انتصار حقيقي لبقايا الجيش الفرنسي على الجبهة الإيطالية. ردت الشرطة الفرنسية على تلك المظاهرات بإطلاق النار على المتظاهرين. أدى هذا الرد إلى تصاعد أعمال العنف، التي قتل فيها حوالي 100 من الشرطة الفرنسية والأقدام السوداء.
أدى رد فعل الفرنسيين والأقدام السوداء إلى أحد فصول التاريخ الفرنسي الأكثر ظلاما والأقل طرحا للحديث عنه. راحت الشرطة والقوات المسلحة الفرنسية إلى جانب ميلشيات الأقدام السوداء تذبح آلاف الجزائريين لأسابيع بلا انقطاع، خاصة في سطيف وقالمة. كما قصفت القوات الجوية الفرنسية قرى بأكملها، حتى سوتها بالأرض. وفي باريس، تجاهلت الصحافة المتمدنة بأغلبيتها العظمى المذابح. لكن ألبير كامو لم يتجاهلها.
تحررت معظم أجزاء فرنسا بالفعل بنهاية عام 1944؛ ومن ثم أصبح في إمكان كامو السفر بحرية. كان لتوه عائدا من رحلة طويلة في الجزائر، أعد خلالها مقالات يصف فيها محنة العرب للقراء الفرنسيين، وراح يبين لهم أن على الفرنسيين غزو الجزائر «مرة أخرى»، وكان يعني بذلك أن على فرنسا أن تحوز قلوب العرب والبربر وعقولهم. على ضوء تلك الغاية، أطاحت المذابح في سطيف وقالمة بكل ما كان يرجو كامو أن يراه، وكانت مقالاته وقتها على وشك أن تنشر. وبما أنه لم يستطع التظاهر بأن المذابح لم تقع، فقد قلل من فظاعتها. ومن الضروري أن نلاحظ أن الجزائريين من منظور كامو هم من ارتكبوا المذابح؛ حيث وصف القتل المنظم لآلاف الجزائريين على يد قوات الاحتلال بمصطلح أكثر حيادية، وهو «القمع». فكتب:
أثارت المذابح في سطيف وقالمة السخط وإحساسا عميقا بالامتعاض عند فرنسيي الجزائر. وأدى القمع الذي تلاها إلى إحساس بالخوف والعداوة عند جموع العرب.
نامعلوم صفحہ
اختيار الكلمات هنا مثير للاهتمام. وصف كامو مشاعر الأقدام السوداء باعتبارهم ضحايا بكلمات «السخط» و«الامتعاض»، أما بالنسبة إلى «جموع العرب» فإن مشاعرهم كانت ذات طبيعة غريزية «الخوف» و«العداوة». حتى في وصفه للمذابح في سطيف وقالمة، لم يكن بمقدور كامو إلا أن يخذل من هم يستحقون تعاطفه.
ومن ثم، لم يشغل القتل الجماعي للجزائريين على يد السلطات الفرنسية والأقدام السوداء إلا بعض السطور المغلوطة في مقال كامو. لعل كامو كان يعي أن انتشار المعرفة بتلك الجرائم التي ترعاها الدولة سيقوض من مصداقية صورة فرنسا كإمبراطورية مستنيرة ومحبة للخير. لا شك أن مذابح سطيف وقالمة تعد إلى يومنا هذا مسألة محظورة في التاريخ الفرنسي؛ إذ نادرا ما تجري مناقشتها، وهي غائبة إلى حد كبير في كتب التاريخ. رغم ذلك، كانت تلك المذابح بداية نهاية الاحتلال الفرنسي للجزائر. فبعد أقل من عشر سنوات، بدأت حرب الاستقلال الجزائرية.
هيروشيما
بعد 3 أشهر من يوم النصر وبداية المذابح الجزائرية، أسقطت طائرات الولايات المتحدة قنبلة نووية على هيروشيما، فقتلت 80 ألف شخص على الفور. كان ثمة سيل من التهاني والتعليقات الإيجابية في الصحافة الفرنسية. وكان كامو وحده وسط نظرائه في الصحافة والعالم الأدبي الفرنسي صريحا في إدانته: «وصلت الحضارة الصناعية للتو إلى أقصى مراحل وحشيتها». وذهب كامو إلى إدانة العلم أيضا:
في عالم عاجز عن أن يضع أي قيود، متروك لمآسي العنف، غير مكترث للعدالة ولسعادة الإنسان البسيطة، في هذا العالم سيكرس العلم نفسه للقتل المنظم، ولن يكون أحد متفاجئا، إلا من عتو مثالي.
تفشت حالة عامة من خيبة الأمل في دوائر المثقفين بعد الحرب العالمية الثانية. عرف عن الفيلسوف والمفكر الألماني الشهير تيودور أدورنو تصريحه أنه بعد أوشفيتس سيكون من المستحيل كتابة الشعر. وطرح كامو سؤالا: «كيف يمكن للمرء ألا يرفض العلم بعد هيروشيما؟» في الواقع، استياء كامو من العلم كان سابقا على الحرب. كان رفض كامو لأي سيناريو يفسر كل شيء - سواء كانت الشيوعية، أو الدين، أو العلم، أو حتى التاريخ البشري ببساطة - يقع في قلب نظريته بشأن العبث، والتي اكتسبها وطورها خلال السنوات التي قضاها صحفيا.
الفصل الثالث
كامو والعبث
ما العبث؟ هل شعرت من قبل باضطراب عندما تساءلت أين أنت، اللحظة التي فقدت فيها كل إطار مرجعي إزاء الزمان والمكان والتاريخ؟ اندلاع مفاجئ - لكنه عادة عابر - للشك في معنى كل شيء؟ كان هذا الشعور هو العبث من منظور كامو. في مقاله الإبداعي الشديد التأثير عن العبث - بعنوان «أسطورة سيزيف» - وصف كامو اعتمال هذا الشعور في نفسه عندما رأى رجلا على الجانب الآخر من نافذة المقهى، يتحدث بحيوية في الهاتف: لم يستطع كامو أن يسمعه؛ ومن ثم أطلقت رؤيته لشخص آخر يتحدث بجدية إلى قطعة من البلاستيك العنان لهذا الشعور. وكان الإحساس العميق بالاضطراب الذي أحسه جراء ذلك أحد تجليات العبث.
العبث إحساس ينبع من التجربة. كانت التجربة في حالة كامو هي تجربة اقترابه من الموت؛ الهجوم الشرس لمرض السل في عمر السابعة عشرة. منذ تلك اللحظة وعلى مدار حياته، صارت صحة كامو هزيلة، وكان عادة ما يضطر إلى أن ينقطع عن العمل لأسابيع، إن لم يكن شهورا، لدرء المرض أو التعافي منه. كان مرضه بمثابة رسالة تذكير مستمرة له بأن كل المساعي الاجتماعية قد تصبح بلا معنى في أي وقت. الزواج، والعمل، والعدالة، والدين، والمعرفة، كلها تواجه الإحساس بالعبث. وضعه الوعي بحتمية الموت بمعزل عن الناس من حوله ممن يمارسون حيواتهم ويمضون فيها بنشاط متجاهلين فناءهم. في هذا الصدد، يتشابه العبث مع الوجودية: يقع في جوهرهما وعي بالفناء ومركزية الكائنات البشرية (متجاوزة الدين على سبيل المثال). مع ذلك، بالنسبة إلى الوجوديين يعد هذا الإحساس بالعبث نقطة بداية فقط؛ إذ تتسامى أحاسيس اللايقين الوجودي بالفن أو بالمسئولية البشرية والتفاعل الجماعي مع العالم. بالنسبة إلى كامو، إحساس العبث هو غاية في ذاته، ولا يمكن التسامي عليه، بل يتقبل ويعتنق.
نامعلوم صفحہ
أثبت العبث لكامو أن الحياة بلا معنى؛ لأنها قد تنتهي فجأة في أي وقت. ومن هذا المنطلق، كان على كامو أن يتوافق مع ما رأى أنه استحالة تفسير أو عقلنة كل من الحياة والموت. وأطلق كامو على قرار مواجهة عبث الحياة هذا «إرادة العبث» - وهو استعداد لقبول فناء المرء وعجزه عن فهم الحياة. ولذا، فإن العبث هو إدراك للحال وتغيير للوعي في آن واحد، هو صحوة، قرار بمواجهة عالم بلا معنى. وسيعبر كامو عن ذلك للشاعر فرانسيس بونج في صيف عام 1943 بقوله: «الإحساس بالعبث هو العالم الذي يحتضر، وإرادة العبث هي العالم الجديد.» «العالم الذي يحتضر» هو عالم التفسيرات التقليدية (الديانات والفلسفات التي تحاول أن تضفي معنى على الحياة). يطرح كامو تلك المعتقدات والنظم الفكرية جانبا. أما «العالم الجديد» فهو الغاية من عالم ذي وعي جديد، هو إدراك للعبث وقبول به. في كتاباته، طرح كامو أمثلة للوعي الجديد تحتل فيها الطبيعة - خاصة الشمس - مكانا مهما، والشمس الجزائرية خير مثال. كان على كامو أن يستخدم القصص ليوضح إحساس العبث وإرادته؛ لأن كليهما متجذر في التجربة. وهذان الوجهان للعبث بوصفه إحساسا وإرادة يمثلان الأصل الذي انطلق منه دافعه السردي في تلك المرحلة من مسيرته الأدبية.
كان أول ثلاثة أعمال كبرى له - وهي «كاليجولا»، و«الغريب»، و«أسطورة سيزيف» - تدور حول سرد التجارب العبثية، وفي بعض الأحيان كانت تدور حول صدامات عنيفة بين من انتبه إلى عبثية الحياة وبين من اختار أن يتجاهلها. أطلق كامو على تلك الأعمال اسم «عبثياتي الثلاثة». كل عمل يعرض العبث من منظور فريد ومميز. في مسرحية «كاليجولا»، يعايش الإمبراطور الروماني الإحساس بالعبث، ويشرع في تعليمه لرعاياه كرها. وفي رواية «الغريب»، يكون القارئ مستهدفا على نحو غير مباشر ويجبر على الإحساس بالعبث. وأخيرا، في «أسطورة سيزيف»، يبين كامو إرادة العبث عبر سرديات وأمثلة.
كاليجولا «كاليجولا» هي مسرحية كامو الأولى. بدأ كتابتها عام 1937 وانتهى منها عام 1939، لكنها لم تعرض على المسرح حتى خريف عام 1944، بعد أسابيع من تحرير باريس. عادة ما يوصف كاليجولا إلى جانب نيرو بأنه نموذج مثالي للمستبد المعتوه. ومع ذلك، مسرحية كامو ليست قصة نمطية عن مقاومة الاستبداد؛ فمعارضة كاليجولا مدفوعة برغبة رعاياه في عيش حياتهم دون الانشغال بالمسائل الميتافيزيقية. تدور المسرحية حول العبث، وإلى أي مدى يمكن للناس أن ينجحوا في تجنب مواجهته. إنها مواجهة بين كاليجولا الذي يعي العبث ورعاياه الذين يفضلون أن يتجنبوه.
من الصعب على المرء خلال قراءته للمسرحية أو مشاهدته لها أن يشعر بتعاطف كامل مع كاليجولا أو رعاياه أو نفور تام منهم، وذلك أحد أهداف كامو. يتذبذب القارئ قلقا بين لحظات المشاركة الوجدانية مع ضحايا كاليجولا ومشاعر الاحتقار تجاه نفاقهم. هذا القلق مقصود ليدفع القراء إلى التشكيك في أنفسهم، ومعتقداتهم، وكل ما يعتبرونه من المسلمات، والتي منها الحاجة إلى الشعور بالتعاطف مع إحدى الشخصيات. أحاسيس الاضطراب واللايقين تلك هي أحد تجليات الإحساس بالعبث. استخدم كامو أسلوب الاغتراب هذا على نحو أوضح في «الغريب».
في بداية المسرحية، يمر كاليجولا بأزمة بعد موت أخته (وعشيقته). يصبح كاليجولا ذاهلا، ليس ذلك في معظمه بسبب موتها، بل بسبب إدراكه أن الأسى سيمر. يشعر بحزن شديد بينما يعي في الوقت نفسه أنه سيخفت دون رغبة منه. تقوده تلك التجربة إلى الوعي بعبثية الوجود. يعود كاليجولا إلى روما رجلا مختلفا، مصمما على أن يعلم ذلك الدرس لرعاياه؛ ولذا يبدأ في إساءة معاملتهم دون أي علة.
مسرحية «كاليجولا» مسرحية تربوية: لقد قرر كاليجولا أن يبين عبثية العالم بعد أن أضحى مقتنعا بها. وكانت كل تعاليمه التي تتضمن الاغتصاب، والتعذيب النفسي، والقتل تطبق اعتباطا. على سبيل المثال، في أحد المشاهد، يقتل كاليجولا مواطنا بسبب اشتباه خاطئ، وعلى سبيل التبرير بعدما أدرك خطأه همس قائلا: «عاجلا أم آجلا» مشيرا إلى حتمية الموت. جرائم كاليجولا هي وسائل لإدراك غاية: أراد أن يبين لرعاياه اعتباطية الحياة. وأفعال كاليجولا تجاه رعاياه تشبه إلى حد كبير أفعال كامو تجاه قرائه؛ فهو ينزل عليهم العبث بكل ظلمه وعشوائيته. وأهداف كاليجولا كثيرة. فالمسرحية تتألف من سلسلة من الدروس المستفادة عن عدم جدوى مختلف المعتقدات والقيم التي يتمسك بها رعايا كاليجولا ويعتزون بها. ومستهدفوه الرئيسيون هم الأشراف (أي الأرستقراطيون أو النبلاء، وإن كانوا في النسخة الأولى من المسرحية أعضاء مجلس الشيوخ). إنهم يمثلون بلا شك الطبقة الثرية صاحبة الامتيازات، وأصحاب الأملاك، وإن كانت أكثر أفعال كاليجولا تؤثر على بقية الشعب أيضا.
يطرح أحد تلك الدروس عندما يقرر كاليجولا إجبار الأثرياء على تغيير وصاياهم ليتركوا ثرواتهم إلى الدولة؛ حينها يتعين على الجميع أن يسجلوا أسماءهم في قائمة، ليعدم بعضهم على نحو عشوائي. يشير كاليجولا بوضوح وحدة إلى أن الجميع محكوم عليهم بالموت بأي شكل: القضاة، العامة، هيئة المحلفين، الجميع. يختار كاليجولا أن يتصرف كالآلهة ليبين مدى تعسفهم وقسوتهم. كما يتحدى الآلهة أيضا أن تهلكه، ويرى أن استمرار وجوده دليل على عدم اكتراث الآلهة.
تعبر مسرحية «كاليجولا» عن عدمية محضة لولا ظهور بطل من نوع ما؛ هذا البطل هو شيريا، وهو مثقف من الأشراف يعارض كاليجولا لكنه يرفض أن ينضم إلى مؤامرة قتله. إنه صوت غير متوقع - يجسد المنطقة المعتدلة بين الضحايا السيئي الطباع وبين المستبد الجسور. يفهم شيريا العبث وما يحاول كاليجولا فعله، لكنه ضد العنف وخطابه المعادي للبشر.
أعد كامو نسخا مختلفة من تلك المسرحية، ويزداد دور شيريا أهمية مع كل نسخة. يرتبط حضور شيريا المتنامي بموقف كامو المتغير من العبث ويوازيه. فشيريا يجسد وعي كامو بأن العبث يجب أن يمتزج بشكل من أشكال الأطر الأخلاقية، وإلا فسيكون عدمية خالصة. عدل كامو شخصية شيريا في النسخ اللاحقة ليضيف جملا يعبر فيها عن تصميمه على القتال ضد «فكرة عظيمة سيعني انتصارها نهاية العالم» - في إشارة واضحة إلى القتال ضد النازيين.
بوجه عام، في نسخة عام 1939 الأصلية عندما واجه شيريا كاليجولا، يخبر شيريا إمبراطوره باعتقاده أن بعض الأفعال أجمل من غيرها. يجيب كاليجولا بأن جميع الأفعال البشرية متشابهة، ويرد شيريا «أفهمك وأتفق معك»، أزال كامو تلك الجملة الأخيرة بدلالتها الأخلاقية من نسخة عام 1944. وفي سياق تحرير فرنسا (عندما عرضت المسرحية لأول مرة على خشبة المسرح)، كان على كامو تعديل النسخة الأصلية لكيلا يظهر رد شيريا كمبرر للمستبدين. لكن من عجيب المفارقة أن نسخة عام 1939 الأصلية لم تعرض على المسرح خلال الغزو لنقيض هذا السبب؛ وهو أنها كانت ستبدو هجوما ضمنيا على هتلر.
نامعلوم صفحہ
عدل كامو مسرحية «كاليجولا» عدة مرات بسبب تغير السياق التاريخي. وهذا مصير يدعو إلى السخرية؛ لأن كامو أراد بتلك المسرحية التعبير عن نسخة العبث الأكثر نقاء وعدمية. وقد مثل وجود شيريا وموقفه المعتدل نبرة عبث أخف وقعا، وأشار إلى رؤية كامو المتغيرة؛ أنه قد أصبح من غير الممكن الدفاع عن العبث بكل نقائه العدمي - وبالطبع ليس بعد هتلر. وقد أدت الحرب العالمية الثانية والواقع الأخلاقي الذي تلاها بكامو إلى إدخال درجة من درجات الأخلاقية والإنسانية في فكره، والتي نتج عنها لاحقا فكرته عن التمرد، والتي هي موضوع المرحلة الثانية من أعماله.
على الرغم من أن هذا التفسير أصبح متوافقا عليه، فعندما عرضت المسرحية لأول مرة في سبتمبر لعام 1945، رأى كثير من النقاد أنها متساهلة للغاية مع كاليجولا، وأنها دمجت عدمية الإمبراطور المجنون ومعتقدات كامو الشخصية؛ الأمر الذي سبب إزعاجا كبيرا لكامو، وذلك رغم مقاله الأخير الذي أدان فيه تفجير هيروشيما. «الغريب» والعبث
دون كامو في أغسطس لعام 1937 الملاحظات التالية على عجل في يومياته عن «الغريب»:
قصة رجل التمس الحياة كما يراها معظم الناس (في الزواج والوظيفة، إلخ) ويكتشف فجأة بينما يقرأ كتابا مصورا للأزياء مدى غربته التي كان فيها عن حياته (الحياة كما ترى في كتب الأزياء المصورة).
كانت كتب الأزياء في الأصل دليل أزياء لمختلف المراكز الاجتماعية. وهي اليوم في صميم ثقافة المستهلك. في تلك الرواية، يرفض كامو البرجوازية وقيمها، إلى جانب الشعائر الكاثوليكية، ودورهما الذي يلعبانه في هذا العالم العبثي. سيصبح هذا الموقف مصدر استحسان هائل للعديد من أجيال القراء؛ لأن رواية «الغريب» تقدم شخصية مختلفة في الأدب الفرنسي: الموظف المكتبي. يقع هذا المركز الاجتماعي الحديث نسبيا والممثل لفئة اجتماعية جديدة في صميم الرواية.
تنقسم أحداث رواية «الغريب» - التي تدور أحداثها في الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي في ثلاثينيات القرن العشرين - إلى جزأين. الأول هو قصة ميرسو، موظف مكتبي شاب. عندما ماتت أمه، لم يشعر ميرسو بأي شيء، ولم يفهم أن المجتمع يريده أن يبدي انفعالا. العبارة الافتتاحية الشهيرة لتلك الرواية، والتي تفسر دائما على أنها تعكس عدم اكتراثه بموت أمه، نجحت نجاحا مدويا في المؤسسة الأدبية الفرنسية:
اليوم ماتت أمي. أو لعلها ماتت أمس، لست أدري. وصلتني برقية من دار المسنين: «توفيت الأم. الدفن غدا. المخلص لكم.» وهذا لا يعني شيئا. ربما حدث الأمر بالأمس.
وكما أخبرته دار المسنين، يذهب ميرسو إلى الجنازة في اليوم التالي. ثم يعود في اليوم الذي تلاه إلى البيت، ويذهب لمشاهدة الأفلام، ويقيم علاقة مع زميلة سابقة له. كما يساعد قوادا على الأخذ بالثأر من امرأة. وفي عطلة نهاية الأسبوع التي تليها، يذهب إلى الشاطئ مع بعض أصدقائه، وبعد مشادة لسبب غير مفهوم - «بسبب الشمس» كما يقول في المحكمة - يطلق النار على شاب عربي 5 مرات فيرديه قتيلا.
يتناول الجزء الثاني من الرواية حبس ميرسو ومحاكمته. على الرغم من أن محاميه توقع حكما مخففا، يواجه ميرسو الآن خطر عقوبة الإعدام، ليس لقتل عربي، بل لرفضه أن يظهر حدادا على وفاة أمه. يحاكم بسبب «غرابته»، بسبب عدم اكتراثه المتعمد ورفضه الامتثال للقيم المؤسسة للمجتمع الفرنسي: احترام المرء لوالديه، والزواج، والسعي وراء النجاح الوظيفي. عاش ميرسو حياته وكأنه شديد الوعي بالطبيعة العبثية لوجودنا الجمعي، وهذا الوعي جعله لا يبالي بجميع القيم؛ ولهذا فهو خطير على المجتمع.
في النهاية، يحدث ما يريده المجتمع: صدر الحكم على ميرسو بالإعدام بالمقصلة في مكان عام. لكن من الصعب تصديق هذه الحبكة منذ بدايتها؛ حيث لم يحل أي مستوطن فرنسي إلى الإعدام قط لقتل عربي في الجزائر المحتلة. تمثل الحبكة عذرا: قتل العربي هو وسيلة لنيل غاية، المجتمع البرجوازي الفرنسي هو الذي يحاكم، من خلال طقوسه، وعاداته، ومسلماته. القيم الفرنسية المسلم بصحتها يجري تحديها، مع استثناء ملحوظ لتلك القيم المتعلقة بالاستعمار، لكن مثل هذا الاستثناء نادرا ما يلاحظ.
نامعلوم صفحہ
يضع ميرسو طقس الحداد موضع تساؤل في العبارات الافتتاحية بالرواية التي يعترف فيها أنه لا يتذكر تاريخ موت أمه، ثم يلفت النظر إلى خواء تلك الأعراف. وبوضع عبارته الصادمة («لا أذكر متى ماتت أمي») في مقابل عبارة أكثر عرضية (تعبيرات نمطية ولكنها خالية من المعنى مثل «المخلص لكم»)، يخل ميرسو باتزان القارئ. ذات القارئ «المحترمة» مصدومة بصراحة ميرسو، لكنها أيضا تتعاطف مع الهجوم الذي يشنه ميرسو على التقاليد؛ ولذا تتقلب ذاته بين الاتفاق معه وإلقاء اللائمة عليه.
يفند الجزء الأول من الرواية طقوس الحداد، لكن الأقسام اللاحقة تشكك في الآمال الاجتماعية، والصداقة، ونظام العدالة، والزواج، وهذا غيض من فيض. يبدأ ميرسو والقارئ في إدراك أن المجتمع البرجوازي يريد دراما فيها تعبير واضح عن تلك الأدوار - الابن المتألم، والزوج المحب، وخلافه. ورفض تلك الأدوار يثير شكوك أفراد المجتمع الآخرين فيه. ولهذا، فإن ميرسو متهم من قبل أن يرتكب أي جريمة.
يضرب مثال آخر بعدما يرجع ميرسو إلى العمل، عندما يسأله رئيسه عن عمر أمه:
عملت اليوم كثيرا في المكتب. وقد كان الرئيس ودودا. سألني إذا ما كنت متعبا، وأراد أيضا أن يعرف عمر أمي. قلت له: «ما يناهز الستين عاما» حتى لا أخطئ. ولست أدري لم بدا لي وكأنما تخفف من عبء، واعتبر أن الأمر قد انتهى.
المفارقة هنا أنه على الرغم من أن ميرسو لا يتذكر عمر أمه، فهو شديد الوعي بأهمية المظاهر، ويخاف أن يصدم مديره بإجابة صادقة. يناسب هذا الخوف التوقعات المألوفة لدى القارئ. لكن ما فاجأ ميرسو أن رئيسه شعر بالارتياح من رده المبهم. إنه على الأرجح لا يود أن يعرف عمر أمه، بل فقط إذا ما كانت مسنة بالقدر الكافي الذي لا يجعل من موتها مأساة. شعر الرئيس بالارتياح؛ لأن موتها كان طبيعيا، ومطابقا لتوقعات المجتمع. باختصار، السؤال الذي طرحه رئيسه لا يعبر بأي شكل عن اهتمام صادق بالآخرين، بالقدر الذي تكون به الأسئلة العرضية بعد الأحداث المأساوية مجردة من المعنى. علاوة على ذلك، يعتبر عدم اكتراث ميرسو رد فعل أيضا تجاه الشخصيات الأخرى في الرواية الذين يتسمون - شأن القارئ العادي - بأنهم «مندمجون تماما في المجتمع»، وذلك هو المفهوم الحقيقي للامتثال.
يعني السلوك القويم أيضا صون النظام الاجتماعي البرجوازي الجديد. يجعلنا هذا المبدأ نتساءل: من الغريب؟ هل هو ميرسو، الذي يقول الحقيقة، أم نحن القراء، من نخفي مشاعرنا ولا نكترث بالكلمات ونحيدهما؟ تلك العملية الخفية تمكننا من النظر فيما كنا نظنه قيما أخلاقية خاصة بنا، ونكتشف أنها ليست إلا نتاج منظومة أخلاقية جمعية. ومن ثم، نشرع في تحرير أنفسنا من تلك المنظومة الأخلاقية، ونواجه انعدام المعنى في العالم.
تناول كامو الزواج من خلال ميرسو الذي يقضي وقته مع زميلة سابقة له. تطلب منه زميلته أن يتزوجها، ويجيبها بعدم مبالاته المعهودة:
مساء مرت بي ماري، وسألتني عما إذا كنت راغبا في الزواج بها. أجبتها أن الأمر سواء بالنسبة إلي، وأننا نستطيع الزواج إن كانت تلك رغبتها. فأرادت أن تعرف إذا ما كنت أحبها. أجبتها، مثلما فعلت في مرة سابقة، بأن هذا الأمر لا يعني شيئا، بيد أني ما كنت أحبها على الأرجح.
مرة أخرى، لا يهاجم ميرسو هنا الزواج مباشرة. إنه يقبل طلب الزواج من ماري بينما ينفي في الوقت نفسه أهميته. ومن جديد، يقوض ميرسو القيم المجتمعية من خلال الموافقة عليها والتشكيك فيها على حد سواء.
يبدو ميرسو أنه يبدي عدم مبالاة تامة تصل إلى حد التعنت تجاه أي شيء تقريبا يشغل بقية الشخصيات (كالحب، العمل، الطقوس الاجتماعية). فما سبب تلك اللامبالاة؟ عادة ما تكون اللامبالاة آلية دفاعية، رد فعل على خيبة أمل محطمة أو تحرر من وهم. إذا نظرنا إلى حياة كامو الخاصة، فثمة أحداث قد تسلط الضوء على رد فعل ميرسو، لا سيما ما يخص لامبالاته تجاه الطموح الوظيفي. فحديثه عن تخليه عن دراساته وآماله الوظيفية يتردد صداه في تجربة كامو الخاصة. فقد درس لسنوات عديدة في الجامعة وكتب أطروحة، فقط ليرفضه أطباء الدولة الفرنسية رفضا باتا باعتباره غير كفء للتدريس في النظام التعليمي الفرنسي بسبب حالته الصحية. لعل ميرسو كان يتحدث هنا عن مشاعر كامو ويتأمل آماله في الماضي: «عندما كنت طالبا، كان لدي آمال عديدة كتلك. لكن عندما كان علي أن أتخلى عن دراساتي تعلمت بسرعة شديدة أن أيا منها لم يكن مهما حقا ». في مرحلة ما، لا بد أن كامو رأى سنواته التي قضاها في الجامعة بلا معنى. يمكن ربط الفقرة الافتتاحية في الرواية بتناقض كامو الوجداني في جنازة جدته لوالدته التي شعر خلالها بقليل من الأسى، وبكى امتثالا ليس إلا. يمكننا أيضا أن نربط زواجه الفاشل من سيمون ييه باعتباره مؤثرا في تجسيده لموقف ميرسو من الزواج. لقد نقل كامو تجارب العناء أو الخذلان الشخصية وعدم مبالاته الناتجة عنها إلى أدبه.
نامعلوم صفحہ