تمهيد
حياة كامي
المحال
1 - المحال
2 - الانتقال إلى التمرد
3 - التمرد
4 - التضامن
خاتمة
قائمة المصادر والمراجع
تمهيد
حياة كامي
المحال
1 - المحال
2 - الانتقال إلى التمرد
3 - التمرد
4 - التضامن
خاتمة
قائمة المصادر والمراجع
ألبير كامي
ألبير كامي
محاولة لدراسة فكره الفلسفي
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
«لا يظهر الإنسان عظمته حين يلمس طرفا واحدا، بل حين يلمس الطرفين معا في آن واحد، ويشغل كل ما يقع بينهما من فراغ.»
باسكال (أعمال بليز باسكال، طبعة ليون برونشفيج، القسم السادس، ص267، 13، الفكرة الثانية، 353)
بينما كنا نعمل في هذا الكتاب جاءنا النبأ الفاجع بوفاة ألبير كامي في حادث مؤلم.
1
قدر للعمل الواعد، الذي قال عنه الكاتب الفيلسوف ذات مرة بعد عشرين عاما من الجهد والخلق المتصل إنه لم يكد يبدأ بعد،
2
أن يسدل عليه الستار، كما قدر على الباحث أن يكتفي بما وجده أمامه، وإن كان أبعد الأشياء عن أن يمثل كلمته الأخيرة.
إن أعمال كامي وشخصيته - وهو في هذا يزيد عن أي كاتب معاصر - يمثلان وحدة متكاملة، لا يمكن الفصل فيها بين الكاتب الروائي والمسرحي، وبين المفكر الفيلسوف، بين رجل السياسة، وبين رجل المجتمع والأخلاق؛ فلا يستطيع المرء أن يفصل بين كامي الإنسان الذي ساهم في خلال الحرب الأخيرة في المقاومة السرية للاحتلال الألماني مساهمة فعالة، ووقف في عديد من القضايا الاجتماعية موقف المكافح الباسل، ووضع نفسه، كما يقول، في صفوف الضحايا والمعذبين والمحتقرين، وحلل الداء الروحي الذي انتشر في كيان عصره وحاول أن يجد له الدواء، وعاش في ألوان الصراع التي كابدها جيله إلى حد التوتر والتمزق، أقول لا يمكن للمرء أن يفصل هذا الإنسان عن شخصيات مثل سيزيف وميرسو وريو، ممن ساروا في طريق الأمانة والعذاب إلى أقصى مداه؛ فمن الخطأ، إن لم يكن من الخطر أيضا، أن ننظر إلى الكاتب والمفكر بمعزل عن الإنسان الذي يقف على أرض الواقع أو الصحفي الذي ينبض قلبه بمأساة الجيل.
إن المهمة التي حددها كاتب السطور لنفسه في هذا الكتاب تخرج عن حدود الدراسة الأدبية والفنية، وتقتصر على استخراج اللحظات الفلسفية في فكر كامي وعرضها من خلال التيار الديالكتيكي الذي يدفعها ويبث فيها الحياة. وقد كان من الواجب في سبيل ذلك أن يدرس العمل ككل؛ فلا «الغريب» يناقض «الوباء»، ولا «أسطورة سيزيف» تتعارض مع «المتمرد». لا فلسفة المحال تكون فلسفة مستقلة مقفلة على نفسها، ولا فلسفة التمرد تنفيها أو تبطلها، وإنما الكل وحدة ديالكتيكية متشابكة، تجمع بين الطرفين المتقابلين وتؤلف بينهما في وحدة عضوية حية ستحاول الصفحات القادمة أن تكشف عن جوهرها فيما سوف نسميه بالتوتر والتمزق، وليس معنى هذا أننا سننكر التطور المستمر في فكر ألبير كامي، وهو ما لا سبيل في الواقع إلى إنكاره، بل معناه أننا سنعتبر هذا التطور لونا من اتساع الأفق أو امتداد المجال، تسير فيه حركة الفكر من «المحال» إلى «التمرد» ثم من هذا إلى «التضامن»، دون أن تلغي مرحلة منها المرحلة التي تليها، أو تحاول «رفعها»، كما يقول أصحاب المنطق.
3
في هذه الصورة الكلية يصبح المحال ضروريا ضرورة التمرد، كما يصبح التضامن بغير التمرد على المحال في أشكاله الميتافيزيقية والتاريخية المختلفة أمرا يصعب تصوره أو التفكير فيه. بهذا نحاول أن نفسر الفكر من خلال الفكر نفسه، أعني بغير حاجة إلى أن نضيف إليه أفكارا أو ألفاظا أخرى غريبة عليه، وسوف يرى القارئ، دون حاجة إلى التأكيد من جانبنا، أننا لم نحاول أن «نمذهب» هذا الفكر - فما أبعده عن أن يكون مذهبا مغلقا مكتفيا بنفسه! - ولا أن نحشره في زمرة الفلسفات الوجودية أو فلسفات الوجود، وهو الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون في هذه الأيام، والذي طالما أبعده كامي عن نفسه في أحاديثه وكتاباته.
لقد حمل كامي آلام العصر على كتفيه، وبين أن التاريخ حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، لها من الواقعية والأهمية ما لعناصر الطبيعة نفسها. هي حقيقة قاسية، مريرة، حاسمة، هي السعي المستميت الذي يبذله الناس كل يوم لكي يخلعوا على أحلامهم الشفافة شكلا وصورة،
4
ولا بد للإنسان الموهوب من الاختيار؛ فإما أن يكون شاعرا أو مكافحا. وإذا كانت حياة كامي قد علمتنا شيئا، فقد علمتنا أن من الممكن أن يجتمع الشاعر والمكافح في شخص واحد. لقد أثبتت أن في كل إنسان جزءا من الأبدية الخالدة وجزءا من التاريخ المتغير. ولا بد للإنسان من أن يغوص في التاريخ بكليته. إنه لا يستطيع أن يهرب منه؛ لأنه غارق فيه إلى أذنيه، شاء ذلك أم لم يشأ. وعليه أن يكافح فيه، لكي يحافظ على ذلك الجزء الخالد من طبيعته الذي لا يمت للتاريخ بصلة؛ فهناك التاريخ، وهناك أيضا شيء آخر، هو السعادة البسيطة، والجمال الطبيعي، والمشاركة بالقلب والعاطفة في كل ما ينبض بالحياة، وكلها جذور عميقة في كيان الإنسان لا يعرف التاريخ عنها شيئا.
5
بقيت ملاحظة صغيرة أحب أن أسوقها بين يدي هذا الكتاب؛ فلما كان المقصود منه أن يكون بحثا في الفكر الفلسفي عند كامي لا دراسة في أدبه وفنه، فقد رأينا ألا نتعرض للأعمال الأدبية إلا بمقدار ما تبين الموقف الفلسفي أو تلقي عليه مزيدا من النور. ولا شك أن محبي أدب كامي وفنه سيأسفون لهذا الشر الذي كان لا بد منه، حتى لا يتجاوز الكتاب حدوده المرسومة، ولكن لا شك أيضا أنهم سيجدون في الترجمات الأمينة التي تتوالى في السنوات الأخيرة على نحو جدير بالحمد والثناء عوضا عن هذا القصور، كما سيجدون في غير هذه الدراسة ما يشبع شوقهم إلى البحث والتفكير.
فلتكن هذه المحاولة خطوة متواضعة لفهم واحد من أكثر المفكرين في عصرنا الحديث نبلا وشجاعة وأمانة، واحد من أولئك الذين يفتخر الإنسان بأنه كان له الشرف أن ينبض قلبه وإياهم في زمن واحد.
حياة كامي
«إن مملكتي كلها من هذا العالم.» (الظهر والوجه، ص66) «منعني البؤس من أن أعتقد بأن كل ما تحت الشمس وكل ما في التاريخ حسن؛ الشمس علمتني أن التاريخ ليس هو كل شيء.» (مقدمة «الظهر والوجه») «لم أستطع أن أنكر النور الذي ولدت فيه، ولكنني لم أرد في الوقت نفسه أن أهرب من التزامات عصرنا.» (الصيف: عودة إلى تيباسا)
ولد ألبير كامي في اليوم السابع من نوفمبر عام 1913م، في مدينة موندوفي التابعة لمديرية قسطنطينة بالجزائر. كانت أمه تنحدر من أصل إسباني، وكان أبوه لوسيان عاملا زراعيا، قتل بعد ولادة ابنه الثاني ألبير بأقل من عام واحد في معركة المارن في الحرب العالمية الثانية: «مارن؛ جمجمة مفتوحة. أعمى. أسبوع طويل في صراع مع الموت؛ ... كان قد سقط في ميدان الشرف، كما اعتادوا أن يقولوا لها ... وفضلا عن ذلك فقد أرسل المستشفى العسكري إلى الأرملة شظية صغيرة عثر عليها في جسده الممزق.»
1
ورقد الأب في مقبرة سانت-بريوك في مقاطعة بريتاني، بعيدا عن زوجته التي انتقلت من موندوفي إلى مدينة الجزائر. لم تكن تملك ما تعول به طفليها سوى معاش زوجها الصغير وجهد يديها. وراحت تعمل في بيوت الأغنياء، تغسل وتنظف، ثم تعود إلى مسكنها الضيق في حي بلكور المزدحم بسكانه من العرب والأوروبيين. وفتح الصغير عينيه على شمس الجزائر الباهرة، وتعرف على عادات أهلها وطبائعهم، وشعر بعاطفة الحب التي لم تتخل عنه يوما من أيام حياته القصيرة نحو طبيعتها الشابة وأهلها الذين لم تفسد المدنية فطرتهم الأصيلة.
ودخل المدرسة الأولية في بلكور عام 1919م، ليبقى فيها حتى عام 1924م، وكان من عادة الأطفال في سنه وطبقته الاجتماعية بعد فراغهم من هذه المدرسة أن يلتحقوا بعمل يدوي يكسبون منه قوت يومهم، لولا أن موهبة الصغير لفتت نظر أستاذه لوي جرمان الذي اقترح له منحة تعينه على دخول المدرسة المتوسطة. ويظل كامي يتردد على هذه المدرسة حتى يحصل على شهادة البكالوريا في عام 1930م. ويشترك في فريق كرة القدم، ويهتم بالمسرح، ويطمح إلى دراسة الفلسفة، ويصاب للمرة الأولى في حياته بالتهاب في الرئة يؤدي إلى إصابته بمرض السل الذي أثر على شخصيته وأعماله فيما بعد. إنه يصف ذلك بنفسه في مقدمة كتابه الأول «الظهر والوجه» (نور وظل، طبعة 1958م): «أضاف هذا المرض بالطبع أغلالا جديدة شاقة إلى الأغلال التي كانت تقيدني بالفعل، ولكنه في نهاية الأمر قد زاد من تلك الحرية التي يتمتع بها القلب، وذلك الزهد في اهتمامات الناس الذي حفظني من كل إحساس بالمرارة.» ودخل الجامعة، وتعرف على أستاذه جان جرنييه - وقد قام بتدريس الفلسفة في جامعة القاهرة في عامي 1949م و1950م - الذي ظل يعترف بفضله عليه مدى حياته. ويتقدم للامتحان النهائي في الفلسفة في جامعة الجزائر، ولكن الفحص الطبي يعفيه منه مرتين، وبذلك يحفظه من احتراف التدريس، كما يدفعه إلى حياة الفن والاشتغال فترة من الوقت بالصحافة.
ويعد رسالة «الليسانس» في الفلسفة عن العلاقات بين الهيلينية والمسيحية في أعمال أفلوطين وأوغسطين، ويقبل على قراءة أبيكتيت، وباسكال، وكيركجارد، ومالرو، وجيد، وبروست، ودستويفسكي، ويشترك في جولة مسرحية مع فرقة الإذاعة في الجزائر، ويشارك في تمثيل المسرحيات الكلاسيكية. ويؤسس فرقة مسرحية من الهواة سماها فرقة ليكيب
L’equipe
كان يقوم فيها بدور الممثل والمؤلف والمخرج والملقن، ويكتشف صوت الفنان في ضميره يحدد له حياته ورسالته، ويعرف أن مصيره قد ارتبط حتى النهاية بالجزائر، أرض الشباب والبحر والشمس التي لا يجد الحزن فيها مكانا يختبئ فيه، وأن واجبه يحتم عليه أن يساهم في بزوغ حضارة جديدة، ذات شخصية فريدة، يشترك في خلقها العرب والمستوطنون الفرنسيون. لقد استطاع على هذه الأرض نفسها أن يكتشف الحقيقة المزدوجة، أن يساهم في أعياد الجمال، وأن يحترق بلهب المأساة، أن يملأ قلبه وعينيه من دفء الشمس، ويرى مع ذلك ظل الموت يخيم على كل لحظة يعيشها، ويتحدى هذه «المغامرة المفزعة القذرة» التي ظلت تتربص به حتى قضت عليه في النهاية.
ويتزوج في العشرين من عمره زواجا لا يلبث أن يفشل بعد وقت قصير، ويدخل الحزب الشيوعي ولكنه يستقيل منه بعد صدور الأوامر إلى أعضائه بتغيير موقفهم من مسلمي الجزائر والكف عن تأييدهم، على أثر زيارة لافال رئيس الوزارة الفرنسية آنذاك لستالين.
كانت سنوات شاقة، مارس فيها مختلف الحرف الممكنة، واضطر أن يتخلى عن وظيفة صغيرة في بلدية المدينة، بعد أن كتب تقريرا عن سكان منطقة القبائل فضح فيه البؤس والتخلف والجوع الذي يعاني منه أهل هذه المنطقة من العرب. لقد رأى ذات صباح في «تيزي أوزو» كيف يتضارع أطفال عرب مع الكلاب على محتويات صندوق من القمامة، وتبين له الفارق الهائل بين أجور العمال العرب والأوروبيين، وراح يعلن أن من المخجل الزعم بأن شعب القبيلة يعرف كيف يتكيف مع البؤس، ومن الخزي الزعم بأنه لا يحس بنفس الاحتياجات التي يحس بها الأوروبيون.
2
وتردد صدى هذا النداء الإنساني في الأسماع، وأتيح للناس أن يقرءوا لرجل يطالب بالعدل والمساواة بين العرب وبين الفرنسيين، ويرفض أن يعيش أولئك على الصدقات التي ينعم بها عليهم هؤلاء، ويستنكر الظلم من بلد تعلن أنها تحارب الظلم في غيرها من البلاد. ونشر التقرير في سلسلة مقالات في صحيفة «ألجيررببليكان» التي اشترك مع باسكال بيا في تأسيسها في عام 1938م، والتي وقفت في شجاعة في وجه السياسة الفرنسية الرسمية في الجزائر، وطالبت بالمساواة العادلة بين العرب والمستوطنين. لم يكن الأمر في هذا التقرير وفي غيره من المقالات التي نشرها في هذه الجريدة أمر رثاء أو تعاطف مع المغلوبين، ولا مجرد دفاع عن المظلومين والمهانين، بل شيئا مختلفا كل الاختلاف؛ فليس في الوجود شيء أهدر للكرامة من رؤية إنسان يعامل معاملة منحطة خالية من الإنسانية، ولكن المستوطنين الذين أعماهم التعصب لم يستطيعوا أن يفهموا رسالته، أو يدركوا الأخطار التي يندفعون فيها بوحشيتهم وأنانيتهم، فراحوا يطالبون بإبعاده عن الجزائر. قال الرؤساء إن التقرير لم يكتب بأسلوب إداري صرف، ووقع الحاكم العام لمدينة الجزائر بالفعل أمرا بطرد كامي من المدينة، وهو ما يوازي حرمانه من سبل الحياة في الجزائر كلها.
واضطر كامي إلى الرحيل إلى بارس، يحمل وصية من زميله باسكال بيا إلى إدارة تحرير صحيفة «باري سوار» التي استطاع أن يعين فيها مخبرا صحفيا. كان ذلك في ربيع عام 1940م، وكانت الحرب العالمية قد اشتعلت وأوروبا قد أذهلها الزحف الألماني الذي يزرد بلدا بعد بلد. واحتل الألمان فرنسا. وانتقلت الصحف إلى داخل البلاد، وانسحب محررو «الباري سوار» إلى «كليموفيران»
Clemont-Ferran
في مقاطعة الأوفيرن
Auvergne ، ومعهم كامي الذي كان يحمل في حقيبته مخطوطة روايته الأولى «الغريب» التي كان يريد أن يطبعها في باريس. وما لبث أن تخلى عن عمله الصحفي؛ لأنه لم يرد أن يقف في صف حكومة فيشي المؤقتة الذليلة، أو يتعاون مع نظام يكرهه من أعماق قلبه. وترك صحيفة «الباري سوار» ورواح يبحث عن مأوى في مدينة ليون. وبقي في هذه المدينة ثلاثة شهور، قفل بعدها راجعا إلى الجزائر ليعيش مع أسرة زوجته في أوران. واستقبلته المدينة في غير اكتراث؛ لا عمل، ولا مال، وسخرية القدر المعتم على الكتفين. ويسافر إلى باريس، ويستمد من وحدته القوة في إتمام أعماله، وانتظار النصر الأدبي الذي يقترب منه.
كانت رواية «الغريب» قد تمت، ومسرحية «كاليجولا» تفرض نفسها عليه منذ عام 1938م، و«سوء فهم» تنضج في ضميره، والصفحات الأولى من «أسطورة سيزيف» تتزايد يوما بعد يوم، والمحال يقيم أسواره الجرداء من حوله. وامتد الاحتلال الألماني لفرنسا أربع سنوات، وكامي يتحداه ويكافحه في السر والعلن، ويواجهه بالجبهة النقية، والنظرة الهادئة، والكلمة الشجاعة.
ويستدعي الناشر جاليمار كامي إليه - وكان قد أرسل إليه روايته «الغريب» - ويعرض عليه وظيفة قارئ في دار النشر المشهورة. وينضم كامي بطبيعة الحال إلى حركة المقاومة السرية في باريس، ويرأس تحرير جريدة «كومبا» (كفاح)، التي جعلت شعارها «من المقاومة إلى الثورة». ويظل كامي يكتب مقالاتها الافتتاحية، ويظل الفرنسيون ينتظرونها كل صباح، تدعوهم إلى مكافحة الظلم، وتذكرهم بأن يحرصوا على العدل؛ فما من شيء يهدى إلى الإنسان، والقليل الذي يمكنه أن يغزوه، لا بد أن يدفع ثمنه بالموت الظالم، ولكن عظمة الإنسان لا تكمن في ذلك، بل في إرادته أن يكون أقوى من القدر البشري، وإذا كان القدر البشري ظالما، فليس أمامه غير وسيلة واحدة ليتغلب عليه، وهي أن يكون هو نفسه عادلا.
ولكن البلد الذي بدا في مظهر الضحية النقية المقدسة مد يده إلى السكين، والمظلوم الذي عانى وطأة الظلم أربع سنوات مريرة لم يلبث أن أمسك بسوط الجلاد في مدغشقر والجزائر وفي أعمال الانتقام الوحشي ممن اتهموا بالتعاون مع العدو، وعادت سحب الكذب والحقد والصراع على السلطة بين الأحزاب المختلفة تتلبد في سماء باريس. كان النصر على العدو الخارجي أمرا سهلا لا يقاس إلى النصر على العدو الباطن في النفوس، الذي يستلزم المزيد من الشجاعة والألم ودم القلب. وراح كامي في كتاباته وخطبه وأحاديثه يدافع عن كرامة الروح، ويوقظ في النفوس معنى العدل، ويدعو إلى تجديد الفكر السياسي بالشجاعة والتفاهم والنبل.
ولكن كامي كان يقاوم طوفانا أقوى منه. توقفت صحيفة الكومبا بعد ثلاثة أعوام مشرقة تحت رئاسته، لم تخن فيها قضية واحدة من القضايا التي دافعت عنها. واستقال من رئاسة تحريرها واعتزل الصحافة، وإن ظل دائما يعبر عن آرائه في القضايا الملحة في أكثر من مناسبة وفي أكثر من قضية، في مقالات جمعها فيما بعد في كتابه «مشكلات معاصرة»
Actuelles ، وتكشف جميعها عن جوهره الحق الذي تلخصه كلمة «الأمانة». إنها جميعا وثائق من عصرنا، لم تترك مشكلة من المشكلات التي تزيد من عذاب البشر في هذا الزمان، بغير أن تدلي فيها برأي، وبغير أن تفصل بين السياسة والأخلاق، أو قل بغير أن تحاول إعادة السياسة مرة أخرى إلى حرم الأخلاق. إنه يستنكر العنف والطغيان في كل صوره وفي أي معسكر كان، كما يستنكر كل فعل يؤدي إلى موت الإنسان، مهما تكن طبيعة الأسباب التي تساق دائما لتبريره. بهذه الروح العادلة المطلقة عالج مشكلات التسلح الذري والحرب الباردة واستنكر الإرهاب الاستعماري في مدغشقر والجزائر، وأيد الثورات الوطنية في قبرص وألمانيا الشرقية والمجر وبولندا، واحتج على الرعب في كل صوره وأشكاله، لا يكتفي بتأكيد المبادئ، بل يقدم دائما الحلول العملية المباشرة المعتدلة.
كان كامي يحمل في كيانه كل صراعات العصر ويتجاوزها بفضل الحماس المتوهج الذي عاناها به. وكان حسه الأخلاقي الشجاع، كما قال له سارتر في رسالته المشهورة بعد النزاع الذي نشب بينهما،
3
يذكر الناس بأنه آخر خلفاء شاتوبريان وأكثرهم موهبة، وأنه يقف في صف الأخلاقيين الفرنسيين الكبار في القرنين السابقين، بجده وحكمته وجرأته. وألف الناس كلمات مثل العدل والأمل والعظمة والنبل تخرج من فمه وتسيل من قلمه، وتبشر بسعادة بشرية من نوع جديد، وإن كان القدر الإنساني القاتم الأليم لا يغيب عن أفقها لحظة واحدة.
وظهرت في عام 1947م رواية الوباء معبرة عن مأساة العصر، واضعة أحداثه في إطار الأسطورة أو الرمز المتحرر من الزمن والمكان، الذي يتطلبه كل عمل فني صادق. وكانت الرواية بفصولها الخمسة الكبرى تراجيديا أكثر منها رواية بالمعنى المألوف، ولعل ذلك هو سر عظمتها ونجاحها في آن واحد.
ولكن الطوفان كان أقوى منه كما قدمنا، والعصر بدا كأنه قد أفلت من كل حد وفقد النظرة الموضوعية للأمور، وسار كالأعمى على الشعار المألوف: الغاية تبرر كل وسيلة. وتتابع الهجوم عليه من اليمين واليسار، من المحافظين والماركسيين بل ومن أولئك الذين هب للدفاع عن حقوقهم. ونشب النزاع المؤسف المشهور بينه وبين صديقه سارتر، هذا يتهمه بأنه برجوازي رجعي، وذلك يرد عليه بأن يهادن الشيوعيين والأمريكيين، ويزن بميزانين في آن واحد. وامتد النزاع فصار هجوما مرا على صفحات مجلة «سارتر» «الأزمنة الحديثة» على كتاب كامي «المتمرد» وألقيت التهم الشخصية عليه مما أدمى قلبه بجراح عميقة، وأثرت فيه تأثيرا جعله يأوي إلى الوحدة والصمت طوال أعوام طويلة. لم يكد يخرج عن هذا الصمت إلا ليظهر روايته الفريدة «السقطة» (1956م)، ويعد اقتباساته المسرحية لروايات من فولكنر (جناز لراهبة) ودستويفسكي (الممسوسون)، ويعيد كتابة وإخراج مسرحيات لكالديرون (التبتل للصليب) ولوب دي فيجا (فارس أولميدو)، ويدون الصفحات الأولى من رواية جديدة لم تتم (الإنسان الأول)، ويخطط لمسرحية جديدة لم تتم أيضا «دون جوان».
كان فيما يبدو قد نفض يديه إلى الأبد من متاعب السياسة العفنة، وأقبل بكل كيانه على الواجب الأساسي لكل كاتب فنان، ألا وهو الخلق والإبداع، وتتابعت الأزمات الشخصية عليه، وهاجمه داء السل القديم في عام 1949م زمنا طويلا، وتوالت الصدمات والمتاعب فألجأته إلى الوحدة الإسبانية الراقدة في أعماق قلبه، التي لم يكن يخرج منها لحظات إلا ليقفل راجعا إلى جزيرته، على حد قوله في مذكراته اليومية لعام 1951م.
4
ولكن المتوحد الغائب كان حاضرا دائما في أذهان الناس وفي قلوبهم . كانوا في كل حدث يقابلهم يسألون أنفسهم ترى ما هو رأي كامي؟ ماذا عساه سيقول الآن ؟
غير أن كامي لم يقدر له أن يقول كلمته الأخيرة؛ ففي يوم الإثنين الرابع من يناير عام 1960م، وفي الساعة الثانية والربع ظهرا، اصطدمت عربة تسير في سرعة مجنونة على طريق سانس باريس بشجرة اصطداما مروعا. وبين حطام العربة عثر الناس على امرأتين في حالة إغماء، وسائق جريح مات بعد الحادث بأربعة أيام - وكان هو الناشر ميشيل جاليمار - ومسافر رابع مات للحظته، كانت عيناه قد برزتا قليلا، والدم تناثر على رقبته، وعلى وجهه أمارات الهدوء والدهشة. وحين فتشوا جيوبه وجدوا فيها تذكرة سفر بالسكة الحديدية لم يستعملها صاحبها، كما قرءوا في بطاقته هذه الكلمات: «ألبير كامي. كاتب. ولد في 7 نوفمبر 1913م، في موندوفي، مديرية قسطنطينة.»
وكأن الناس لم يتحدوا في ذلك اليوم في شيء كما اتحدوا في حزنهم على كامي. وكأن صرخة واحدة هي التي خرجت من بين شفاههم: هذا الموت الظالم. هذا الموت المحال.
المحال
تمهيد
«خنق الجلاد الكاردينال كارافا بحبل من حرير، انقطع منه، كان عليه أن يحاول مرة ثانية، تطلع الكاردينال إلى الجلاد، دون أن ينبس بكلمة واحدة.»
ستندال: دوقة باليانو (وضعها كامي في مقدمة كتابه «أعراس») «نحن نعلم أن الشمس تكون في بعض الأحيان معتمة.»
كامي (1) المحال
1
في الاستعمال اللغوي
أي معنى تحاول هذه الكلمة أن تعبر عنه، وهي تلغي كما يبدو من اسمها كل معنى؟ وماذا يمكن أن يقال عما يستعصي في ظاهره على كل مقال؟ وهل في وسع العقل أن يحكم بشيء عن كل ما ينفي العقل ويخالف المعقول؟ (أ)
قد يدل «المحال»، كما تخبرنا المعاجم اللغوية والفلسفية، عن أمرين؛ فهو قد يعبر تارة عن فساد في اللغة أو الذوق العام، أو عما لا يستقيم مع القواعد المألوفة في هذه اللغة أو هذا الذوق،
2
وهو تارة أخرى يدل على ما ينافي العقل ويخرج عما يمكن الحكم عليه بالخطأ أو بالصواب. والأساس المنطقي في الأمرين واحد؛ فالخروج عن قواعد اللغة هو في الوقت نفسه خروج عن قواعد المنطق التي تحكم هذه اللغة، والخروج عن قواعد المنطق يستتبع بالضرورة الخروج عن اللغة التي يحكم المنطق بناءها ويجعلها صالحة للتفاهم والتعبير؛ ففي استطاعتنا إذن أن نأخذ الكلمة بوجه عام للدلالة على ما يخالف العقل، وبوجه أعم على ما يعجز العقل عن أن يقرر في شأنه إن كان يخالفه أو لا يخالفه. وأعم من هذا وذاك وأشد غموضا إطلاق كلمة المحال في لغة كل يوم على ما يعتقد الإنسان أنه يخالف العقل، سواء في ذلك أكان الحديث عن لفظة أو فكرة أو إنسان.
3
ومن المألوف في حياتنا اليومية أن نطلق صفة الاستحالة على كل ما يتعارض مع ما نسميه عادة ب «العقل السليم»، وأن نبادر فنقول إن كل ما يناقض عاداتنا العقلية والفكرية، أو ما لا يدل على دلالة معينة تواضعنا عليها بحكم العقل أو حكم التقليد فهو محال. (ب)
أما في الفلسفة فنحن نفهم عادة تحت كلمة المحال ما يتعارض مع قوانين المنطق؛ فالفكرة «المحالة» فكرة لا سبيل إلى التوفيق بين عناصرها والتأليف بين أجزائها. والحكم «المحال» حكم يتضمن غلطا ينتهي به بالضرورة إلى نتيجة باطلة، ويكشف عن الفساد في بنائه الصوري. والمحال بهذا المعنى أعم من التناقض - الذي يجمع الضدين في حكم واحد وفي وقت واحد بالذات - وأقل تعميما من الخطأ والفساد؛ لأنه لا يدل على صدق ولا على كذب، وقد يدل عليهما معا في وقت واحد. (ج)
ولا يندر أن نقع في الكتابات الفلسفية وأشباهها على مثل هذه القضية: «العالم محال». ألا تعني هذه القضية أن العالم مجرد عن المعنى، أو أنه خال من كل غاية يمكن أن يهدف إليها الموجود من وجوده؟
لو أن الأمر كان كذلك لما كان في مثل القضية ما يستحق القليل أو الكثير من الكلام؛ لأنها ستترك عندئذ مجال العقل وتدخل في مجال العاطفة والانفعال. وقد تثير فينا ما تثيره صرخة نفس يائسة خاب ظنها في الحياة، ولكن العقل سيعرض عنها في كبرياء وسيجد أنها لا تستحق منه قليلا ولا كثيرا من العناء؛ فما أكثر ما تنطلق مثل هذه الصرخات من شفاه الحائرين والمعذبين، ومن فقدوا في عدالة الأقدار كل أمل ورجاء! وما أكثر ما سمعناها تتردد كالصدى الضائع المكتوم إثر كوارث الطبيعة في لشبونة أو أجادير، من أفواه أناس كانوا يقدسون التجانس والكمال في معبد الطبيعة فإذا بهم يقفون أمام أطلاله الخربة، ويرون بأعينهم ما آل إليه أفضل العوالم الممكنة! «كما تقول عبارة ليبنتس المشهورة». وسواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد، فإن مثل هذه العبارة المريرة «العالم محال، أو العالم لا معنى له» قد تدل على خيبة الأمل كما تدل على عدم المبالاة، ولكنها قد تعبر كذلك عن حال التوقف والانتظار، حيث لا يعني المحال الصدق ولا البطلان، ولا يدل على الخطأ ولا على الصواب.
فإن كان المحال لا يعني أمرا من بين هذين الأمرين اللذين لا يتعداهما الفكر بحال، وإذا كان من اللازم المحتوم لكل قضية أن تكون إما صادقة أو كاذبة ولا توسط بينهما - على نحو ما يقضي به المنطق التقليدي وما يقول به «الحس السليم» الذي نسير على هداه في حياتنا اليومية - فهل هنالك إمكانية ثالثة بين هذين الأمرين أو وراءهما؟ هل يمكن أن تكون هناك قضية لا يجوز عليها الصدق ولا الكذب، أو يجوز أن تكون صادقة وكاذبة في آن واحد، بحيث يمكن أن نطلق عليها اسم المحال؟
ذلك ما نود الآن أن ننظر فيه من وجهة نظر المنطق، تاركين المحال ودلالاته المختلفة عند كامي إلى حين، لنقف وقفة قصيرة عند الأزمة التي نشبت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن بين المناطقة والرياضيين، وهي التي تعرف باسم «أزمة الثالث المرفوع». (2) المحال والمنطق: أزمة قانون الثالث المرفوع
لا يشك اليوم اثنان في أن هناك في مجال الفكر العلمي الدقيق ظاهرات تتعدى حدود التصورات التقليدية في المنطق الصوري، والرياضة والفزياء الكلاسيكية. وظاهرة المحال هي إحدى هذه الظاهرات التي لا تنطبق عليها قوانين المنطق التي صاغها أرسطو، والتي أدت إلى الأزمة المعروفة بأزمة «الثالث المرفوع».
فمن المعروف أن أرسطو قد حدد مبدأ الثالث المرفوع في كتاب العبارة بقوله بأن الموجود إما أن يكون أو لا يكون، ولا توسط بينهما؛ لأن الأمر مع ما لا يكون ولكن يمكن أن يكون أو لا يكون يختلف عنه مع ما يكون.
4
وهذه العبارة تلخص المبدأ المنطقي القديم الذي يقوم على أساسه بناء المنطق كله؛ فالقضية إما أن تكون صادقة أو كاذبة، وليس هناك حل ثالث؛ أي إنه يستحيل عليها أن تكون صادقة وكاذبة في وقت واحد، كما يستحيل عليها ألا تكون صادقة ولا كاذبة في وقت واحد أيضا. ومن الواضح أن هذا المبدأ الذي يطلق عليه في المنطق اسم الثالث المرفوع هو النتيجة الضرورية المترتبة على مبدأ عدم التناقض، الذي يقول إن القضية لا يمكن أن تكون صادقة وكاذبة في آن واحد وبنفس العلاقة.
ومن المعلوم أيضا أن مبدأ الثالث المرفوع يلعب دورا هاما فيما يسمى بمنطق السلب أو النفي. وربما ترجع أهميته في السنوات الأخيرة فيما ترجع إليه إلى الأزمة التي أثارها بين أصحاب النزعة الصورية
Formalism
وأصحاب النزعة الحدسية
Intuitionism
في الرياضة الحديثة، وبين نظريات المنطق الحديث ذي القيم المتعددة، بل في المراحل الأخيرة التي تطورت إليها الفزياء، وبخاصة فيما يتصل بعلاقة هيزنبرج الشهيرة التي تسمى عادة باسم علاقة عدم التحدد أو عدم الدقة.
5
إن المنطق التقليدي يتبع مبدأ عدم التناقض بمبدأ الثالث المرفوع؛ فبينما يقول مبدأ عدم التناقض في صورته العامة بأن الحكمين المتعارضين لا يمكن أن يكونا صادقين في وقت واحد، نجد مبدأ الثالث المرفوع يؤكد أن الحكمين المتناقضين لا يمكن أن يكونا فاسدين معا. فإذا كان الحكم س هي ب حكما فاسدا، فإن الحكم س ليست هي ب حكم صادق بالضرورة، أو إذا كان الحكم «س ليست هي ب» حكما فاسدا، فإن الحكم «س ي ب» حكم صادق بالضرورة.
6
أي إننا نستطيع أن نعبر عن مبدأ الثالث المرفوع على هذه الصورة؛ بين الصدق والفساد، بين التأكيد والنفي، لا يوجد ثمة مكان لإمكانية ثالثة.
وجدير بالذكر أن الجدال حول استبعاد هذه الإمكانية الثالثة بين الصدق والفساد أو إفساح مكان لها أمر قديم يرجع إلى ما قبل ظهور أشكال المنطق ذي القيم المتعددة، كما يسبق النقد الذي وجهه الرياضيون أنفسهم في مطلع هذا القرن إلى مبادئ التفكير الرياضي؛ فجون ستيوارت مل يلاحظ
7
أن بين الصدق والكذب دائما ما يوجد مجال لإمكانية ثالثة يسميها باللامعنى.
8
أما عالما المنطق الشهيران ج. ه. برادلي
9
وت. ن كينز فيجيبان بأن القضية التي تعبر عن المحال قضية متناقضة في ذاتها، وأن مبدأ الثالث المرفوع إنما ينطبق على القضايا وحدها؛ ولذلك فإن «إما-أو» التي تقرر بحسب تعريفها صدق القضية أو كذبها ليس فيها أدنى تحفظ، ولا يمكن أن تسمح بأية استثناء. ويسأل القارئ نفسه: ألا يمكن أن توجد إلى جانب «نعم أو لا» التي يتطلبها مبدأ الثالث المرفوع إمكانية ثالثة تسمح ب «نعم ولا» أو لا تسمح لا بالنعم ولا باللا؟! سؤال محير يرفضه المنطق التقليدي أصلا، ولا يجد مجالا لمناقشته. إنه يستبعد الإجابتين معا، فإذا وجد امرؤ أنه مسوق إلى إحداهما فإن الرأي عنده أن السؤال قد أسيء وضعه، وأنه قد ترك نفسه ينزلق إلى اختيار بين موقفين كلاهما فاسد ومرفوض؛ لذلك كانت كل مشكلة يواجهها العقل تلزمه بأن يجيب عليها نفيا أو إيجابا، وأن يصفها بالصدق فيقبلها أو يدمغها بالبطلان فيطرحها جانبا، مدفوعا في ذلك بالتقابل القاطع بين الصدق والكذب وبين الصحة والفساد-صدق أو كذب، نعم أو لا، هنا نجد ثنائية الإيجاب والسلب التي تؤلف نسيج الفهم والتفكير بوجه عام.
أدى تطور العلوم الطبيعية منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى إعادة النظر في المسلمات الرياضية وفي الأسس التي تقوم عليها الفزياء الرياضية مما أدى بدوره إلى إثارة الجدل حول مبدأ الثالث المرفوع ومدى انطباقه على المجالات الجديدة التي لم يكن المنطق التقليدي يعرف عنها شيئا.
فالمنطق الذي تسير عليه العلوم الطبيعية الحديثة كما نسير عليه في حياتنا اليومية بطريقة تلقائية هو المنطق التقليدي أو منطق القيمتين. أما المكتشفات الجديدة التي هزت كيان العلم فقد كان لا بد لمواجهتها من تجاوز منطق الثالث المرفوع إلى منطق ذي قيم متعددة، يسمح على الأقل بإيجاد قيمة متوسطة بين اللا والنعم، وبين الصدق والكذب. وقد أفضت إلى هذه المباحث المنطقية صعوبتان تسببت إحداهما عن المفارقات التي قابلها التفكير الرياضي في نظرية المجاميع، وفي مشكلة اللامتناهي، والأخرى فيما يسمى بمنطق الكم التي استلزمت ضرورة تعديل قوانين الميكانيكا (ومن المعروف في تاريخ المنطق الحديث أن هانز ريشنباخ هو الذي طبق منطق القيم المتعددة على ميكانيكا الكم).
أما فيما يتصل بأزمة الأسس التي تقوم عليها الرياضة فهناك اتجاهان متقابلان، لكل منهما وجهة نظره في مشكلة الأساس الذي تقوم عليه الرياضة، اصطلح على تسمية أحدهما ب «الحدسية» (ومن أشهر المنادين بها بروور وديفوش) والآخر ب «الشكلية أو الصورية» التي تبني الفكر الرياضي على مجموعة المسلمات البديهية. ومجمل النزاع الذي نشب في العشرينيات من هذا القرن يمكن التعبير عنه في هذا السؤال: هل تقوم الرياضة على أساس حدسي أم على أساس صوري؟
10
والحقيقة أن هذه المشكلة في جوهرها مشكلة فلسفية، والنزعتان المتعارضتان فيها تكشفان عن تأثير صراع قديم محتدم في مجال الفلسفة نفسها. ولما لم يكن في استطاعتنا أن ندخل في تفاصيل أزمة أسس الرياضة من وجهة نظر علمية بحتة، لافتقارنا إلى التخصص الدقيق من ناحية، واقتصارنا على الجانب الفلسفي وحده من ناحية أخرى، فسوف نكتفي بالكلام عن مبدأ الثالث المرفوع وحده، وعن الأزمة التي عاناها في السنوات الأخيرة وأدت بالبعض إلى الشك في صلاحيته صلاحية مطلقة، والنقد الذي وجه إليه من جانب النزعة الحدسية الرياضية ومن أصحاب المنطق المتعدد القيم.
إن نقطة البدء الأساسية عند أصحاب هذه النزعة الحدسية هي الشك في صلاحية مبدأ الثالث المرفوع لأن يطبق على المجموعات الرياضية غير المتناهية.
11
ويمكننا أن نسوق مثلا من ذلك للتعبير عن رأي بروور في هذا الصدد.
فلو سلمنا بأن أعداد المتتالية الحرة
12
غير المتناهية (ف) هي كما يلي: 1، 6، 28، 3، 9، 11 ... فسيكون في استطاعتنا في هذه اللحظة أن نقول عن هذه المتتالية إن «ف تحتوي على العدد 9»، ولكننا لن نستطيع أن نقول عنها «إنها تحتوي العدد 4» ولا أن نقول إنها «لا تحتوي على العدد 4»؛ ذلك لأننا لا نستطيع في هذه الآونة أن نصدر حكما قاطعا بذلك. يبدو إذن أن مبدأ الثالث المرفوع، الذي يقضي بأن يكون أحد الحكمين المتناقضين صادقا والآخر كاذبا، لا يصلح في ميدان المتواليات العددية غير المتناهية صلاحية مطلقة، بل يسمح ببعض الاستثناء؛ فالحكمان الآتيان: (1)
يوجد في المتتالية (ف) عدد له خاصية (1). (2)
جميع أعداد المتتالية (ف) لهم الخاصية (1).
ليس لهما حكم مضاد يناقضهما مناقضة حقيقية؛ أي إن نقيضهما المبني بناء صوريا خالصا لا يخضع لمبدأ الثالث المرفوع؛ إذ ليس له معنى موضوعي ملموس. والحكمان النافيان لهما: (1)
لا يوجد في المتتالية (ف) عدد له خاصية (1). (2)
لا تحتوي جميع أعداد المتتالية (ف) على الخاصية (1).
يحتويان على معنى موضوعي واضح بالنسبة للمتتالية الحرة ف؛ فكلا الحكمين يشير إلى موقف لا يمكن القطع فيه بشيء؛ إذ لا يمكن في حالة المتتالية الحرة - وهي تختلف عن المتتالية التي تحددها قوانين معينة - أن نتنبأ بالأعداد التي قد ترد فيها، ولا يمكن لذلك أيضا أن نقطع بأن عددا من الأعداد ذات الخاصية (1) لن يظهر فيها. وإذن فإمكانية ظهور استثناء على نحو من الأنحاء الموجودة، غير أننا لا نستطيع أن نقرر بشكل محدد إن كان هذا الاستثناء سيصبح أمرا واقعا.
13
فالقضية الفاصلة
Disjunktion «إما أن يوجد في المتتاليات الحرة عدد له الخاصية (أ) أو لا يوجد» ليست قضية فاصلة حقيقية؛ وعلى ذلك فإن علينا، كما يرى بروور، أن نفسح مجالا لعدم القطع بالنسبة للقضايا المتعلقة بالمجاميع اللامتناهية. ويترتب على ذلك أيضا أن تحسب حساب إمكانية ثالثة بين القضية القائلة: «يوجد عدد له الخاصية (أ)» وبين القضية التي تنفيها وتقول: «لا يوجد عدد له الخاصية أ». وبذلك يحتمل مبدأ الثالث المرفوع الاستثناء، كما يفلت اللامتناهي من تطبيق هذا المبدأ عليه، وتظل القضايا التي تعبر عنه وراء الصدق والكذب جميعا. لا بد إذن من أن نسلم بوجود قيمة منطقية ثالثة، سيصطلح على تسميتها بالمحال. أو بتعبير أدق، ما لا يمكن البرهنة على صدقه ولا على كذبه؛ إذ إن الكذب لا يعد نقيضا للصدق إلا حيث يكون التحقق منهما ممكنا.
14
ولا بأس هنا من أن نذكر حكاية المفارقة الطريفة التي يمثل بها العالم المنطقي بروور للموقف الحرج الذي وجد الرياضيون والمناطقة أنفسهم فيه، وهي الحكاية المعروفة بحكاية العمالقة المنطقيين؛ فقد كان هؤلاء العمالقة يسكنون جزيرة نائية، ويقتلون كل غريب يسوقه سوء حظه إلى شواطئها. لقد كان على كل غريب أن يجيب على سؤال معين يوجهه العمالقة إليه. وسواء أكانت الإجابة صادقة أو كاذبة فلم يكن له مفر من أن يضحى به على مذبح الصدق أو مذبح الكذب. وذات يوم يوجه العمالقة كعادتهم سؤالهم الخالد إلى أحد الغرباء: ماذا سيكون مصيرك؟ ويجيب الغريب قائلا: سوف يضحى بي على مذبح الكذب. ويفاجأ العمالقة وتشيع الحيرة بينهم. لقد اكتشف الغريب الإجابة التي تفلت من تقابل الأضداد وتتجاوز الصدق والكذب جميعا، وتتعدى بذلك مبدأ الثالث المرفوع. لقد أعجز العمالقة الحكم على إجابته بالصدق أو بالكذب، وفوت عليهم فرصة التضحية به على أحد المذبحين!
وقد وضع المنطقي إ. هايتنج
15
منطقا اقتدى فيه بأنموذج المنطق التقليدي، ولكنه استبعد منه مبدأ الثالث المرفوع؛ فهو منطق ذو قيم ثلاثة؛ ما يمكن البرهنة على أنه صدق، وما يمكن البرهنة على أنه كذب، وما لا يمكن البرهنة على صدقه أو كذبه، ويعبر عن هذه القيم في حساب القضايا المنطقية على هذا النحو العددي: صادق = 1، كاذب = 0، لا صادق ولا كاذب = 1. والنتيجة الهامة المترتبة على ذلك هي نبذ المساواة التقليدية في القيمة بين الإيجاب والنفي المزدوج، بحيث لا يبقى لمبدأ عدم التناقض، الذي يقوم كما رأينا على مبدأ الثالث المرفوع، غير قيمة واهية؛ إذ يمكن للنفي المزدوج في هذه الحالة أن يتعلق بالقضية الصادقة أو بالقضية التي لا سبيل للبرهنة على صدقها أو كذبها سواء بسواء.
أما ريشنباخ فقد ذهب مذهبا آخر، لقد أراد أن يدخل على المنطق حساب احتمالات يسلم فيه بقيم ثلاث: 1، 0، 1 / 2 حيث تكون 1 / 2 هي القيمة المنطقية غير المحددة. هذه القيمة الثالثة هي النتيجة المترتبة على فزياء الكم، أو بعبارة أدق على علاقة عدم التحدد التي قال بها هيزنبرج. وبذلك يكون المنطق التقليدي الذي وضع أرسطو بناءه المتكامل، وظن الفلاسفة إلى عهد «كانت» أنه لا يمكن إضافة شيء جديد إليه، أقول يصبح هذا المنطق التقليدي مجرد حالة خاصة من حالات منطق الاحتمالات، لا يراعى فيه الاحتمالان المتطرفان، ونعني بهما الاحتمالية اللامتناهية، أو اليقين، واحتمالية الصفر أو الكذب (وقريب من هذا محاولات ج. ل. ديفوش في إقامة منطق عام يضع فيه الأساس المنطقي للفزياء الحديثة).
والحق أن محاولات أصحاب المنطق ذي القيم الثلاث (بل وأصحاب المنطق ذي القيم المتعددة إلى ما لا نهاية له من القيم مثل لوكازيفتش وأتباعه) لها ما يبررها من الواقع العلمي الحديث؛ فالموقف الحاضر في العلم الطبيعي في الرياضة والفزياء على السواء، قد لفت أنظار العلماء إلى مراجعة الأسس التي يقوم عليها المنطق وتعديل شكلها التقليدي، وإعادة النظر في مجموعة المسلمات البديهية التي يقوم عليها الفكر، وبخاصة بعد أن تبين لهم من نتائج البحوث في بعض فروع الرياضة والفزياء والرياضية أن بعض البديهيات الواضحة لم تعد من البداهة والوضوح بما كانت عليه من قبل. وليس هنا مكان التعرض لهذه المشكلات وتتبع تطورها منذ احتدام أزمة الأسس الرياضية إلى اليوم. إن ما نريده لا يتعدى الإشارة إلى الفكرة الرئيسة التي قدح بها بروور ومدرسته شرارة تلك الأزمة، وإلى إمكانية وجود قيمة ثالثة بين الصدق والكذب من وجهة النظر الصورية البحتة؛ أي صلاحية مبدأ الثالث المرفوع كمبدأ ومثال منطقي. (أ)
فبالنسبة للأعداد التي لم تحدد بعد في متتالية حرة (ف) مثل 1، 6، 28، 3، 9، 11 ... تكون القضية القائلة إن «ف تحتوي على العدد 4» قضية مستحيلة وخالية من كل معنى مثلها في ذلك مثل القضية الأخرى القائلة «إن ف لا تحتوي على العدد 4».
16
والقضية الوحيدة التي يمكن أن تقال فيكون لها معنى هي هذه القضية: «المتتالية ف يمكن أن تحتوي على العدد 4 ويمكن ألا تحتوي عليه»، وإذن فكل ما نستطيع قوله من وجهة النظر الصورية هو ما يلي: كل مقولة عن متتالية حرة وكل مقال منفصل يخالف معناها فهي مقولة متناقضة في ذاتها. (ب)
يرفض بروور مبدأ الثالث المرفوع باعتباره المبدأ الذي تقوم عليه كل معرفة. وهجومه عليه، وإن يكن له ما يبرره من الناحية الموضوعية، لا ينصب في الحقيقة على مبدأ الثالث المرفوع
Tertium non datur
بمعناه المنطقي الخالص. يقول بروور: «في رأيي أن مسلمة الحل (يعني بذلك المسلمة التي تقول إن كل مشكلة رياضية فهي قابلة في أساسها للحل، وهذه المسلمة تقوم بدورها، في النزعة الرياضية الصورية، على صحة مبدأ الثالث المرفوع) ومبدأ الثالث المرفوع كلاهما فاسد، وقد نشأ الاعتقاد بهما من الناحية التاريخية من استخلاص المنطق التقليدي من رياضة المجاميع الجزئية لمجموعة متناهية بذاتها، ثم إعطاء هذا المنطق بشكل قبلي وجودا مستقلا عن الرياضة وتطبيقه أخيرا بغير حق - على أساس هذه القبلية المزعومة - على رياضة المجاميع غير المتناهية.»
17
وبروور بهذا الزعم يسيء فهم المنطق الأرسطي في منشئه ومعناه، وهو الذي أراد به أن يثبت دعائم العلم الحق والتقنين المضبوط، ويقع في الخطأ الذي نصادفه كثيرا لدى الرياضيين وأصحاب المنطق الرياضي؛ فالواقع أن الأمر هنا يتعلق بصحة التصورات المنطقية لا بنظرية المجاميع المتناهية، لقد استخلص أرسطو الصورة المنطقية مستجيبا في ذلك للحاجة إلى تدعيم التفكير التصوري وتأمينه ولنزعته الأصلية لكل ما هو شكلي وصوري. وحين أراد أن يضرب الأمثلة لما يقول لم يستطع لسوء الحظ أن يستغني عن الاستعانة بالعيانات الكمية، مما أدى إلى بعض اللبس في أقواله.
18 (ج)
إن مبدأ عدم التناقض والثالث المرفوع مبدآن صحيحان صحة مطلقة بالنسبة لكل ما هو موجود؛ أي بالنسبة لما هو كائن أو لما يمكن أن يكون. وهما بذلك يقومان على أساس جوهر الموجود نفسه وطبيعته. وقد لاحظ أرسطو بنفسه أن مبدأ الثالث المرفوع يتعلق بالحاضر والماضي، وبذلك يمكن للإيجاب والسلب أن يكونا صادقين أو كاذبين. أما في مجال الممكن والمستقبل - ما بقيت أسبابهما مجهولة - فلا يمكن لإيجاب ولا سلب أن يحكم في شأنهما بالصدق أو بالكذب «لأن الأمر فيما يتعلق بما لا وجود له، ولكن يمكن أن يوجد أو لا يوجد، يختلف عنه فيما يتعلق بما هو موجود.» كما تقول عبارة أرسطو التي أوردناها من قبل. (د)
كثيرا ما يساء استخدام مبدأ الثالث المرفوع وتطبيقه في أفكارنا اليومية وتأملاتنا المنطقية؛ فكم من أحكام تواجهنا نجدها حقا متقابلة تقابل الضدين، حتى إذا أمعنا النظر فيها وجدنا أن مبدأ الثالث المرفوع لا ينطبق عليها ولا يصح لها؛
19
فقولنا مثلا إن «جوته شاعر من شعراء العاصفة والاندفاع»،
20
وقولنا إنه «ليس شاعرا من شعراء العاصفة والاندفاع». وقولنا إن «الحصان أبيض» أو إنه «ليس بأبيض» أمثلة مختلفة لأحكام لا تحتوي على تضاد ولا انفصال حقيقي؛ ولذلك فكلاهما فاسد من وجهة النظر المنطقية الخالصة؛ فالقضية الأولى تنطبق على جوته في مرحلة من مراحل تطوره العقلي والفني، ولكنها لا تنطبق عليه في مرحلته الكلاسيكية أو مرحلة شيخوخته المتأخرة. وكذلك الشأن في القضية الثانية؛ فالحصان قد يكون أبيض في الجبهة، أسود الساقين، بحيث يمكن القول عنه إنه أبيض وأسود في وقت واحد. غير أننا لو توخينا الدقة لوجدنا أن هناك أوصافا معينة بذاتها أو أضدادها هي التي يمكن لها وحدها أن تطلق على شيء معين في نقطة مكانية وزمانية بعينها. وهنا لا بد من اتباع مبدأ التفرد بكل دقة وتحديد الواقع المكاني والزماني تحديدا تاما لكي يمكن التحقق من القضية التي نقولها عنهما بعد ذلك؛ فجوته في مثالنا السابق يمكن في مرحلة زمنية معينة أن يكون شاعرا من شعراء العاصفة والاندفاع أو لا يكون، كما يمكن للحصان في نقطة معينة من جسمه أن يكون أبيض أو أسود، ولكنه لا يمكن أن يحتمل الاثنين معا في آن واحد ومن جهة واحدة.
وإذن فمبدأ الثالث المرفوع يصلح لأن يطبق على الأحكام المتضادة بحق (مثل أ هي ب، وأ ليست هي ب) لا على الأحكام المتقابلة تقابلا عكسيا بحيث يمكن أن يكون كلا الحكمين فاسدين في وقت واحد، كما يمكن أن يقوم بينهما حكم ثالث. وإذن فالاعتراضات التي يوجهها بعض الرياضيين والمناطقة إنما تنطبق على الفصل
Disjunktion
الفردي لا على مبدأ الثالث المرفوع بما هو كذلك. (ه)
ما أهمية هذه القيمة الثالثة التي تحدثنا عنها إذن، والتي لا ينطبق عليها الصدق ولا الكذب، وقد تكون مع ذلك صادقة وكاذبة في وقت واحد، هذه القيمة التي نطلق عليها أوصافا مختلفة، فنصفها حينا بأنها تلك التي لا يمكن البرهنة عليها أو تحديدها، ونصفها حينا آخر بالمحال؟ الواقع أن هذه الكلمات إن كانت قد احتفظت حتى الآن بمعنى حدسي يزيد على طابعها التقليدي، فإنها لا تدل في الواقع على قيمة منطقية، بل على استحالة التوصل في بعض الأحوال إلى تحديد دقيق للقيمة المنطقية، فهل يجوز لنا أن نجعل من افتقاد القيمة المنطقية قيمة؟ ربما كان هذا الحل مريحا من الناحية الشكلية الخالصة، ولكنه لن يغير من الموقف الأصلي في شيء؛ فهذه القيمة الثالثة تدل في حقيقة الأمر على العجز عن تقرير الصدق أو الكذب في أحوال معينة. إنها تعبر، كما قلنا من قبل، عن موقف لم يقطع فيه بشيء، وفي مثل هذا الموقف لن يكون مبدأ الثالث المرفوع هو المبدأ الوحيد الذي لا بد من طرحه والاستغناء عنه، بل إن القدرة على المعرفة هي نفسها التي ستتعطل وتصاب بالبلبلة أو الجمود.
21 (و)
لا يمكن أن يكون مبدأ الثالث المرفوع مبدأ خاطئا. ومع ذلك فقد يكون من واجبات المعرفة في لحظة من لحظات تاريخها أن تسمح على الأقل في بعض الظروف بوجود قيمة ثالثة إلى جانب قيمتي الصدق والكذب أو التأكيد والنفي لقضية من القضايا. ولا يصح أن يؤدي هذا الاستثناء إلى طرح مبدأ الثالث المرفوع. إنها تبين حدوده وحسب. فمثال المعرفة، الذي يجد التعبير عنه في هذا المبدأ المنطقي، لا يصح النيل منه أو الانتقاص من شأنه. إن عليه أن يحتفظ بكل ما فيه من دقته وإحكامه. ومع ذلك فإن من الواجب أن نضيف أنه ينبغي تطبيقه بحذر، وأن الفكر ليس قادرا على تطبيقه في جميع الأحوال. ولقد اعترف بذلك أحد المناطقة التقليديين أنفسهم، وهو برادلي؛ حيث يقول: «إن مبدأ الثالث المرفوع على الرغم من أهميته وضرورته، ليس صادقا صدقا مطلقا. إنه يفترض عالما منفصلا يتألف من وقائع غير مترابطة، وحقيقته نسبية ومقصورة على الواقع كما هو ماثل في مثل ذلك العالم.»
22 (ز)
ربما دار في خلد القارئ بعد هذه الملاحظات التي سقناها عن مشكلة المحال في المنطق الحديث أن في استطاعتنا أن نبحث عن طبيعة المحال عند كامي، وهو الذي يهمنا في هذا المقام بوجه خاص، بطريقة منطقية صورية. غير أننا سنتبين من الفصل القادم أن الأمر على خلاف ذلك تماما، وأن المحال عند كامي لا يمكن أن يفهم إلا بطريقة ديالكتيكية-وجودية. ونود قبل أن نتعرض لذلك بشيء من التفصيل أن نقرر هذه الحقائق التي انتهينا إليها من حديثنا السابق فيما يتعلق بالبناء المنطقي للمحال: (1)
المحال إمكانية ثالثة بين الصدق والكذب، أو التأكيد والنفي، أو النعم واللا؛ فهو قد يدل على ما ليس بصادق ولا كاذب، كما قد يدل على ما هو صادق وكاذب في آن واحد. (2)
إن إمكانية وجود المحال لا يصح أن تؤدي إلى نبذ مبدأ أساسي من مبادئ المعرفة الإنسانية، ألا وهو مبدأ الثالث المرفوع، بل ترسم حدوده وتبين ظروف صلاحيته أو عدم صلاحيته. إن من حق الفكر، بل من واجبه، أن يبحث إمكانياته وحدوده، ولكن معرفة الحد لا يصح أن تؤدي إلى تغيير المطلب الأساسي الذي ينشده العقل في الحقيقة، بل الأصح من ذلك أن نقول إن مبدأ المعرفة نفسه هو الذي يشعرنا بوجود الحد؛ فالثنائية التي يقوم عليها كل فهم وكل معرفة، ونعني بها ثنائية الصدق والكذب والإيجاب والسلب، لا بد من أن تظل قائمة لا تمس، وكل مساس بها إنما يكون على حساب الفهم والمعرفة أنفسهما. (3)
وقد يكون من الأنسب أن نوجه المشكلة وجهة جديدة لعلها أن تفيدنا في الفصول القادمة، وذلك بأن نقدم مشكلة المعنى على مشكلة القطع في أمر الصدق أو الكذب. وسوف نرى فيما بعد أن قضيتين كهاتين: «العالم له معنى»، و «العالم ليس له معنى» ليستا في الحقيقة قضيتين متضادتين ولا يعبران عن فصل حقيقي؛ فالواقع أن المعنى في مثل هذه القضية: «العالم لا معنى له» إنما يكمن في خلوها من المعنى؛ فهي إذن لا تمثل القضية المناقضة للقضية التي تقول: «إن للعالم معنى»، ولا يمكن لهذا السبب أن تمتحن على أساس منطقي «صوري». (4)
يمكننا أن نصف المحال بأنه ما لا سبيل للبرهنة عليه. إنه يدل - إن صح أن له دلالة على الإطلاق - على حال من الانتظار والتوقف عن الحكم؛ أعني أنه لا يدل على موقف نهائي. إنه نوع من السلب النسبي، يحتوي في داخله على بذرة الإيجاب.
الفصل الأول
المحال
(1) المحال (أ)
بدايات المحال. (ب)
منشؤه وتحديد طبيعته. (ج)
نماذج المحال. (د)
هل سيزيف سعيد؟ (أ) بدايات المحال
لم يستمد كامي فكرته عن المحال من مرجع ولا كتاب. لقد بدأ الإحساس «بمحالية» الوجود الإنساني يتسلل إلى قلبه وهو بعد طفل صغير. كانت مجموعة من «الصور» الأساسية الواضحة - كما يسميها بنفسه - نبعت من عالم طفولته، وعلمته كيف يتجرد من الوهم، والتعود، ويواجه لغز الحياة والموت بكل ما فيه من غرابة وقسوة وإعتام. إنه البؤس، والشيخوخة، والصمت، والليل الوحيد الطويل يقضيه إلى جانب فراش أم محبوبة ولكن ما أبعدها عنه، ورحلات شاب وحيد بلا مال ولا هدف، وأناس يتحركون كالظلال ويتكلمون ويتعذبون، ويكشفون - وإن لم يشعروا هم أنفسهم بذلك - في حركاتهم وأصواتهم وعذابهم عن العدم في أنقى صورة.
في لحظات العري هذه، عندما تختفي كل فكرة نحتمي بها، ويتبدد كل سند عقلي نتذرع به، ينساب جمال الأرض سرا إلى النفس كانسياب الموجة، ويرد الوجود الإنساني «المحال» - ولم يكن كامي قد عرف الكلمة بعد - إلى العدم.
هنا
1
نستطيع أن نتلمس بدايات المحال. إنه قريب من العدم، الذي راح يدق على الباب دقات رقيقة متباعدة، ولكنه ليس ذلك العدم الرهيب الذي يدعونا إلى الموت. ليس ذلك البحر الغامض المعتم الذي تحدثنا نفوسنا في بعض الأحيان أن نهوي في لجته، مدفوعين برغبة النفي التي لا تقهر، والذي سيضعنا فيما بعد أمام مشكلة الانتحار، أهم وأخطر المشكلات الفلسفية جميعا وأكثرها جدية. إن «المحال» الذي نشعر به الآن أقرب ما يكون إلى الحالة النفسية التي يحس فيها الموجود كأنه في «فراغ».
الأم المريضة الصامتة قد عرفت هذا «العدم» الخالي من كل عزاء: «كان يحدث أن يسألها سائل: «فيم تفكرين»؟ فتجيبه قائلة: «في لا شيء». وقد كان هذا صحيحا، كان كل شيء هنا؛ أعني لا شيء.»
2
عبثا نفتش عن طبيعة هذا العدم الوجودية أو المنطقية. إنه لا يعدو أن يكون إحساسا معتما عاريا من كل عزاء، ينتابنا في بعض الأحيان، وقد نسميه في السطور القادمة باسم «المحال». وليس «المحال» الذي نقصده هنا سوى اسم آخر نطلقه على الشعور بالغربة، بالهوة المظلمة التي تفصل الصبي عن أمه التي لا سبيل إلى القرب منها.
3
إنه هذه اللحظة التي خرجت عن حدود الزمان،
4
وتجمع فيها كل شيء ولا شيء، نعم ولا. إنه، بكلمة واحدة، الصمت الذي يتضح فيه كل شيء.
5
في هذا النسيج المعتم من مشاعر الصبي الحساس سنجد ما سوف نؤكده فيما بعد، سنجد جانبي النور والظل، حب الحياة واليأس من الحياة، الإيجاب والسلب، النعم واللا مجتمعين في وحدة لا تنفصم. وهنا سنتعرف أيضا على ما سوف نسميه ب «أخلاق المحال»، التي ستجعل شعارها «عش كما لو ...» والتي سنجدها في «أسطورة سيزيف» في بناء محكم من التصورات؛ فها هو كامي يقول في كتابه الأول: «لا أريد أن أختار بين جانب النور وجانب الظل في هذا العالم.» و«إن الشجاعة الحقة في ألا نغمض عيوننا أمام النور ولا أمام الموت «...» عندما أنصت للتهكم (ضمان الحرية الذي يتحدث عنه باريه) الذي يكمن في قرارة الأشياء، أجدها تتكشف لي شيئا فشيئا. إنها تطرف بعينيها الناصعتين الصغيرتين وتقول: عيشوا كما لو ...»
6
7 (ب) منشؤه وتحديد طبيعته
إذا كنا نتحدث عن تحديد طبيعة الشعور بالمحال فلا ينبغي أن يفهم من ذلك أننا نريد أن نفسره تفسيرا عقليا، أو نضعه في نسق مرتب من تصورات الفهم والإدراك . إن محاولتنا لن تتعدى تتبع النتائج التي تنجم عن هذا الشعور. وسيكون المعيار الذي نحتكم إليه هو الصدق الذي يقتضي من الإنسان أن يسلك بما يتفق مع هذا الشعور.
8
فأنا أستطيع من الناحية العملية، أن أحدد جميع الأحاسيس اللامعقولة التي لا تقبل التحليل، ومن بينها الإحساس بالمحال، وأن أتعرف على قيمتها العملية، وذلك بأن أضم مجموعة الظواهر المترتبة عليها في نظام عقلي واحد، وأحاول فهم الصور التي تتجلى فيها وأقومها وأترسم عالمها.
9
ولما كانت المعرفة على اختلاف صورها مستحيلة عند كامي،
10
فسوف نلجأ إلى منهج التحليل، نحصي بواسطته الصور التي يظهر بها الشعور بالمحال ونصف عالمها ونتعرف على جوه.
فالشعور بالمحال شعور مفاجئ، غير منتظر، مجرد عن كل عزاء. قد يباغتنا عند منعطف شارع، وقد يستولي علينا ونحن نباشر أكثر أعمالنا اليومية سخفا. إنه تجربة شخصية وحيدة، لا سبيل إلى توصيلها للآخرين.
هذا الشعور بالمحال قد يرجع إلى أسباب كثيرة، أول ما يؤكده كامي منها هو طابع الآلية الذي تتسم به حياتنا التي نعيشها كل يوم: «يقظة، ترام، أربع ساعات في المكتب أو المصنع، طعام، ترام، أربع ساعات من العمل، طعام، نوم، اثنين، ثلاثاء، أربعاء، خميس، جمعة، سبت، دائما وأبدا نفس الإيقاع. لقد طالما كان هذا طريقا مريحا.»
11
هذا الإيقاع الآلي الرتيب الذي تسير عليه حياتنا اليومية يقابله إيقاع آلي آخر ينتظم أفعالنا وسلوكنا؛ فليس اللامعنى من حولنا فحسب، ولكنه كامن كذلك في نفوسنا؛ فالإحساس بالضيق وعدم الارتياح الذي تثيره فينا لاإنسانية الإنسان قد تسببه ملاحظة عادية نراها كل يوم ولكننا لا نلتفت إليها إلا على حين فجأة: «إنسان يتحدث في التليفون ووراء حائط زجاجي.» نحن لا نسمعه ولكن نرى حركاته وإيماءاته الخالية من كل معنى، ونسأل أنفسنا «لماذا يعيش؟» وهكذا نحيا حياتنا المتعبة ولا نلتفت إلى متاعبها، ونعيش أيامنا الرتيبة ولا ندهش لما فيها من رتابة، حتى يأتي يوم يستيقظ فيه الإحساس بالمحال فجأة وعلى غير انتظار، ليوقظ فينا الإحساس بالقرف والملال. بهذا «القرف»
12
تنتهي الحياة الآلية وتبدأ حياة الوعي والوجدان. إنه يوقظ في نفس الوقت حركة الوعي بالسؤال الخالد «لماذا؟»
13
وقد يتبع ذلك اليقظة النهائية التي لا نوم بعدها، قبل أن تأتي فكرة الموت التي لا يستطيع الإنسان أن يتعود عليها.
لنقف هنا قليلا لنؤكد أن في القرف الذي نتحدث عنه شيئا تمجه النفس، ويبعث فيها الاشمئزاز، دون أن يكون في الوقت نفسه مثارا للألم. ولكنه، فيما يقول كامي، شيء حسن، من حيث إنه يوقظ الوعي وينبه الوجدان؛ فما من شيء تكون له قيمة، إلا عن طريق الوعي والوجدان.
14
ثم تأتي تجربتنا بالزمن. لم يعد الزمن هو الوسط الذي نجري فيه وراء آمالنا، ونحاول أن نرضي طموحنا ونسعى إلى تحقيق أهدافنا وإمكانيات وجودنا. ولا هو الزمن «الموضوعي» الذي نقيسه بالساعات والأيام والسنين، ونعرفه بحركات الكواكب والأفلاك، بل هو الزمن «الذاتي» الذي يقوم على التجربة الحية بالزمان، ولا يخضع الوجدان به للحدود والمقاييس. في كل يوم من أيام حياتنا الموقعة المستتبة يحملنا الزمان. الماضي والحاضر والمستقبل ترتبط ارتباطا لا عناء فيه ولا هموم.
15
ونعيش على هدف نبغيه من المستقبل قد نعيه وقد لا نعيه، يحملنا الزمن، إن صح هذا التعبير، على كتفيه. غير أن اللحظة التي نحمل فيها الزمان على أكتافنا لا تلبث أن تجيء دائما.
16
هنالك يبدو الزمان وكأنه شر أعدائنا. وهنالك أيضا يتسرب إلينا الشعور بالمحال.
وتأتي بعد ذلك تجربتنا مع الطبيعة، فإذا كنا نألف الطبيعة، فمرجع ذلك إلى أننا نشاهد صور عاداتنا منعكسة على سطحها، ولأننا لا نلمسها هي نفسها ولا ندرك مكنوناتها وأغوارها، بل نلمس تصوراتنا وشهواتنا وحاجاتنا التي نسقطها عليها أو نضعها فيها.
17
ولو أننا استطعنا أن نلمس الطبيعة نفسها، لنزعنا القناع عن شيء يختلف تمام الاختلاف عن الوعي الإنساني؛ عندئذ تنهار الكواليس وتسقط الأقنعة؛ عندئذ يتبدى لنا العالم كثيفا وغريبا «درجة أعمق. وإذا الإحساس بالغرابة يستولي علينا، وإذا بنا ندرك أن العالم كثيف، ونحس كيف يكون حجر من الأحجار غريبا عنا، لا سبيل إلى النفاذ إليه، وإلى أي حد تنكرنا الطبيعة أو أحد المشاهد الريفية «هذه الكثافة وهذه الغرابة التي يطالعنا بها العالم هي المحال».»
18
وبعد كل شيء وقبل كل شيء تأتي تجربة الموت. إننا لا نملك تجربة الموت - فتجربة الموت لا يعرفها إلا من يموت، وهو يأخذها معه إلى قبره - وكل ما نملكه هو اليقين بأننا سنموت، وهو أشبه ما يكون باليقين الرياضي. إننا نموت، وموتنا لا مفر منه ولا تفسير له؛ فليس لشيء إذن من معنى، ومغامرة حياتنا باطلة ولا جدوى من وروائها: «وأخيرا أصل إلى الحديث عن الموت وعن شعورنا نحوه. ما من أخلاق ولا من مسعى يمكن تبريره سلفا أمام الرياضة الدموية التي تتحكم فينا وتفرض سلطانها علينا.»
19
ثم يبين كامي كل ما هو لا معقول في هذا العالم، أعني كل ما يفلت من قبضة العقل الإنساني وما لا تسري عليه مبادئه. إنها حجج فلسفية قديمة تلك التي يلجأ إليها ليكشف عن بطلان العقل وزيف المعرفة؛ استحالة التمييز بين الصدق والكذب والحق والباطل: «أريد أن يتضح لي كل شيء أو لا شيء.» «لو استطعت أن أقول مرة واحدة: «هذا واضح» لأمكن إنقاذ كل شيء،
20
واستحالة الفهم؛ أعني استحالة الوصول إلى معنى الحياة وإلى مبدأ واحد أفسر من خلاله جميع ظواهرها: «لست أدري إن كان لهذا العالم معنى يعلو علي. كل ما أدريه أنني لا أعرف هذا المعنى، وأن من المستحيل علي - في هذه اللحظة الراهنة - أن أعرفه. إن المحال هو في هذه اللحظة الرباط الوحيد الذي يصلني بهذا العالم».»
21
وإخفاق المعرفة العملية والمعرفة الذاتية جميعا في الكشف عن هذا المبدأ الواحد الذي أبحث عنه وهدايتي إلى معنى الحياة الذي أفتش عنه فلا أجده. وبالجملة فإن العالم يقاوم شوقنا إلى «العقلية»، وعقلنا بدوره مغرور ومحدود، لا يملك أن يحيل كثافة العالم إلى شفافية، ولا يقدر أن ينفذ إلى سره، ومعناه. الموت، والقرف من الإيقاع الرتيب الذي تسير عليه حياتنا اليومية الآلية، والغرابة التي نحس بها تجاه أنفسنا وتجاه عالم لا يبالي بنا، والتعدد الذي نقابله في الحقائق والموجودات فلا نستطيع أن نردها إلى مبدأ موحد بسيط، واستحالة التعرف على الواقع، بل استحالة المعرفة على وجه الإطلاق؛ تلك هي أهم لحظات تجربة المحال. إن تجربة المحال هذه تلخص مضمون تجربة كامي بأكملها؛ فهنالك من ناحية موضوع التجربة، ونعني به العالم الآلي الغريب اللامعقول، وهنالك من ناحية أخرى الوعي الذي يحس بهذا التجربة. والذي يملك بفعل الوعي نفسه أن يتجرد من موضوع التجربة.
وإذا كان المحال بوجه عام هو كل ما أشرنا إليه من عناصر التجربة، فهو بوجه أعم كل ما يخلو من المعنى؛ فالعالم محال، وأنا نفسي أيضا. أما بالمعنى الضيق فلا العالم هو المحال ولا أنا نفسي، بل المحال في العلاقة القائمة بين العالم والإنسان، والتي تربطني بالعالم وتربط العالم بي. هذه العلاقة في جوهرها «مواجهة» وتقابل بين الوعي وبين جدران المحال التي تحيط به من كل جانب.
إن المحال (باعتباره معطى أوليا مباشرا وفي الوقت نفسه الوعي الباهر الذي يحس به) يكشف قبل كل شيء عن الشقاق المحتدم بين شوق الإنسان إلى الوحدة وبين ثنائية العقل والطبيعة التي لا ترد ولا تقهر، كما يكشف عن الصراع القائم بين حنين الإنسان إلى الأبدي والمطلق وبين طبيعته الفانية المتناهية. إن المحال ماثل في هذه «الصدمة»
22
التي يحسها الوعي حين يتكشف له بطلان مسعاه إلى الوحدة وزيف اشتياقه للفهم والعقلانية. المحال إذن في هذا التمزق والصراع، في هذا الشقاق القائم بين الإنسان الذي يحاول أن يفهم، والعالم الذي يصمت فلا يجيب، فلا هو في هذا العنصر ولا في العنصر الآخر وحده، بل في الصراع الذي ينشأ عند مواجهة أحدهما بالآخر. إن المحال علاقة ديالكتيكية، تقوم على التقابل بين الوعي وبين اللامعقول، ونستطيع أن نسميها باسم الشقاق أو الطلاق.
23 (ج) نماذج المحال
كيف يتأتى لسيزيف أن ينتزع قيما جديدة من عالم سلب من كل قيمة ومعنى، بل يصر هو نفسه على أن ينكر عليه كل قيمة ومعنى؟
لا بد للإجابة على هذا السؤال من الإشارة إلى أمرين يلعبان دورا هاما في تفكير كامي .
أما أولهما فهو اعتقاده في زمانية الموجود، باعتبار أنه موجود في الحاضر وحده، في اللحظة العابرة الفانية. وأما ثانيهما فهو تنوع التجارب المباشرة، التي لا يملك من شيء سواها. كلا الأمرين يكمل بعضه بعضا، وكلا التصورين لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ فالحاضر وحده هو موضوع التجربة المباشرة، والتجربة المباشرة تتم في الحاضر وحده دون غيره. إن الماضي لا وجود له، والمستقبل يفلت دائما من يد الإنسان. وقد نسأل أنفسنا: وأين الأبد الذي يترقبه المؤمنون، وتتعلق به قلوب الفانين؟ إن كان للأبد من وجود عند كامي فهو في الحاضر وحده، وتلك هي المفارقة: «لما كنت محروما من الأبد، فإنني أريد أن أتحد مع الزمن.»
24 «ماذا تعنيني الأبدية؟»
25 «لا وجود للأبدية إلا في تدفق الأيام.»
26
هذه الزمانية هي التي تقرب لنا هذه المجموعات من الشخصيات التي تعيش في المحال، والتي يطلق عليها كامي اسم «نماذج المحال»؛ «فهناك الممثل الهزلي»
27
الذي يلبس مع كل قناع شخصية جديدة، ويغير مع كل دور يؤديه جلده وروحه، ويحيا في اللحظة الفانية التي يعرف أنها لن تدوم، ويستخلص من ذلك النتيجة الوحيدة الممكنة. إنه يختار المجد الزائل الذي يولد مع فجر كل يوم جديد ويموت بموته. وهناك دون جوان فارس العشق الأبدي الذي تدفعه الرغبة التي لا تشبع من مغامرة إلى مغامرة، وتسوقه الشهوة التي لا تنطفئ - لأنها مع كل إشباع تزداد جوعا، ومع كل ري تزداد عطشا - من امرأة إلى امرأة. وهناك الفنان الذي يعبر عن الأبدية الفانية في مملكة من هذا العالم، من صوره وألوانه وظلاله وأنغامه، ويخلق أعمالا يعلم أنها «بغير صباح». وهناك الغازي، الذي يعلم أن الفعل في حد ذاته عقيم، والذي أخذ على عاتقه أن يختار جهدا يعرف أنه جهد عقيم ولا طائل من ورائه، ومع ذلك يقدم على الفعل «كما لو» كانت له قيمة. وهنالك سيزيف، أول نماذج المحال وآخرهم، أشدهم أمانة وأعظمهم يأسا ورضاء في آن واحد؛ إنه لا يمل من دفع الصخرة إلى قمة الجبل، وإن كان يعلم أنها ستنحدر من نفسها لتتدحرج من المنحدر وتسقط في الوادي، كما يعلم أن عليه أن يدفعها من جديد إلى القمة، مرة بعد مرة، بغير انقطاع وبغير أمل.
إن نماذج المحال تضرب لنا مثلا على «أخلاق المحال»؛ فالممثل الهزلي الذي يلبس حيوات مختلفة وتتجسد فيه إمكانيات شتى من الوجود، يعطينا المثل على أسبقية الكم على الكيف.
أما هذا الكيف فهو الإحساس بكل شامل ينتج عن مجموعة العناصر الكمية، إنه ينبثق عن الكم وينبع منه.
28
بل إن الكم هو الذي يصنع الكيف.
إن إنسان المحال الذي يصدر في أحكامه وسلوكه عن أخلاق الكم يرفض في عناد وإصرار أن يسلم بأن للعالم معنى، كما ينكر عليه أن تكون له غاية أخيرة؛ إن أهم ما يميز إنسان المحال هو عدم إيمانه بالمعنى العميق للأشياء.
29
إن كمية التجارب المباشرة وقيمتها لا تتوقف على الظروف والملابسات التي ترافقها، بل على درجة الوعي والوجدان الذي يكون لنا بها؛ فلا فرق بين موظف البريد وبين الغازي، إذا كان كل منهما لديه نفس الوعي والوجدان؛
30
فالقيمة كل القيمة للوعي، وما من شيء تكون له قيمة إلا من خلال الوعي، كما قدمنا من قبل.
هذه الأخلاق الكمية تتمثل كذلك في صورة أخرى من صور الحياة التي يعيشها إنسان المحال، ونعني به دون جوان: «إن أخلاق الكم هي التي تمد دون جوان بالفاعلية، على عكس القديس الذي يميل إلى أخلاق الكيف.»
31
أخلاق الكم عند دون جوان؛ أعني الحب الذي لا يشبع ولا ينبغي أن يشبع. إنه مرتبط بالسعادة أوثق رباط، وكلاهما يحتل مركز الدائرة من تفكير كامي «الحب وحده هو الذي يملك أن يهبنا نفوسنا.»
32 «ما خلا الحب لا يوجد شيء.»
33 «ليس في العالم شيء يستحق من أجله أن ننصرف عمن نحب.»
34
ولكن ما نوع هذا الحب وما طبيعته؟
ليس هو الحب «الأنطولوجي» الذي يمنحنا الأمان والطمأنينة في الوجود. إن مثل هذا الحب لن يزيد على أن يكون حلما، لا واقعا متحققا. وحتى لو فرض على الإطلاق أنه ممكن التحقق، لما كان إلا تمزقا:
35 «ما هو الحب؟ إنه ما يمزقني.»
36 «حب إنسان معناه الرضا بأنه نهرم معه.»
37
وهذا الحب الأنطولوجي إلى جانب ذلك مستحيل؛ إذ إن التضحية بالنفس التي يتطلبها معناها الانتحار «هذا الحب الأبدي ينطوي على التناقض دائما، مثل هذا الحب يجد نهايته في التناقض الأخير، في الموت.»
38
ولو أن هذا الحب الذي يصلنا بالروح الأبدي ويمدنا بالاطمئنان في كنفه كانت فيه الكفاية، لتغير إذن كل شيء،
39
ولأصبح لكل شيء مكانه في نظام ميتافيزيقي متناسق، ولأمكن له أن يدخل الأبدي في الزمني، والوحدة في التعدد، والعلية فيما تعبث به ريح المصادفة، ولاستطاع أن يشغل الفراغ الذي تخلقه الوحدة وأن يكون هو الخصب والامتلاء، ولكن هذا الحب الأبدي يتخطى حدود المحسوس والملموس، ويتجاوز مجال الوصف الظاهري، ويعلو على معطيات التجربة التي تخضع لمشيئة المصادفة، وتغزل ثوبها من إمكانيات اللحظات الفانية المتتابعة؛ أعني من نسيج الزمانية (هذا الشيء الوحيد الذي يستطيع إنسان المحال أن يؤكد ملكيته له): «إن مملكتي كلها في هذه الساعة من هذا العالم.»
40
هذه التجربة قد علمت دون جوان أن الحب ليس إلا عناق اثنين في لحظة يعرفان أنها فانية. ومع ذلك فلا بد لهذا الحب من أن يحياه وجدان يقظ، ووعي باهر عنيد. ميزة هذا الحب الواعي في أنه لا يبعث الملل في نفس إنسان؛
41
ففي الروتين يصبح الحب عقيما.
42
حقا إن دون جوان بطل من أبطال الإغراء ومغامر مثل كثير غيره من المغامرين. غير أنه (وهذا ما يميزه عن غيره ويجعل منه بطلا من أبطال المحال) يعي قدره تمام الوعي، ومن خلال هذا الوعي «يعلم، ولا يعلل نفسه بالأمل.»
43
يعلم أنه ما من قيمة عميقة ولا معنى باطن يكمن في الأشياء، وأن اللحظة هي الحقيقة الوحيدة التي يملكها.
44
من أجل ذلك لا يريد أن يفصل نفسه عن الزمن، ولا أن يغمض عينيه لحظة واحدة عن زمانية الموجود. وهذا هو السبب الذي يجعل الأخلاق التي يتمسك بها هي أخلاق الكم «أي شيء هو الحب الكريم المعطاء؟» إنه ذلك الحب الذي يعلم عن نفسه أنه فان، وأنه في نفس الوقت متفرد، هو الحب الذي يكون مزيجا من الشهوة، والحنان، والذكاء، والذي يستحيل في نهاية الأمر إلى نوع من الوعي، ينبثق من اللحم والجسد،
45
ويربطني بكائن ما.
46
ولكن إذا كان هذا الحب يربطني بكائن ما، فإنه لا يجعلني وإياه شيئا واحدا؛ ومن ثم كان هم إنسان المحال أن يعدد ما لا يستطيع أن يوحده.
47
إن دون جوان يعلم أن العناق زائل، وأن متعة الحب عقيمة لا جدوى منها، وهو لذلك يستطيع أن يهب نفسه بكليته للحظة الممتلئة الخصيبة. إنه ملك على مملكة فانية، والزوال (هذه الصيرورة الدائمة التي لا ينقطع تيارها المتدفق) عرشه وسلطانه. إن فارس الحب الذي لا يهدأ لا يفتش عن الوحدة ولا يسعى وراء الأمل. إنه يحيا على أرض الممكن، متحررا من كل قلق أو خوف.
تحدثنا حتى الآن عن الحب على المستوى الفردي. فهل يكون الحب في ظل التواصل والتضامن مع الآخرين هو نفس الحب، وهل يكون تصوره هو نفس التصور؟ ذلك ما سيجيبنا عليه الفصل الرابع. أما الآن فإننا نريد أن نشغل أنفسنا قليلا بسيزيف، سيد أبطال المحال ورمز الحياة التي يحيونها. «إن علينا أن نتصور سيزيف إنسانا سعيدا.» هذه هي العبارة الغريبة التي تواجهنا في نهاية الفصل الأخير من أسطورة سيزيف، فهل سيزيف إنسان سعيد حقا؟ وهل يمكننا أن نتصور أن وراء الملامح العابسة، والجبهة الجامدة، والعرق المتصبب، والجهد العقيم الذي لا ينقطع ولا يعرف له أولا من آخر، قلبا يستطيع أن يعرف السعادة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه. وإن تكن الإجابة على مثل هذا السؤال لا تشفي ولا تقنع، بل لعلها قد تثير أسئلة أخرى أشد حيرة وعناء. (د) هل سيزيف سعيد؟
في اللحظة التي يحمل فيها الإنسان المحال على كتفيه، ويثبت عينيه في عينيه، ويأخذ على نفسه أن يضمن له الحياة، بلا أمل يتعزى به (وانعدام الأمل لا يدل على اليأس)، وبلا رجاء في الأبدية أو في المتعالي (الترانسندس) من أي نوع كان ، في هذه اللحظة يصبح من المحالية
48
بغير شك ألا يتطلع الإنسان إلى السعادة
49 «إن السعادة والمحال أبناء أرض واحدة.»
50
وعندما يحيل الموت حياتنا إلى صخرة سيزيف، يدفع بها مرة بعد مرة إلى قمة الجبل، لتعود فتنحدر إلى أسفل الوادي، ويعود بدوره فيدفعها من جديد إلى قمة الجبل، فليس لهذا أن يمنعنا أو يمنع سيزيف من أن نكون سعداء: «إن علينا أن نتصور سيزيف إنسانا سعيدا.»
51
ومع ذلك فهذه العبارة الأخيرة تفاجئنا بغرابتها ومرارتها. هل يملك سيزيف حقا أن يكون سعيدا، وهو الذي يتحدى قدره الظالم وجها لوجه؟ لو أنه كان يجهل هذا القدر - مثل أوديب - لكان في جهله به، وإحساسه بأنه مظلوم ما يحمل إلى نفسه بعض العزاء، ولكنه «يعرف» قدره منذ البداية، كما «يعرف» ألا أمل له في الخلاص. إن سيزيف، عنوان الكبرياء الصامتة التي تنفذ عقاب الآلهة وتحتقرها في الوقت نفسه - لا يمكن أن يبحث عن السعادة «فالإنسان الذي يقف أمام نفسه وجها لوجه، أراهن على أنه لا يستطيع أن يكون سعيدا ...»
52
ومع ذلك فإن كامي يقول لنا إن علينا أن نتصور سيزيف إنسانا سعيدا، لسبب واحد لا سبب سواه، وهو أنه يعلم و«يعي». إن كامي يقول بنفسه في كتابه الأول «لست أريد الآن أن أكون سعيدا. إن كل ما أريده هو أن أكون واعيا.»
53
فهل يمكن للوعي بالشقاء أن تتولد عنه السعادة؟ وهل يسعد الإنسان أن يعرف أنه شقي؟ لا يستطيع أحد من وجهة نظر نفسية تجريبية أن ينكر أن سيزيف على درجة معينة من التعاسة والشقاء. إن الناس يختلفون باختلاف مفهومهم عن السعادة. ولو أمكننا أن نتفق على أن السعادة تتضمن في مفهومها العام نوعا من الراحة، فلا بد من القول بأن سيزيف هو أشد المتعبين على وجه الإطلاق. إنه لا يعرف الراحة ولا الاطمئنان. وحتى فكرة التمرد على الآلهة الذين حكموا عليه بعذاب لا ينتهي لا تخطر على باله لحظة واحدة. وإذا سلمنا بأنه يتمتع بنصيب من السعادة، فلا بد لنا من أن نسلم على سبيل المفارقة بأن استمرار اليأس والعذاب يمكن أن يتولد عنه نوع من السعادة، وأن هذه السعادة يمكن أن تنبع من انقطاع الأمل.
54
ولا بد لنا أيضا أن نسلم بأن الفن، وهو الذي يكفل استمرار اليأس والعذاب عن طريق التمرد، هو نبع السعادة الحي: «هنالك عالمان فحسب يمكن أن يقوم لهما وجود؛ عالم القديس وعالم التمرد.»
55
ولكن سيزيف ليس قديسا، ومن المؤكد أنه ليس متمردا. إنه يتلفت حوله فلا يجد غير «مكان بغير سماء»،
56
كما يجد أن كل شيء حسن.
57
ولما كان المتمرد يجد في تمرده بعض السعادة، مهما تكن النتيجة التي ينتهي إليها هذا التمرد، فإن سيزيف أبعد ما يكون عن نبع السعادة. «هناك أيضا عزة ميتافيزيقية، تكمن في احتمال محالية العالم.»
58
ومقياس هذه العزة أو هذا الشرف الميتافيزيقي هو الإبقاء على المحال أو الحرص على أن يظل حيا، على حد تعبير كامي.
59
وسيزيف هو الرمز الحي على هذا العزة أو هذا الشرف الميتافيزيقي. إنه، وهو الذي يهبط في كل مرة من الجبل إلى الوادي ليقبض على الصخرة ويدفعها من جديد إلى قمته، نموذج أصيل للمحال، لعود على بدء لا نهاية له ولا جدوى من ورائه، لجهد دائم عقيم، وتكرار مجدب رتيب. إنه في اللحظة التي ينحدر فيها من على الجبل ليدفع الصخرة بصدره وذراعيه يظل على وعي بضرورة اللحظة التي تليها، أعني بالتكرار المتصل العقيم، في هذا الوعي تكمن قوته (فسيزيف أقوى من قدره)، كما تكمن أمانته. وإذا كان لنا أن نتحدث عن سعادته، فهي في هذا الوعي العطوف على شقائه.
60
وليس سيزيف وحده في هذا الوعي؛ فنحن نستطيع أن نضع الطبيب ريو، بطل رواية الوباء التي سنتحدث عنها فيما بعد، إلى جانبه، إنه بطل المحال المنهزم دائما، الذي يحارب عدوا لا ينهزم أبدأ، حربا يعلم أنه لن ينتصر فيها، كما يعلم أن الأمانة تقتضي منه ألا ينفض يديه منها . إنه الإنسان الذي «يعي». هو مجرد من الأمل، ومجرد كذلك من اليأس والقنوط.
إن في استطاعتنا أن نتصور سيزيف إنسانا أمينا وشريفا.
ولكننا لا نستطيع أن نتصوره إنسانا سعيدا. (2) أسباب الخروج من المحال (أ)
الانتحار بالجسد. (ب)
الانتحار الفلسفي. (ج)
الحرية. (أ) الانتحار بالجسد
لا تكاد تبدأ السطور الأولى من كتاب «أسطورة سيزيف» حتى يوجه كامي نقده العنيف إلى الفلسفة، وذلك باسم الوجود نفسه. إنه يبدأ بسؤال أولي كثيرا ما نوجهه إلى أنفسنا في لحظات نادرة من حياتنا: هل تستحق الحياة أن نحياها؟ إن كامي لا يهمه أن يسأل كما سأل الفلاسفة منذ القدم ما نحن ولا من أين جئنا، ولا تعنيه مشكلة الماهية ولا مشكلة المصير، بل مشكلة الوجود والمعنى «يسأل الإنسان نفسه في الحقيقة لم يعيش»؛ أي لماذا لا ينتزع حياته بيديه «إن هناك مشكلة جدية وحيدة هي مشكلة الانتحار.»
61
ونسأل أنفسنا: لماذا كانت هذه المشكلة هي أخطر المشكلات جميعا وأكثرها جدية؟ ويجيبنا كامي: لخطورة الأفعال التي تلزم الإنسان بها، والسلوك الذي يترتب عليها. إن كل ما عداها من مشكلات، مثل البحث عن صواب الدليل الأنطولوجي على وجود الله أو خطئه، والسؤال عما إذا كانت الأرض تدور حول الشمس أو الشمس حول الأرض، وعما إذا كان عدد المقولات خمسة أو ستة، كل هذه مشكلات باطلة لا تستحق السؤال عنها، ولا تعنينا الإجابة عليها في قليل ولا كثير: «لست أعرف أحدا مات في سبيل الدليل الأنطولوجي.»
62
إنها جميعا لا تتصل بالسؤال الرئيسي: هل تستحق الحياة أو لا تستحق أن نحياها؟
إن كامي يرفض أن يضع أسئلة ميتافيزيقية خالصة؛ فهي في رأيه أسئلة لا حل لها ولا سبيل للإجابة عليها، كما أنها لا تتعدى اللعب بالألفاظ، على الأقل من حيث إنها لا تهدد وجود سائلها؛ ومن ثم كان احتقاره لجماعة من الفلاسفة والشعراء الذين يمتدحون الانتحار أو يمجدون القتل، ولكنهم أجبن أو أرفع من أن يحولوا أفكارهم إلى أفعال.
السؤال عن معنى الحياة سؤال مأساوي وجاد في الوقت نفسه. ولو أننا وقفنا عند جانب المأساة فيه، لكنا في ذلك مثل شوبنهور الذي كان يمتدح الانتحار وهو يجلس إلى مائدته الحافلة بأشهى ألوان الطعام والشراب، ولو اقتصرنا على جانب الحد منه لكنا في ذلك مثل كيركجارد وشيستوف وكافكا ممن يشغلون أنفسهم بالأمل، والأمل قد حرمه على نفسه إنسان المحال. إذن فلا بد لنا من أن نحتفظ بالجانبين معا، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ (ب) الانتحار الفلسفي
في استطاعتنا أن نحتفظ بهما معا، بغير أن نتخلى عن الأمل في حقيقة متعالية أو كائن أخير، وهذا في رأي كامي هو موقف الفلاسفة الوجوديين، ولكن هذا معناه الإقدام على الانتحار
63 (وإن كان الانتحار في هذه المرة انتحارا فلسفيا)، فإذا سأله سائل عن السبب أجاب بأن هؤلاء الفلاسفة يقفزون «القفزة» التي تنفي الفكر نفسه. حقا إن تفكيرهم تفكير محالي، لكن الأمل الذي يبحثون فيه عن ملجئهم الأخير يلغي هذه المحالية أو يرفعها كما يقول المناطقة.
الحق أن كامي لا يتعرض لهؤلاء الفلاسفة والكتاب إلا لأنهم يهاجمون العقل، ولا يوافق على أفكارهم إلا بقدر ما تفتحه من آفاق الفكر المحال وما تعالجه من قضاياه المعذبة؛ فهذه العقول كلها، من ياسبرز إلى هيدجر، ومن كيركجارد الي شيستوف، ومن فلاسفة الظاهرية وفي مقدمتهم هسرل إلى ماكس شيلر وتلاميذهما يؤلف بينها شوق مشترك، على الرغم من أنها تناقض بعضها البعض في المناهج والأهداف. إنها جميعا تسعى بكل جهدها لسد «الطريق الملوكي» للعقل، والعثور من جديد على الدرب الأصيل الذي يمكن أن يؤدي إلى الحقيقة. وكيركجارد في مقدمة فلاسفة الوجود الذين يخصهم كامي بالحب والتقدير. إنه في رأيه أشدهم إثارة وعمقا؛ فهو لم يكتف باكتشاف المحال بل عاشه وعاناه، ولم يرد أن يلطف من طعنته الدامية في وجوده، بل إنه على حد قوله يوقظ المحال من سباته ويتلذذ به قطعة فقطعة تلذذ من يصلب نفسه باختياره. كان كيركجارد أول من أحس بالفزع أمام محالية الوجود وأول من عاشها وعبر عنها. إنه يقول في مذكراته اليومية لعام 1839م: إن الوجود كله يفزعني بالقلق، ويملؤني، من أضأل ذبابة إلى أسرار التجسد. ولكنه يستخدم كلمة المحال بمعنى ديني يختلف كل الاختلاف عن معناها عند كامي، وإن اشترك معه فيما ينطوي عليه من قلق وارتعاش، ويأس وسخط، ورهبة وعذاب؛ فالمحال عند كيركجارد يدل على تلك العلاقة العجيبة التي تربط بين الأبدي وبين التاريخي، بين الإلهي والزماني: «ما من معرفة يمكنها أن تتخذ من هذا المحال موضوعا لها، هذا المحال، الذي يقول (في قصة يسوع المسيح): إن الأبدي هو في الوقت نفسه التاريخي.»
64
فالمحال عند كيركجارد هو في أن الحقيقة الأبدية الخالدة قد نشأت في الزمان، أن الله قد ولد وشب ونشأ تماما كما ينشأ الواحد من بني الإنسان، وأنه لا يمكن التفرقة بينه وبين واحد من البشر.
65
والمحال عند كيركجارد مرتبط أوثق ارتباط بالمفارقة
(أو ما وراء الظن وكما يدل معنى الكلمة اليونانية)، التي تعلو عنده على كل مذهب، كما يقول في مذكراته عن عام 1839م، ولكن إذا كانت المفارقة تجعل كامي يصطدم دائما بالمحال لدى كل محاولة يبذلها لفهم العالم وتفسيره، ويحكم بالفشل على كل مذهب فلسفي أو ديني يزعم أنه توصل إلى الحقيقة البينة الواضحة، فالمفارقة (وهي دائما وجود الأبدي فيما هو زماني) عند كيركجارد هي الجسر الذي يعبر عليه الفكر الإنساني ليصل إلى الله. إن أعظم مفارقة يقع فيها الفكر هي أنه يريد أن يكتشف شيئا لا يستطيع هو نفسه أن يفكر فيه.
66
ويظل العقل يبحث عن هذا المجهول، ويظل يسعى للوصول إليه، تدفعه عاطفة ملتهبة تتسم بالمفارقة والتناقض، ولكن المجهول لا يكشف عن وجهه، والعقل لا يكف عن سعيه. وهكذا يصبح المحال أو تصبح المفارقة دافعا له على القلق والرعشة اللذين تبثهما فيه المفارقة المطلقة أو المحال المطلق، وهو الله. ويصبح المحال تعبيرا عن اللقاء بين الإلهي والزمني، بين الأبدي والتاريخي، في حياة المخلص يسوع المسيح: «ألم يكن شيئا مفزعا أن يكون هذا الإنسان، الذي سار بين غيره من الناس، هو الله؟ ألم يكن شيئا مفزعا أن يجلسوا معه على مائدة واحدة؟»
67
إن المحال أو المفارقة هي العاطفة الملتهبة التي تغذي الفكر. والفكر دائم السعي إلى التفوق على نفسه، إلى الوصول إلى حدود المجهول. وهذا المجهول لا يمكن بحسب تسميته أن يكون هو الإنسان ولا أن يكون شيئا باطنا فيه أو في العالم المحيط به. إنه لا يمكن إلا أن يكون هو الله، ولكن من المستحيل البرهنة على وجود الله؛ فإن كان الله غير موجود فمن المستحيل إثبات ذلك. أما إن كان موجودا، فمن الحمق محاولة إثباته،
68
لا سبيل إذن إلى البرهنة على الوجود، ولكنني حين أسقط البرهان، أجد الوجود أمامي؛ فالفكر إذن يصطدم على الدوام بحدود هذا المجهول، دون أن يصل إليه أو يكف عن محاولة الوصول إليه. هذا الفشل وهذا السقوط الذي يتردى فيه العقل هو نفسه ما تريده المفارقة، وهذا الفهم العاطفي ل «العالي» هو العقيدة والإيمان.
ومع أن كامي يعلن إعجابه باكتشاف كيركجارد للمحال، إلا أنه يرفض النتيجة التي يرتبها هو وشيستوف على هذا الاكتشاف، ونعني بها القفزة التي يقوم بها إلى المسيحية، ويأخذ عليه أنه جعل المحال معبرا للعالم الآخر، وقدم العقل قربانا على مذبح الدين، وانتزع الأمل من بين مخالب الموت. هذه القفزة التي يقفزها كيركجارد من المحال إلى «المرحلة» الدينية هي التي يسميها كامي بالانتحار الفلسفي؛ لأنها تريد أن تعلو على المحال الذي يريد هو أن يصمد فيه، وتنكر العقل الذي يظل هو وفيا له.
وهذا هو نفس الموقف الذي يأخذه كامي على كافكا في مقاله الذي يختتم به أسطورة سيزيف؛ ذلك لأن الطريق الذي يقطعه البطل عند كافكا هو الطريق الذي يسير من الحب الواثق إلى تأليه المحال. وفي ذلك يقتفي كافكا أثر كيركجارد، ولا يستطيع مثله أن يحيا بغير أمل.
أما الفيلسوف المتصوف الروسي الوجودي ليون شيستوف - وقد أثر بكتابه الهام كيركجارد والفلسفة الوجودية
69
على تفكير كامي - فهو أيضا يجعل المحال معبرا إلى الله. وإذا كان الله عند شيستوف يحف به التناقض ويبعد به الغموض، فذلك هو الدليل على أنه يتجاوز كل المقاييس العقلية المحدودة. وموقف التسليم بالمحال من جانب شيستوف وكيركجارد يحمل البرهان على التنكر لحقيقة المحال؛ إذ يجعلان منه نقطة يقفزان منها إلى الأبدية، وجسرا يعبران عليه إلى العقيدة، والأمل، والعلو (ترانسندنس).
ويستطرد كامي بعد مناقشته لهذين المفكرين الدينيين فيشتد في هجومه على فيلسوفي الوجود الحقيقيين، ونعني بهما ياسبرز وهيدجر؛ فتأثره بهما ضئيل، وموقفه منهما هو موقف النقد والرفض؛ فهو يحتد في هجومه على ياسبرز، ولا يختص هيدجر إلا بنظرة جانبية عابرة؛ فهو عنده «أستاذ الفلسفة» الذي «مذهب» الوجود وبناه على مقولات محددة كالقلق والهم والوجود للموت، والوجود في العالم ... إلخ، في لغة شاقة معقدة باردة. ومع ذلك فقد وجد الشعور بالمحال في أستاذ الفلسفة هذا من يعبر عنه لأول مرة تعبيرا محددا في بناء تصوري شامخ. والواضح من حديث كامي أنه توقف عند هيدجر في مرحلته الأولى (التي يمثلها على الأخص كتاباه، الوجود والزمان، وكانت ومشكلة الميتافيزيقا) ولم يجد عنده الصبر الكافي لتتبعه في مرحلته الأخيرة (التي تمثلها تحليلاته لأشعار من هولدرلين وتفسيره لفلسفة نيتشه واشتغاله بفلسفة اللغة)، التي اقترب فيها من الشاعر والفنان، وراح يدخل شيئا فشيئا في عالم صوفي متدثر بالضباب، ويسير على طريقته في الدرب الموصل إلى المتعالي أو الوجود
Das Sein
كما يحب أن يسميه. إن الوجود عند هيدجر هو العلو. والإنسان كما تقول عبارته المشهورة، هو راعي الوجود الذي يتخفى حينا ويتكشف حينا آخر. وكل محاولات هيدجر ل «تحطيم» تاريخ الميتافيزيقا الغربية التي أرادت على اختلاف مراحلها أن تفسر العالم والإنسان عن طريق ماهية أو مبدأ ثابت (قد يكون هو الواحد أو المتعدد، وقد يكون هو المثال أو الطاقة، وربما كان هو الأنا المطلقة أو الروح المطلق أو إرادة القوة ... إلخ). نقول إن محاولات هيدجر هذه تنتهي بقفزة إلى ما يسميه بالوجود.
هناك الليل الكوني الذي ينتظر فيه الإنسان أن يتفتح الوجود ويتجلى له من جديد؛ أي ينتظر من العالي أن يكشف عن وجهه ويمزق أستار الظلام.
والحقيقة أن فلسفة ياسبرز التي تضرب بجذورها في فلسفة نيتشه وكيركجارد، وتقوم على أساس من نظرية المعرفة عند كانت لا بد أن تثير الحيرة في نفس كاتب فنان مثل كامي.
والمحال يقابلنا في مواضع كثيرة من كتابات ياسبرز. إنه يحدد موقفه اللاعقلي حين يقول مثلا إن الوجود هو ما يوجد في علاقة مع نفسه وعن طريق ذلك مع العلو أو المتعالي. وليس في استطاعة الإنسان أن يتحدث عن الوجود في عبارات موضوعية محددة، بل أقصى ما يستطيعه هو التعبير عنه بإشارات ذات دلالات متعددة، لا نتبين حقيقتها إلا في التحقق الوجودي المعين. ووجودنا يتميز بالموقف الحدي أو النهائي
Grenzsituation
الذي يسميه بالفشل، والذي يجرب الإنسان فيه عجزه الوجودي، ويفصح فيه المطلق عن نفسه في رموز أو شفرات، ويتجلى في صور من «الشامل» تصعد على سلم السمو شيئا فشيئا، والشامل
Das Umgreifende ، مثله في ذلك مثل المحال، حاضر في الذات والموضوع على السواء، والموجود
Dasein
ينطوي على الرغبة الدائمة في تجاوز ذاته والعلو عليها.
70
والإنسان وحده هو الذي يحيا تجربة الموت ويحس بقصور كل ما هو موجود، عن طريق إحساسه بتناهيه أو محدوديته الناقصة التي تتبدل عليها السعادة والشقاء. وحيثما بقيت هذه التجربة مفتقرة إلى التوضيح الفلسفي وظلت الصور الأخرى من «الشامل» محتجبة عن الإنسان، بقي وجوده «مجرد وجود» لا أصلا ومنبعا، فإذا سألنا عن المنبع أو الأصل الذي ينبثق منه الوجدان، لجأ ياسبرز إلى القفزة لتوضيح مراده: «إنه قفزة؛ لأن أصلا آخر غير الوجود هو الذي يبدأ في الظهور.»
71
ويجد ياسبرز في فلسفة كانت الترنسندنتالية
72
تأكيدا لفكرته عن الوجدان على وجه الإطلاق؛ فقد وجد أن الإنسان يستطيع ما بقي في ظل «الشامل» أن يكون سبيلا إلى الحقيقة، ولكنه يرتد إلى العكس من ذلك تماما بمجرد أن ينزلق إلى الطموح المطلق. وليس الوجدان ساكنا في ذاته ولا مغلقا على نفسه، ولكنه يتجاوز نفسه ويعلو عليها باستمرار.
ولعل هذا العلو
Transzendenz
الذي تدور حوله فلسفة ياسبرز هو ما أثار نقد كامي؛ فياسبرز عنده مثل على الفلسفة العاجزة المهزومة التي لا تستطيع أن تحقق العلو في مجال التجربة، ولا تستطيع أن تواجه النتيجة المحتومة لهزيمتها، بل تلتمس مبدأ تبحث فيه عن الخلاص. إنه في رأيه يتطلب فلسفة «مائعة» لا تملك تحديد نفسها، لا من الناحية الموضوعية ولا من الناحية الذاتية، ومع ذلك يروح يؤكد أن «الفشل» يكشف ورواء كل تفسير أو شرح ممكن عن وجود العلو لا عن العدم. غير أن هذ الوجود العالي الذي يفسر كل شيء عند ياسبرز لا يصل إليه إلا عن طريق فعل من الثقة العمياء التي تجمع بين العام والخاص في وحدة غير مفهومة. ووجود العالي هو الأصل الحقيقي لكل ما هو شامل. إنه يعلن عن نفسه في خلال التراث التاريخي باسم الوجود أو الواقع أو الله، ولا يتعدى أن يكون رمزا أو استعارة في كل الأحوال. الأشياء كلها يمكن أن تكون شفرات ل «العالي» ومرايا تشف عن وجوده، ولا بد للعالي أن يسير في هذا الطريق إذا أراد أن يدخل إلى العالم، ولكنه لن يكون حاضرا فيه حضورا كليا، ولن يتيسر للإنسان إدراكه موضوعيا. حتى إذا تم الشعور به، أمكنه أن يصبح ذلك الذي أستمد منه حياتي وأنتهي إليه بموتي؛
73
أي إن العالي الذي ينبثق في وجود الفرد الواحد يصبح هو الله الواحد الشخصاني.
وهكذا يصبح المحال، في رأي كامي، هو الله (بالمعنى الواسع لهذه الكلمة) كما يصبح العجز عن الفهم هو الوجود الذي يجلو بنوره كل شيء. وإذا كان ياسبرز في كتابه «العقيدة الفلسفية» يطالب العقل بأن يحتفظ باستقلاله وحريته أمام العقيدة المنزلة، فهو يتجاوز الموقف الحدي الذي يقف العقل عاجزا عنده كما يخرج بفكرته عن العالي (الترانسندنت) على حدود هذا العقل نفسه: «في هذا العالم الخرب، الذي تبينت فيه استحالة كل معرفة، والذي يبدو أن العدم قد أصبح هو الحقيقة الوحيدة فيه، وأن اليأس قد صار هو الموقف الوحيد الممكن، نجده (أي ياسبرز) يحاول أن يعثر على خيط أريادنه، الذي يوصل إلى الأسرار الإلهية.»
74
ولكن ما من شيء يجعل هذا الموقف منطقيا عند كامي، فلا عجب إذن أن يصفه بأنه قفزة، شأنها في ذلك شأن القفزات الأخرى التي تحاول أن تفلت من المحال بدلا من أن تواجهه وتتحداه .
أما هسرل فيتناوله كامي بالنقد في شيء من التفصيل، لا لأثره البالغ على هيدجر وماكس شيلر وتلامذتهما وعلى الوجودية الفرنسية على وجه الإجمال فحسب، بل لأن كامي نفسه قد تأثر به تأثرا شديدا، لا يقلل منه أنه وقف موقف الرفض من فلسفته الظاهرية. والواقع أن فلسفة هسرل على خلاف الفلسفات الأخرى جميعا كان ينتظر منها أن تصبح فلسفة في ظاهرية (فينومينولوجية) المحال، ولعل هذا هو سر وقوف كامي عندها؛ فهو يصف منهج هسرل في تحليل الظاهرات الخالصة بأنه «عملية محالة.» وربما لفت انتباهه بوجه خاص أن هسرل قد تغلب على مشكلة الذات والموضوع، التي ظلت الفلسفة إلى عهده تحملها على كتفيها كما يحمل المذنب صليبه؛ ولذلك فقد أيد كامي - كما أيد الفلاسفة الفرنسيون من سارتر إلى مرلوبونتي، متأثرين في ذلك بالتراث الديكارتي الذي لا يستطيع أن يخرج عنه متفلسف فرنسي - استبعاد هسرل للانشقاق الأبدي بين الذات والموضوع، كما اعترف بالبداية التي بدأ منها هسرل؛ حيث يقول إنه ليست هناك حقيقة واحدة، بل جملة حقائق، وإن لكل شيء حقيقته التي يتجه إليها الوعي كما لو كان جهاز إسقاط ضوئي، وكل الأشياء تتساوي في اتجاه الوعي إليها اتجاهه القصدي إلى الموضوعات. وهذه «العملية المحالة» كما يسميها كامي ذات جانبين منهجيين؛ أحدهما سيكولوجي والآخر ميتافيزيقي، ولو أن فكرة القصد
75 (وهي من الأفكار الرئيسية في فلسفة هسرل، من حيث إنها تجعل من طبيعة الوعي أن يقصد إلى موضوع، بحيث يكون الوعي على الدوام وعيا بموضوع) احتفظت بجانبها السيكلوجي وحده، لاحتفظت فلسفة هسرل بطابع فلسفة المحال، ولاكتفت بوصف عالم من الموضوعات المفردة المفككة التي لا تجمعها رابطة، ولخلت من المبدأ الواحد الذي تحتاج إليه غيرها من الفلسفات لتفسير العالم. غير أن هسرل لا يقف عند الرد
76
الأول للظواهر حين يضع الوجود الفردي للمظاهر موضوع التأمل بكل ما فيها من تجارب وأحكام وقيم علمية أو غير علمية بين أقواس، بل يخطو إلى أبعد من ذلك حين يضع عالم الواقع نفسه بين الأقواس ويصعد على سلم التأمل المثالي إلى الماهيات الثابتة للأشياء. إنه بمحاولته الكشف عن ماهية خارجة عن الزمان لكل شيء على حدة، يقترب من المثل الأفلاطونية أو من الكليات المعروفة في فلسفة العصور الوسطى. وبدلا من أن يكشف عن الموجود الواحد الثابت كما عند بارمنيدز أو عن الإله الواحد كما عند كيركجارد، نجده يضع للأشياء المتعددة ماهيات متعددة تقابلها، حتى تصورات المخيلة من هلوسات وأوهام أصبح لها ما يقابلها من ماهيات ميتافيزيقية ومثل أبدية. حقا إنه قد استبعد الحقيقة العالية (الترانسندنس) في بداية الأمر، ولكنه عاد فأدخل ما لا حصر له من الحقائق العالية لما لا حصر له من مضمونات الوعي. وهكذا يصبح التسليم بوجود ماهيات أو مثل ميتافيزيقية قفزة جديدة إلى عالم آخر غير هذا العالم، ويترك الفكر طريق الوضوح ليلقي بنفسه في أحضان عزاء علوي ميتافيزيقي. لم يتغير إذن مع هسرل إلا التسلسل في ترتيب المجرد والواقعي. أصبح العالم الواقعي مجرد انعكاس لأشكال سماوية على صور أرضية. ضاع الإحساس بالموقف الإنساني، وحلت محله نزعة عقلية متأثرة بديكارت تعمم الواقع المعين، وتجعل منه ماهية مجردة. ولكن هسرل قد انتهى على الرغم من نزعته العقلية إلى اللامعقولية. وفلسفته تقوم على نفس القلق الذي تقوم عليه فلسفة مفكر ديني مثل كيركجارد «إن الشوق هنا أقوى من المعرفة.» وينتهي كامي في مناقشته لفلسفة الظاهرات إلى نفس النتيجة التي ينتهي إليها بالنسبة للفلسفة الوجودية: «من الأمور ذات الدلالة أن الفكر في عصرنا - ويندر أن يكون ذلك قد حدث لفكر آخر - يسوده الاعتقاد في لامعقولية العالم اعتقادا تدعمه الفلسفة، كما أن النتائج التي ينتهي إليها يغلب عليها التمزق الشديد.» وهكذا يعذب الإنسان من عهد أفلوطين إلى اليوم شوقه إلى «الواحد» الأبدي، ويفقد العقل وجهه الإنساني بحنينه الدائم إلى العالي أو المتعالي (الترانسندنس). ويرجع كامي من بحثه القصير اللاهث الأنفاس لفلسفة هسرل كما رجع من مناقشته المتعجلة للفلسفات الوجودية بخيبة أمل مريرة. إنها جميعا تتجاوز حدود العقل المحدود بطبعه، وتسبح به في آفاق ميتافيزيقية غامضة، وتشترك في ارتكاب الانتحار الفلسفي حين تحاول أن تقهر خوفها وقلقها بالقفزة المميتة في بحر اللامعقول، تريد أن تغرق فيه ما تعاني من صراع وما يمزقها من تناقض.
من الضروري إذن، لنظل أوفياء للمحال حريصين في نفس الوقت على إنكاره، أن نبقى داخل جدران المحال؛ فالخروج منها معناه أننا نقفز «القفزة المميتة»، وأننا نقدم بذلك على الانتحار الفلسفي.
ولكن لنعد إلى سؤالنا الأول والأخير: هل تستحق الحياة أن نحياها؟ يجيب كامي في أول الأمر إجابة غير مباشرة. إن الإنسان يدخل تاريخه الحقيقي عندما يسأل عن معنى الحياة وهل تستحق أن يحياها أو لا تستحق، أعني حين يواجه مشكلة الانتحار. وهذا هو السبب الذي من أجله كان المحال وعيا بالموت ورفضا له في الوقت نفسه.
77
ورفض الموت معناه إنكار كل ماهية وجوهر متعال، للمحافظة على المحال والبقاء بين أسواره مع الإصرار على رفضه والتمرد عليه.
لا بد إذن من رفض الانتحار؛ لأن الإقدام عليه معناه الرضا بالمحال والاعتراف به؛ فالحياة، كما قلنا، معناها أن نترك المحال يحيا. وحياة المحال تكون بمقدار رفضنا له وتمردنا عليه: «إن المحال يكون له معنى، بقدر ما يعلن الإنسان عدم موافقته عليه.»
78
فالاعتراف بالمحال معناه إذن الإقدام على القفزة الوجودية التي قلنا من قبل إن إنسان المحال يرفض الإقدام عليها. وبهذا المعنى أيضا يكون الحكم بالموت هو الضد المقابل للانتحار.
79
فالمحكوم عليه بالموت أبعد ما يكون عن الموافقة على المحال أو الاعتراف به، وأبعد ما يكون كذلك عن الثورة أو التمرد عليه بالمعنى الذي سنوضحه فيما بعد لكلمة التمرد. (1)
الانتحار إذن، سواء أكان جسديا أم فلسفيا، مخرج فاسد من أزمة المحال؛ لأنه باستثناء أحوال نادرة لا يصدر عن رفض أو تمرد؛ فالأغلب الأعم أن المنتحر يترك هذا العالم معزيا نفسه بأنه سيعثر وراءه على قيمة أو معنى لم يجدهما فيه. ومعنى هذا، إن جاز لنا في هذا المقام أن نستخدم تصورا من تصورات علم النفس، أن المنتحر يقدم على الانتحار مدفوعا بخيبة الأمل، ولكن إنسان المحال إنسان لا يخيب أمله أبدا ؛ لأنه لا يعرف الأمل أصلا. وإذا كان علينا أن نبحث عن حافز يدفعه على سلوكه هذا، فهو لا شك التحدي والعناد
défi . في هذا الانتحار إذن نفي للمحال، وفي الخروج عن العالم نفي لهذا العالم الذي لا نملك سواه. وقد تعلمنا أن وفاء الإنسان لقدره،
80
بل عزته وشرفه الميتافيزيقي
81
يحتمان عليه أن يؤكد ذاته في مواجهة المحال، ويجعلان واجبه في احتمال محالية العالم والإصرار على رفضها في آن واحد. (2)
الانتحار بطبيعته عجز عن الاحتمال، وتخلص من الموقف، وهروب من جدية السؤال الفلسفي الوحيد الذي بقي للفلسفة أن تسأله
82 (هل تستحق الحياة أن نحياها؟) أعني من فعل التفلسف نفسه. ورفض الانتحار معناه أن يصر الإنسان على ضرورة السؤال، وأن يعيش في إشكال وتساؤل دائمين هما لب الفلسفة نفسها، وقوام الحرية. (3)
لا الانتحار الفلسفي إذن (وهو تسمية أخرى للأمل) ولا الانتحار الجسدي هما الحل الصحيح الذي يراعي معطيات تجربة المحال؛ فمع الانتحار الفلسفي يختفي موضوع هذه التجربة الرئيسي، وهو المحال، ومع الانتحار بالجسد يختفي الوعي الذي لا تكون تجربة بدونه، باختفاء الوجود نفسه. في الانتحار الفلسفي يبقى الوعي موجودا، لكن الأمل يسقط فجأة على الأسوار التي اصطدم بها الوعي فتبدو شفافة (وكأنه يهون من عذاب السجن المعتم الذي آثرنا بمشيئتنا أن نعيش بين جدرانه). هنالك يصبح اللامعقول شيئا يمكن تمثله أو التجاوز عنه، وبذلك يختفي اللامعقول نفسه، فإذا سلب الوعي موضوعه تفكك وذاب، وارتد إلى الحالة اللاواعية التي تسود حياة كل يوم، أو التمس الراحة في المتعالي (الترانسندنس) أيا كان شكله وطبيعته. وفي كلا الحالين يتخلى الإنسان عن الحقيقة الوحيدة الواضحة البينة التي يملكها
83
ويخون أشد العذابات تمزيقا للقلب،
84
ونعني به المحال. إن الانتحار الفلسفي يسوقنا إلى الليل الذي يسوقنا إليه الانتحار الجسدي.
85 (4)
رأينا في الصفحات السابقة كيف أن كامي لا يكاد يعتقد في شيء اعتقاده في حقيقة التجربة الحية المعاشة: «الخطوط الناعمة على هذه التلال، ويد المساء على قلبي المهتاج تعلمني أكثر بكثير.»
هذه الأخلاق التي تفرض على الإنسان أن يحيا فيستنفد الحياة، أخلاق الكم التي تعنى بالامتلاء والتحقق والوجود الجسدي والتي تعبر عنها «نماذج المحال» خير تعبير هي الآن النتيجة الضرورية المترتبة على الاختيار الذي وقع عليه الإنسان في إجابته على السؤال الأساسي: هل تستحق الحياة أن نحياها أو لا تستحق؟ هذه النتيجة تعبر عنها هذه الكلمات: تعاش الحياة خير ما تعاش بمقدار ما تخلو من المعنى.
86
هذه «الميتافيزيقا» (إن جاز لنا أن نستخدم هذه الكلمة، معتمدين على أن إلغاء الميتافيزيقا هو في حد ذاته موقف ميتافيزيقي) التي تؤمن بالحاضر المباشر قد قضت على منطق الانتحار القضاء الأخير. (5)
ما هو إذن المخرج الصحيح من أزمة المحال؟
في العبارة الأخيرة الجواب عن هذا السؤال. إننا نستطيع الآن أن نعبر عنه على سبيل المفارقة فنقول: المخرج الصحيح من المحال هو في البقاء في المحال. وبذلك يكون هذا الحال الصحيح هو الذي يراعي عنصري تجربة المحال ويحافظ على طرفيها؛ الوعي من ناحية والمحال من ناحية أخرى.
87
إن إجابتنا تكون منطقية حقا إذا قلنا فيما يتعلق بالانتحار الجسدي: إذا كانت الحياة مجردة من كل معنى، فإنني أنتزع حياتي بيدي. ولكن هذه الإجابة لا تتفق مع تجربة المحال
88
لأنها تلغي أحد طرفيها ونعني به الوعي. أما فيما يتعلق بالانتحار الفلسفي (أو الأمل) فإن من يقدم عليه يتهرب من المحال أو اللامعقول ويقفز فوق أسوار المحال، وكان من واجبه أن يتشبث بالحياة بينها.
إن المحال، كما قلنا، يدين بنشأته للتمزق والشقاق الديالكتيكي بين الإنسان الذي يسأل والعالم غير المعقول الذي يصمت فلا يجيب،
89
بين الوعي وبين اللامعقول؛ فالمخرج الصحيح من أزمة المحال لا بد له إذن من أن يراعي عنصري هذه العلاقة الديالكتيكية وأن يتمسك بأقصى حد من التوتر، أعني بالمحال نفسه.
90
وإذن فكل مخرج من أزمة المحال، سواء أكان هو الانتحار الفلسفي أم الانتحار الجسدي، أو كان هو العدمية المطلقة (التي سنجدها عند كاليجولا) إنما يلغي المحال نفسه ويحطم كل أساس تقوم عليه الحياة.
فالحياة في المحال معناها الحياة في تمرد متصل، في مواجهة الإنسان المستمرة لظلمته.
91 (ج) الحرية
رأينا كيف أن مشكلة الانتحار تضعنا في موقف الاختيار الحاسم الذي يطالبنا بأن نقرر إن كانت الحياة تستحق أن نحياها أو لا تستحق؛ أي إنها تضعنا أمام مشكلة الحرية وجها لوجه، حين تضعنا أمام إمكانيات مختلفة علينا أن نختار بينها.
من الواجب علينا قبل أن نناقش مشكلة الحرية أن نبادر بالقول بأن إمكانية الاختيار هذه لا تسبق القرار الحاسم الذي قد نتخذه سبقا قبليا، بل الأولى أنها معطاة مع السؤال نفسه عن الحرية؛ إذ إن القرار هنا ليس رأيا نظريا بل موقفا عمليا يقتضي منا أن نحيا أو ننزع عنا رداء الحياة.
لنتذكر مرة أخرى أن كامي لا يريد أن يعرف شيئا عن الأسئلة والمشكلات الميتافيزيقية، بل يذهب مذهبا تجريبيا، ظاهريا خالصا: «ليس لي شأن بمشكلة الحرية الميتافيزيقية ... إنني أستطيع فحسب أن أجرب حريتي. إن مشكلة الحرية في ذاتها مشكلة لا معنى لها.»
92
والحق أن من المستحيل من وجهة نظر كامي أن تؤسس الحرية على المستوى الميتافيزيقي؛ إذ إن ذلك لا بد أن يعود به بالضرورة إلى الله، وهو ما يعد في رأيه نفيا للحرية: «نحن نعرف البديل
Alternative
القديم: إما أننا لسنا أحرارا، والله القدير على كل شيء هو المسئول عن وجود الشر، أو أننا أحرار ومسئولون والله ليس قديرا على كل شيء.»
93
وليس من العسير علينا أن نرى من ذلك كيف أن كامي يجعل من مشكلة الحرية مشكلة أخلاقية، تعنى بالفعل والسلوك أكثر من عنايتها بالماهية والمصير.
يرى كامي أن الحرية مطلقة. إنها تنبثق في نفس اللحظة التي يبدأ الإنسان بها وجوده. لا بل هي وجوده نفسه؛ ذلك أنها تقوم على أساس أنطولوجي ليست لدينا به أية خبرة أو تجربة (لم يكن كامي في هذه المرحلة قد وصل بعد إلى تجربة التضامن التي سنتحدث عنها فيما بعد، والتي سيؤسس فيها وجود «الأنا» على وجود «النحن») كما أنها لا تقوم على أساس من وجود الله والإيمان بهذا الوجود؛ إذ ذلك سيؤدي به إلى المفارقة التي لا سبيل إلى حلها.
إن الإنسان الذي يعيش في المحال يعرف، منذ اللحظة التي يعي فيها وجوده، أنه حتى هذه اللحظة لم يكن حرا
94 (مثل مرسو بطل قصة الغريب التي سيأتي الحديث عنها)، وأن حريته كانت حرية فاسدة (مثل كاليجولا، في المسرحية المعروفة بهذا الاسم). ولما كان كل شيء يبدأ بالوعي وجوده الحق، ويتلقى من الوعي وحده كل ما له من قيمة،
95
فإن الحرية تبدأ كذلك مع صحوة الوعي: «إن العودة إلى الوعي، والخلاص من النعاس اليومي، يمثلان الخطوتين الأوليين على طريق الحرية المحالة.»
96
إن إنسان المحال يعلم الآن أن عليه، لكي ينظم حياته، أن يعطيها معنى. وهو يعلم أنه لن يصل إلى ذلك حتى يضع لها حدودا تقف عندها. لا غنى إذن عن رفض تلك «الحرية في ذاتها»،
97
التي لا تستمد وجودها إلا من حقيقة شاملة تؤسسها، والتي تقوم على الخضوع لقيمة من القيم
98
أي التي لا تعني إلا إلغاء الحرية كما يفهمها كامي إلغاء تاما. الحرية الميتافيزيقية إذن، إلى جانب عدم فعاليتها، حرية غير مفهومة؛ إذ إن الوجود نهب للموت، والموت هو الواقع الذي لا مفر منه ولا حيلة فيه.
99
أضف إلى ذلك أن هذه الحرية حرية لا أخلاقية؛ لأنها حرية العبيد.
100
فالرأي عند كامي أن الإنسان يفقد حريته ومسئوليته الشخصية حين يخضع لمذهب أو يدين بدين أو يتقيد بأيديولوجية معينة. إنه في هذه الحالة لا يملك نفسه، كما كان العبيد في الأزمنة القديمة لا يملكون أنفسهم.
101
وبدلا من أن يحمل مسئوليته على كتفيه، يجد نفسه محمولا من نظام سابق مفروض متواضع عليه.
إذا كان للحرية من وجود على الإطلاق فوجودها في المظهر
Le Paraitre : «إن المظهر يصنع الوجود.»
102
ولما كانت الحقيقة بحسب تعريفه لها عقيمة، فإنها لا تستطيع أن تؤكد حريتي ولا أن تنفيها. وهذا هو السبب الذي يجعل الحرية في نظره نوعا من أنواع التحدي الذي يرى من واجبه أن يقف أمامه وجها لوجه، وأن يثبت ذاته بإنكاره لها. (3) حقائق الجسد (أ)
المعرفة الحسية في «أعراس». (ب)
المعرفة. (ج)
إستطيقا الخلق بلا صباح. (أ) المعرفة الحسية في «أعراس» «بعيدا عن الشمس، والقبلات، والعطور المثيرة يبدو لنا كل شيء بلا معنى.»
103
هذه الشمس التي يمجدها كامي في عمله المبكر الثاني «أعراس»
Noces
هي بريق وعدم (لنذكر أن المحال سيوصف فيما بعد في «أسطورة سيزيف» بأنه «نور بغير بريق»)
104
لكن هذا النور الباهر ليس هو كل شيء. إن الموت حاضر دائما هناك. إنه يلقي ظله على روعة البحر والنور والسماء. والعرس عرس النور والظلال، وزاوج الحياة والموت.
في جو البحر الأبيض تتفتح هذه المعرفة الحسية التي نتحدث عنها. وعلى شاطئ هذا البحر، في الجزائر، يعيش «شعب من البربر» يجد في الحاضر المباشر الحقيقة الوحيدة التي أعطيت للبشر. هذا الشعب الذي يعيش في الحاضر بكل ما فيه من إرادة الحياة شعب لا يعرف الأساطير ولا يعلل نفسه بالعزاء. لقد وهب نفسه بكليتها للأرض، فهو أمام الموت عاجز بغير سلاح. الواقع الوحيد عند هذا الشعب وعند كامي هو الواقع الأرضي
105
والحقيقة لديه هي تلك التي يمكن القبض عليها باليدين.
106
هذا الشعب الجزائري هو الذي يتيح لكامي أن يدرك اليقين الأوحد الذي يملكه، يقين اللحم والجسد:
107 «بين هذه السماء وبين الوجوه التي ترنو إليها لا يوجد مكان للأساطير أو الأدب أو الأخلاق أو الدين، بل للأحجار والأجساد والنجوم والحقائق التي يمكن للإنسان أن يقبض عليها بكلتا يديه.»
108
إن كامي يضفي على الجسد أعظم قدر من الأهمية؛ فالجسد عنده هو الحقيقة البينة الخالصة، التصور المباشر المتعين، والمعطى اليقيني الذي لا سبيل إلى الشك فيه. وكلما تناول مشكلة القيمة وجدناه يفضل القيمة الجسدية التي يقدمها وجه أو يد على تلك التي تكمن في فكرة من الأفكار. إن الوجود في المحل الأول حياة. والإنسان هو قبل كل شيء التأكيد الحي لكل ما هو حي.
109
والحياة هي المعطى المباشر التي لا تبرر شيئا ولا ينبغي أن تفسر بشيء من خارجها ؛
110
فالحياة التي تؤكد ببساطة، بغير أن تتضمن قيمة أخرى سوى قيمة الحياة نفسها، لون وطاقة، وما من وصية تسير عليها اللهم إلا أن تتفتح هذه الطاقة و«لا ترفض شيئا من الحياة.»
111
إن الإنسان، وهو الكائن المحدود بطبيعته، لا ينبغي له أن يطلب الكلي الذي لا سبيل له إلى الوصول إليه:
112 «ليس في مقدوري أن أدرك شيئا إلا في الحدود الإنسانية. إن ما ألمسه وما أحس بمقاومته هو وحده الذي أفهمه.»
113
وعلى الإنسان كذلك أن يقنع ب «حقائق اللحم والجسد»، التي لا يستطيع أحد أن ينكرها.
114
نقول «الحقائق» متعمدين، لنؤكد بذلك أن كامي لا يؤمن بحقيقة ما من بين حقائق أخرى، ولا بالحقيقة الواحدة في ذاتها، بل بحقائق كثيرة متعددة: «في علم النفس كما في المنطق توجد حقائق، ولكن الحقيقة لا وجود لها.» «هذه الحقائق لا تستمد» صدقها من تقنين العقل، بل من الحساسية. وهذه الحساسية هي التي تجعل لكل شيء حقيقته: «من نسمة المساء إلى هذه اليد التي تلمس كتفي.»
115
وبذلك يتحول الوعي إلى مجموعة من الإحساسات الخالصة التي تكفي نفسها بنفسها، وتتيح لكامي أن يقول: «شعرت بفرحة غريبة في قلبي، هي هذه الفرحة التي تولد من وجدان هادئ.»
116
ونسأل أنفسنا ما طبيعة هذا الوجدان أو هذا الوعي، فنعود من جديد إلى الدور الهام الذي يلعبه الجسد؛ فالوعي هنا وعي بالجسد أعني أنه ليس ذلك الوعي الذي يعي نفسه، أو يجعل من ذاته موضوعا لذاته. إنه يسقط على الأشياء كالمصباح السحري فيجردها من أقنعتها، وهناك يستطيع أن يلتقطها في بساطتها وسذاجتها الأولى.
117
إنه إحساس خالص، ولحظي. وإذا كان وجود الإنسان في العالم وجودا جسديا محضا، كانت حقيقته كذلك حقيقة مقضيا عليها بالموت والفناء: «فيم تنفع حقيقة لم يكتب لها أن تموت؟»
118
وكانت السعادة التي ينشدها فيلسوف مثل أفلوطين في الاتحاد مع الواحد
119
هي التي ينبغي علينا أن نلتمسها في الاتحاد مع النعم الزائلة والخيرات الصغيرة على هذه الأرض؛ ذلك أن هذه النعم والخيرات، وإن يكن مآلها إلى الفناء، فهي الشيء الوحيد الذي يملكه الإنسان الذي لا يخدع نفسه.
120
ويكفي الإنسان أن يحرر نفسه من جميع الأوهام الميتافيزيقية لكي يصل إلى السعادة الخصبة الحقيقية.
هل نحن الآن في حاجة إلى السؤال عن الهدف من هذه المعرفة الحسية؟ إن الهدف الوحيد منها هو الإنسان. الإنسان المتعين المحسوس الذي يستحق أن يكون سعيدا، لا بل من واجبه أن يكون سعيدا. وهو نفس الإنسان الذي يراه بعينيه ويلتقي به على قارعة الطريق: «هنا عيون وأصوات أولئك الذين يجب علي أن أحبهم.»
121
إن كامي يرفض كل حقيقة موضوعية، إما عن يأس من العثور عليها، أو امتناع عن محاولة البحث عنها على وجه الإطلاق. ورفضه هذا نابع من امتناعه عن تجاوز الأرضي المحسوس، وتخطي الواقع المعين، وإصراره على البقاء داخل الحدود الإنسانية. وهذا الرفض من ناحية وهذا الإصرار من ناحية أخرى لا يرجعان إلى صلف أو كبرياء بقدر ما يرجعان إلى الخوف من الخداع وخيبة الأمل. إن كل ما يريده الآن هو أن يقيم عظمة الإنسان على يقين عقلي بأن العالم «لا معقول».
122
على هذه المفارقة
المعذبة المتكبرة يؤسس كامي موقفه في المعرفة، وبخاصة في المرحلة الواقعية بين عامي 1935م و1937م؛ أي في الفترة التي وضع فيها كتابيه المبكرين «الظهر والوجه» و«أعراس». ولما كان لهذه المعرفة الحسية أثرها على جميع أعماله التالية، فسوف نلخص لحظاتها الأساسية كما عبر عنها بوجه خاص في «الأعراس»: (1)
الحضور، أو الواقع الحاضر والمباشر. (2)
السعادة (التي يمكن أن يؤدي إليها نوع من الاتصال في اليأس والعذاب). (3)
الحياة هي القيمة الأولى والأخيرة للحياة. (4)
نقاء القلب والبراءة (وهي واضحة في كل أعمال كامي وبخاصة في أعماله القصصية والمسرحية). (5)
حتمية الموت. (6)
انقطاع الأمل (مما لا يدل بعد على اليأس، فالأمل خطيئة ترتكب في حق الحياة). (7)
رفض العالم اللامعقول، بغير العزوف عنه (وسنستبدل هذه الكلمة بكلمة أخرى فيما بعد ونعني بها التمرد). (8)
تأكيد محدودية الإنسان (مرسو، بطل قصة الغريب التي سيأتي الحديث عنها، والذي يظل حتى صدور الحكم عليه بالإعدام في مجال الحسية الذي تصفه الأعراس، هو خير تعبير عن هذه المحدودية الواعية بنفسها). (ب) المعرفة
يبادر كامي في بداية «أسطورة سيزيف» فيعلن أنه سيتناول الإحساس بالمحال باعتباره نقطة بداية،
123
وشرا عقليا أو مرضا روحيا
mal de l’ésprit
124
يريد أن يصفه في حالته الأولية الخالصة؛ أعني بغير الرجوع إلى أية معتقد أو أية ميتافيزيقا، ولكننا نعلم الآن أن كل رفض للميتافيزيقا هو في حد ذاته موقف ميتافيزيقي. وقد عرف كامي ذلك بنفسه. ألا يقول إن المحال هو الحالة الميتافيزيقية للإنسان الواعي؟
125
ألا يقول أيضا إن لكل شعور عالمه وإن هذا العالم إنما يدل على موقف عقلي وميتافيزيقي؟ ألا يعبر صراحة في سياق حديثه عن منهجه الذي يعد كل معرفة حقيقية أمرا مستحيلا أن المناهج تنطوي على مواقف ميتافيزيقية؟
126
ويحرص كامي على ألا يقع في متناقضات المثالية فيعلن أنه لا ينكر الميتافيزيقا ولكنه لا يستطيع أن يتذوق لهما طعما، وأن المشكلات الميتافيزيقية لا تهمه في قليل أو كثير؛ فلو سأله سائل عن السبب لأجاب بأنها تتجاوز حدود تجربتي الحسية المباشرة كما تتجاوز ملكتي الفكرية؛ على أننا لا نستطيع أن نفهم هذا الرفض المسبق لكل ميتافيزيقا (وهو الذي لا يعني إلغاءها أو نفيها؛ لأن المرء لا يرفض ما ليس له وجود) حتى نوضح موقفه من المعرفة على وجه الإجمال.
يؤكد كامي تأكيدا أوليا سابقا على كل مناقشة أو استنتاج أن من المستحيل على الإنسان أن يصل إلى أية معرفة حقيقية:
127 «أي إنسان أو أي شيء أستطيع أن أقول عنه «إنني أعرف هذا»؟!»
128
وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعرف العالم ككل، فهل في وسعه أن يعرف أجزاء منه؟ إن كامي سيجيب بلا؛ ذلك أن معرفتي كلها تتوقف عند المعطيات المباشرة التي تزودني بها تجربتي الفردية المحسوسة. وليس في استطاعتي أن أدرك شيئا ما لم يكن واقعا داخل الحدود الإنسانية:
129 «القلب في باطني أستطيع أن أحس به، ومن ذلك أستنتج أنه موجود. والعالم أستطيع أن ألمسه، ومن ذلك أيضا أستنتج أنه موجود. بذلك تتوقف معرفتي كلها.»
130
ليس هذا فحسب، بل إن الإنسان لا يستطيع حتى أن يعرف ذاته. وقد يظل حياته في غربة دائمة عن نفسه.
131
إن مسعاه إلى الوضوح سيخيب دائما ، وشوقه إلى المطلق والوحدة لن يتحقق أبدا. لا العلم ولا الفلسفة يستطيعان أن يعطياه الحقيقة. إنهما عاجزان عن معرفة الموجود بما هو موجود. كلاهما يقف عند مستوى الظواهر. والنظريات العلمية والمذاهب الفلسفية لا تستطيع إلا أن تدرك العلاقات التي تربط هذه الظواهر بعضها ببعض. إن معرفة العالم ومعرفة الفيلسوف كلاهما مرفوض؛ فكلاهما عاجز عن تحقيق مسعاه نحو الوحدة، عقيم لا يملك أن يشبع شوقه إلى المطلق: «لو عرف الإنسان أن الكون يمكنه أن يحب وأن يتعذب، لكان في ذلك السلام لقلبه.»
132
وليس في هذه العبارة شيء من النزعة التشبيهية بالإنسان (أنثروبومورفية)، بل كل ما فيها هو أنها تنكر على العقل كل مقدرة على اكتشاف العلاقات الموضوعية التي تربط بين الأشياء وردها إلى الوحدة التي تفسر كل شيء.
شوق الإنسان إذن إلى الوحدة والمطلق، ومسعاه نحو الوضوح والترابط باقيان في عالم كل ما فيه لا معقول. هذا الشوق وهذا المسعى مرتبطان بعجز العقل عن رد العالم إلى مبدأ واحد ينتظم جميع الظواهر المتعددة المتغيرة: «لو استطاع الفكر أن يكتشف في الانعكاسات المتغيرة للظواهر علاقات أبدية تجمعها وتجمع الفكر تحت مبدأ واحد لأمكننا أن نتحدث عن سعادة ينعم بها العقل.»
133
إن نشدان الوحدة والمطالبة بالوضوح يوقعان العقل في متناقضات لا آخر لها،
134
وكل زعم يذهب إليه الفكر إنما ينفي الفكر نفسه. ولتوضيح ذلك يستند كامي إلى أرسططاليس، ويورد هذه الدائرة المفرغة
135
التي تفض في رأيه كل نزاع: كل شيء صادق أو كل شيء باطل. ولكن ليس من العسير أن نلاحظ أنه إذا كان كل شيء صادقا، فإن التأكيد المضاد يكون بالضرورة صادقا، وهو تناقض، فإذا أكدنا على العكس بأن كل شيء باطل، لتحتم بالضرورة أن يكون هذا التأكيد نفسه باطلا. فإن أردنا أن نخرج من هذا المأزق ورحنا نؤكد أن هناك في الوقت نفسه ما هو صادق وما هو باطل لكان علينا بالضرورة أن نقرر بوجود عدد لا حصر له من الأحكام الصادقة والأحكام الباطلة، مما يترتب عليه أن تفلت الحقيقة دائما من أيدينا. وبعبارة أخرى فإن الحقيقة إما أن تكون مطلقة أو لا تكون، والحقيقة موجودة أو لا وجود لها على الإطلاق: «إنني أريد كل شيء أو لا شيء.»
136
نستطيع من ناحية أن نرى في وضوح كيف أننا لا نستطيع هنا أن نتحدث عن فكر متواضع يعرف حدوده، حتى بعد التقائه بالواقع المحسوس وعزمه على أن يضع لنفسه هذه الحدود. إن الإنسان في حاجة إلى المطلق، فلا بد له أن يكون هو نفسه مطلقا؛ إنه يطالب بالحقيقة، فلا بد له إذن أن يحصل على الحقيقة، ولكن الإنسان ليس هو ما يطلبه ويشتاق إليه، فمطلبه وشوقه إذن باطلان، أو هما على الأقل متكبران مغروران.
137
ومن ناحية أخرى نجد أن كامي على غير استعداد لأن يذهب إلى أبعد مما يبينه له العقل الواضح المتميز، فإذا كان العقل يبين له أن العالم محال، فهو مضطر إلى التسليم بهذه الحقيقة والتشبث بها. وكل حقيقة سواها قد تحدثه نفسه بالإيمان بها لا بد أن تأتي معها بالأمل، وأن تدفعه إلى أن يقفز تلك القفزة التي حرمها على نفسه وراء أسوار المحال، وأن تؤدي به إلى الانتحار الفلسفي الذي تحدثنا عنه. وهكذا يدخل الفكر بمشيئته سجن المحال ويحبس نفسه وراء جدرانه. وبهذا السجن الاختياري يرتبط رفضه لكل يد تحمل له النجاة أو تمده بالعزاء. وهذا الرفض مبني على الأمانة التي تقتضي من الإنسان أن يحيا الحياة مع علمه بأنها خالية من كل معنى: «إن الأمانة في الإصرار على وجهة النظر هذه.»
138
لا شك أن القارئ قد أدرك بنفسه ما تحتوي عليه الأفكار السابقة من متناقضات نجملها في السطور الآتية: (1)
الحقيقة الوحيدة التي يكشف لنا العقل الواضح المتميز عنها هي أن العالم محال، ومحالية العالم هي التي تجعل حياة الإنسان شيئا جديرا بأن يعاش، كما تضفي عليها العظمة، ولو كان للحياة معنى لما كانت جديرة بأن يحياها الإنسان. الحلقة المفرغة هنا واضحة؛ فالعالم من ناحية لا معنى له لأنني لا أريد أو لا أرجو أن يكون له معنى ، ومن ناحية أخرى لأن العقل يكشف عن خلوه من كل معنى. (2)
يطالب الإنسان الذي يعيش في المحال بالوحدة ويشتاق إلى التجانس والترابط، فإذا لم يجدهما رأيناه يعزف عنهما ويعدد بذلك ما لم يستطع أن يوحده.
139
وهكذا يزيد من تنوع الظاهرات،
140
ويغني من عالم المعطيات الحسية. هو إذن يعيش في مجال الظاهرات أو قل إنه لا يريد أن يعيش في مجال سواه، فإذا جاء الآن وأدان العلم والفلسفة وحكم على منهجهما بالفشل في الوصول إلى أية معرفة حقيقية لأنهما يتحركان داخل العلاقات التي تؤلف بين الظواهر دون أن يؤديا إلى مبدأ موحد، أقول إنه إن فعل ذلك فإنما يناقض نفسه بنفسه.
غير أن المنصف لكامي يستطيع أن يفسر هذه المتناقضات وأن يعفيه منها. والطريق إلى ذلك هو محاولة فهم مشكلة المحال على أساس وجودي-ديالكتيكي لا على أساس من المنطق الصوري.
لقد رأينا في الصفحات السابقة كيف أن المحال ينشأ عن الشقاق بين العقل الذي يحاول أن يسأل ويفهم، والعالم الذي يصمت فلا يجيب ولا يبالي، بين شوق الإنسان إلى الوحدة والوضوح وبين التشتت واللامعقولية والغموض الذي يكتنف العالم. وكان لا بد لكامي، لكي يتيح للمحال أن ينشأ في وضوح وتميز عن هذا الشقاق، من أن يعلن عجز العقل عن معرفة ما يقع خلف حدود التجربة الحسية المباشرة، وأن يصف «أسوار المحال» التي تصطدم بها رغبتنا في الوحدة واشتياقنا إلى الوضوح، وأن يرفض الاعتراف بكل تمذهب فلسفي أو علمي؛ فشوق الإنسان الذي لا يروي إلى المطلق، وسعيه الذي لا يهدأ نحو المبدأ الواحد الموحد، ووعيه بمحدوديته من خلال تجربته الحسية الفردية، عنصران يؤلفان طرفي العلاقة الديالكتيكية التي تحدثنا عنها من قبل، كما يكونان شرط وجود المحال. ولا بد للمحال إذن من أن يقف حائلا بين الإنسان وبين كل ما هو ميتافيزيقي أو متعال (ترانسندنتي) على وجه الإطلاق.
ويبدو لنا أن هدف كامي من موقفه في المعرفة أن يؤكد وجود حد لا ينبغي للإنسان أن يحاول تجاوزه إلى ما وراءه. وهذه المحدودية مرتبطة بسعادة الإنسان وبوجوده الحسي في العالم؛ فلكي يجد سعادته، لا بد له من أن يرفض كل معرفة عقلية، وأن يتخلى عن كل مطلب ميتافيزيقي لا يوقعه فحسب في المتناقضات بل ويحول بينه وبين السعادة، ويمنع الجسد من أن يهب نفسه للمتع التي يقدمها له هذا العالم الذي لا يملك من عالم سواه. ليس العقل الكلي هو الذي يستطيع أن يوحد ما بيني وبين هذا العالم، بل «الخطوط الناعمة على هذه التلال، ويد المساء فوق قلبي المهتاج.»
141 (ج) إستطيقا الخلق بلا صباح
عالج كامي نظريته الإستيطيقية (أو الجمالية) في فصلين إضافيين؛ أحدهما في كتابة أسطورة سيزيف تحت عنوان «الخلق المحال» والأخرى في كتابه «المتمرد» تحت عنوان «التمرد والفن»؛ هذا إلى كثير من أحاديثه ومقالاته وخطبه، وبخاصة في الجزأين الأول والثاني من كتابه «حقائق معاصرة» وفي «حديث السويد» الذي ألقاه في العاشر من ديسمبر عام 1957م، في استكهولم، بمناسبة الإنعام عليه بجائزة نوبل. ولما كنا قد قصرنا أنفسنا في هذا الكتاب على المشكلات الفلسفية وحدها، ولم نتناول المسائل الأدبية والفنية إلا بقدر دلالاتها على الموقف الفلسفي، فإننا لن نستطيع في هذا المقام أن نفصل القول في منزلة الفن من أعمال كامي الأدبية، تاركين ذلك لغيرنا من أصحاب النقد والتحليل الأدبي.
ومع ذلك فلا بد من القول بأن أفكار كامي الفلسفية تجد التعبير المباشر عنها والتطبيق الحي الخصب لها في مجال الفن، بل إن في استطاعتنا أن نقول إن إستطيقا كامي تفيدنا في الكشف عن موقفه الفلسفي خيرا من أية مجال من مجالاته الفكرية الأخرى.
142
لقد بين لنا التأمل في المحال كيف يتحتم على الإنسان أن يتشبث به، حتى يحافظ على اليقين الأوحد الذي يملكه عن هذا العالم وعن نفسه. ولم يكن المحال في نهاية المطاف سوى يقظة الوعي الباهر، تلك اليقظة العنيدة التي ليس بعدها نعاس. وكان الرفض المستمر للعالم (هذا الرفض الذي لا يعني، كما رأينا، نفي العالم ولا العزوف عنه، بل كل ما يعنيه هو التحدي) هو الوسيلة الوحيدة التي يحافظ بها الإنسان على كرامته. ثم عرفنا نماذج أربعة للإنسان الذي يعيش في المحال، ويرى فيه حقيقته الوحيدة التي لا يعرف من حقيقة سواها، ويحس بالنتائج المترتبة عليها، وهي الحياة والتمرد والحرية، أشد ما يكون الإحساس؛ أعني أن يحيا كأعمق ما تكون الحياة وأشدها خصوبة وامتلاء.
143
هذه النماذج التي يقدمها لنا كامي ليس المقصود منها أن تكون نماذج للاحتذاء والمحاكاة. إنها مجرد تعبير عن هذا الرأي الذي يقول إن الحياة يمكن أن تعاش بما يطابق مطالب المحال ونتائجه؛ أعني بالحياة والتمرد والحرية. ولقد رأينا أن أهم هذه النماذج هو آخرها، ونعني به الإنسان المبدع الخلاق،
144
الذي يبلغ الإحساس بالمحال لديه ذروته، ويجد التعبير عنه في أوضح صوره.
وإذا كان «الفنان» في شخصية كامي يظهر في جميع أعماله، وإذا كنا نجده يخصص للفن في كتابيه الفلسفيين فصلين من أهم فصولهما، ويهيب بنيتشه (الذي كان الفن بالنسبة إليه هو الوسيلة الوحيدة التي تعصم الإنسان من الموت ضحية للحقيقة، لا بل إن الفن في رأيه يزيد في قيمته عن الحقيقة نفسها)،
145
فلا ينبغي أن يمنعنا ذلك من القول بأن كامي لم يحاول أن يجد في الفن وسيلة للنجاة، ولم يصغ نظرية من نظريات الخلاص عن طريق الفن.
الحق أنه قد يبدو أن في الخلق الفني مخرجا من أزمة المحال، ولكن الأمر يبدو كذلك فحسب؛ فالعمل الفني في رأي كامي هو المحال الخالص؛ أعني أن المحال يجد تعبيره النموذجي في عملية الخلق. وعملية الخلق هذه لا تعبر عن الانتصار على المحال، ولا تؤدي إلى التحرر أو النجاة منه؛ ذلك أن العمل الفني بطبيعته يلعب دورا حاسما في الاحتفاظ بالوعي العنيد الباهر في وجه محالية العالم، بل إنه هو خير وسيلة للإبقاء على هذا الوعي.
146
وليس مرجع ذلك إلى أن الفن يحتوي على مضمون أغنى أو أقيم مما تحتويه حياة العاشق أو الغازي أو الممثل. إن الذي يميز الفنان عن بقية نماذج المحال هو أن الفن يحتفظ بطابع الدوام. ومعنى هذا أن العمل الفني يبقى بعد أن يفنى الفنان، وأن الخلق أطول عمرا من خالقه. ومعناه قبل كل شيء أن الوعي الباهر بالمحال الذي يجده الآخرون من الناس يمكن أن ينتقل إليهم للمرة الأولى في حياتهم عن طريق العمل الفني الذي يرون مصيرهم المشترك منعكسا على صفحته.
147
إن المعيار الوحيد لصدق الفكر المحال، الذي يرتبط بتجربة الحياة برابطة الزواج،
148
هو أن يعاش هذا الفكر في الفعل والواقع، لا أن يكون مجرد كلمات مجدبة على الورق. إنه في الوقت الذي يصدف فيه عن الوحدة إنما يزيد من التنوع. والتنوع هو المجال الحق للفن.
149
إن مملكته هي مملكة الصور والألوان، وهي مملكة يعرف الفنان أنها موهوبة للفناء.
إن العمل الأساسي للفنان في عالم لا تنفد ثروته من الظاهرات المتنوعة هو الوصف والتسجيل؛ فالإنسان المحال في صورته الخالصة (والمقصود به هنا هو الفنان) لا يهتم بالتحليلات والتفسيرات، بل يصرف كل عنايته إلى الوصف والتجربة: «الوصف؛ هذا هو آخر ما يطمح إليه الفكر المحال.»
150
مملكة فانية ملونة مزدحمة بالصور والأصوات والألوان. أول ما يجب على الفنان فيها أن يفتح عينيه ويرى، وأن يتعلم كيف يصف ما يراه: «أن نرى! على هذه الأرض أن نرى! كيف يستطيع الإنسان أن ينسى هذا الدرس!»
151 (4) المحال نقطة بداية (أ)
المحال، واللامعقول، واللامعنى. (ب)
المحال يحتوي على النعم واللا في وقت واحد. (ج)
ينبغي أن يفهم فهما وجوديا-ديالكتيكيا. (د)
المحال لا يزيد على أن يكون نقطة بداية. (أ) المحال، واللامعقول، واللامعنى
نقول عادة إن شيئا ما محال، ونعني بذلك أنه لا معقول، فهل اللامعقول هو المحال؟ إن علينا الآن أن نميز بين هذين التصورين.
إن الإنسان الذي يعيش في أزمة المحال ويفكر من خلاله لا يرى أن العالم معقول
rationnel
ولا يرى كذلك أنه غير معقول
irrationnel . إنه بالنسبة إليه لا يتفق مع قوانين العقل، ولا شيء غير هذا.
152
وليس معنى هذا أن إنسان المحال يفكر تفكيرا لا عقليا ولا أنه ممن يعادون العقل. إنه لا يحتقر العقل، ولكن يسلم بوجود اللامعقول (لأنه لو أنكر العقل لما استطاع أن يدرك اللامعقول!) فاللامعقول هو أحد طرفي العلاقة التي أشرنا إليها والتي ينبثق عنها المحال، ونعني بها تلك العلاقة التي تجمع بين اللامعقول من ناحية وبين شوق الإنسان إلى الوضوح والوحدة من ناحية أخرى، وذلك في وحدة صراع متشابكة؛ فإنسان المحال إذن لا ينفي وجود العقل، بل يضفي عليه قيمة نسبية. وإذا كان المحال هو الذي يعين لنفسه حدوده، فإنه لن يستطيع أن يعين هذه الحدود الثابتة بدون العقل الواضح المستنير، بل إن المحال، في تعريف كامي، هو هذا العقل الذي يرسم لنفسه حدوده؛
153
ومن ثم رأينا كيف يرفض الإنسان أن يجعل من المحال قاعدة يقفز منها للوصول إلى المتعالي (الترانسندنس) في أية صورة من صوره؛ فالإقدام على هذه القفزة معناه الإقدام على الانتحار الفلسفي.
ونتحدث كذلك عن المحال ونقصد به اللامعنى، فهل يدل التصوران على شيء واحد بالذات؟ لنحاول أولا أن نفهم المحال عن طريق اللامعنى.
ماذا أقصد بقولي إن هذا الشيء أو ذاك لا معنى له؟
إنني لن أستطيع أن أفهم ما هو اللامعنى حتى أفهم أولا ما هو المعنى؛ أي إن السلب لا بد أن يتقدمه الإيجاب، والنفي والتأكيد؛ فالإنسان وحده - وهذا مثل مشهور نستشهد به - هو الذي يعرف أن البيت ليس هو كومة من التراب والأنقاض، وأن كومة التراب والأنقاض ليست بيتا، ولكنه يعرف ذلك لمعرفته سلفا ما هو البيت وما هي كومة التراب والأنقاض.
154
إن كامي حين يتحدث عن المعنى يسأل نفسه إن كان من الممكن أن يكون هناك معنى فيما لا معنى له، وأن يكون في حكم يقرر ألا معنى هنالك مع ذلك شيء من المعنى. إن المعنى لا يكون للحكم الإيجابي فحسب، بل إنه يكون كذلك وقبل كل شيء للحكم النافي أو السالب (وتاريخ الديالكتيك من هيراقليط إلى يومنا هذا عامر بالأمثلة التي تؤكد القوة الوجودية والمنطقية الكامنة في السلب والعدم، مما لا نستطيع في هذا المجال أن نفصل القول فيه)؛ فحكم كهذا: «العالم لا معنى له، أو العالم محال » يمكن أن يكون حكما ذا معنى، وإن كان ينطق بتجرد العالم من كل معنى، إنه يعطينا حكما سلبيا أو حكما نافيا، وحكم السلب أو النفي يظل حكما على كل حال.
وقد أشرنا فيما تقدم إلى الأسباب التي جعلت الإنسان يصل إلى هذا الحكم الساخط الأليم، ولعل أهم هذه الأسباب التي تجعل الوجود عديم المعنى في نظر إنسان المحال هو الموت، أو هو انعدام كل شيء بعد أن أموت. إنه بمعنى آخر إمكانية عدم إمكان وجودي، وبقاء العالم غير المبالي مع ذلك على حاله. إنه عدمي في مقابل وجود العالم أو هو العالم بعدي بدون وجودي.
155
وليس من العسير أن نرى كيف أن هذه اللامعنية (إن صحت هذه الكلمة!) أو المحالية لا يمكن أن تكون مطلقة. إنها تظل تجربة متعلقة بأولئك الذين ينعدم في نظرهم كل شيء بعد الموت. ولكنها تفقد قيمتها بالنسبة لمن يؤمن بوجود شيء بعد الموت، أو لمن يؤمن بأن الحياة الحقة والوجود الحق لا يبدآن إلا بعد أن تنتهي الحياة وينعدم الوجود من هذه الأرض.
والحق أن التجرد المطلق من كل معنى، أو المحالية المطلقة، من وجهة نظر منطقية بحتة، لا بد وأن تفترض وجود العدم المطلق الذي يسبقها، والذي لا يكون من معنى فيه إلا للامعنى، وبالتالي للتأكيد الذاتي في هذه «اللامعنية».
156
ولكن هذه اللامعنية أو هذا الانعدام المطلق لكل معنى يناقض نفسه بنفسه. ويبدو أن من الصعب علينا أن نتحدث عن اللامعنية المطلقة بمثل ما يصعب علينا الحديث عن العدم المطلق؛ ذلك أننا من الناحية الصورية البحتة لا نستطيع أن نقول شيئا عن العدم؛ لأن كل مقال فهو بالضرورة عن موجود أو عن نحو من أنحاء الوجود، أضف إلى هذا أنه لا بد أن يكون ثمة معنى نقيس عليه اللامعنى؛ أي إننا لا بد أن نعرف أولا ما هو معنى العالم لكي نحدد من بعد متى وكيف يتجرد من هذا المعنى. وإذن فنحن لا نملك إلا أن نتحدث عن لا معنى إضافي أو عدم وجود أو عدم إضافي، لا عن لا معنى مطلق أو عدم مطلق.
ومن المستحيل كذلك أن يصح للمحالية المطلقة وجود. ولقد بين كامي كيف أن مثل هذا المنطق العدمي - منطق اللامعنى والمحلية المطلقة - منطق فاسد، لا بل منطق يؤدي إلى إراقة الدماء. وقد وضح ذلك حين عرض علينا مصائر تراجيدية ثلاثة وهي الصديق الألماني
157
الذي كتب إليه كامي في خلال الحرب العالمية الثانية مجموعة من الرسائل معروفة تحت هذا الاسم، والقيصر الروماني كاليجولا
158
ومارتا،
159
الفتاة التي تتعاون مع أمها على قتل أخيها العائد بعد غيبة عمر طويل نتيجة سوء تفاهم. كل هؤلاء قد ساروا في حياتهم الواقعية على المنطق العدمي إلى آخر مداه. هؤلاء الذين طبقوا منطق المحالية المطلقة قد جهلوا طبيعة المحال أو تجاهلوها، ونسوا أن المحال ذو طابع نسبي، وأنه لا بد أن يضع لنفسه حدوده،
160
وأنه لا بد وأن يكون هناك معنى يقاس عليه اللامعني والمحال، وأن مصير الإنسان لا يكون له من معنى إلا في هذا العالم المحدود الذي لا سبيل إلى تفسيره.
161 «فلو أن كل شيء كان بلا معنى، لكان معك الحق، ولكن هناك شيئا ينطوي على معنى.»
162
هذا «الشيء» الذي يحتفظ بمعناه هو الإنسان، هو الصداقة، والسعادة، والشوق إلى العدل، وهي التي يدافع عنها جميعا في أربع رسائل من كتابه إلى صديقه الألماني. غير أن هذا المعنى ليس معنى عاليا ولا متعاليا. إنه ليس خارج الزمان ولا خارج العالم: «ما زلت أعتقد بأن هذا العالم لا ينطوي على معنى يعلو عليه. بيد أنني أعلم أن هناك شيئا فيه له معنى، وذلك هو الإنسان؛ لأنه هو الكائن الوحيد الذي يشتاق إلى المعنى ويسعى إليه.»
163
لقد بدا ذات حين كأن النتيجة المنطقية المترتبة على المحال وانعدام المعنى في هذا العالم هي الإقدام على الانتحار، ولكن «أسطورة سيزيف» قد بينت لنا أن هذا المنطق ظاهري فحسب. إن خطأه يكمن في الاعتقاد بأن تجريد الحياة من المعنى يمكن أن يتساوى مع الحكم بأنها لا تستحق أن تعاش. بيد أن تجربة المحال قد علمتنا
164
عكس ذلك تماما، وأنه ليس ثمة علاقة ضرورية تربط بين الحكمين، بل إن الحياة تكون أولى ما تكون بالمعيشة بقدر ما تخلو من المعنى. والمصائر التراجيدية الثلاثة التي تواجهنا في شخص الصديق الألماني وكاليجولا ومارتا هي أوضح مثال على ذلك. لقد اعتقدوا جميعا في اللامعنى المطلق أو المحالية المطلقة للوجود وساروا مع منطقهم هذا إلى آخر نتائجه، فانتهوا إلى الانتحار على نحو أو آخر. إنهم بعبارة أخرى قد خانوا تجربة المحال التي تدعوهم إلى التشبث بالحياة على الرغم من خلوها من كل معنى.
أن المحالية المطلقة تناقض نفسها بنفسها. (ب) المحال يحتوي على النعم واللا في وقت واحد
الحق أن نقطة البداية في فلسفة كامي هي السلب أو النفي
165
أو هي التناقض على وجه التحديد:
166 «... إن الاكتشاف الأول الذي يتوصل إليه التفكير الذي يتأمل في ذاته هو التناقض.»
167 «هذا التناقض الذي يشير إليه كامي هو المحال، ولكن المحال باعتباره تناقضا ليس على التحقيق تناقضا منطقيا، بل هو تناقض «معاش ممزق القلب».
168
إن من أهم الأمور هنا أن يحيا الإنسان مع متناقضاته،
169
أو قل أن يحياها بكل ما فيها من عمق وعذاب، وأن يعي مصيره المحال كما وعاه سيزيف.
وإذا كان المحال، كما قدمنا، ينشأ عن صدام بين مطلب عقلي من جانب الوعي أو الوجدان، وبين اللامعقول السائد في العالم، فإن المحال أبعد الأشياء عن أن يكون هو قانون العقل، بل الأولى أن يقال إنه هو فضيحته. وليس المحال هو ما لا يتفق مع العقل والمنطق، بقدر ما هو ما يستعصي على الفهم والتفسير. والحق أنه ليس من شيء يستعصي على التفسير ولا من شيء أشد غموضا وغرابة من وجود كائن يطالب بالنظام والوحدة والوضوح في عالم خلا من النظام والوحدة والوضوح. وإذا كان كامي يتحدث عن الإنسان المحال أو العقل المحال فليس معنى هذا أن الإنسان أو العقل يفكر تفكيرا فاسدا، بل معناه على العكس من ذلك أن الإنسان أو العقل قد «عرف» المحال، وأنه قد استيقظ اليقظة التي لا يغفو بعدها وجدانه.
حقا إن فلسفة كامي تبدأ، كما قلنا، من السلب أو النفي، ولكننا نخطئ إذا اعتبرنا أن هذه السلبية مطلقة أو رأينا أن هذا النفي نهائي؛ ذلك أن المغالاة في تأكيد الجانب الدرامي من مأساة المحال يعرضنا لخطر نسيان الجانب المشمس من تفكير كامي. إن علينا ألا ننسى أبدا أن المحال إن كان ظلاما فالوعي الذي يواجهه نور باهر.
لقد رأينا كيف كان جانبا الظل والنور، والسلب والإيجاب، واللا والنعم، حاضرين دائما في تفكير كامي، وعرفنا الأمثلة على ذلك من كتابه الأول «الظهر والوجه»
170
قبل التوسع في معالجة المشكلة معالجة تصورية شاملة. هنالك كان من العسير عليه أن يفصل حبه للنور والحياة عن يأسه أمام تجربة الموت. وهنالك كانت الشجاعة الحقة في «ألا يقفل الإنسان عينيه أمام النور ولا أمام الموت.»
171
وكان عالم المحال منذ البداية بالنسبة لكامي عالما يقول «لا» والإنسان في هذا العالم إنسانا يقول «لا»، وينتظر كثيرا قبل أن يقول «نعم» ويحدد بالتدريج لأي شيء يقول هذه «النعم».
172
إن رفضه للعالم ليس صدودا عنه.
173
بل إنه على العكس من ذلك يمهد ب «اللا» المنهجية الطريق إلى «نعم» لا تحد، ويرفض الحياة تمهيدا للموافقة على الحياة.
ودائما ما يتلازم النور والظل، وتتحد الحياة بالموت، ويتعانق اللا والنعم. (ج) ينبغي أن يفهم فهما وجوديا-ديالكتيكيا
هل المحال عاطفة أو تصور؟
ربما كان من حقنا الآن بعد البحث الذي تقدم عن طبيعة المحال ونشأته وتحديده أن نرى مدى الخطأ الذي يمكن أن نقع فيه لو حاولنا أن نبحث المحال بحثا منطقيا تصوريا، وهذه العبارة التي تقابلنا في أسطورة سيزيف تؤكد هذا الرأي: «إن عاطفة المحال لا تتفق في معناها مع تصور المحال.»
174
بيد أن هذا الرأي لا ينقض ما حاولناه في الكشف عن بناء المحال من الناحية المنطقية، ولا يتعارض مع حديثنا عن الأزمة الرياضية والمنطقية التي عرضنا لها في مقدمة هذا الكتاب، والتي أسفرت في رأي البعض عن إمكانية ثالثة بين الصدق والكذب سموها تارة باللامعنى وتارة أخرى بالمحال؛ ذلك أن مجرد القول بأن العالم محال أو مجرد من المعنى هو في ذاته حكم منطقي. ومع ذلك فلا يجوز لنا أن نقف عند هذا الحكم وأن نستغرق في بحث منطقي لا بد أن يؤدي إلى إهمال الأزمة الأصلية التي تسبب عنها الإحساس بالمحال. وكامي نفسه يحذرنا من خطر الوقوع في شباك المنطق حتى لا نغفل عن الأزمة الوجودية التي ينبغي أن يكون كل تحديد منطقي للمفاهيم، لا يستغني عنه الفيلسوف بالضرورة، مجرد تمهيد قصير لها؛ ذلك أن عاطفة المحال لا تتكثف وتستحيل إلى تصور إلا في اللحظة القصيرة التي تفصح فيها عن حكمها عن العالم. غير أنها لا ينبغي أن نقف عند هذا الحكم؛ ذلك أن عاطفة المحال شيء حي؛ أعني أنها لا بد أن تموت أو يتردد صداها.»
175
إن الأفق الذي نستطيع أن نتمثل فيه المحال ونحاول تحديد طبيعته ليس منطقيا صوريا ولا هو عاطفي بحت، بل إنه ديالكيتكي. ولسنا في حاجة لتتبع تاريخ الديالكتيك وتطوراته عبر التاريخ الفلسفي لنصل إلى هذا الحكم؛ فالتصور اليومي الساذج الذي نحمله لمدلول كلمة المحال يمكن أن يوضح لنا ذلك توضيحا مبدئيا. ونستطيع أن نستعين بمثالين يضربهما كامي نفسه لهذا الغرض.
176
فلو حاولت أن أتهم إنسانا بريئا بارتكاب جريمة بشعة، أو رحت أؤكد عن شخص تقي فاضل أنه زنا بشقيقته، فلا شك أن كلا الرجلين سيجيبني بنفس الإجابة الساخطة: «إن هذا محال!» وإذا رأيت رجلا يندفع ليهاجم ثلة من الجنود المزودين بالأسلحة النارية السريعة الطلقات وهو يلوح بسيف عار في يده فسوف أحكم على مسلكه هذا بأنه «محال»؛ فالمحال في الحالة الأولى يكمن في التناقض بين المسلك الذي أنسبه إلى الرجل الفاضل البريء وبين مبادئه التي يسير عليها في الحياة، وهو في الحالة الثانية يكمن في العلاقة المتنافرة بين غرض هذا الفارس الحالم وبين ما ينتظره، بين قدراته الحقيقة وبين الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه؛ ففي الحالتين إذن نوع من المقارنة، وعلاقة إن يكن قد أسيء وضعها وتقديرها فهي لم تزل علاقة على كل حال.
177
وتعظم المحالية في الحالتين كلما عظم الفارق الذي يفصل بين موضوعي المقارنة؛ فالمحال إذن يرجع في أصل منشئة إلى وجه من وجوه المقارنة بين حالة كائنة وبين واقع محدد، بين مسلك ما وبين العالم الذي يتجاوز هذا المسلك ويعلو عليه.
178
نحن إذن أمام نوع من المواجهة بين طرفين أو التقابل بين عنصرين متضادين، لا يكمن المحال في أحدهما بل في العلاقة التي تربط بينهما. إنه في حقيقته نوع من الشقاق، وصراع ديالكتيكي جوهره التمزق والتوتر الحاد.
إن المحال، إن جاز هذا القول، هو «الثالث» الذي ينشأ عن التقابل - أو بالأحرى التصادم - بين طرفين متضادين في علاقة متشابكة دائبة الصراع. والواقع أن هذا الشيء الثالث قائم بصفة مستمرة بين الفروق المنطقية والأضداد الثابتة، بين الوجود والعدم، بين الصدق البسيط والكذب البسيط، وعلى مسرح هذا الشيء الثالث تمثل دائما مأساة الوجود الإنساني. والواقع أن فلسفة كامي تبدأ مع الإحساس بأن هذا «الثالث المرفوع» هو مجال سؤالها والأفق الطبيعي الذي تدور فيه مشكلاتها؛ فها هنا يتفتح السؤال عن معنى الوجود والحياة باعتباره السؤال الفلسفي الحقيقي الملح.
179
وإذن فلا ينبغي أن نفهم المحال فهما صوريا. إن كامي لا يريد أن يحمله مضمونا منطقيا أو ميتافيزيقيا، بل يريد منا أولا وأخيرا أن نجربه ونحياه.
وإذا كان كامي، كما سنرى فيما بعد، في كتابه «المتمرد» (1951م) الذي ظهر بعد ثمان سنوات من ظهور كتابه «أسطورة سيزيف» لم يبق على إخلاصه لتجربة المحال، فإن مرجع ذلك قبل كل شيء إلى أنه حاول أن يفهمه فهما صوريا منطقيا، لكي يتاح له فيما بعد أن يتغلب عليه ويتجاوزه إلى تجربة التمرد. إنه بذلك يخلط بين «المحالية» التي توصل إليها عن طريق أزمة وجودية ديالكتيكية وبين المحالية المطلقة التي تنفي كل معنى، والتي رأينا أنها تناقض نفسها بنفسها حتى من وجهة النظر المنطقية الخالصة «إن المحال في ذاته تناقض.» هكذا يكتب كامي في المتمرد.
180
ولا ينازع أحد في ذلك، على شرط أن ننظر إليه نظرة صورية خالصة وأن نسوي بينه وبين المحالية المطلقة؛ الأمر الذي تعرضنا له من قبل، وبينا فساده من وجهة نظر كامي نفسه.
ويستطرد كامي في «المتمرد» فيقول إن المحال، فيما يتعلق بالفعل والسلوك، ينطوي دائما على نوع من السوية أو عدم المبالاة، كما يقول إنه متناقض مع نفسه لأن الإنسان لا يستطيع أن يستمد منه قيمة من القيم.
181
أما أن المحال لا ينفي قيمة بل يؤكد مجموعة من القيم يمكن أن تستمد منه فقد بينا ذلك فيما تقدم.
182
فالشعار السلوكي الذي يقول «عش كما لو ...» وأخلاق الكم التي تعلي من شأن الحياة فوق كل شيء سواها، قد كانا نتيجتين مترتبتين على تجربة المحال. وأما أن المحال لا يرفع ولا يستغنى عنه استغناء تاما، وأما أنه عنصر جوهري من عناصر التجربة الديالكتيكية في تفكير كامي، فهو ما نرجو أن نوضحه في الفصول القادمة.
ويكفي أن نقرر الآن أن التفكير المحالي لا يسعى إلى الحلول والتفسيرات، بل إلى الوصف والتجربة الحية.
183
إن الواقع يعاش ويوصف وتستنفد إمكانياته عن طريق المحال، ولكنه لا يعلل أبدا ولا يفسر. إنه في نظر كامي واقع حي مجرب. قبل أن يكون معطى عقليا يتطلب الفهم والتحليل. وإذا كان كامي يرى أن المحال هو الحقيقة الوحيدة التي يستطيع أن يقول عنها إنه يملكها، فإن هذه الحقيقة ليست من النوع الأنطولوجي المدعم على أساس من الوجود، ولا هي حقيقة عقلية قائمة بذاتها، إنها هي الإلهام اليائس الذي تتكشف عنه التجربة المباشرة. (د) ليس المحال إلا نقطة بداية
كتب كامي في مطلع حياته الفكرية في جريدة «الجزائر الجمهورية» بتاريخ 12 / 3 / 1939م يقول: «إن تأكيد محالية الحياة لا يمكن أن يكون نهاية بل مجرد بداية فحسب.» ثم كتب بعد ذلك باثني عشر عاما في «المتمرد» يقول: «إن طبيعة المحال الحقة هي أنه نقطة بداية، نقد معاش ، ومعادل وجودي للشك المنهجي عند ديكارت.»
184
وكلا الرأيين يتفقان، على ما بينهما من بعد زمني؛ فلم يكن المحال مجرد نقطة بداية فحسب، بل إن كلمة المحال نفسها التي تكاد تتكرر على كل صفحة من صفحات كتاب «أسطورة سيزيف»، والتي طالما شبهها الكثيرون بكلمة العدم في كتاب سارتر الشهير «الوجود والعدم»، قد راحت مع مرور الأيام تثير الضيق والاشمئزاز في نفس كامي؛ فها هو يعترف في عام 1951م بأن هذه الكلمة كانت ذات مصير تعس وبأنها قد أصبحت تثير الضجة في نفسه. ثم يضيف إلى ذلك قوله: «عندما قمت بتحليل عاطفة المحال في «أسطورة سيزيف» كنت أبحث عن منهج لا عن مذهب. لقد طبقت منهج الشك، وحاولت أن أخلق هذه اللوحة البيضاء
tabula rasa
التي يمكن للإنسان أن يبدأ البناء منها.»
185
فإذا صح أن المحال ينبغي النظر إليه باعتباره منهجا أو فرضا من فروض العمل والبحث، فقد كان ينبغي أيضا أن يقر ذلك في الأذهان منذ ظهور كتاب أسطورة سيزيف. وإذا كان الشك المنهجي لا يكفي لكي يجعل من ديكارت فيلسوفا من فلاسفة الشك، فإن المحال لا يكفي كذلك لكي يجعل من كامي فيلسوف المحال، وهو الاسم الذي راح يطلقه عليه الكثيرون دون روية ولا إنصاف. لقد قال كامي في ذلك الكتاب في جلاء ووضوح إن الأمر فيه إنما يتعلق بنوع من أنواع العناد
Entétement .
186
وليس هذا العناد إلا ما تعبر عنه هذه الجملة التي أوردناها من قبل في سياق الحديث عن أخلاق الكم: «لقد كان همنا حتى الآن أن نعرف إن كان من المحتم أن يكون للحياة معنى حتى يمكن لها أن تعاش. وهنا يتبين على العكس من ذلك أنها تكون أصلح ما تكون للحياة كلما قل نصيبها من المعنى.»
187
ولقد نتجت عن ذلك كما قلنا أخلاق جديدة عرفناها بأخلاق الكم، وشعار للفعل والسلوك يؤكد التحدي والعناد، ويقول:" «عش كما لو ...» ورفض لكل حل لمشكلة المحال عن طريق اللجوء إلى المتعالي في أية صورة من صوره. وهذه النتيجة نفسها تضعنا وجها لوجه أمام السؤال المحير: كيف يتسنى لفلسفة نافية أن تعيش جنبا إلى جنب مع أخلاق إيجابية تؤكد الحياة وتجعل منها القيمة الوحيدة التي تستحق هذا الاسم؟
والإجابة على ذلك تحتاج منا إلى أن ننظر إلى تفكير كامي في إطاره التاريخي الذي لا يمكن فصله عنه. والسؤال يضعنا كذلك أمام المشكلة التي هزت عصرا بأكمله: «نريد أن نفهم تاريخنا وأن نحياه. إننا نعتقد أن حقيقة هذا القرن لا يمكن أن تفهم فهما صحيحا حتى نذهب في مأساتنا إلى آخر مداها.»
188
لم تكن فلسفة النفي والمحال هي نقطة البداية التي انطلق منها تفكير كامي وحده، بل لقد شاركه جيله كله فيها، وأخطر ما في هذه الفلسفة أنها لم تبق كغيرها مطوية في توابيت الكتب، مقصورة على قاعات البحث أو حذلقات المثقفين. لقد دفع الملايين من بني الإنسان من دمائهم ودماء أطفالهم ثمن المغالاة فيها وسوء فهمها. وإذا كانت مثل هذه الفلسفة التي تبدأ بالنفي والسلب تنتهي في بعض الأحيان إلى العدمية التي تعبر عن ذاتها باحتقار الإنسان والقضاء عليه (كما كان الحال عند كاليجولا وعند الصديق الألماني الذي يكتب إليه كامي رسائله الأربعة في أثناء الحرب العالمية الثانية) أو تؤدي في بعضها الآخر إلى روح التضامن والتعاطف والاعتراف بطبيعة إنسانية يشارك فيها أبناء الإنسان جميعا أو ينبغي عليهم أن يشاركوا فيها، فإن الأمر يتوقف في الحقيقة على موقفنا من هذا النفي أو المحالية واعتبارنا لهما نقطة بداية أو مذهبا مطلقا لا تغيير فيه ولا رجوع عنه «يقينا ليس كل شيء متضمنا في النفي أو في المحال. نحن نعرف هذا، ولكننا نعرف أيضا أنه يجب علينا أن نبدأ من النفي، من المحال؛ فهذان هما اللذان وجدهما جيلنا على طريقه، ومع هذين ينبغي أن ندخل في الجدل والحوار.»
189
إن المحاولات الكثيرة التي بذلت لتفسير فكر كامي على أنه «عدمية مطلقة أو عدمية أنطولوجية» أو على أنه «نارسيسية العدم» (كما يرى جابرييل مارسيل)
190
واعتبار عالمه عالم المحكوم عليهم بالإعدام (مثل ر. مونييه)
191
مقفلا على نفسه، محاطا بالأسوار من كل جانب، بل الذهاب إلى حد القول بأنه سجن أو أشبه بالسجن (مثل ر. بسيالوف،
192
ر. كوييه)،
193
نقول إن كل هذه التفسيرات تنظر إلى جزء أو آخر من عالم كامي، ولكنها لا تراه ولا تنصفه في حقيقته الكلية؛ فهي لا تحاول أن تفسره بكليته من خلال لحظة واحدة من لحظات تطوره فحسب، بل إنها تجهل طبيعة المحال نفسه وماهيته، الذي لم يكن نهاية يقف عندها بل بداية يبتدئ منها، ولم يكن نفيا مطلقا بل تضمن دائما الإيجاب في داخله.
كيف تم هذا التطور أو بالأحرى هذا الاتساع في المجال الفكري؟
هذا ما سوف نحاول أن نجيب عنه في الفصول القادمة.
الفصل الثاني
الانتقال إلى التمرد
تمهيد «العالم جميل، وخارجه لا توجد ثمة نجاة.» «أعراس» «العالم، العذاب، الأرض، الأم، الناس، الصحراء، الشرف، البؤس، الصيف، البحر.» (رد على سؤال وجه إلى كامي عن الكلمات العشر التي أحبها أكثر من غيرها) (1) الوعي في التمرد المحال (أ)
الوعي بوجه عام. (ب)
الوعي بالمحال يفترض وجود التمرد. (ج)
الوعي في قصة «الغريب». (د)
منطق المحال عند كاليجولا. (أ) الوعي بوجه عام
رأينا كيف يقتصر كامي في أعماله الأولى على الوصف الخالص للتجربة الإنسانية، سواء في ذلك أكانت الذات واعية بهذه التجربة (كما في «أعراس»)، أو كانت لا تصل إلى مثل هذا الوعي إلا في حالات نادرة وربما لا تصل إليه أبدا (كما في «الغريب» الذي يعيش في التجربة الخالصة، ويجد في هذه المعيشة تحقيق حياته). على أن الإنسان يسأل نفسه بإزاء كلمة التجربة الخالصة: ألا تفترض هذه التجربة، لكي تظهر أصلا في خلوصها وصفائها، درجة معينة من الوعي والشعور،
1
ثم ألا يحتاج هذا الوعي أو الشعور إلى أن يعمد الإنسان بإزائه إلى نوع من الاختيار الفلسفي بين ممكنات عدة حتى يميز الخالص من غير الخالص؟ إن وصف التجارب الإنسانية في تفككها وزوالها يجعل من السهل على المرء أن ينتهي إلى القول بأنها محال. ومع ذلك فإن كل هذا يتوقف على ما نفهمه تحت كلمة التجربة.
الواقع أن من الصعب تحديد المقصود من هذه الكلمة، خاصة إذا تذكرنا ما يقوله كامي من أن التجربة لا يمكن تحديدها، وإنما يمكن تجربتها فحسب بحيث لا يستطيع الانسان أن يحددها حتى يكف عن تجربتها. وإذا أردنا أن نوضح المراد من تصور التجربة عند كامي وجب علينا أن نستبعد اتجاهين متطرفين:
2 (أ)
أولهما أن نفهم التجربة باعتبارها المتلقى من الخارج؛ ذلك أننا نكون هنا بإزاء عيان تجريبي، الإنسان فيه لا يزيد على أن يكون مجرد متلق سلبي، تشده الإحساسات الخالصة إليها وتغرقه المدركات الحسية بطوفانها، فالتجربة بهذا المعنى حالة وجدانية. (ب)
وثانيهما أن نفهم التجربة على أنها بناء عقلي؛ فنحن هنا نكون بإزاء عيان مثالي أو رؤيا عقلية ترفع الأشياء - إن صح هذا التعبير - أو تستبعدها، وتحيل التجربة إلى نشاط عقلي داخلي، فالتجربة بهذا المعنى فعل عقلي.
وفي كلتا الحالتين نكون بصدد نوع من العزل أو الاستبعاد؛ فالإنسان في الحالة الأولى شيء بين الأشياء، وهو في الحالة الثانية ذات بين الذوات. وكلاهما على انفراد يلغي الوجود الحق. أما التجربة عند كامي فهي تضع نفسها بين الطرفين، وتجمع الاتجاهين. إنها هي علاقة الموجود بالعالم أو علاقته بنفسه عن طريق توسط العالم بينه وبينها. وقد يشعر الإنسان بهذه العلاقة شعورا واعيا وقد لا يشعر بها. على أن كل تجربة، تستحق هذه التسمية، إنما تفترض في الحقيقة نوعا من الفاعلية العقلية، فإذا أراد الإنسان أن يصف المعطى الخالص بما هو كذلك؛ أعني قبل كل وعي بالمحال (كما حاول كامي في أعماله الأولى وفي قصة الغريب وإلى حد ما في أسطورة سيزيف) فلا بد له بالضرورة من أن يسقط أحد طرفي هذه العلاقة؛ إذ إن هذه العلاقة لا يمكن الشعور بها إلا في الوعي. ومعنى هذا أننا سنحاول عندئذ أن نستبعد «الفعل» لصالح «الحال»، ونستبعد النشاط العقلي لنبقي على الإحساس الخالص. ومع ذلك فلن نستطيع أن نسلك كامي في عداد الإحساسيين والتجريبيين. حقا إن عالمه هو عالم «الأجساد والنجوم»، والصور والألوان والأنغام، ولكنه وإن كان يبدأ من الإحساس والمدركات والصور الحسية إلا أنه لا يريد أن يقيم منها مذهبا أو نظاما يفسر النزعة السيكولوجية فيها أو يبررها، وذلك هو أهم ما يميزه عن أولئك التجريبيين والحسيين. إن تجريبيته تظل تعاني من حكم ميتافيزيقي سابق؛ فهو منذ البداية يعدها صادقة وكاذبة في آن واحد. إنه يتبع، كما رأينا من قبل، منهجا ظاهريا (فينومينولوجيا) يحاول به أن يصف الظواهر خالصة من كل حكم عقلي، مبرأة من كل معرفة سابقة، ولكن هذا المنهج نفسه يظل معوقا منذ البداية؛ لأنه يؤكد الواقع وينفيه، ويرى بقاءه وزواله في آن واحد. هذه النزعة التجريبية لا يمكن أن يكون لها هدف آخر غير تبرير الأخلاق الكمية، التي نعلم أن عالمها عالم محال، وأن هدفها تمرد محال كذلك.
3
من هذا كله نرى أن الوعي بالمحال كان حاضرا على الدوام، حتى في تلك اللحظات التي أردنا أن نقصر أنفسنا فيها على المعطى الخالص، والتجربة المعاشة البحتة. غير أن الوعي بالمحال لم يكن ذلك الوعي الحقيقي الذي يعرف نفسه ويدرك حدوده وطاقاته. والأولى أن يقال إنه كان نوعا من الانتباه الخالص للظواهر السابقة عليه: «إنني أتنفس السعادة الوحيدة التي أملك القدرة عليها، وعيا منتبها صديقا.»
4
لذلك لم يكن التمرد، الذي كان يكمن في الوعي منذ البداية، تمردا حقيقيا، بل تمردا محالا، كما سنوضح ذلك فيما بعد.
وهنا ينبغي علينا أن نلاحظ أن كامي لا يهتم بالتأملات الذاتية، ولا يعبأ بالبحث الموضوعي عن الواقع الذي يقع وراء التجربة الواعية. إن ما يهمه قبل كل شيء هو الاتصال الشخصي بالموجود؛ فالحقائق التي يريد أن يتوصل إليها ينبغي أن تكون من ذلك النوع الذي يمكن أن يقبض الإنسان عليه بيديه. ليست حقائق أبدية بل يمكن أن تفسد وتموت في نهاية الأمر.
5
والإنسان بعد كل شيء موجود من لحم ودم ووعي، يحتل مركز الصدارة من تفكير كامي، ويهبه حماسة الحياة وحرارة الانفعال بها.
ولكن ما هو هذا الوعي الذي تحدثنا عنه فطال الحديث؟
إنه ليس من هذا العالم. ليس جزءا منه، كما تكون الشجرة بين الأشجار، أو القطة بين الحيوانات.
6
وليس شيئا من الأشياء، ولا موجودا من الموجودات. وقد نتصور حين نستحضر في أذهاننا العبارة التي أوردناها من قبل ونعني بها: «كل شيء يبدأ بالوعي، وما من شيء له قيمة إلا من خلال الوعي.»
7
أن في وسع الإنسان أن يعلو فوق العالم عن طريق الوعي، ولكننا نخطئ التصور كما نخطئ في التقدير؛ ذلك أن الوعي لا يقف بمفرده؛ فلا هو «الوعي الخالص» الذي يتحدث عنه كانت، ولا هو «الوعي المطلق» الذي تعتبر المثالية الألمانية أنه هو الوجود الحق ولا شيء سواه، ولا يمكن أن ننسب إليه حقيقة ميتافيزيقية من أية نوع؛ فليس الوعي غير الاتصال بالعالم وبالجسد. إنه - إن جاز التعبير - هو عين الجسد المعذب واللحم المستسلم لمباهج الإحساسات الخالصة؛ فعلى أعلى قمة النشوة يصبح اللحم واعيا.
8
إن مجال الوعي هو اللحم، وبعده لا يتعدى الجسد.
ولكن كيف يصبح هذا الوعي وعيا بالمحال ومن ثم وعيا بالتمرد؟ (ب) الوعي بالمحال يفترض التمرد
استطعنا حتى الآن أن نتبين اللحظات التالية على طريق الوعي بالمحال:
9 (1)
الحياة عذاب وتمزق، ولكي يتاح للمحال أن يحيا، دون الرضا به أو الموافقة عليه، ينبغي أن يبقى الوعي حيا. وكان أن رفض الانتحار رفضا حاسما. وكان الموقف الوحيد الممكن إزاء المحال هو مواجهته مواجهة تنبض بالتوتر وتفيض بالقلق والتمزق. (2)
الحرية عناد وتحد.
10
هي حرية «كما لو ...»
11
وأفقها الممكن هو الحاضر، باعتباره الجهة
modalité
الأساسية للزمن. والنفي الحاسم للأبدية يتحول إلى تجربة وجودية ب «الأبدية الفانية»، أبدية اللحظة العابرة. والوعي بالمحال يحرر الإنسان من كل خضوع لمعنى متعال ويعلن عرس زواجه بالعالم. بهذا الوعي يرتبط رفض الإنسان لكل متعال (ترانسندنس) ولكل أمل فيما هو خالد وباق وراء الزمان. (3)
التمرد الذي يضع العالم في كل لحظة موضع السؤال، لا لكي ينكر هذا العالم أو ينفيه، بل لكي يزداد له امتلاكا وبه إحساسا ويبسط ذراعيه على التجربة بأكملها.
12 (4)
هذا التمرد حاضر في تفكير كامي منذ البداية. ولقد رأينا كيف اجتمع الظل والنور واللا والنعم، والنفي والإيجاب، وحب العالم واليأس من فنائه في وحدة ديالكتيكية متشابكة الأطراف. لقد استطاع أن يقول في «أعراس»: «لست أرى ما يمكن أن يناله العقم من تمردي، ولكنني أشعر بوضوح بمقدار ما يضيفه إليه ويثريه به.»
13
وفي موضع آخر من نفس الكتاب وهو يتحدث عن فلورنسا فيقول إنها أحد الأماكن الأوروبية التي فهم فيها كيف ينعس الرضا في أعمق أعماق تمرده.
14
وقبل أن نستطرد في هذا الحديث الذي سيأتي تفصيله فيما بعد نحب أن نسأل: ما علاقة المحال بالتمرد؟ هل يستبعد أحدهما الآخر أو يكمله وهل يمكن رد أحدهما إلى الآخر؟ وكيف لنا أن نفهم أن التمرد كان كامنا على الدوام في أعماق الشعور بالمحال؟
لقد رأينا كيف ينشأ المحال في نهاية المطاف عن وعي بالحد؛ الحد الذي يصطدم به الإنسان فيضطر إلى الإحساس بمحدوديته أمام اللامتناهي، بالأسوار الغاشمة المعتمة التي يرتطم بها في كل مرة يحاول فيها أن يبحث عن الوحدة والوضوح في عالم يسوده الاضطراب والظلام؛ فالإنسان يعي وجود هذا الحد حين يدرك من ناحية ما هو بالفعل (غربته في العالم، موته الذي لا مفر منه، علاقته الشخصية الفانية بالموجود، معرفته النسبية الجزئية ... إلخ)، ومن ناحية أخرى ما ليس عليه ولكن يتمنى أن يكونه أو يصل إليه (الوحدة، المعرفة الكلية، إلف العالم، الوضوح ... إلخ)، فالمحال إذن في جوهره هو الوعي الناصع بحد يفصل بين الإنسان كما هو كائن وبينه كما يشتهي أن يكون؛ أي بين النسبي المحدود، وبين المطلق الشامل. وعن هذا التناقض الذي يفرق بين ما هو كائن وبين ما لم يتحقق (أو لن يتحقق) له كيان، نشأت ضرورة تحديد «أسوار المحال». ولقد رأينا كيف أن كل محاولة تهدف إلى الوصول إلى المطلق محاولة لا تنتهي إلى الإخفاق فحسب، بل إنها أشبه بقفزة المنتحر، بل لعلها أن تؤدي كذلك إلى القتل والجريمة (كما يشهد بذلك كاليجولا ومارتا). على الإنسان إذن أن يحيا مع متناقضاته خلف الأسوار، وألا يحاول تجاوزها إلى ما وراءها، وأن يقنع بما هو كائن وما يمكنه أن يكون. هذه القناعة لا تعني العزوف أو الصدود؛ فالإنسان الذي يفاجئه الإحساس بقدره المحال وهو يسير ذات يوم على منعطف طريق ليس حتما عليه أن يلعن قدره أو يذوق مرارته. إن كل ما يحس به هو ظلم هذا القدر المحال، وكل ما يملكه هو أن يرفضه؛ فمن طبيعة المحال ومن أخص خصائصه أن يرفضه الوعي. وعلى هذا الرفض يقوم التمرد، الذي يقوم بدوره على الوعي الناصع بالمحال وحدوده.
ونستطيع أن نسأل الآن إن كان الوعي الناصع هو شرط التمرد، أو إن كان الوعي يتم أول ما يتم عن طريق فعل التمرد نفسه. وعلينا قبل الإجابة على هذا السؤال أن نؤكد أهمية النصوع
Lucidité ؛ فالنصوع ينبغي دائما أن يفهم على أنه هو الوعي الباهر الشفاف بالمحال وحدوده التي عاهد نفسه بالوقوف عندها. في هذا النصوع تتحد الحرية والتمرد وعاطفة الحب للحياة، وفيه يرى كامي قيمة الإنسان وكبرياءه؛ فالوعي الناصع بالمحال هو الذي يستثير التمرد العنيد المتحدي لهذا المحال نفسه. ولولا نصوع الوجدان لغرق الناس «بعيون مغمضة مهزومة» في سبات أسود كئيب، على نحو ما جرى لهم في رواية «الوباء»؛ فالنصوع تحرر من حالة فقدان الوعي السلبية وانطلاق من كل ما يشل الوعي ويثقل الوجدان؛ من عدم المبالاة، من إيقاع الحياة اليومية الرتيب، من الأمل والعزاء، من الاستسلام لقدر محتوم ولكنه ظالم.
ونعود إلى سؤالنا الأول فنقول إننا لا نستطيع في الواقع أن نفصل التمرد عن الوعي الناصع. إنهما معا يمثلان كلا لا يتجزأ؛ ففي وسعنا أن نقول إن الوعي الناصع بالمحال يؤدي إلى التمرد، وفي وسعنا كذلك أن نقول إن التمرد هو الخطوة الحاسمة على الطريق المؤدي إلى الوعي الناصع. ومع ذلك فلا بد من القول بأن هذا التقرير سابق لأوانه. إننا لم نبين بعد على التحديد ماهية التمرد الذي نتحدث عنه، وسنحاول الآن أن نتحدث عما نسميه «بالتمرد المحال» تمييزا له عن التمرد الحق الذي سيأتي الكلام عنه بالتفصيل في فصل قادم ، فما هو هذا التمرد المحال؟
سنحاول الإجابة على هذا السؤال بتحليل موجز لطبيعة الوعي في قصة «الغريب»، والإشارة إلى ما نسميه بمنطق المحال عند كاليجولا، في مسرحية كامي المعروفة بهذا الاسم. (ج) الوعي في قصة «الغريب»
يقول كامي إن مرسو - وهو الشخصية الرئيسية في روايته القصيرة «الغريب» - عندي إنسان مسكين عار، يحب الشمس التي لا تترك وراءها ظلا.
15
والحق أن مرسو تتجسد فيه «الحساسية بالمحال» التي عرضها علينا المقال الفلسفي المطول «أسطورة سيزيف»؛ فشخصية مرسو إذ يصف لنا هذا الإحساس الذي لا سبيل في الحقيقة إلى وصفه، تعد من هذه الناحية، كما يقول سارتر بحق، تطبيقا لنظرية رواية المحال. إنها تبين لنا لماذا يتمسك كبار الروائيين بالظاهرات العينية المعطاة. ولماذا يعبرون عن أنفسهم بالصور المحسوسة
Images
بدلا من التأملات والأحكام العقلية والمنطقية. وهي بهذه المثابة تعبير عن فكر محدود متناه، متمرد بطبيعته؛ فمرسو حين يسلم نفسه للمعطيات الخالصة، وللتجربة الحية المباشرة يرفض في الحقيقة كل أنظمة التفسير والتعليل، ويلقي بنفسه، إن جاز التعبير، في صحراء خالية من كل دلالة أو معنى. ما من شيء له قيمة بالنسبة إليه غير الواقع الحاضر المتعين، باعتباره سلسلة من اللحظات المنفصلة العابرة. وحيث لا يكون ثمة معنى ولا دلالة، فإننا نجد أنفسنا في مملكة غنية بالصور والألوان والمشاعر لا يربطها رابط ولا توحد بينها فكرة. كل شيء مهما تضاءلت قيمته تصبح له قيمة متميزة، وكل صورة وإن بدت منفردة منعزلة يكون لها شأنها ومعناها.
إن مرسو يتحدث عن نفسه كما لو كان هو «الآخر»، والأنا عنده تصبح كما لو كانت «هو». كل عبارة ينطق بها تقف وحيدة منفردة، لا تربطها بالعبارة التي تليها علاقة سببية، ولا يجمعها وإياها جامع معنى أو دلالة؛ إن العبارات أقرب إلى أن تكون إيماءات حركية من أن تكون وحدات لغوية أو فكرية، إنها تصبح مجموعة من المشاعر والمدركات المستقلة بنفسها، وضعت إلى جانب بعضها البعض، لا ينتظمها نسق فكري محدد. وبين كل عبارة وأخرى هوة من الصمت، والعدم.
إن مرسو يظل في القسم الأول من الرواية، وحتى يصدر الحكم عليه بالإعدام، فاقد الوعي بالمحال. وإذا كان هذا الوعي بالمحال يخالج أحدا فهو يخالج القارئ الذي يجرفه هذا الإحساس اليائس الغريب بالمحال، والذي لا يستطيع أن يتشبه بمرسو أو لا يريد أن يتشبه به. وإذا كان لا بد من الكلام عن الوعي عند مرسو، فهو في هذه المرحلة نوع من الانتباه المباشر، أشبه ما يكون بجهاز الإسقاط
16
الذي نسميه بالفانوس السحري، يسلط ضوءه في كل مرة على صورة تختلف عن الصورة التي قبلها. وتظل الصور مفككة معزولة عن بعضها البعض، كما نرى في شريط سينمائي، لا تجمع بينها رابطة علية. ولعل هذه الهوى الموحشة الصامتة التي تفصل بين الصور والعبارات، وتجعلها تقف كالمخلوقات العارية المرتعشة في برد الشتاء، هي السبب الذي نحس من أجله عند قراءة هذه الرواية بالوحدة العميقة الجارفة.
إن مرسو يهب نفسه للتجربة الخالصة، للسعادة التي تمنحها اللحظة المباشرة، وكأنه طفل كبير يفتح عينيه لأول مرة على براءة النور، ويفرح من قلبه بعرس الألوان، ويرتعش لنبض الحياة في كل الموجودات. لقد ألقي به في عالم لا يعرفه، وحكم عليه بالحياة في مجتمع لا يفهم لغته، وارتبط مصيره بأناس تبدو له أفكارهم وتصوراتهم وعاداتهم شيئا غريبا لا يستطيع ولا يريد أن يألفه. إنه يحيا كالغريب بين غرباء. وهو بالنسبة لنا، نحن الذين نقرأ عنه ونتتبع قدره، إنسان غريب أيضا، لا نعرف له موضعا يناسبه في أنظمتنا الجاهزة من القيم والمعايير. إننا نحس بغربته وبراءته في آن واحد، ولكنه إحساس يختلط فيه السخط والخوف والرثاء؛ فنحن لا ندري ماذا نفعل إزاء هذا الإنسان المدهش الذي يبدأ من الصفر ويريد ألا يتحول عنه.
والحق أن مرسو إنسان بريء بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وقمة براءته وتهمته في وقت واحد هي أنه عاش حياته حتى الآن بغير أن يثير الريبة من ناحيته في نفس إنسان. إن الرصاصة التي تنطلق من مسدسه لتردي الأعرابي قتيلا هي التي تفتح الأعين عليه. هذه الجريمة التي ألقت بها الصدف العمياء في طريقه هي بالنسبة لوكيل النيابة نتيجة لا بداية. لقد سلطت الأضواء على حياته التي قضاها حتى الآن في غير اكتراث، وتصبح السيجارة التي دخنها بغير قصد منه أمام تابوت أمه المسجاة في ملجأ العجزة، والدموع التي لم يذرفها وهم يوارونها التراب، واللحظات القليلة التي تسلل فيها النوم إلى جفونه، والفيلم الذي شاهده في صحبة عشيقته بعد ذلك بأيام قليلة؛ كل ذلك يصبح جريمة لا يريد أحد أن يغفرها له. لقد كان مرسو إذن مجرما عريقا في الجريمة. وذنبه الأكبر أنه لم يعتقد في «الذنب» أو لم يفهم له معنى، وأنه ظل يقف من مواضعات المجتمع وتقاليده موقف من لا يبالي بشيء. إنه الآن في نظر المحقق والقاضي «وحش» و«عدو للمسيح».
ويظل مرسو يراقب القضية وكأنهم يحاكمون إنسانا آخر لا تربطه به صلة. ويظل الوعي بالمحال راقدا في نفسه لا يستيقظ. ومع أن هذا الفرد الوحيد يصطدم بالمجتمع، ممثلا في أشخاص المحقق والقضاة والمحلفين وقسيس السجن وكل القيم الأخلاقية التي يدافعون عنها من عدالة وواجب وحب ووفاء ... إلخ، فإن هذا الإحساس بالمحال لا يصل عنده إلى مرحلة الوعي. إن كل كلمة يقولها مرسو تشف عن إحساس وعن صورة وراءها، في حين أن كل كلمة ينطق بها المحقق تدل على معنى أو تصور أو شكل من أشكال النظام المدني والاجتماعي. ويبقى مرسو غريبا أمام نفسه وأمام المجتمع الذي يتهمه ويشده إلى المقصلة.
ولكن حكم الإعدام يسقط كسيف الجلاد. ويزوره قسيس السجن في زنزانته. ويصطدم مرسو به فيستيقظ الوعي بالمحال الذي ظل كامنا فيه. وبينما يتشبث مرسو بسعادة من هذا العالم، نجد القسيس يعده بسعادة أخرى في عالم آخر، ويزين له «القفزة» التي حرمها على نفسه الإنسان الذي يعيش في المحال ويخلص له.
17
ويرفض مرسو هذا الأمل السهل، وينقض على القسيس ليصرخ به: إن كل اليقين الذي تعدني به لا يساوي شعرة واحدة في رأس امرأة. إن تمرده ليس هو التمرد الحق الذي يثور فيه الإنسان باسم إخوته جميعا من البشر، ولا باسم الطبيعة الإنسانية، بل هو تمرد باسم السعادة الأرضية التي تمتع بها حتى هذه اللحظة دون أن يدري: «أحسست أنني كنت سعيدا وأنني لم أزل سعيدا.»
18
إنها هي بعينها تلك السعادة التي تحدث عنها كامي في «أعراس»
19
والتي تنبع من التعاسة المتصلة.
بقي مرسو حياته وحيدا غارقا في وحدته. لم يستيقظ إحساسه بوجود الآخرين إلا وهو على عتبة الموت. إنه الآن يفكر في أمه، التي اتهموه بأنها لم يحبها، كما يفكر في الناس، الذين سيموت بينهم. إن أقصى ما يتمناه اليوم، لكي يقل إحساسه بأنه وحيد، أن يرى في طريقه إلى المقصلة عددا كبيرا من المتفرجين «يستقبلونه بصرخات الحقد».
20 (د) منطق المحال عند كاليجولا
تتجسد في شخصية كاليجولا، في مسرحية كامي المعروفة بهذا الاسم، تجربة الإنسان الذي يملك القوة التي تمكنه من أن يحول منطقه المحال إلى واقع فعلي؛ فالمحال عنده ليس مجرد شعور أو عاطفة، بل فكرة فلسفية تسيطر على كيانه. لقد اكتشف كاليجولا فجأة، على أثر وفاة شقيقته أو حبيبته درزيللا، أن العالم محال. هذا الاكتشاف الذي توصل إليه يلخصه في هذه العبارة: «الناس يموتون وهم ليسوا سعداء.»
21
حقا إن الناس لا يعلمون شيئا عن هذه الحقيقة البالغة البساطة والوضوح، الحمقاء إلى حد ما. غير أن كاليجولا يملك «الوسائل» التي يستطيع بها أن يجبرهم على أن يعيشوا فيها.
كاليجولا يرى أن العالم محال، وأن كل شيء قد خلا من المعنى والغاية. وحيث لا يكون لشيء من معنى، يصبح كل شيء سواء (فعظمة روما تتساوى لديه مع أوجاع النقرس التي يحس بها رئيس البلاط في قصره)، كما يصبح كل شيء مباحا. والذي يبيح لنفسه كل شيء يتوهم أنه حر من كل شيء. وهنا تكمن حرية كاليجولا الفاسدة؛ حريته في أن يجعل المستحيل ممكنا، أن يقبض على القمر بيديه، ويأمر الشمس أن تغرب في الشرق، ويمنع الناس من أن يموتوا. هذه الحرية المستحيلة التي لا تعرف حدودها تجعله يقول: «أنا الحر الأوحد في الإمبراطورية الرومانية بأسرها.»
22
وهي التي تجعل التعسف يحكم في مكان القانون. إن القوة التعسفية هي الوسيلة الوحيدة التي يريد بها كاليجولا أن يوقظ الناس من سبات عاداتهم ويضعهم وجها لوجه أمام مصيرهم. ولقد كان في الإمكان أن تكفي هذه القوة في إيقاظ الوجدان لو أنها تقيدت بالحدود التي وضعها لنفسه الإنسان الذي يعيش في المحال؛ أعني لو أنها تقيدت بحدود الممكن وحده دون أن تحاول أن تتعداها. كان في استطاعة هذه القوة المتعسفة أن توقظ وجدان الناس، ولكنها ما كانت لتستطيع أن تحقق ما يريده منها كاليجولا، ولا أن تسير مع منطقه إلى نهايته.
كيف السبيل إلى تمييز الممكن عن المستحيل؟
لعل هذا هو السؤال الأساسي الذي نسي كاليجولا في غمرة يأسه وطموحه أن يوجهه إلى نفسه. إنه يحسب أن التجربة وحدها هي التي تستطيع أن تعطيه المعيار الذي يفصل بينهما. هذا الوهم يدفعه إلى أن يسير بمنطقه المحال إلى نهايته: «المنطق، يا كاليجولا، المنطق ينبغي أن يتابع طريقه!»
23
وهكذا يحس في نفسه بالحاجة التي تلح عليه أن يدرك المستحيل، أن يمد ذراعه فتلمس القمر، أن يصل إلى السعادة والخلود، إلى شيء ربما كان طائشا مجردا من كل معنى، ولكنه ليس من هذا العالم.
24
إنه يريد أن يغير نظام الأشياء، يريد من الشمس أن تغرب في الشرق، ومن العذاب أن يختفي من أرض البشر، ومن الموت أن يكف يده عن الناس
25
وهكذا يستطيع أن يقول: «إن فائدة القوة تكمن في أنها تتيح للمستحيل أن يحقق بعض الإمكانيات.» وأن يقول: «إن حريتي لم يعد لها حد تقف عنده.» بل أن يذهب إلى حد الادعاء بأنه «ما من شيء في هذا العالم، ولا في العالم الآخر يمكن أن يقاس بمقياسي.»
26
يريد كاليجولا أن يبرهن على حريته المطلقة، وينظم عدم اكتراثه، فيلقي بالناس في أتون من العذاب، إنه يختلق مجاعة ضارية، وينتهك حرمات النساء أمام عيون أزواجهن. ويريد كاليجولا أن يمتلك الناس كل الامتلاك فيأمر بقتلهم؛ ذلك «لأن الناس الذين قتلناهم، يصبحون معنا .»
27
إنه يعتقد أنه لو استطاع أن يدرك المستحيل وأن يضم القمر بين يديه، فسوف ينجو الناس من الموت، غير أنه يأمر بأن يموت الناس لكي يحول دون الموت، سبب تعاستهم الرئيسي، وبذلك يناقض نفسه بنفسه، ولكن المستحيل لا يتم على ظهر الأرض، وكاليجولا لا يستطيع أن يلمس القمر بيديه، وهو لذلك يصرخ مادا ذراعيه نحو السماء، لكي يهرب من وحدته. إنه يقوم على المستوى الفردي العدمي بما سوف يقوم به الوباء على المستوى الجمعي-الميتافيزيقي.
وترهق الناس حياة الذل والخطر التي يضعهم فيها كاليجولا فتوقظ فيهم صحوة الوجدان، ولكنها صحوة من سبات الجهل والغفلة، لا صحوة الوعي الحقيقي التي يمكن أن تدفعهم إلى التمرد. إن بعضهم يعلن رضاه بالمحال واستسلامه له؛ أعني إلغاءه لوجود المحال نفسه (إذ المحال لا يحيا إلا بمقدار ما نعلن سخطنا عليه وتحدينا له). وهم باعترافهم بالمحال يتنكرون للتمرد، حتى يصل بهم الأمر إلى الحد الذي يجعلهم يرفعون القيصر الروماني - الذي يتجسد المحال الآن في شخصه - إلى مصاف الآلهة، هؤلاء الانتهازيون الضعاف لا يفعلون ذلك عن إرادة شريرة، بل عن جهل أو غفلة. وأما الفريق الآخر منهم فهم يدبرون مؤامرة على حياة القيصر؛ لأنهم يكرهون السعادة المستحيلة ويخافون منها. يقول «كيريا» موجها كلامه لكاليجولا: «إنني أحس في نفسي بالشوق إلى أن أحيا وأن أكون سعيدا، وفي رأيي أن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى شيء منهما إذا سار في المحال إلى أقصى مداه.»
28
فليس في استطاعة أحد من الناس أن يتبع هذا المنطق المحال ويهنأ مع ذلك بالحياة أو يبلغ السعادة.
و«كيريا» كذلك إنسان يعيش في المحال، ولكن الشيء الذي يميزه عن كاليجولا هو أنه يرفض أن يسير مع منطقه المحال إلى نهايته. إنه يؤمن بإمكان الحياة في المحال، ولكنه يؤمن كذلك باستحالة البرهنة عليه. وهو بذلك يبقى على إخلاصه للمحال، فيعترف بحدوده، ولا يحاول أن يتخطى أسواره. لقد عرف كيريا أن منطق كاليجولا لا بد أن يؤدي به إلى القتل في صورتيه: الانتحار والقتل بالجملة. ولقد عرف أيضا أن الحقائق الواضحة البينة بذاتها (والمحال لا شك إحدى هذه الحقائق) لا تفسر إلا بذاتها ومن ذاتها، وأنها لا تحتاج إلى قيمة خارجية عنها للاستعانة بها على تفسيرها؛ فوضع قيمة كهذه يشبه الإقدام على «القفزة» التي حرمها على نفسه إنسان المحال. والإقدام على مثل هذه القفزة ليس مجرد مسلك فاسد في الفكر والشعور كما رأينا فحسب، بل هو قبل كل شيء جريمة لا تغتفر. وسنرى كيف أقدمت نظم الطغيان السياسي المختلفة على مثل هذه الجريمة حين جعلت للتاريخ قيمة مطلقة (كما في التأكيد المطلق عند الماركسية)، أو حين جردته من كل معنى وقيمة (كما في النفي المطلق عند الفاشية والنازية).
29
إن كلا النظامين ينتهي إلى الانتحار أو إلى القتل بالجملة تبعا لتأكيده لمعنى التاريخ أو نفيه عنه. وكلاهما ينبع عن وعي غير حقيقي بالمحال؛ إذ الوعي الحقيقي به لا بد وأن يؤدي في نهاية المطاف إلى التمرد الحق؛ أي التمرد المعتدل.
وإذن فالسعي إلى المستحيل يحمل في ذاته خطر إلغاء تلك الحقائق التي تأدت عن الوعي الناصع بالمحال ونفي كل قيمة عنها. وسعي كاليجولا إلى المستحيل يحمل في ذاته أيضا خطرا لا ينفصل عن ذلك، هو خطر اعتبار الناس جميعا مذنبين، سواء في ذلك الذين يقلدون فعله فينفون ويدمرون، أو الذين يتمردون عليه فيضطرون إلى الإقدام على الجريمة «أنا في حاجة إلى مذنبين. وهم جميعا في نظري مذنبون.» هكذا يقول كاليجولا. ويستطرد في منطقه الذي يتألف في مجموعة من أقيسة خاطئة خادعة فيقول: كل من يذنب يموت. وكل من هو من رعية كاليجولا فهو مذنب. إذن فالجميع مذنبون. ينتج عن هذا أنهم جميعا محكوم عليهم بالموت. إن المسألة مسألة زمن فحسب.
30
ولكن كاليجولا، على الرغم من كل ما يؤكده، لم يسر في منطقه المحال إلى آخر نتائجه؛ فلو فعل لكان لزاما عليه أن يقدم على الانتحار. لقد عجز كاليجولا عن تحقيق المستحيل وظل وحيدا طول حياته؛ لم يلمس القمر ولم يدرك الخلود.
أما «مارتا» (بطلة مسرحية سوء فهم) فهي الوحيدة التي سارت مع منطق المحال إلى آخر مداه. إنها تكتشف بعد أن قتلت أخاها أنها فقدت السعادة إلى الأبد، وفقدت معها البحر والشمس، ولكن المحال لا ينفصل عن السعادة؛ أعني أن المحال لا سبيل إلى احتماله إلا حيث تكون السعادة ممكنة. وإذا كانت قد فقدت السعادة، فقد فقدت معها المقدرة على الوقوف في وجه المحال، ولم يبق أمامها إلا الانتحار.
31
بهذا تكون «مارتا» قد تجاوزت الحد الذي يتبين لنا بالوعي الناصع بالمحال، وأقدمت على «القفزة المميتة» التي لا بد أن تنتهي بصاحبها إلى الموت.
إذن فالوعي الحق بالمحال، وبالتالي بالتمرد، لم يشرق بعد عند كاليجولا ولا مارتا ولا مرسو؛ فعلى الرغم من أن مرسو يحيا حياة «محالية» بحتة، حتى ليتمنى قبل أن ينفذ فيه حكم الموت لو أمكنه أن يعود فيحياها مرة ثانية، وبالرغم من أن مارتا وأمها بعد أن قتلا الأخ والابن يقفان على هاوية المحال ويثبتان أعينهما في أعماقها، وبالرغم كذلك من أن كاليجولا لا يهب عاطفته وحياته كلها للمحال، فإنهم جميعا يجعلوننا نحس بجو المحال دون الوعي الحقيقي به. حتى سيزيف، الذي يشهد ب «العزة الميتافيزيقية» التي تجعل الإنسان يحتمل محالية العالم والذي يواجه قدره الظالم بوجدان ناصع ووعي مضيء، لم يزل محصورا في دائرة هذا التمرد الفردي الذي سميناه بالتمرد المحال. فتمرده كره للموت وحماس للحياة في وقت واحد، نفي للآلهة وتحد للمحال. إنه في وقفته الوحيدة على قمة الجبل الوحيد، لا يجد ملجأ يأوي إليه إلا قرارة جرحه، ودفعه للصخرة إلى قمة الجبل وتركها تسقط إلى الوادي لكي يدفعها من جديد، في فعل عابث لا جدوى منه ولا نهاية له. إن سيزيف لا يعرف التمرد الحقيقي، الذي هو في جوهره احتجاج على قدر ظالم غير مفهوم؛ ذلك أنه لا يحتج، بل يحتمل، لا يثور، بل يعاند. ووعيه الناصع الذي يجعله يواجه المحال ويتحداه هو الذي يبرر لنا أن نتحدث عن تمرده «المحال» الذي لم يصل بعد إلى مستوى التمرد الحق.
تستوي في هذا نماذج المحال (سيزيف، الممثل، العاشق، الفنان) والغريب (مرسو)، والقاتلتان (مارتا وأمها) وكاليجولا. إن التمرد عندهم جميعا ليس إلا عاطفة متحمسة للحياة، وعنادا، ورفضا مريرا لكل عزاء يأتي من «فوق الطبيعة»، وكبرياء تجعل الإنسان يؤكد قيمة حياته بالتحدي والعناد والإصرار. إنهم جميعا يدورون حول تجربة المحال كتجربة «نادرة»، شخصية، مباشرة، يعانيها الفرد وحده، دون أن يستطيع تجاوز الأفق الفردي الذي تتحرك فيه، ودون أن تتمكن من إدخال عنصر «الآخر» إليها؛ ولذلك كان تمردهم الفردي هو ما سميناه بالتمرد المحال، تمييزا له عن التمرد الحقيقي الذي يحرر الفرد من وحدته. هنالك تصبح الخطوة الأولى التي يقوم بها العقل الذي تصدمه غربة العالم هي الاعتراف بأنه يشارك جميع الناس في الإحساس بهذه الغربة. ويصبح الداء الذي كان يعانيه فرد بمفرده وباء مشتركا.
32
هذا التمرد الحقيقي الذي عرضه كامي عرضا فلسفيا في كتابه «المتمرد» (1951م) قد صوره من قبل تصويرا شاعريا في روايته «الوباء» وفي مسرحيته «حالة حصار».
33 (2) الانتقال إلى التمرد (أ)
الوعي في مسرحية «حالة حصار». (ب)
الوعي في رواية «الوباء». (أ) الوعي في مسرحية «حالة حصار»
تصور هذه المسرحية سكان المدينة الإسبانية كاديز الذين يعيشون حياتهم الطبيعية الخصبة فاقدي الوعي مسلمين بها تسليما لا يقبل المناقشة، في ظل نظام تقليدي عاجز لا أثر له، يمثله الحاكم والقاضي والكنيسة. وذات يوم ينشب الوباء مخالبه في جسد المدينة، فيفرض عليها نظاما بيروقراطيا جامدا مجردا كأنه القدر. ويحطم الوباء حياة المدينة كما حطم طغيان كاليجولا مدينة روما؛ فيشل الوجدان، ويقتل الحرية والحب والمغامرة. وتصبح العدالة انتقاما، والحب كرها، والشرف جبنا، وينقطع تيار الحوار الإنساني الذي يعبر به البشر عن مخاوفهم وآلامهم، عن أحزانهم وأفراحهم، عن أسئلتهم وأجوبتهم. ويسود حكم الصمت؛ أعني حكم المونولوج. ويظل هذا الحكم سائدا حتى يتشجع الطالب والعاشق الشاب دييجو فيصرخ صرخة الاحتجاج والتمرد، وينزع القناع عن وجهه، ويحرر سكان المدينة من خوفهم، وينقذ حبه، بعد أن يدفع حياته ثمنا له.
إن التمرد على المحال (ممثلا في صورة الوباء) يتجسد في شخصية دييجو. إنه يزيل أكوام الكسل والخوف وعدم الاكتراث، ويؤجج شرارة الحياة والقوة والحرية في نفوس سكان كاديز. لقد سقط شعب كاديز ضحية نظام سلبي مجرد ، كما حدث من قبل لحاشية كاليجولا ولسكان مدينة أوران (في رواية الوباء). وكان يكفي أن يقهر واحد منهم خوفه من الموت لكي يصل إلى درجة من الوعي تندلع منها شرارة التمرد. تقول سكرتيرة الوباء: هل ما زلت تحس بالخوف؟ فيجيبها دييجو قائلا: لا. وترد عليه السكرتيرة قائلة: إذن فلست أملك شيئا ضدك.
34
إن «دييجو» غاز كذلك الذي تحدثنا عنه في «نماذج المحال»، يتغلب على الموت في نفسه وفي نفوس من يشاركونه في الحياة والمصير، لا عن غرور أو كبرياء، بل عن وعي بموقفه اليائس الذي لا مخرج منه، الذي يزيد فيه الموت من وطأة الظلم.
35
إن المتمرد الشاب دييجو لا يريد أكثر من أن يكشف لسكان مدينته عن معنى قدرهم الذي خلا من كل معنى. إنه يريد أن يوقظ حياتهم التي غاصت في السلبية واللاوعي، وعدم الاكتراث. تمرده دعوة إلى الوعي الناصع بالمحال، وحث لهم على تحديه وجها لوجه، والتصدي له وعدم الهروب منه؛ فتعليم الناس أن كل شيء محال معناه في الوقت نفسه التمرد على حكم الوباء، والتغلب عليه في الوجدان قبل الانتصار عليه في الواقع؛ ذلك لأن الوباء سيظل يفرض سلطانه المتعسف المجرد ما بقي الناس في كاديز ينعمون في سبات من فقدان الوعي. وهو يستطيع أيضا أن يحافظ على سلطانه لو استيقظ الناس من نعاسهم واختاروا العدمية الميتافيزيقية (التي تتمثل في شخصية نادا، ومعناها العدم في الإسبانية) موقفا لهم.
ليس فقدان الوعي مجرد نقص في درجة الوعي بقدر ما هو نقص في الوعي بمحالية العالم وعدم جدواه. إنه يمثل ذلك الأفق الضبابي الغائم الذي تدور فيه كل المغامرات الميتافيزيقية العدمية (مثل الانتحار الذي تقدم عليه مارتا وأمها، ومثل القتل بالجملة الذي يأمر به كاليجولا وينظمه الوباء)؛ ولذلك نستطيع أن نسمي الانتحار، الذي يرفضه كامي في «أسطورة سيزيف» ويسميه بالهروب والنكوص ، نقصا في الوعي الناصع بالمحال. إن كل نقص في نصوع الوعي فهو في الوقت نفسه نقص في الوعي الناصع بالمحال، وبالتالي عقبة تحول دون التمرد. إن نصوع الوعي بالمحال شرط للتمرد، كما أن التمرد نفسه شرط لنصوع الوعي. (ب) الوعي في رواية (الوباء)
يحس سكان المدينة الجزائرية البائسة أوران، كما يصفهم لنا راوية الوباء الطبيب ريو، إحساسا ضئيلا بالواقع. إنهم لا يشعرون بالخير ولا بالشر، وهذا ما يسمح للوباء بأن ينتشر بينهم، ويتمكن شيئا فشيئا من نفوسهم وأبدانهم. إنه ينظم الشر في الحياة الإنسانية حتى يصبح نظاما متماسك البنيان، يقوم على العذاب، والموت، والفراق، والخوف، والوحدة. وهو يدمر كل ما هو خير في هذه الحياة؛ الحرية والأمل والتعاطف والحب. ويزحف فتستسلم له المدينة التي استسلمت قبله لحالة من السلبية وفقدان الوعي. وينتشر مملا كالتجريد
36
يفضح نفسه بعلامات سلبية.
37
وليس الوباء مجرد رمز لشر يصيب المدينة من خارجها، بل هو النتيجة المنطقية الأخيرة لتلك القيم السلبية التي عاشت كامنة في ضمير سكان أوران
38
وانطوت في موقفهم السلبي الذي فقد كل عناصر الوعي والمقاومة. وسواء كانت نظرتنا إلى الوباء نظرة فردية أم سياسية أم اجتماعية أو ميتافيزيقية، فإن الرمز الذي يعبر عنه يؤكد الارتباط الضروري بين الشر وبين النقص في مستوى الوعي والوجدان.
إن الوباء في نظر تارو والدكتور ريو - وهما الشخصيتان الرئيسيتان في هذه الرواية - هو في جوهره موقف لا مخرج منه،
39
ينبغي مواجهته بالوعي الناصع العنيد. إنه كالمحال عند سيزيف عود على بدء
40
لا نهاية له ولا جدوى من ورائه. إنهما يكافحانه بكل ما يملكان من قوة، على الرغم من إيمانهما بأن جرثومة وباء الطاعون لا تموت ولا تختفي كل الاختفاء،
41
وأن الإنسان سينهزم في نهاية الأمر دائما أمام سلطان الوباء الذي لا يهزم. كلاهما يرفع راية الكفاح على طريقته؛ فريو يمارس مهنته كطبيب في شرف وأمانة (إن الوسيلة الوحيدة لمكافحة الوباء هي الأمانة).
42
ويرفض حتى الموت أن يحب الخليقة التي يتعذب فيها الأطفال،
43
وتارو يصمم على أن يرفض كل ما يقتل أو يبرر القتل. إنهما يقفان أمام هذا المحال الجديد وجها لوجه، ويرفضان أن يفرا من أمامه أو يحنيا له رءوسهما،
44
وهما بموقفهما هذا يرفضان كذلك أن يعيشا في العدمية الميتافيزيقية التي تعيش فيها شخصية يائسة مثل كوتار، كما يأبيان أن يقفزا القفزة المميتة التي لا ينفك الأب بانيلو يمجد فيها ويزينها للناس في خطبه ومواعظه، ونعني بها التماس العزاء والخلاص في حياة أبدية غير هذه الحياة. إنهما يعيشان كما عاش سلفهما القديم سيزيف في تناقض دائم مع نفسهما وفي تمزق باطني لا يهدأ عذابه.
45
ومع ذلك فإن عذابهما عذاب من أجل الآخرين، والألم الفردي الذي لم يكن سيزيف يعرف ألما غيره قد أصبح ألما جمعيا «هنالك اختفت المصائر الفردية، ولم يبق إلا تجربة واحدة مشتركة، هي تجربة الوباء والمشاعر التي يحس بها الجميع.»
46
إن فكرة «الآخر» تظهر هنا لأول مرة، باعتبارها عنصرا أساسيا في بناء الوعي الناصع المتمرد على المحال. ولا يقتصر الأمر على هذا فحسب؛ فإن فكرة الآخر قد أصبحت تدعمها كلمة «نحن» التي ترد الآن على لسان راوية الوباء «الدكتور ريو»،
47
فيعبر بها عن جماعة من الضحايا والمقهورين، يكافحون قدرا ظالما مشتركا قد خلا من كل معنى.
رواية الوباء ومسرحية حالة حصار تصوران هذا الانتقال من الأنا إلى النحن، من الفردية إلى التضامن، ومن التمرد المحال إلى التمرد الحقيقي المعتدل. هذا الانتقال لا يحدث إلا في الوعي والوجدان. وبذلك يتسع مجال الفكر من «أسطورة سيزيف» إلى «التمرد»، ومن مشكلة الانتحار إلى مشكلة القتل الجمعي، ومن أخلاق الكم إلى أخلاق الكيف، ومن نزعة عدمية شاملة شعارها هو كل شيء أو لا شيء إلى نزعة تؤمن بالحد والمقياس، ومن تمرد طائش محال إلى آخر معتدل وفي لمنبعه الأصيل.
ويمكننا أخيرا أن نلخص ما سبق في الحقائق التالية: (1)
إن التفكير المحال وهو يواجه ما لا معنى له يفترض التمرد بالضرورة؛ فالحقيقة الأولى، والبينة الوحيدة التي تؤدي إليها تجربة المحال هي التمرد.
48 (2)
الوعي الناصع بالمحال يبعث على التمرد، كما أن التمرد يزيد من نصوع الوعي ويؤكد شفافيته. (3)
بالوعي يقف الإنسان أمام العالم وجها لوجه، كأنهما ضدان متقابلان، ويصبح الإنسان كائنا من غير هذا العالم. وكونه من غير هذا العالم يعني أنه يعلو عليه. هذا العلو لا سبيل إلى فهمه إلا عن طريق التضامن والديالوج، اللذين يقوم التمرد الحق عليهما، وهو ما سنتعرض له في الفصلين القادمين. (4)
مسرحيتا «كاليجولا» و«سوء فهم» يبينان حدود الفكر المحال وإمكانياته؛ فالذي يؤمن بالمحالية المطلقة لا بد أن ينتهي بالضرورة إلى ارتكاب جريمة الانتحار أو جريمة القتل؛ ومن ثم فالتمرد على مثل هذه المحالية لا يمكن إلا أن يكون مثلها تمردا محالا، ما أبعد الفارق بينه وبين التمرد الحق! (5)
تثبت نماذج المحال التي يسير أشخاصها في سلوكهم وفقا لمبادئه الأخلاقية، أن الإخلاص للمحال لا يكفي وحده للوصول إلى التمرد الحق؛ فلا بد دون ذلك من وجود فكرة «الآخر» كعنصر جوهري لا غنى عنه في بناء الوعي، وذلك لكي يتمكن الإنسان من العلو على الفردية والوصول إلى أفق إنساني شامل يؤكد وجود طبيعة إنسانية مشتركة يقوم عليها التمرد الحق. هذا الانتقال الذي تناولناه في الأعمال الفنية سنحاول الآن أن ندرسه في التمرد نفسه.
الفصل الثالث
التمرد
«الإنسان فان، هذا جائز، ولكننا نريد أن نفنى ونحن نقاوم، وألا نعطي للعدم، إن كان ينتظرنا حقا، أي مظهر من مظاهر العدالة.» (سيناكور: «أوبرمان»)
نص اقتبسه كامي ووضعه شعارا للرسالة الرابعة إلى صديق ألماني. (أ)
بناء التمرد. (ب)
التمرد والثورة: التاريخ. (ج)
الانحراف عن التمرد: النعم المطلقة. (د)
التمرد المعتدل وفكرة الحد والمقياس. (ه)
إستطيقا التمرد. (و)
تلخيص عام. (أ) بناء التمرد
كان هم كامي في أعماله المبكرة أن يصور جانبي الظل والنور في الوجود الإنساني وأن يبرز محاليته على المستوى الفردي. وكانت كرامة الإنسان وعزته في احتمال هذه المحالية، ومواجهتها في تحد وأمانة وشجاعة. أما مشكلة الموت، ممثلة في مشكلة الانتحار التي جعل لها الأولوية على سائر المشكلات، فكانت هي التناقض الممزق للقلب الذي انطلق منه فكره الفلسفي كله . وأما الموت الذي تبرره الحجج العقلية، وتدعمه المذاهب الفلسفية والعقائد الأيديولوجية، ممثلا في صورة القتل بالجملة، فلم يكن قد التفت إليه بعد.
كانت محالية الحياة، كما رأينا ، أمرا لا غنى عنه لتأسيس الحرية. ولقد رفض الانتحار رفضا حاسما؛ لأن الانتحار معناه التخلي عن الوعي، والوعي هو القيمة الحقيقية الوحيدة التي يملكها الإنسان، وهو الذي ينبغي عليه بإزاء المحال أن يحافظ عليه، في أعلى درجات التوتر والنصوع والصفاء. ولم يكن واجب الإنسان قاصرا على أن يحيا فحسب، لكي يتيح الحياة للمحال، بل كان الواجب عليه أن يزيد من الحياة. مزيدا من الحياة؛ تلك كانت القاعدة الأخلاقية التي اتخذها «نماذج المحال» شعارا لحياتهم ومقياسا لسلوكهم. وقد جعلتهم يقدمون الكم على الكيف، لا بل يجردون القيم الكيفية من كل معنى أو دلالة. وقد يذهبون إلى أبعد من هذا، فيرون أن القيم الكيفية تزيف الحياة، وتملؤها بالأوهام، وتبرر القتل على اختلاف صوره تبريرا أيديولوجيا (والغازي، وكاليجولا، ومارتا وأمها أمثلة واضحة على ذلك). كانت القيم الوحيدة التي تحتفظ بمعناها هي القيم المتجسدة أو «حقائق اللحم»
1
التي تحدثنا عنها فيما تقدم، والتي لا يخالج أحدا أن يشك في صدقها ويقينها. وكانت إستطيقا المحال، أو «الخلق بلا صباح» هي تسجيل تمرد الإنسان على ظروف حياته المحالة في لحظة سميناها ب «الأبدية الفانية». وكما استند سيزيف على صخرته التي كتب عليه أن يدفعها إلى قمة الجبل في عود على بدء لا نهاية له ولا رجاء فيه، فقد استند الإنسان أيضا على صخرة الموت الذي لا حيلة له فيه ولا مفر له منه. وكان أقصى ما يستطيعه هذا التمرد المحال هو الصبر، والشجاعة، والكبرياء، وأن يستنفد كل جهده في تحدي قدر ظالم محال. لقد خنقت «النعم»، إن صح هذا التعبير، صرخة «اللا».
كل هذا قد عرفناه في السطور السابقة.
غير أن الإنسان لا يظل إلى الأبد «غريبا» في هذا العالم، ولا في مقدوره أن يغلق وجدانه دون الاتصال بوجدان الآخرين. وهو حين يموت لا يكون موته دائما نتيجة ضرورة عمياء تحتمها الطبيعة أو يدبرها القدر المحال. وحين ينتزع الموت حياته لا يكون ذلك نتيجة إرادته الحرة المختارة دائما. إن إنسانا آخر قد يسلبه وجوده الحق (كما هو الحال في علاقة السيد-بالعبد) فيتركه جثة تسير على قدمين، أو يطمس هذا الوجود ويلغيه إلغاء. والموت قد يصبح شرفا يفتخر به الجلادون، ويبررونه بالنظريات والمبادئ، وبالأساطير والعقائد المذهبية. ويصبح كذلك من المستحيل تفسير مثل هذا الموت في حدود دائرة المحال، ومن خلال الأفق الذي تدور فيه مشكلاته. إننا الآن نواجه مشكلة أخرى غير مشكلة الانتحار الذي يقدم عليه الفرد فيتحمل وحده مسئوليته، ويقاسي وحده آلامه. إن مشكلة «القتل» تجعلنا نواجه موقفا جديدا نحتاج معه إلى قيم جديدة.
وهكذا يتبع السؤال الأول: هل يجوز لي أن أقتل نفسي؟ سؤال جديد: هل يجوز لي أن أقتل غيري؟ إن حتمية الموت أو «رياضته الدموية» التي كانت من أهم عناصر التفكير المحال، لم تعد هي المشكلة الأساسية التي تشغل الفكر المتمرد. إن الناس جميعا يموتون، وتلك مشكلة لا نملك أن نفعل إزاءها شيئا. أما أن الناس يقتلون فتلك مشكلة أخرى، يجب علينا ألا نقف حيالها مكتوفي الأيدي. مشكلة الموت إذن باقية على الحالين. لم يقض عليها، ولكن اتسعت دائرتها، ووضعت في مجال تجربة إنسانية أوسع، هي تجربة التمرد.
إن فكرة التمرد، كما يطبقها كامي في بداية مقاله الفلسفي الكبير المتمرد، ليست إلا فرضا يحاول به أن يفسر اتجاه عصرنا تفسيرا جزئيا، كما يحاول أن يفسر به انفلاته من كل الحدود تفسيرا يشبه أن يكون شاملا.
2
إنها تصور تاريخ الكبرياء «الأوروبية»
3
وتعبر عن غرورها وطيشها وتخبطها. والبحث في مواقف هذا التاريخ ومطامحه، في نجاحه وفشله، هو وحده الذي يمكن للتمرد من أن يفتح لنا أفقا جديدا ظل حتى الآن مغلقا دون التفكير المحال، وكان لا بد أن يظل كذلك.
ولكن ما هو التمرد؟ إن كامي يعرفه على النحو التالي: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرفض أن يكون على ما هو عليه،
4
أو بمعنى آخر هو الكائن الذي لا يرضى أبدا عن كيانه؛ فهو دائم السعي إلى تغييره والعلو عليه؛ فالتمرد بهذا المعنى موجود في كل تجربة إنسانية؛ لأن كل تجربة إنسانية جديرة بهذا الاسم تحتوي على نوع من الرفض للواقع كما هو عليه. ولكن هل يستنفد التمرد طاقته في هذا الرفض؟ وهل يكون المتمرد مجرد إنسان يقول «لا»؟
الحق أن التمرد ينطوي على «اللا» و«النعم» ويضم الموافقة والرفض في وقت واحد؛ فالمتمرد الذي يقول لا يؤكد وجود حد لا يجوز لأحد أن يتخطاه. يقول العبد لسيده والمضطهد لمن يضطهده: «إنك تتجاوز الحد.» أو يقول: «لا تذهب إلى أبعد من هذا.»
5
إنه يقول «لا» لمن يدوس حقوقه بقدميه، ولكنه في الوقت نفسه يقول «نعم» لهذه الحقوق نفسها. ويتجاوز بذلك النفي الخالص إلى توكيد خالص. العبد الذي تسلل شعاع الحرية لأول مرة إلى زنزانة وجوده المعتمة لا يحتج فحسب، بل يؤكد كذلك ويوافق. إنه يكشف لمضطهده عن جزء من نفسه، يريد له أن يحترم ويرفض له أن يهان. وفعل الرفض في حد ذاته قيمة أخلاقية، كما هو أيضا حكم بالوجود؛ فالعبد الذي يستنكر وجود العبيد يعترف في الوقت نفسه ب «سبب أعمق يدعوه إلى الحياة.»
6
ذلك أن التسليم الصامت بوجود العبيد معناه التخلي عن تلك القيمة، والتضحية بذلك الجزء من نفسه، الذي ينبغي أن يظل مقدسا لا يمسه أحد.
لقد سمعنا من قبل صرخة الاحتجاج يطلقها الإنسان في وجه المحال، ولكن السبب الأعمق الذي يدعو الإنسان إلى الحياة لم يكن في هذه المرحلة يتعدى تلك الصرخة اليائسة المتكبرة التي تدوي في سمع عالم أخرس أصم مجرد عن كل معنى: «إنني أصرخ قائلا إنني لا أومن بشيء، وإن كل شيء محال، ولكنني لا أستطيع أن أشك في صرختي، ولا بد لي على الأقل أن أومن باحتجاجي.»
7
ولكن هذا الاحتجاج الفردي المسجون بين جدران الذات قد استنفد نفسه، كما رأينا، في التمرد المحال. والتمرد المحال قد أنشب كالوحش الجريح الثائر أنيابه في جسده، فلم يستطع أن يخرج من حدود ذاته، ولم يستطع أن يؤسس قيمة عامة شاملة.
ولكن ها هي التجربة قد اتسع مجالها، والضرورة تستدعي وجود قيم جديدة. المضطهد المغلوب على أمره قد شعر في أثناء ذلك بذاته (لعل السبب في ذلك هو لقاؤه بالواقع الجديد، أو لعله هو المشاركة الإيجابية في حركة المقاومة السرية لجيوش الاحتلال، والانفعال العميق بآلام الحرب). إنه يخاطب الآن مضطهده مخاطبة الند للند. وديالكتيك «إما الكل أو لا شيء على الإطلاق.»
8 (الذي كان دائما شعار التمرد المحال عند العدميين من أمثال الطاغية كاليجولا واليائسة الحالمة مارتا) قد اتضح الآن في ضوء جديد؛ فالضحية تصرخ في وجه جلادها هاتفة: إما أن تحترم ما أنا عليه، وإما أن أوثر ألا أكون على الإطلاق. فما هو هذا الكيان الذي تريد الضحية أن تحافظ عليه من بطش جلادها، وما هذا الوجود الذي يريد المضطهد أن يؤكده في وجه من يضطهده؟ إنه قبل كل شيء الوعي والحرية، وكلاهما يكونان جوهر التمرد. ثم ما هو هذا «اللاكيان» أو «اللاوجود» الذي يجعل منه المتمرد البديل الوحيد للكيان والوجود؟ إن كلمته لمضطهده تعني هذه العبارة: «إذا كنت تراني على استعداد لأن أموت، فإن ذلك هو البرهان على أنني أؤكد وجود قيمة تعلو على وجودي ويشترك فيها جميع الناس.»
9
فما هي هذه القيمة التي يشترك فيها جميع الناس على السواء، وما هذا الوجود الذي يختار المتمرد العدم في سبيل الدفاع عنه؟ إننا نقترب بسؤالنا هذا من فكرة الطبيعة الإنسانية التي سيأتي الحديث عنها فيما بعد، والتي تعبر عن شيء يبقى وراء التغير، وقيمة تعلو على وجود الأفراد.
التمرد حتى الآن يحتوي على التوتر الدائم بين النعم واللا، بين التأكيد والرفض، وبين الوجود والعدم. ويكشف التحليل لمعنى التمرد عن خصائصه الجوهرية الأخرى؛ فهو إلى جانب هذا التوتر المتصل كرم وشهامة؛ فالأمر في التمرد أمر قيمة قد يستدعي الدفاع عنها وتأكيد وجودها أن يضحي الإنسان بحياته في سبيلها. وهي بذلك أيضا عكس الأنانية.
10
وفي التمرد يتحد المضطهد مع كل المضطهدين، وتتحقق «الهوية» التي تجمع بين الإنسان وأخيه الإنسان. والتمرد كذلك تضامن؛ ففيه يعلو الإنسان على نفسه، ويتجاوزها إلى الآخر. وفيه يعي الإنسان وجوده، كما يعي وجود الآخرين. وعن طريق هذا الوعي يعرف تضامنه مع كل من يشاركونه في الإنسانية، وفي نفس الوجود، سواء في ذلك توصلوا إلى ذلك الوعي أو لم يتوصلوا إليه. والتمرد كذلك نقي؛ لأن المتمرد لا يشتهي أن يملك شيئا لا يملكه غيره. وهو لذلك أيضا لا يمكن أن يختلط بالإحساس بالمرارة،
11
الذي يفترس الإنسان فيه نفسه بالحسد والحقد والندم. وهي نقية؛ لأن الإنسان في فعل التمرد يهب نفسه لما يكون جوهر الإنسان على الإطلاق، ويستعد للتضحية بوجوده في سبيل تأكيد هذا الوجود نفسه. وهو أخيرا نقي لأنه بريء؛ فكل تمرد هو في حقيقته شوق إلى البراءة.
12
يشتبه في ذلك الإنسان المتمرد بإنسان المحال؛
13
فكلاهما بريء في حقيقته وجوهره. هذه البراءة هي التي يعبر عنها «دييجو» بطل مسرحية «حالة حصار» حين يخاطب الوباء قائلا:
دييجو: نحن أبرياء! البراءة، أيها الجلاد، هل تفهم ما هي البراءة؟
الوباء: البراءة؟ أبدا، لم أسمع عنها.
14
ليس التمرد مجرد احتجاج يقوم به العبد ضد سيده الذي يضطهده، ولا هو مجرد الثورة التي يعلنها إنسان على من ينكر حقه في الحرية. إن التمرد أعمق من ذلك وأكثر شمولا. والحق أن هناك إلى جانب تمرد العبد على سيده تمردا آخر يختلف عنه، وينبغي أن نفصل بينهما فصلا واضحا، وإن كان ذلك لا يمنع من القول بأنهما يسيران في خطين متوازيين. ذلك هو «التمرد الميتافيزيقي»، فإذا كان العبد يتمرد على من ينكر عليه قيمة يعرف الآن أنها مشتركة بينه وبين جميع الناس، فإن الإنسان في التمرد الميتافيزيقي إنما يتمرد قبل كل شيء على الموت والفناء الذي قدر عليه بما هو إنسان، على الخليقة كلها وعلى تلك القوة التي يحملها مسئولية الموت والتعاسة و«فضيحة» المصير الإنساني الذي كتب عليه أن يلقاه.
إنه بذلك يفترض وجود الله في نفس اللحظة التي ينكره فيها. إنه ينتزع هذا الكائن العلي من ديمومته الأبدية ويدخله في وجوده الذي يرى أنه محال، ويلقي به في دوامة التاريخ. بذلك يريد التمرد أن يؤكد أن كل موجود متعال فهو على الأقل في مستواها متناقض مع نفسه.
15
هنا يواجهنا السؤال العسير: ما هي علاقة المتمرد بالله؟
الحق أن المتمرد لا ينكر وجود الله؛ فهو يتهمه بالظلم، ولا يطمح إلى الانتصار عليه؛ ففي ذلك خروج على الحد يكافحه أينما كان. إنه يرفض وجود الله ويتحداه، والإنسان لا يرفض ما لا وجود له، ولا يتحدى وهما ولا عدما. وطالما كان المتمرد يضع نفسه في موقف الاختيار بين إله قادر على كل شيء ولكنه شرير، أو بين إله طيب ولكنه عقيم،
16
فإننا لا نستطيع أن نقول عنه إنه ملحد
athéiste ، بل أقصى ما نستطيع أن نقوله عنه أنه مناهض للربوبية
antihéiste . إنه يرفض وجود الله باسم الإنسانية الدنيوية التي ترى أن مشكلة الإنسان الحقيقية - كما تعبر عن ذلك شخصية تارو في رواية الوباء - أن يحاول أن يكون قديسا بغير إله ولا دين يرتبط به، وأن يعلن ثورته على الوجود الذي تعذب فيه الأطفال وتموت، دون أن يرفع عينيه إلى سماء يصمت فيها الله، كما تعبر عن ذلك شخصية الطبيب ريو في الرواية نفسها؛ فالتمرد على الله ليس هو الأصل في التمرد الميتافيزيقي الذي عرفنا أنه تمرد على المصير الإنساني الذي كتب فيه الفناء على الإنسان، بل الأولى أن يقال إن التمرد على الله مشتق من التمرد الميتافيزيقي. إن الإنسان الذي يجد نفسه ملقى به في عالم محكوم عليه بالموت، ويرى الأطفال الأبرياء يتعذبون ويموتون أمام عينيه، يتمرد على الله الذي يعتبره أصل العذاب كله، ويرى أنه هو «أب الموت» و«أكبر الفضائح».
17
إن التمرد على الله ليس في حقيقته غير صورة من صور التمرد على المطلق؛ فالإنسان الذي يعرف أنه عاجز عن الوصول إلى المطلق،
18
يرى أن واجبه الأول هو أن يعي حدوده ولا يتعداها بحال من الأحوال، فإذا تمرد فإنما يتجه بتمرده أول ما يتجه إلى كل من يتجاوز حدود الإنسانية ويرفع نفسه إلى مصاف الآلهة. وهو في ذلك إنما يسير على هدي القاعدة التي يضعها كل متمرد حقيقي نصب عينيه: «أن يتعلم الإنسان كيف يحيا وكيف يموت ، وأن يرفض أن يكون إلها لكي يظل إنسانا.»
19
إن التمرد، مثله في ذلك مثل المحال، هو في جوهره نوع من المواجهة أو التقابل الحاد بين الوعي الناصع وبين العالم غير المعقول، لا لأنه غريب، وغامض، ولا سبيل إلى فهمه ومعرفته فحسب، بل لأن الشر والعذاب والموت يتحكمون فيه؛ ومن ثم يكشف المحال عن وجهه التاريخي الذي لم نتبينه من قبل. ويظل التمرد، الذي يعبر دائما عن صرخة الاحتجاج في وجه هذا المحال في صورته التاريخية، هو مطمح الإنسان إلى «الوحدة السعيدة».
20
حتى العبد الذي يتمرد على سيده يطمح إلى الوحدة والوضوح - وهذا المطلب الدائم للوحدة شيء جوهري بالنسبة لوعي الإنسان؛ ففي الوحدة دوام، وعدل، وشفافية، وفيها السعادة التي يرى أن من حقه أن يسعى إليها ما بقي موجودا على هذه الأرض. هذه الوحدة السعيدة التي ينشدها وراء المظاهر الفانية المعذبة، هي التي يريد المتمرد أن يواجه بها العالم المحال الذي ينهشه الفناء في كل لحظة، والمصير الإنساني الذي يهشمه الشر والظلم على مر التاريخ، وهي المطلب المتواضع الذي يواجه به طموح من يريدون «كل شيء أو لا شيء»، ويسعون عبثا إلى تحقيق حرية مستحيلة وعدالة مستحيلة، تذهب ضحيتها أجيال وراء أجيال.
وليس السعي إلى الوحدة (وهو في الوقت نفسه نشدان للوضوح والبراءة والنقاء) إلا محاولة للرجوع إلى منبع التمرد الحق، والتماس الحد والمقياس إبقاء على معنى «النسبي» وفرارا من غلو «المطلق».
21
وهو كذلك محاولة لحل تلك المتناقضات التي وقعت فيها الثورات التاريخية حين حادت عن معنى التمرد الأصيل.
قلنا الثورة وقلنا التمرد، فما الذي نفهمه من هاتين الكلمتين؟ وما هو الحد الفاصل بينهما؟ وهل الثورة كما يبدو من العبارة الأخيرة عكس التمرد؟ وكيف فقدت في مسار التاريخ نقاءها وبراءتها؟
لا بد قبل الإجابة على هذه الأسئلة من أن نتفق أولا على معنى «التاريخ » كما يفهمه كامي. (ب) التمرد والثورة: التاريخ
يكثر كامي من استخدام كلمة التاريخ في سياق كتابه الكبير «المتمرد»، ولكن مفهومه لها يظل غامضا محيرا في معظم الأحيان ؛ لذلك كان من الضروري أن نحاول تحديدها بقدر الإمكان.
يرد كامي في مواضع عديدة من كتابه على نقاده الذين يأخذون عليه أنه رفض التاريخ رفضا مسبقا على كل تجربة، ولكنه إن كان لا يرفض التاريخ ولا ينكره فهو على الأقل لا يعفيه من الاتهام؛ فهو عنده حامل الثورة التاريخية التي تنكرت للتمرد الأصيل وحادت عن محجته. وقبل أن نوضح ذلك بالتفصيل نرى لزاما علينا أن نتتبع مفهومه للتاريخ في أعماله السابقة على المتمرد.
ففي أسطورة سيزيف نجده يقول: «عند الاختيار بين التاريخ وبين الأبدي آثرت أن أختار التاريخ؛ لأنني أحب الحقائق اليقينية.»
22
كما نجده يتحدث عن الزمن الذي صمم على أن يتحد معه،
23
ويغوص فيه إلى أعماقه. هذا الزمن الذي اختار أن يعيش فيه، والذي رآه يجري أمام عينيه جريان النهر أمام هيراقليط، قد دفعه إلى اليقين بأن الموجودات كلها فانية،
24
وأن المستقبل لا سبيل إلى التنبؤ به، وأن التذكر عقيم.
ليس التاريخ هنا غير الزمانية المتصلة، فهي الحاضر المباشر، وهي الضد المقابل للأبدية واللازمانية. وهذا المفهوم من الزمانية باعتبارها الحضور المتصل للحظة العابرة المنفصلة، وباعتبارها المملكة الوحيدة الممكنة للأخلاقية التي جعلت شعارها «مزيدا من الحياة»، هي التي جعلت إنسان المحال يقف من الأبدية موقف التحدي وهي التي جعلته يقول في «الريح في جميلة»:
25 «ماذا تعنيني الأبدية؟» ويحاول أن يبحث عن الخلود بين جدران هذه المملكة الفانية. مثل هذا التاريخ المغزول من نسيج اللحظات العابرة الفانية، لا يتهمه كامي ولا يرفضه. بل الأولى أن يقال إنه يتشبث بكل لحظة فيه ويحاول أن يعتصر منها سعادته الوحيدة الممكنة. إنه قبل كل شيء «منفي في الزمن»،
26
يلجأ إليه إنسان المحال، كأنه واحد من تلك الأسوار القاسية التي فرض على نفسه أن يتحصن وراءها. إنه هنا يعيش في الحاضر وحده جاهلا بمستقبله، منقطع الصلة عن ماضيه .
إن مفهوم التاريخ يتأرجح معناه بين التاريخية البحتة من ناحية وبين الحتمية التاريخية من ناحية أخرى، ولكي نوضح ذلك يجب علينا أولا أن نحاول الإجابة على هذا السؤال: ما هي العلاقة بين التمرد والزمن؟ ما موقف التمرد من هذا الزمن في أبعاده الثلاثة؛ الماضي والحاضر والمستقبل؟
كلما ذكرنا التمرد ذكرنا معه البراءة والنقاء؛ فالطلب الذي لا ينفك المتمرد يطالب به نفسه وغيره هو المحافظة على نقاء التمرد؛ أعني على قربه من منبعه الأصيل. وكل فكرة تستقي من الماضي أو تتنبأ بالمستقبل (وبالتالي تحدده) فهي فكرة غريبة على روح التمرد الحق، غير وفية لها. وعلى العكس من ذلك كل فكرة تنبع من الحاضر وتتجنب المتعالي (الترانسندنس) على اختلاف صوره، فهي تحتفظ بقيمتها. مثل هذه الفكرة الأخيرة لا تتطلب من الإنسان أن يخضع لها؛ أعني أن يفقد حريته في سبيلها. إن على التمرد الذي يريد أن يحافظ على نقائه أن يخلق نفسه في كل لحظة من جديد؛ لأنه في صيرورة لا ينقطع تيارها. حتى إذا غاص في الزمن (باعتباره المسار التاريخي الذي يتجه نحو غاية لا يمكن التكهن بها)، لم يستطع أن يخلق قيمة حقيقية واحدة. عندئذ يصبح التمرد ثورة تاريخية، ويصبح بروميثيوس الوحيد الذي ثار على الآلهة من أجل البشر قيصر الوحيد الذي يملي إرادته على الرعية الصامتة. وعندئذ أيضا يصبح الإنسان شيئا، يعامل معاملة الأداة التي يراد بها تحقيق غاية غيبية أخيرة. هنالك يصبح المتمرد هو الضحية؛ لأنه يريد أن يحيا في الحاضر وحده: «إن السخاء الحقيقي تجاه المستقبل هو في إعطاء الحاضر كل شيء.»
27 «أن نفعل، كما لو كان في استطاعتنا أن نصلح الإنسان والأرض.»
28
كان ذلك هو الدرس الذي أخذناه عن تجربة المحال. غير أن إصلاح الإنسان (وهي في حد ذاته فعل محكوم عليه بالفشل دائما، كما يرى كامي) لا يعني أن نفرض على الإنسان معنى أعلى أو نسلط عليه أية متعال (ترانسندنس) من أي نوع؛ فلو أننا فعلنا ذلك لألغينا الإنسان وألغينا هدفه الحقيقي في الوقت نفسه ؛ لأن «الإنسان» هو الهدف الحقيقي الوحيد للإنسان.
29
فما هو إذن هذا الهدف الذي يسعى إليه الإنسان؟ هو في حقيقته مساعدة الإنسان على الحياة، لكي يثور في وجه الموت، وإعطاؤه السعادة، لكي يحتج على شقاء العالم الذي ألقي به فيه، وتأكيد العدالة، لكي يكافح الظلم الأبدي المحيط به من كل جانب، وأن نتوخى في أفعالنا أن يعثر الناس على تضامنهم من جديد، لكي يشتركوا معا في التمرد على مصيرهم.
30
بذلك يكون التمرد على مستوى التاريخية تمردا نفسيا-ميتافيزيقيا خالصا.
31
إنه لا يشغل نفسه في شيء بالمجتمع ولا بالحياة الاجتماعية، بل يتحرك في اللحظات المباشرة المتلاحقة من الحاضر العابر، هادفا إلى تحقيق سعادة الإنسان في موقف محدد؛ فعالم الشقاء الذي يحتج عليه المتمرد ليس هو العالم الاجتماعي، أو ليس كذلك بالدرجة الأولى. إن احتجاجه منصب على الطبيعة «الكثيفة» غير المبالية، التي يعيش الإنسان فيها غريبا محكوما عليه بالموت، وتمرده يتجه أول ما يتجه إلى السماء الصامتة إلى الأبد.
هنا نستطيع أن نفهم سر النقد الشديد الذي وجهه سارتر إلى كامي؛ ففي رأي سارتر
32
أن كامي قد رفض التاريخ رفضا مقدما على كل تجربة تاريخية. ورفضه له لا يرجع إلى أنه قد تعذب فيه أو كشف عن وجهه المفزع من خلال الرعب والقسوة (الأمر الذي لا يستطيع أحد أن ينكره على كامي المكافح الشجاع) بل إلى أنه قد وضع القيم الإنسانية بأسرها في كفاح الإنسان ضد السماء، حيث يصمت الإله إلى الأبد. هذا الكفاح الذي يعلنه الإنسان على قدره الظالم المحال يظل خارج التاريخ، بعيدا عن كل تاريخية ممكنة؛ ومن ثم لا يمكن أن يعد كفاحا على الإطلاق. إنه يعلو على التاريخ أو بالأحرى يتعالى عليه؛ ذلك لأنه لما كان الظلم أبديا؛ أعني لما كان غياب الله مستمرا خلال التاريخ، فإن العلاقة المتجددة أبدا من جانب الإنسان الذي يبحث عن المعنى بهذا الإله الذي لا يخرج عن صمته الأبدي لا بد أن تكون هي نفسها علاقة متعالية على التاريخ، خارجة عنه.
الحق أن نقد سارتر يمكن أن يكون على صواب لو أن التمرد كان يهدف إلى النقاء المطلق أو البراءة المطلقة؛ فالحقيقة أن التمرد، كما سنرى فيما بعد، لا يصل بطموحه إلى أبعد من «الذنب المحسوب» أو «الخطيئة النسبية».
33
إنه لا يطمع في البراءة المستحيلة، بل يريد أن يكتشف مبدأ الذنب المعتدل المعقول.
34
وهو إذن لا يستطيع أن ينكر التاريخ أو يرفضه؛ لأن التاريخ هو نفسه الذي يحمل مسعاه إلى اكتشاف الحد والمقياس على كتفيه والمتمرد مهما بلغت مشقة الجهد الذي يبذله لا يمكن أن يطمح إلا إلى تقليل كمية الألم في هذا العالم: «إن القيمة الأخلاقية التي يخلقها المتمرد لا تعلو في آخر الأمر فوق الحياة والتاريخ، ولا التاريخ والحياة يعلوان عليها؛ فالحق أنها تكتسب واقعيتها في التاريخ حين يبذل إنسان حياته من أجلها، أو حين يكرس لها حياته.»
35
وإذا اضطر المتمرد في لحظة من لحظات حياته إلى قتل إنسان، فإنما يفعل ذلك لإنقاذ حياة وسعادة من يشتركون معه في الإنسانية، لا في سبيل إنسانية لم توجد بعد؛ فهي لذلك مجرد فكرة أو تجريد.
ننتهي من هذا إلى أن كامي لا يلغي التاريخ ولا يرفضه (فلو صح ذلك لكان فيه إلغاء الواقع نفسه). وإنما يرفض ذلك الاتجاه الفكري (ونعني به الحتمية التاريخية) الذي يحاول أن يجعل من التاريخ شيئا مطلقا. وهو لا ينكر التاريخ (وكيف يستطيع أن ينكره؟) وإنما ينكر موقفا عقليا يختار التاريخ والتاريخ وحده، وبذلك يختار العدمية ويتجاهل حكمة التمرد كلها.
36
ما هي الآن علاقة التمرد بالثورة؟ هل يكملان بعضهما البعض أو هل يستبعد أحدهما الآخر؟ وإذا صح أن الثورة قد حادت عن منبع التمرد الأصيل، وانحرفت عن قيمها الحقة، فما الذي يستطيعه التمرد الذي يظل على وفائه لنفسه؟ وماذا يستطيع أن يقدمه لنا لكي يفسر سلوك الإنسان ويضفي عليه معنى وقيمة؟ هذه كلها أسئلة يجب علينا أن نمتحنها عن كثب؛ فكامي يتحدث عن الثورة فيبدو من حديثه كأنها هي مسخ التمرد، بل كأنها الضد المقابل له.
وأول ما نلاحظه في هذا الصدد هو أن المتمرد لا يكون شيئا حتى يكون ثائرا.
37
والعكس صحيح؛ فالثائر الذي لا يكون في الوقت نفسه متمردا، لا يتسنى له أن يكون ثائرا بحق. إنه حين يحيد عن منبع التمرد وقيمه لا يعدو أن يكون موظفا أو رجلا من رجال البوليس، تلغي أفعاله التمرد في حقيقته ومعناه، فإذا كان الثائر في الوقت نفسه متمردا - وهنا يكون التناقض الفريد بين التصورين - فهو إما أن ينتهي إلى الجنون وإما أن يصمم على الوقوف في وجه الثورة. نحن مضطرون إذن أن نقرر تزامن
38
هذين التصورين وتناقضهما في آن واحد، وذلك إلى أن نوضح الفروق بينهما على وجه التحديد.
ماذا عسى أن يحدث للمتمرد الذي يريد أن يجد مخرجا من هذه المعضلة؟ إنه بالضرورة إما أن يعصي مبادئ التمرد أو يضطهد غيره لتحقيق ما يعتقد أنه يوافق تلك المبادئ؛ أعني أنه سيضطر في لغة كامي أن يدخل التاريخ المحض. الموظف أو رجل البوليس، الجنون أو الاضطهاد، تلك هي المعضلة التي تواجه الإنسان المتمرد وتجعله على الحالين في تناقض مع نفسه.
على أن هذا التقابل بين المتمرد والثائر يقوم على تقابل أصلي آخر؛ ونعني به التقابل بين التمرد والثورة. ولن نستطيع أن ندرك ماهية التمرد وحقيقته حتى نحدد الفرق بينه وبين الثورة. ونود قبل أن نقوم بذلك أن نسجل الملاحظات التالية: (1)
كل تمرد، كما أشرنا إلى ذلك في الصفحات السابقة، فهو في حقيقته شوق إلى البراءة، وكل متمرد فهو من ناحية المبدأ إنسان بريء. غير أن الشوق يمد يديه ذات يوم فيقبض على السلاح ويحمل الذنب الشامل على كتفيه؛ أي القتل والعنف والظلم.
39
ولقد ظلت الثورات التاريخية والثورات الميتافيزيقية، من ثورة العبيد على يد اسبارتاكوس في نهاية العصور القديمة إلى الثورات التي قتلت الملك والإله على مدى القرنين الأخيرين، تتحمل عن عمد ذنبا ظل يتضخم شيئا فشيئا بمقدار ما كان هدفها في التحرر الشامل يزداد يوما بعد يوم. (2)
ما من ثورة إلا وهي ثورة سياسية تهدف إلى نظام جديد للحكم ، وفي هذا تختلف عن التمرد اختلافا أساسيا؛ فبينما التمرد حركة تصدر عن تجربة الفرد وتؤدي إلى الفكرة، نجد الثورة تبدأ من الفكرة وتحاول أن تدخلها في التجربة التاريخية وأن تشكل الفعل بما يتفق مع هذه الفكرة حتى تخلق عالما جديدا تضعه في إطارها النظري؛ أي إن التمرد يظل احتجاجا لا يدخل في مذهب ولا يعرف عقيدة ولا يتذرع بمبدأ، ولا يحكمه الترابط المنطقي.
40 (3)
المتمرد لا يريد في الأصل سوى أن يكتسب وجوده ويؤكده أمام الله،
41
حتى إذا قامت الثورة التاريخية - ابتداء من الثورة الفرنسية إلى الثورة الشيوعية الروسية - نسي الأصل، وفقد الصلة التي كانت تربط به، وراح يسعى جاهدا إلى إقامة المملكة العالمية، وبسط السلطة الشاملة على طريق دام يزدحم بجرائم القتل التي لا حصر لها. (4)
يكافح التمرد في سعيه إلى «الوحدة السعيدة» ضد الشر والموت، محاولا تحقيق عدالة ملائمة وحرية ممكنة. أما الثورة التاريخية التي بلغت ذروتها في القرن العشرين فهي تطالب بالشمول، وتهدف إلى بلوغ مملكة عالمية، تتحقق فيها العدالة المستحيلة والحرية التي لا تعرف حدا،
42
وتكون هي تاج التاريخ وغايته الأخيرة. والسعي إلى الوحدة يحاول أن يصالح بين اللامعقول والمعقول وأن يجمعهما على صعيد واحد، والمطالبة بالشمول تطمس اللامعقول إذ تعتقد أن المعقول وحده يكفيها لكي تغزو العالم.
43
ولكن هل يمكن للطريق الموصل إلى الوحدة أن يمر أولا بالشمول؟ وهل كان بحث التمرد الميتافيزيقي والثورة التاريخية - وهي النتيجة المنطقية التي ترتبت عليه - عن الوحدة بحثا يتفق مع روح التمرد؟
ذلك هو السؤال على الحقيقة. الإجابة عليه تكشف عن حقيقة التمرد، وتحيي جذوته التي كادت تخمد تحت ركام الأحداث. وفي سبيل ذلك يخضع كامي التمرد لبحث تاريخي يحاول أن يفتش فيه عن ذاته؛ لأنه لن يجد أصوله ومبادئه إلا في هذه الذات.
44
ولكي يقرر كامي ما هو التمرد نجده يبدأ بحثه بما ليس بتمرد؛ أعني أنه يسير من عدم الوجود إلى الوجود. وهكذا يحاول أن يكشف عن التسلسل المنطقي الذي سار فيه التمرد، ويوضح موضوعاته الرئيسية التي لا تتغير، عن طريق تحليله لبعض الحقائق الثورية التي استقاها من التاريخ الغربي. وليس كتابه الكبير «المتمرد» سوى محاولة لدراسة بعض الحركات الثورية بمقدار انحرافها عن حقيقة التمرد . هذه الانحرافات التي يعرض علينا آثارها المفزعة من خلال سرده لتاريخ التمرد الميتافيزيقي والثورة التاريخية لا يمكن أن تنسب إلى التمرد؛ فهي انحرافات لا تظهر إلا عندما ينسى المتمرد منابعه الأصيلة، ويسقط متعبا من التوتر المتصل بين «اللا» و«النعم»، حتى ينتهي بالاستسلام للنفي المطلق أو بإلقاء نفسه بين أحضان التأكيد المطلق. والتمرد يحيد عن منبعه حين يمجد أحد القطبين المتضادين في تجربته ويصل به إلى ذروة التطرف. وسوف نحاول الآن أن نقصر أنفسنا على النظر في اثنين من هذه الانحرافات، دون التعرض للتفصيلات التاريخية المضنية التي يزدحم بها كتاب «المتمرد»، آملين أن نقترب عن طريقهما من منبع التمرد وحقيقته. (ج) الانحراف عن التمرد: اللا المطلقة والنعم المطلقة
قلنا منذ البداية إن اللا والنعم مرتبطان في فعل التمرد ارتباطا لا ينفصم؛ فاللا تضرب بجذورها، إن صح هذا التعبير، في النعم، والنعم بدورها كامنة في أعماق اللا. ولقد تتبعنا هذا البناء الديالكتيكي لفكر كامي في أعماله المبكرة في المرحلة السابقة على ظهور المحال، كما كشفنا عنه في بناء المحال نفسه، ثم وجدنا أنه يميز موقف التمرد الحق، الوفي لأصله ومنبعه، الذي لا يجعل من اللا ولا النعم شيئا مطلقا، بل يعين لكل منهما الحد والمقياس الذي ينبغي له أن يقف عنده فلا يتجاوزه. ورأينا بذلك أن التمرد يتميز عن موقفين متطرفين يمكن تحديدهما على النحو التالي: (5)
اللا المطلقة أو نزعة النفي المطلقة. (6)
النعم المطلقة أو نزعة التأكيد والموافقة المطلقة.
وقبل الحديث عن هاتين النزعتين اللتين تظهران في مراحل التمرد الميتافيزيقي والثورة التاريخية نحب أولا أن نفرق بينهما ونوضح ما نقصده بالتمرد الميتافيزيقي؛ فقد بدأ التمرد الميتافيزيقي يدخل في تاريخ الفكر المعاصر عند نهاية القرن الثامن عشر. ومن الطبيعي أن نقابله في مرحلة مبكرة، لدى رائد المتمردين جميعا في كل العصور، ونعني به بروميثيوس؛ فبروميثيوس ، مثله مثل الإنسان المتمرد في العصر الحديث، يكافح الموت، ويحمل رسالة، ويثور حبا للبشر. غير أن اليونان الذين لم يتطرفوا في شيء ولم يكن من طبعهم أن يثيروا النزاع حبا في النزاع، قد جعلوا منه بطلا، تغفر له خطيئته في النهاية. وكلمة البطل نفسها تدلنا على أنه كان نصف إله اختلف مع الآلهة، والأمر عنده لا يزيد عن كونه مجرد شقاق عائلي يمكن أن يسوي في يوم من الأيام؛ فقد كانت لليونان تأملاتهم الميتافيزيقية التي تختلف عن تأملاتنا. كانوا يؤمنون بالقدر، ولكن إيمانهم بالطبيعة التي كانوا يعدون أنفسهم جزءا منها كان أقوى وأشد؛ ومن ثم فقد كان التمرد على الطبيعة شيئا مستحيلا في نظرهم لأنه سينقلب تمردا على ذواتهم. حقا إن اليأس بدأ يعرف طريقه إلى النفس اليونانية في شتاء الفكر اليوناني، ولكن هذا الصدع في الانسجام الشامل بين الطبيعة والإنسان لم يظهر إلا في كتابات أبيقور ولوكريس. وما هو إلا قليل حتى ظهرت بظهور المسيحية فكرة الإله الواحد المتشخص، الذي يخلص بدمه عذاب الإنسان وخطاياه.
نحن إذن من وجهة النظر هذه أبناء قابيل أكثر من أن نكون أتباع بروميثيوس.
45
فبظهور قابيل يتحد التمرد الأول مع الجريمة الأولى، وهكذا يصبح إله العهد القديم هو الذي يحرك طاقة التمرد. وحين يتم العقل المتمرد دورته، يكون عليه - كما فعل باسكال - أن يستسلم في خضوع لإله إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ ومن ثم يصبح العهد الجديد محاولة للرد مقدما على كل قابيل يظهر في هذا العالم، بإظهار الإله في صورة رحيمة عطوفة، ووضع وسيط بينه وبين الإنسان.
فهناك إذن إله العهد القديم المفزع في جانب، وهناك إله العهد الجديد الذي حل في جسد إنسان ومات على الصليب. غير أنه يكفي أن توضع المسيحية موضع الشك وأن تثار الريب حول ألوهية المسيح، حتى يصبح يسوع المخدوع بريئا جديدا وتنشق الهوة بين السادة والعبيد من جديد. وهكذا يصبح كل شيء معدا لهجوم عاصف عظيم على سماء معادية للإنسان؛ هذا الهجوم هو الذي يتتبعه كامي في مراحله الثلاثة التي سنقف عندها فيما بعد بالتفصيل، ونعني بها اللا المطلقة أو النفي المطلق، ورفض النجاة، والنعم المطلقة أو نزعة التأكيد المطلق. ولكل مرحلة منها بطلها ورائدها؛ صاد ، وإيفان كرامازوف، ونيتشه.
أولا: اللا المطلقة أو النفي المطلق
يعد المركيز دي صاد والحركة الرومانتيكية مثلين جيدين على هذه النزعة. إن الطبيعة الإنسانية تلغى فيهما، والإنسان ينحط حتى يصبح موضوعا للتجربة والمحاولة؛ ومن ثم كان تطرف التمرد وخروجه عن كل حد فيهما. إن «صاد» يريد أن يؤسس الحرية الكاملة على سعار الشهوة والغريزة، ولذلك فهو لا يستطيع أن يحقق تمرده إلا بالنفي المطلق للواقع بأسره. وكما كان كاليجولا يأمر بقتل الناس لكي يتاح له في رأيه أن يمتلكهم كل الامتلاك، وينظم بذلك ما يمكن أن نسميه بالانتحار الجماعي، فإن الحرية الشاملة التي تنطلق فيها الغرائز عند «صاد» تصبح نوعا من التدمير الشامل، وتنتهي حتما إلى القتل. وكاليجولا وصاد، على اختلاف الدافع والغاية بينهما، قد سارا مع منطق التمرد المحال إلى نهايته، واستخلصا منه أقصى نتائجه. كلاهما قد سعى في تمرده الجامح نحو الشمول بدلا من أن يطلب الوحدة.
ومن المعلوم عن المركيز دي صاد أنه ليس بالكاتب ولا بالفيلسوف ذي المكانة المرموقة. ولعل مرجع شهرته إلى أنه قضى بين جدران السجن سبعة وعشرين عاما. هذا السجن الطويل هو الذي يفسر أعماله؛ إنها صخرة وحيدة تطلقها الطبيعة، صرخة الدافع الجنسي، الذي أثاره السجن الطويل وكبته وعاقبه. إنها تنكر وجود الله كما تنفي وجود الأخلاق، وتطالب الإنسان بأن يذهب في المتعة والامتلاك الكامل إلى حدود التدمير الشامل الرهيب. الطبيعة عنده هي الجنس. وهذا المنطق يدفع به إلى عالم عاطل من القانون، تتحكم فيه طاقة الشهوة وحدها. إنه عالم الحرية المطلقة من كل قيد، طردت الفضيلة منه بغير عودة؛ ومن ثم فالحرية هي الجريمة، وإلا فليست حرية على الإطلاق. وضرورة الجريمة تتطلب ضرورة التنظيم، وتدفع صاد إلى تخيل أماكن مغلقة «قلاعا تحوطها الأسوار سبع مرات» يستطيع فيه المجتمع الجديد، مجتمع الشهوة والجريمة، أن يلبي صيحة الطبيعة طبقا لنظام قاس مرير. إنه على العكس من روسو وأصحابه من الجمهوريين «الفاضلين» في عصره يكشف عن نزعة الشر الطبيعية في الإنسان، ويصبها في قالب القوانين. هو إذن الإلحاد الخالص، الرغبة المدمرة التي جعلت شعارها «كل شيء مباح». غير أن أديرة الرذيلة التي تجلد فيها الشهوة أجساد البشر، والتي يصبح عبد اللذة حاكمها المطلق وإلهها الأوحد، لم تلبث أن اصطدمت بالتناقض الكامن في ذاتها، وتحولت إلى أديرة للرهبنة الحزينة، والعفة اليائسة الممسوخة. ولم يلبث السجين العجوز المخبول، الذي ظل يحلم بعالم يسجد للذة، أن راح يحلم بالكارثة الدموية التي تسحق هذا العالم، ويعيش أيامه الأخيرة كالممثل الهزلي المجنون الذي لا يسلي غير المجانين.
لم يعدم صاد من يخلفه؛ فالرجل الذي اخترع حصون الرذيلة التي تعد الأب الشرعي لمعسكرات الاعتقال في القرن العشرين، كان يحلم ببشرية تتجرد من إنسانيتها عن طريق العقل البارد. ويمكن اليوم أن يقال إن حلمه قد تحقق، ولكن مع تغيير بسيط؛ فبينما كان يتصور الجريمة في التحرر المطلق من العادات والقوانين الأخلاقية (وينبغي أن نذكر إنصافا له أنه كان ينبذ الجريمة الاجتماعية التي تتسلح بالمقصلة) راح خلفه يشرعون للجريمة بكل سبيل. والجريمة التي كان يريد لها أن تكون ثمرة شهية غير عادية للرذيلة المنطلقة من قيودها، لم تعد اليوم إلا عادة مفزعة لفضيلة بوليسية (وتلك هي مفاجآت الأدب كما يقول كامي!)
46
وشبيه بنزعة «صاد» نزعة الحركة الرومانتيكية التي تتميز بإيثارها للشر وتمجيدها للفرد الوحيد.
47
فالبطل الرومانتيكي يحس باضطراره إلى فعل الشر مدفوعا بشوقه إلى خير مستحيل التحقيق. والموقف الرومانتيكي ينبع من الكبرياء؛ فالإنسان الذي لا يملك أن يكون إلها، يجعل من نفسه مخربا مطلقا، لكي يتوصل إلى السعادة المستحيلة في حدود عالم ممكن (وهذا شبيه بموقف كاليجولا)؛ ومن ثم لم يستطع الرومانتيكيون أن يتجنبوا السقوط في هاوية العدمية؛ فالبحث عن سعادة ممكنة، أعني سعادة محدودة ونسبية، هو وحده الذي يستطيع أن يقي صاحبه من التردي في ظلام العدمية. ولقد علمنا التاريخ أن العدمية الرومانتيكية ليست مجرد نزعة مشبوبة من وجدان معذب حساس، بل إن الموت والقتل كامنان في أعماق القيمة العليا عند الرومانتيكيين؛ ونعني بها الغضب المجنون
Frénésie .
48
وإيفان كرامازوف (في رواية دستويسكي المشهورة الإخوة كارامازوف) هو الشخصية المضادة للرومانتيكيين. إنه لا ينكر وجود الله، بل يرفضه باسم مبدأ أخلاقي أعلى. وهو ينبذ النجاة، الخلود، والنعمة لأنه يعتقد أنه اعترافه بها معناه الاعتراف بالموت والعذاب، وبذلك يضع العدالة فوق الألوهية.
49
إنه يريد أن يجد النعمة والمحبة في العدالة، ولكنه سيمضي في رفضه لوجود الله، الذي يحمله وحده مسئولية موت الأبرياء.
مثل هذا التمرد الطائش النبيل يخضع للديالكتيك الذي يميز العدمية في كل مكان وزمان: «كل شيء أو لا شيء»: طالما أن النجاة ليست من نصيب جميع الناس، فإنني أرفض النجاة لنفسي. وحيث تختفي العدالة ويسود الظلم، يفقد كل شيء معناه، ويصبح كل شيء مباحا. وتاريخ العدمية في الزمن الحديث يبدأ في الحقيقة من هذه العبارة: «كل شيء مباح».
50
من هذه العبارة التي أطلقها إيفان كارامازوف بدأ التمرد الميتافيزيقي يخطو الخطوة الأولى على طريق الفعل. إنه يجعل شعاره الآن «كل شيء أو لا شيء»، وهو شعار يقرر بدوره أن كل شيء جائز ومباح، فيسعى إلى أن يخلق العالم خلقا جديدا، يؤكد ملك الإنسان ويضمن ألوهيته على هذه الأرض.
51
كل شيء مباح، وكل شيء جائز، فالجريمة إذن مباحة، والقتل جائز. إن الإنسان الذي يريد أن «يكون»، يصمم الآن على أن «يفعل»، فليحكم إذن، وليغز، وليسيطر.
هذه اللامعقولية المتطرفة التي تصاحب النزعة العدمية تترك أثرها على المجالين الاجتماعي والسياسي، وتدخل فيهما التناقض والتضاد الذي لا سبيل إلى رفعه أو التغلب عليه، اللهم إلا بالفناء التام والخراب الشامل؛ أي إن قوى الدم والغريزة المعتمة تصبح هي القيم الوحيدة الصالحة، وتأكيد الفعل بكل ثمن يصبح هو المبدأ الذي لا مبدأ سواه.
52
ولقد أسس هتلر وموسوليني دولتهما على الفكرة التي تقول إنه ليس لشيء من معنى وإن التاريخ ليس إلا صدفة عارضة ولدتها القوة والسيطرة.
53
وإذا بالطاقة المحضة والحركة الخالصة هما التبرير الوحيد لكل شيء،
54
وإذا بهذه الطاقة المحضة لا تجد لها متنفسا إلا في الغزو المتصل. ويتجه الغزو إلى الداخل فيصبح «دعاية» لا تهدأ؛ أعني استبعادا للعقل واضطهادا للروح، فإذا اتجه إلى الخارج لم يعدم له عدوا، ووجد المبرر الذي يدعوه إلى تعبئة الجيوش وإصدار الأوامر بالزحف. وتتضخم العلاقة الفردية القديمة بين السيد والعبد فيسيطر سيد واحد على ملايين من العبيد.
55
إن النفي المطلق يحطم ديالكتيك التمرد حين يمجد أحد طرفيه (اللا) ويستبعد الآخر (النعم). والنتيجة المباشرة لذلك هي الجريمة؛ فالذي ينفي كل شيء ينفي معه الطبيعة الإنسانية ويصل إلى الإيمان بأن كل شيء مباح. والذي يبيح كل شيء يبيح لنفسه كذلك أن يقتل الآخرين ويلغي وجود الوعي، أثمن ما في الوجود، بل الوجود الحق نفسه. إنه يلغي هذه القيم جميعا حتى يصبح «انعدام القيم» هو نفسه القيمة الوحيدة الباقية له. وإذا كان النفي المطلق معناه العبودية المطلقة، فليست الحرية الحقيقية إلا الخضوع الباطني المختار لقيمة تشمخ بجبهتها في وجه التاريخ ونجاحه.
56
ثانيا: النعم المطلقة أو التأكيد المطلق
تمثل هذه النزعة فلسفتا شتيرنر
57
ونيتشه؛ فالفردية الأنانية تصل مع شتيرنر إلى ذروتها؛ فليس هناك إلا حرية واحدة هي قوتي، وليس هناك إلا حقيقة واحدة هي الأنا المفردة. ويصبح التأكيد المطلق أشبه بطوفان يجرف معه كل نفي أو اعتراض.
58
وإذا كان الله قد مات بظهور نيتشه فقد وضع شتيرنر من قبل بكتابه «الفرد وملكيته» (الذي ظهر في عام 1845م) أساس العدمية الشاملة، وبدأ يسير في المتاهة التي ينبغي الآن عبورها، ويكشف عن الفراغ المفزع الذي ينبغي الآن أن يملأ بقانون جديد.
كان شتيرنر يريد أن يميت في الإنسان كل فكرة عن الله. ولم يكافح الله وحده، بل كافح مادية فويرباخ، والروح المطلقة عند هيجل، وتجسدها التاريخي؛ أي الدولة. كل هذه الأصنام قد ولدت في رأيه من «نزعة منغولية» واحدة. وهي الاعتقاد في الأفكار الأبدية الخالدة؛ ومن ثم فقد استطاع أن يكتب فيقول: «لقد أقمت قضيتي على العدم.» إن الله بالنسبة إليه هو العدو الأول. وهو يذهب في التجديف إلى أبعد حد ممكن: «ابتلع الوحش، وبذلك تتخلص منه.» ولكن الله ليس إلا إحدى المظاهر الأجنبية للأنا. سقراط، ويسوع، وديكارت، وهيجل، كل الفلاسفة والأنبياء لم يزيدوا عن اختراع صور مختلفة من المظاهر الأجنبية عن هذه الأنا التي تكون وجودي، والتي لا تستطيع الأسماء أن تسميها، لأنها شيء فريد ووحيد. وليس تاريخ العالم إلا انتهاكا متصلا لهذا المبدأ الوحيد، المتجسد، الحي، الذي يكون وجود الأنا لدي، مبدأ الانتصار الذي أرادوا له أن يخضع تحت نير التجريدات المتعاقبة، سواء أكانت هي الله، أو الدولة، أو المجتمع، أو الإنسانية، أو ما شاءوا لها من أسماء. الأبدية كلها كذبة كبيرة. والأنا الأوحد هو الحقيقة الوحيدة، هو عدو كل ما هو أبدي، وعدو كل ما يعوق شهوته في السيادة والتحكم.
وهكذا يصبح النفي، الذي يحيا عليه كل تمرد، عند شتيرنر طوفانا يجرف معه كل تأكيد وإيجاب. إنه يزيل من طريقه كل ما حاول الإنسان أن يضعه في مكان الله، ويملأ به ضميره. حتى الثورة يمجها هذا المتمرد الغريب؛ فلا بد للإنسان لكي يكون ثائرا من أن يؤمن بشيء؛ حيث لا شيء هناك يمكنه أن يؤمن به: «لقد انتهت الثورة (الفرنسية) إلى الرجعية، وهذا يبين ما هي الثورة في الحقيقة.» والخضوع للإنسانية يصبح شيئا عقيما، مثله في ذلك مثل الخضوع لله. وإذن فما من حرية في نظر شتيرنر إلا «قوتي»، وما من حقيقة إلا «الأنانية الرائعة للنجوم».
59
المتمرد لا يلتقي مع غيره من الناس إلا بمقدار ما تتفق أنانيتهم مع أنانيته. إن حياته الحقة في الوحدة؛ حيث يشبع شهوته غير المحدودة إلى الوجود.
هكذا تصل الفردية إلى قمتها. إنها نفي لكل ما ينكر الفرد، وتمجيد لكل ما يسبح بحمده ويضع نفسه في خدمته. الخير عندها هو كل ما تستطيع أن تستخدمه في صالحها، وكل ما تقدر عليه فهو من حقها. وإذا كانت الأنا بطبيعتها تقف من الدولة والشعب موقف المجرم، فلنتعلم أن الحياة مساوية للتعدي على الحياة. ولا مفر لمن لا يريد أن يموت من أن يقتل، حتى يكون وحيدا. وهكذا يؤدي التمرد مرة أخرى إلى تبرير الجريمة. ويصبح القتل نوعا من الانتحار الجمعي بالجملة، وتسقط الروح المتمردة في ليل العماء ، لتفتش هناك عن متعتها الكئيبة المفزعة فوق أطلال العالم المنهار. ولا يعود ثمة عزاء إلا في العدم الشامل أو في البعث الجديد. ولا يبقى أمام شتيرنر وأمثاله من المتمردين العدميين إلا أن يندفعوا إلى هذا الحد الأخير، نشاوى من خمرة الدمار والتخريب.
وأما فلسفة نيتشه فهي عند كامي أصدق تعبير عن التأكيد المطلق. ليست فلسفة تمرد بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بقدر ما هي فلسفة مبنية على التمرد. إنها تدور حول مشكلة التمرد، أو هي، بعبارة أدق، تشرع في أن تكون تمردا.
60
و«النعم» التي يطلقها نيتشه إنما تتعلق بالأرض وحدها، التي هي في نظره الحقيقة الوحيدة التي يملكها الإنسان، والتي حكم عليه أن يعيش فوقها، ووجب عليه أن يظل وفيا لها:
61 «لا يكاد الإنسان يرتد عن إيمانه بالله وبالحياة الأبدية حتى يصبح مسئولا عن كل ما تختلج فيه الحياة، عن كل ما يولد مقترنا بالألم، وكل ما يلقى به في عذاب الحياة.»
62
إذا رحب الإنسان بكل شيء وقال لكل شيء «نعم» فهل يعني ذلك أن عليه أن يتخلى عن المبدأ القائل إن كل شيء مباح؟ الأمر في الحقيقة كذلك. لقد عرف نيتشه أن حرية العقل والروح ليست بالأمر الهين المريح، بل هي العظمة التي تتطلب كفاحا شاقا مضنيا، كما عرف أنه لا وجود للحرية بغير القانون.
63
إنه يستبدل عبارة إيفان كارامازوف «إذا لم يكن هناك شيء حق فكل شيء إذن مباح.» بهذه العبارة: «إذا لم يكن هناك شيء حق فليس هناك شيء مباح.» والواقع أن الإنسان، لكي يبيح لنفسه فعلا من الأفعال أو يحرمه عليها، إنما يحتاج إلى قيمة وإلى هدف، فإذا لم يكن ثمة معنى، وإذا انعدمت القيم ورأى الإنسان أن كل شيء ممكن بالنسبة إليه، فالواقع أنه ما من شيء في هذه الحالة مباح؛ لأنه لا وجود للقيم التي يحدد الفعل على أساسها، وبالتالي فكل شيء مستحيل.
ما هو أثر هذه النزعة الإيجابية التي ترحب بكل شيء وتبارك كل شيء على المستوى التاريخي؟
من يقول نعم لكل شيء لا يقولها للحياة والخير والحق والجمال وحدها، بل لابد أن يقولها أيضا للموت والشر والظلم والقبح. ومن يقول نعم للأرض يوافق على العذاب والموت كما يوافق على الفرح والحياة. وأهم من هذا كله أن الذي يبارك كل شيء، بما في ذلك التناقض والألم، يسيطر في الحقيقة على كل شيء
64
فتأكيد كل شيء هو بمثابة حكم مسلط على كل شيء: «إن قول نعم للأرض الجادة المعذبة، ورفعها وحدها إلى مرتبة الألوهية، معناها تشجيع الإنسان على أن يقذف بنفسه في الكون مستعينا ب «إرادة القوة»، لكي يتسنى له أن يعثر على ألوهيته الأبدية من جديد. قول نعم للأرض قولا مطلقا ينتهي بملئها بالبشر-الآلهة.»
65
إن الإنسان يلقي بنفسه في خضم العالم ليصبح ديونيزيوس جديدا. وبذلك يبلغ تأليه الإنسان أعلى ذروته.
إن في فلسفة نيتشه، كما في كل فلسفة عظيمة، شيئا يمكن أن يستخدم ضدها، لا بل أن يؤدي إلى مسخها وتشويهها. وإذا كان نيتشه يقول «نعم» للصيرورة والتاريخ، فهو يقولها أيضا - وهذا هو جانب الخطورة في فلسفته - للإنسان الأعلى ولبشر فوق البشر. بذلك تحبذ موافقته المطلقة منطق السادة والعبيد، ولا تقتصر على تبرير العبودية والعذاب بين البشر، بل تتجاوزهما إلى تبرير الجريمة والقتل، سواء في ذلك أكان الإقدام عليهما باسم الحاضر أم باسم التحول الحتمي للتاريخ. كانت كلمة نعم التي أطلقها نيتشه في أصلها تأكيدا للحياة والطاقة، حتى إذا أسيء استخدامها وفهمها أصبحت تأكيدا للقسوة والعنف والطغيان. وتحولت الحياة التي طالما تحدث عنها بالخوف والرعشة والإجلال إلى نوع من «القيصرية البيولوجية»،
66
وانعكست الشجاعة فصارت قسوة، وانحطت الطاقة فصارت عنفا. وبينما كان نيتشه يطالب بأن ينحني الفرد أمام أبدية النوع ويندمج في دورة الزمن الكبيرة، إذا بهم يجعلون من الجنس حالة خاصة للنوع، ويحنون رأس الفرد أمام هذا الإله القذر.
بذلك أنكر تمرد نيتشه كل حد ولم يملك الوسيلة التي تجعله يضع لنفسه مثل هذا الحد. وبذلك أيضا بقي تمرده تمردا ميتافيزيقيا ينكر كل ألوان «العالم الآخر» التي سلمت بها أجيال الفكر الغربي من قبله، ولكن ماذا يجديه هذا الإنكار إذا كان يستبدل مطلقا بمطلق؟ أليس يضع المطلق الأفقي (الآتي بعد) مكان المطلق العمودي (العالم الآخر) على حد قول الفلاسفة؟ وأي نفع يعود عليه من ورائه إذا كان تمرده يقترب من الثورة، لا ليعيد إليها الحياة أو يعين لها الحدود التي ينبغي عليها أن تلزمها، بل لكي يذوب فيها ذوبانا تاما؟
لقد انتهت فلسفة نيتشه على الرغم منها إلى نوع من القيصرية البيولوجية على عهد النازية والفاشية. وكامي لا يدين نيتشه ولا يستطيع أن يدينه بأنه أراد ذلك، ولكن الحقيقة التي تقول إن مذهبا سياسيا بعينه قد لجأ إلى فلسفته لتبرير أهدافه في القوة والغزو والسيطرة تكفي عنده لإدانته واتهام فلسفته. والمنصف لا يجد في هذا الموقف تجنيا من كامي على نيتشه؛ فكم قدر على الفلاسفة والمفكرين أن يكونوا ضحية للطغاة والمستبدين. ولقد كان نيتشه ضحية هتلر كما كان ماركس ضحية ستالين.
من هذا كله نرى أن فلسفة نيتشه قد انحرفت عن التمرد الأصيل لأسباب ثلاثة: (1)
لأنها تستبعد «اللا» وتحطم بذلك الديالكتيك الباطني للتمرد، الذي لا يمكن أن تنفصل فيه النعم عن اللا، ولا الإيجاب عن النفي؛ فتمرد نيتشه حين يغفل هذه اللا الأصلية إنما ينكر التمرد نفسه الذي يرفض الوجود على ما هو عليه، ويحتج على الخليقة التي تسمح بالموت والشر والعذاب. (2)
لأنها غير وفية لتجربة المحال التي يقوم عليها التمرد نفسه؛ إذ لا تمرد إلا أن يكون تمردا على المحال على اختلاف صوره. إن الوعي في فلسفة نيتشه يبسط «النعم» على الطبيعة بأسرها، ويرضى بالعالم على ما هو عليه، وبذلك يرضى أيضا عن العذاب والشر والموت. (3)
لأنها غير وفية للحاضر، باعتباره مجموعة من اللحظات المنفصلة العابرة الفانية؛ إذ تجعل الإنسان يحيا في توتر متصل متطلعا إلى مستقبل لم يأت بعد، مشرئبا إلى إنسان أعلى لم يتحقق له وجود.
وتبدأ نزعة التأكيد المطلق ببداية الثورة التاريخية. والعام الحاسم في الثورة التاريخية هو عام 1793م، أو على التحديد اليوم الواحد والعشرون من يناير 1793م؛ ففي هذا اليوم انقلب التمرد ثورة، وأرسل الله - في شخص لويس السادس عشر ممثله على ظهر الأرض - إلى المقصلة.
إن فلاسفة حركة التنوير، وبالأخص روسو بعقده الاجتماعي، هم الذين سلموا رأس لويس السادس عشر إلى الجلاد. كان التمرد حتى ذلك الحين يعلن عن نفسه في إطار عقيدة لم يذهب أشد المتمردين إلى حد انكارها كل الانكار. حتى الثائر الأسود اسبارتاكوس لم يستطع أن يمس آلهة الجمهورية الرومانية، ولكن كل شيء يتغير بظهور «العقد الاجتماعي». كان الله حتى ذلك الحين هو الذي يصنع الملوك، الذين يصنعون بدورهم الشعوب. أما من الآن فصاعدا فالشعوب قد أصبحت هي التي تصنع نفسها بنفسها،
67
وفي اليوم الحادي والعشرين من عام 1793م ينزع سان جوست، أحد أتباع روسو، عن التاريخ ثيابه المقدسة، ويقدم الملك للمقصلة. لقد مات دين، ولا بد أن يتبعه دين جديد على الفور، هو دين العقل الذي أصبح هو والفضيلة شيئا واحدا. إنه يقول في خطبته المشهورة: «إن هدفنا هو أن نخلق نظاما للأشياء من شأنه أن تنشأ حركة عامة تبتغي تحقيق الخير.» ولا يكاد ينطق بهذه الكلمات حتى يهبط عليه الإلهام بالوسيلة الوحيدة إلى تحقيقها. وهكذا يسقط في هوة الرعب من طالب العدالة بألا تدين المتهم بل أن ترى ضعفه. إن تحقيق الخير يتطلب أن تتساقط الرءوس، والفضيلة لا تحتمل أن يبقى أعداؤها على قيد الحياة. ولكن لعل سان جوست قد أحس بالتناقض الهائل الذي تردى فيه، يدل على ذلك صمته وهو يموت.
كانت الخطوة الحاسمة قد تمت؛ فقد صاغ اليعاقبة المبادئ الأخلاقية صياغة جامدة ومهدوا للنزعتين العدميتين السائدتين في عصرنا؛ عدمية الفرد وعدمية الدولة. وفقد العقل صلته بإله، ولم يعد يتعلق بشيء إلا بما يحققه من نجاح. وبدأت عجلات التاريخ تتحرك، ومملكته تنشر سلطانها.
كانت العدالة والعقل والحقيقة لا تزال تلمع في سماء اليعاقبة؛ كانت هذه الكواكب الثابتة على الأقل منارات يهتدى بها. غير أن فكرة جديدة (غريبة على الفكر القديم كله) تبدأ ببداية القرن التاسع عشر؛ إن الإنسان لا يملك طبيعة بشرية أعطيت إليه مرة واحدة وإلى الأبد. إنه ليس مخلوقا مكتملا تاما، بل مغامرة يمكن أن يكون هو نفسه خالقها.
68
ويبدأ مع نابليون وهيجل، الفيلسوف النابليوني، زمن الفاعلية. الناس من قبلهما اكتشفوا عالم المكان، أما من بعدهما فقد راحوا يكتشفون عالم الزمان والمستقبل.
وهناك نوع آخر من التأكيد المطلق نجده عند هيجل، الذي يمكن أن نعبر عن موقفه بعبارته الآتية: «هذه هي الحقيقة، التي تبدو لنا مع ذلك كأنها هي الخطأ، والتي تكون لهذا السبب نفسه حقيقية لأن من الممكن أن يحدث لها أن تكون هي الخطأ. لست أنا الذي سيقدم البرهان على ذلك، بل التاريخ هو الذي سيقدمه، بعد أن يتم تمامه.»
69
مثل هذا الموقف يؤدي إلى إمكانيتين لا ثالثة لهما؛ فإما رفع كل تأكيد وتأجيله إلى أن يتم تقديم البرهان، أو تأكيد كل ما من شأنه أن يصيب النجاح عبر التاريخ؛ أي جعل الفاعلية هي المعيار الوحيد لكل ما يحدث وما يكون، وفي الحالتين سقوط في العدمية.
إن أصالة هيجل التي لا سبيل إلى النزاع فيها ترجع في رأي كامي إلى تحطيمه لكل متعال (ترانسندنس) عمودي وقضائه على تعالي المبادئ بوجه خاص قضاء تاما.
70
عرف هيجل بحق أن المبادئ الشكلية المطلقة التي نادى بها اليعاقبة في الثورة الفرنسية كانت تنطوي مقدما على الرعب والإرهاب. وكان لا بد للقضاء على هذا التناقض أن يتطلع الإنسان إلى مجتمع واقعي، يستمد حياته من مبدأ غير شكلي، وتتصالح فيه الحرية مع الضرورة. وينسجم الفكر والوجود. وكان أن وضع هيجل مكان العقل العام المجرد الذي دعا إليه سان جوست وروسو فكرة أخرى خالية حقا من الشكلية، ولكنها مبهمة مزدوجة المعنى هي التي سماها ب «العام المتعين».
ومن هنا غمر العقل في تيار الأحداث، ودفع فكر هيجل الحقيقة، والعقل، والعدالة دفعة تاريخية لا تقاوم ، بعد أن ظلت مطلقة ثابتة عند اليعاقبة، ولم تعد هذه القيم علامات يهتدى بها، بل أصبحت أهدافا وغايات لا تتحقق إلا في آخر التاريخ، بعد أن تتوقف طاحونته الرهيبة عن الدوران ، وتبتلع في أحشائها كل التحولات والمتناقضات، ويعود أوديسيوس من مغامراته البعيدة إلى شاطئ الأمان. وأصبح الفكر من يومها طاقة لا تكف عن الحركة، والعقل غزوا وصيرورة لا تنقطع.
ولن نستطيع أن نقدر مدى هذا الفكر الذي يوافق على كل ما من شأنه أن يوصل إلى هذه الأهداف خلال تاريخ خلا من المتعالي (الترانسندنس)، ولن نستطيع أن ندرك أثره وفاعليته حتى نقف وقفة قصيرة عند الحتمية التاريخية في ثورة القرن العشرين، ونعني بها الثورة الماركسية؛ فما يؤكده هيجل عن التاريخ الذي يسير في طريقه إلى الروح المطلق، يؤكده ماركس بصورة معكوسة على هيئة التاريخ الاقتصادي الذي يسير في طريقه المحتوم إلى مجتمع عديم الطبقات، يسميه كامي بالدولة الشاملة أو المملكة العالمية التي يؤله البشر فيها في نهاية المطاف.
71
وينبغي علينا قبل أن نسترسل في هذا الحديث أن نلاحظ أن كامي لا يميل إلى عبارة «المادية الجدلية أو الديالكتيكية، بل يؤثر عليها المادية التاريخية للدالة على موقف ماركس الذي يحدد الإنسان بالحتمية الاقتصادية. وكامي في هذا يستند إلى رأي الفيلسوف الروسي الوجودي بيرديائيف الذي يرى استحالة التوفيق بين الديالكتيك وبين المادية. وليس السبب في هذا أنه لا يوجد غير ديالكتيك واحد هو ديالكتيك العقل فحسب، بل سببه أيضا أن فكرة المادية نفسها فكرة غامضة مزدوجة المعنى؛ إذ إن تكوين الكلمة نفسها يقتضي منا التسليم بأن في العالم شيئا آخر يزيد على المادية.»
72
هذه المادية التاريخية، أو بعبارة أدق هذه الحتمية التاريخية، لا يمكنها أن تحترم الإنسان بما هو إنسان. إنها تدمر حريته وترده إلى مجرد نتاج اقتصادي. إنه بالنسبة إليها لا يزيد عن كونه عنصرا منتجا، لا شك في نشاطه وفاعليته، إلا أن هذه الفاعلية وذلك النشاط لا ينبعان من ذاته المستقلة المبدعة، بل يتحكم فيهما ويدبرهما المفتش العام.
73
الإنسان في نظرها لم يكن قط، ولم يتحقق له كيان بعد، بل لا بد له أن يكون بكل الوسائل؛
74
ومن ثم كانت قابليته المطلقة للتشكل؛ وبالتالي إلغاء الطبيعة الإنسانية كقيمة ثابتة في وجه التحول والتغير التاريخيين.
هنا يوضع الشخص والشي على قدم المساواة.
75
ويصل تشييء الإنسان (أي رده إلى مجرد شيء يقبل التشكيل والتعديل) إلى ذروته. والعجيب أن هذا التشييء للإنسان يسير في خط مواز لتأليهه. وفي هذا يكمن التناقض الأساسي الذي تعاني منه ثورة القرن العشرين؛ فقد حكم على الناس أن يعاملوا معاملة الأشياء، حتى تتحقق المملكة الشاملة التي يصبحون فيها في نهاية المطاف كالآلهة. إلى أن يتحقق هذا الحلم البعيد لمملكة الآلهة تدعم مملكة الأشياء بكل الوسائل الممكنة، ولكن هذه المملكة الأخيرة، التي كان ينبغي لها أن تكون مملكة للحب والتعاطف والصداقة التي تؤلف بين الأشخاص، ليست في حقيقة الأمر إلا كومة نمل يسكنها أفراد من البشر وحيدون.
كل من يريد أن يجعل للتاريخ معنى ساميا ويعطيه اتجاها هادفا فهو يخضع نفسه لهذا المعنى وهذا الاتجاه. إنه يجد نفسه بالنظر إلى هذا الهدف البعيد مضطرا إلى أن يؤكد كل شيء يخدم هذا الهدف ويؤدي إلى تحقيقه؛ أعني أنه مضطر إلى أن يوافق على العنف والجريمة؛ ومن ثم تبرر المملكة الشاملة التي لن يحين موعدها إلا في نهاية التاريخ، ولن يزال هذا الموعد يؤجل جيلا بعد جيل، كل وسيلة ممكنة لتحقيق هذه الغاية؛ وماذا تعني مائة سنة من الآلام في عين من يعد الناس بتحقيق المملكة النهائية في السنة الواحدة بعد المائة؟ إنه في سبيل عدالة بعيدة يبرر الظلم على مر التاريخ كله. ويصبح الطريق إلى الوحدة هو الشمول.
76
ويستعاض عن الحرية والأخوة بالفاعلية التاريخية. وتتحول الدولة الشاملة إلى عالم من المحاكمات،
77
ويصبح المتمردون الأبرياء قضاة ومحققين. وبينما يرفض التمرد الحق أن يبرر العقاب، نجد الثورة الشيوعية تضعه في مكان المركز من عالمها. لقد صار التاريخ قاضيا يتهم ويدين. وسوف يظل إلى يوم تمامه عقابا طويلا لا يدري أحد متى ينتهي . أما الثواب الحقيقي فسوف يناله الإنسان «فيما بعد»؛ أعني في آخر الزمن. إن بروميثيوس الحقيقي الخالد قد اتخذ الآن شكل ضحية من ضحاياه.
78
إن الثورة التاريخية في القرن العشرين تجد نفسها أمام معضلة أخيرة؛ فإما أن تتخلى عن مبادئها الفاسدة وتخلق لنفسها مبادئ جديدة حتى يتيسر لها أن تعود إلى منابع التمرد النقية، وإما أن تتخلى عن العدالة والحرية التي أرادت أن تمكن لها من السيادة التامة على الأرض. وليس من العسير أن ندرك المعضلة التي تضعها في موقف الاختيار الشائك المستحيل؛ فإما الاحتفاظ بحكم الاستبداد الشامل يفرض على رءوس الملايين من البشر عبر أجيال لا يعرف عددها وإلى أن تنهار الرأسمالية من تلقاء نفسها، وإما الإسراع بتحقيق الدولة الشاملة عن طريق حرب ذرية محققة الدمار. وفي الحالين تجد الثورة التاريخية نفسها في التناقض.
79 - أما النزعة الثالثة والأخيرة التي لا تجعل من التأكيد ولا من النفي شيئا مطلقا، والتي تعترف بالطبيعة الإنسانية وتحافظ على المقياس ولا تتعدى الحد ومع ذلك فهي تنحرف عن التمرد الحق فنجدها لدى «القتلة الرقيقي المشاعر»،
80
كالياييف وأصدقائه من أعضاء منظمة الكفاح للحزب الاشتراكي الثوري التي تألفت في عام 1903م، وضمت أندر شخصيات الإرهاب الفوضوي في روسيا القيصرية.
إن هؤلاء القتلة الرقيقي المشاعر باعترافهم بالطبيعة الإنسانية يضعون للا المطلقة والنعم المطلقة حدا تقفان عنده. إنهم يتمسكون بتلك القيمة التي نقابلها في فعل التمرد الأصيل، ونعني بها روح التضامن التي يؤدي إليها التمرد. إن كل واحد منهم يستطيع أن يقول: «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون.» ولو سألناهم من أنتم لأجابوا قائلين: نحن موجودات قادرة على الوعي بالحد، محققة للتكاتف والتواصل فيما بيننا وبين بعضنا والبعض. إن تضامننا ليس في حقيقة أمره سوى الوعي بما نشترك فيه مع جميع الناس؛ أعني بطبيعة يشترك فيها كل بني الإنسان.
كان شعراء التمرد هؤلاء يرون سعادتهم الوحيدة في التضامن. لقد جمع بينهم احترام الحياة الإنسانية بما هي كذلك مع احتقار حياتهم الذاتية إلى الحد الذي جعلهم لا يترددون لحظة عن بذل أغلى التضحيات. إن جريمة القتل التي أقدموا عليها تبدو لهم جريمة ضرورية وغير مغتفرة في آن واحد. إنها تصبح بالنسبة لهم هي والانتحار شيئا واحدا.
81
لم يكن التاريخ في نظر هؤلاء القتلة النادرين شيئا مطلقا ولا كانت العدالة كذلك. إنهم يقتلون من أجل الفكرة، ولكنهم لا يضعون هذه الفكرة مع ذلك فوق الحياة. وتبريرهم الوحيد لها هو أنهم يأخذونها معهم إلى قبورهم. وهم حين يموتون لا يضحون بأنفسهم في سبيل عدالة إلهية، بل يضعون كل أملهم في عدالة إنسانية يوقنون أنها ستتحقق ذات يوم على يد أجيال لم تولد بعد. وهنا نصل إلى النقطة الوحيدة التي جعلتهم يحيدون عن التمرد الحق. إنهم، على حد تعبيرنا السابق، ما زالوا يؤمنون بمتعال (ترانسندنس) أفقي؛ أعني بقيمة لم توجد بعد. وكل قيمة نقول عنها إنها آتية فيما بعد، هي في الحقيقة قيمة تناقض نفسها بنفسها؛ ذلك لأنها لا تستطيع أن توضح طبيعة فعل من الأفعال، ولا أن تعطينا مبدأ نختار على أساسه في موقف معين، طالما بقيت مجردة لم تتجسد بعد.
82
ربما كان تبريرهم الوحيد أنهم لم يشرعوا الرعب والقتل، لا بالحجج الفلسفية ولا بالبراهين العلمية. لقد حملوا الذنب المحدود على أكتافهم، ودفعوا حياة بحياة. كانت الثورة بالنسبة إليهم وسيلة ضرورية، ولكنها لم تكن هدفا في ذاته. وبذلك رفضوا أن يصلوا إلى الوحدة عن طريق الشمول، واحتفظوا بذواتهم الوحيدة وتناقضاتهم الممزقة فلم يشاءوا أن يلقوا بها في فوهة تنين «أيديولوجي» يبتلع كل المتناقضات ويسوي كل الفروق. هؤلاء «القتلة الأبرياء» في ثورة عام 1905م الاشتراكية قد بذلوا حياتهم لكي يبعثوا الحياة في قيمة استطاعوا في زنزاناتهم المعتمة وعلى أعواد المشانق أن يؤكدوها ويثبتوا وجودها؛ قيمة «نحن نكون»، عنوان تضامن الإنسان المتمرد مع كل إنسان. •••
نستطيع الآن أن نلخص ما انتهينا إليه في هذه الملاحظات:
أولا:
تردي التمرد الميتافيزيقي كما تردت الثورة التاريخية (وهي النتيجة المنطقية المترتبة عليه) خلال تاريخهما الطويل من صاد وشتيرنر إلى إيفان كرامازوف، ومن الرومانتيكيين ونيتشه إلى الفاشية والشيوعية في هاوية الجنون والانتحار، أو القتل والدمار. لقد كانت في كل مرة تخضع فيها للتأكيد المطلق لكل ما هو موجود تلطخ يديها بالدماء. وفي كلا الحالين كانت تتعدى الحد الذي بينه التمرد، وتفقد الحق في أن تسمي نفسها باسم التمرد.
83
ثانيا:
إن التمرد لا يمكن تبريره إلا حيث يبقى الإنسان وفيا لبنائه الديالكتيكي، ولا يستطيع أن يزعم لنفسه أن يطلب الوحدة إلا حيث يتمسك بلا محدودة ونعم محدودة في وقت واحد؛ أعني حيث يحافظ على نسبيته ويبقى بين الحدود التي رسمتها له الطبيعة الإنسانية.
والثورة بدورها لا تكون لها من قيمة إلا حيث تبقى على وفائها للتمرد، هذا الوفاء لا سبيل إليه إلا إذا صدت عن المطلق والمجرد، وتم لها الوعي الكامل بالحدود المرسومة لها؛ ذلك أن الإنسان الذي يبحث عن المطلق فيما هو نسبي، أو يفتش عن المجرد فيما هو واقعي لا بد مضطر إلى تدمير النسبي والواقعي جميعا؛ أعني إلى القتل وسفك الدماء. ودائما ما تنشأ إرادة البحث عن السعادة المستحيلة أو عن العدالة والحرية المستحيلتين عن «إطلاق» النعم أو اللا أو رفع أحدهما؛ أعني عن تدمير العلاقة الديالكتيكية الأصيلة للتمرد بإلغاء أحد طرفيها أو التطرف فيه تطرفا مطلقا.
84
ثالثا:
عندما يستبعد التمرد «النعم» أو التأكيد ويقتصر على النفي وحده، فإنه يستسلم للمظهر،
85
فإذا ما اتجه إلى التأكيد المطلق لكل ما هو موجود، وتخلى عن نفي الواقع أو مجرد الاحتجاج على جانب منه، فإنه يجبر نفسه إن آجلا أو عاجلا على الفعل. وبينما يحاول التمرد الميتافيزيقي أن يستمد الحقيقة من المظهر ويصل إلى الوجود عن طريق الموجود، وبينما تريد الثورة التاريخية أن تغزو الوجود عن طريق الفعل، نجد أن التمرد يقف في صف الوجود الممزق المنقسم على نفسه، ويبذل كل ما في طاقته لتأكيد «نحن نكون» بتأكيده لطبيعة إنسانية ثابتة يشترك فيها كل البشر، وتضع للتطرف حدا، ولكل محاولة للإفلات من المقياس مقياسا.
فإذا قالت الثورة التاريخية: «أنا أتمرد، إذن فسوف نوجد»، وإذا أضاف التمرد الميتافيزيقي إلى عبارة «أنا أتمرد » قوله: «إذن فنحن موجودون وحدنا» فإن التمرد المتواضع المضطهد الوفي لمنبعه والعارف لحدوده يلخص حكمته في هذه العبارة: «أنا أتمرد، إذن فنحن موجودون».
86
رابعا:
نحن موجودون هذه تعبر عن قيمة التضامن التي تنبني على حركة التمرد، كما سنرى فيما بعد. أما «أنا أتمرد» وحدها فهي تعبر عن تمزق الإنسان المتمرد، عن توتره الدائم وعذابه المتصل من المتناقضات التي يعيش فيها، والتي توقظ الوعي كما رأينا من قبل، فإذا ما استيقظ هذا الوعي عبر عما يعانيه من المتناقضات في التوتر الديالكتيكي الدائم بين الخير والشر، والعدل والظلم، والحياة والموت. هذه المواجهة التي تتقابل فيها التصورات المتضادة هي التي تجعل الوعي وعيا على وجه الإطلاق، وتتيح له النصوع والإشراق كما ذكرنا من قبل. وعن طريق هذه المواجهة أيضا تنشأ فكرة الحد والمقياس؛ ومن ثم نستطيع أن نفهم كيف أن الحد والمقياس توتر خالص، والمحافظة عليه حكم من الإنسان على نفسه بالحياة في تمزق متصل، ولكي ندرك ذلك ينبغي علينا أن نتناول فكرة الحد في شيء من التفصيل. (د) التمرد المعتدل وفكرة الحد والمقياس
التمرد شرط الوجود؛ فلكي يوجد الإنسان، لا بد له أن يتمرد، ولكن لا بد لتمرده من أن يحافظ على الحد الذي لا يجده إلا في نفسه. ولا يبدأ وجود الإنسان إلا حين يجتمع على التمرد مع غيره من الناس.
87
تقول الجوقة في ختام مسرحية «حالة حصار»:
88 «هنالك حدود معينة. والذين لا يريدون أن يوجدوا نظاما، والذين يحاولون أن يحشروا كل شيء داخل نظام واحد، يتساوون في تجاوز هذا الحد.» ولقد استطاع كالياييف ورفاقه من القتلة الأبرياء الحساسيين أن يكبحوا جماح تمردهم وأن يلزموا حدا يقفون عنده ويحترمونه. كانت حياة الأطفال الأبرياء هي التي رسمت لهم هذا الحد فلم يتعدوه. ولقد فشل الاعتداء الأول الذي دبروه على حياة الأمير الأكبر سيرجي لأن كالياييف رفض، ووافقه رفاقه على هذا الرفض، أن يقتل معه الأطفال الذين كانوا يصحبونه في عربته. إنهم يحكمون على الأمير الطاغية بالموت لكي تحيا الملايين. ويقتلون طبيعة إنسانية واحدة لكي ينقذوا الطبيعة الإنسانية الشاملة.
نحن نفهم من كلمة الحد في العادة نقطة أو خطا أو سطحا يبين العلامة الفاصلة بين مكانين أو بين مرحلتين زمنيتين، فإذا لجأنا إلى الاستعارة أمكننا أن نقول إن الحد يمثل نقطة لا يجوز لفعل ولا لمعرفة أن تتعداه. والحد بهذا المعنى يدل على ما يقع ناحيته، كما يدل على ما يتجاوزه إلى ما وراءه؛ أعني أنه يشير إلى وجود الموجود الذي يتخطى الحد إلى اللامحدود، كما يشير إلى موجود آخر يلزم المحدود فلا يتعداه. وهنا نستطيع أن نسأل: هل يتمرد الإنسان لكي يتخطى حدا أم يتمرد لكي يحول دون تخطي هذا الحد؟ وهل يستطيع المتمرد أن يسمح لنفسه في بعض الظروف أن يتخطى الحد لكي يؤكد وجود هذا الحد نفسه؟ وهل يمكن للتمرد أن يكون تمردا على وجه الإطلاق بدون أن يتضمن في ذاته فعل التجاوز والتخطي للحد؟ يبدو أننا بهذه الأسئلة ندور حول أنفسنا دون أن ننتهي إلى جواب حاسم. والواقع أن هذا الجواب يتوقف على ما نفهمه تحت كلمة «الحد».
89
قلنا إن المتمرد إنسان يقول «لا» كما يقول «نعم» في آن واحد. إنه يصرخ ب «اللا» في وجه من يضطهده وينكر عليه حقه في الحرية والحياة، ولكنه كذلك يقول «نعم» مؤكدا وجود حد ينبغي لمضطهده أن يقف عنده.
90
إنه يقول له: «إلى هنا ولا تزد!» كما يقول له: «إن هناك حدا لا يجوز لإنسان أن يتخطاه.» إنه بالنفي والاحتجاج يؤكد في الوقت نفسه وجود وعي بقيمة، ب «شيء» ما، بجزء من نفسه يريد له أن يحترم؛ أي إنه يؤكد باختصار وجود طبيعة مشتركة بين جميع الناس.
فما هو إذن هذا الحد أو هذا المقياس؟
إن فكرة الحد أو المقياس ينبغي أن تفهم دائما في التحول المستمر، في حركة التمرد الديالكتيكية التي لا ينقطع تيارها؛ فالحد في حقيقته توتر خالص، وتمزق الموجود بين لا مطلقة ونعم مطلقة، بين زهادة في كل شيء وتطرف في كل شيء. إنه صراع مستمر، يحاول العقل على الدوام أن يهدئ منه ويتحكم فيه؛ فبين طرفين متباعدين بلغ عندهما الانفلات من الحد أقصى مداه، بين طلب المستحيل من ناحية والتردي في الهاوية من ناحية أخرى (وهما المحاولتان الأبديتان اللتان لا يستطيع التمرد أن ينتصر عليهما كل الانتصار) نجد فكرة الحد تحاول أن تحافظ على التوازن وتوقظ في الوجدان معنى المقياس. إن فكرة الحد - هذه الثمرة الخالدة التي أهدتها إلينا شجرة الفكر اليوناني، واجتمع فيها كل روحه وكل جوهره - هي التي تحمي التمرد عبر التاريخ الطويل المزدحم بالتهور والتطرف والجنون، وهي التي تبين له النظام والمعيار، وتخلقه في كل لحظة من جديد، وتحرص على ألا يسقط في الانحرافات التي انزلقت إليها الثورات على اختلاف العصور. وإذن ففكرة الحد ليست هي الضد المقابل لفكرة التمرد؛ فكلاهما متعلق بالآخر تعلقا من شأنه أن يجعل فكرة الحد تنبع من جوهر التمرد ولا تحيا إلا به، مثلما أن التمرد هو تمرد لا سبيل إلى تصوره بدون فكرة الحد والمقياس. إن التمرد إما أن يكون تمردا محدودا أو لا يكون.
نستطيع الآن أن نذهب إلى القول بأن التمرد المعتدل المحدود هو الموضوع الحقيقي الذي تدور حوله محاولة كامي الفلسفية الكبرى «المتمرد». إن الهدف منها هو رفض كلا الطرفين المتباعدين اللذين يؤدي العقوق بالديالكتيك الأصلي للتمرد إلى التردي في أخطارهما، ونقصد بهما تأليه الإنسان من ناحية وتشييئه من ناحية أخرى. وهي تهدف بذلك أيضا إلى إنقاذ الإنسان الحقيقي الخلاق، الذي لا يعدو في نهاية المطاف أن يكون الإنسان المتمرد على المحال في صورتيه الميتافيزيقية أو التاريخية.
كلا الطرفين إذن يريد أن يحقق المستحيل في الممكن، والمجرد في الواقع، والمطلق في النسبي؛ فهو إما أن يهدف إلى تحقيق الحرية المطلقة عن طريق تأليه الإنسان، أو إلى تحقيق العدالة المطلقة عن طريق تشييئه.
ولا نستطيع أن ندع هذه الفرصة بغير وقفة قصيرة عند رأي كامي في المطلق؛ فالواقع أنه، وإن كان يرفض النزعة المطلقة بكل ما فيه من قوة، إلا أن المطلق لا يختفي من تفكيره كل الاختفاء، بل إننا نستطيع أن نقول قولا لا يخلو من المفارقة حين نذهب إلى أن المطلق عنده هو النسبي نفسه، الذي يوضع موضع المطلق. والتوتر الحقيقي عنده هو في حقيقته نوع من التوتر الذي يسعى إلى المطلق، الذي يلتمسه في المظهر وفي حدود التجربة الإنسانية الممكنة ذاتها؛ فالموقف المتطرف الذي يرفضه موجود إذن بصورة معكوسة في تفكيره، وكأنه لا يستطيع أن يفلت من قدر الفكر الإنساني الذي يسعى بطبيعته إلى المطلق، سواء في ذلك أأثبته أو نفاه، وكأن الإنسان يأبى بطبيعته إلا أن يكون حيوانا ميتافيزيقيا كما قال القدماء. وبدلا من ذلك المطلق، الذي يعلو فوق الإنسان علوا عموديا، ويطرح في «عالم آخر» سواء كان هذا العالم زمانيا أم مكانيا، نجده يبحث عن النسبي في «الآن» و«الهنا» بحثا لا ينقطع، ويصبغه، دون وعي منه، بالصبغة المطلقة. ولعله في موقفه من المطلق يخلط بوجه عام بين ما هو فلسفي وما هو سياسي، حتى يبدو المطلق في معظم الأحيان أشبه بالدكتاتورية البوليسية التي تميز طابع العصر، والتي لا ينفك يكافحها بكل ما يستطيع.
قلنا إن كامي يرفض الحرية المطلقة؛ فلا وجود عنده لحرية مثالية، يمكن أن نصل إليها ذات يوم على حين فجأة «كما يصل المرء إلى المعاش في آخر حياته.»
91
إنه يؤمن بوجود «حريات» متعددة، على الإنسان أن يغزوها واحدة بعد الأخرى في حرص وأناة. والحريات التي يملكها ليست إلا مراحل لا يمكن بالطبع أن نقف عندها ولا أن نكتفي بها، ولكنها مراحل على الطريق المؤدي إلى التحرر الواقعي الحق.
92
هل يفهم من هذا أن حرية الاختيار التي نتحدث عنها تعني التخلي عن العدالة؟ لا نستطيع أن نذهب إلى هذا الرأي؛ فمثل هذه النقيضة (حيث تستبعد الحرية المطلقة العدالة كما تنفي العدالة المطلقة كل حرية) لا وجود لها إلا حيث يسعى الفكر إلى الشمول (الذي يلغي جميع الفروق ويسوي المتناقضات والأضداد) لا إلى الوحدة (التي تحقق قبل كل شيء الانسجام بين الأضداد)؛
93
فالحق أن الارتباط وثيق بين العدالة والحرية والتضامن بينهما مكفول، بشرط أن ننظر إليهما نظرة معتدلة؛ فالحرية المطلقة تؤدي إلى الظلم، والعدالة المطلقة تخنق كل حرية. وكلاهما ينتهي بالبوليس أو بالجنون، وفي الحالين بالجريمة والقتل.
قلنا إن التمرد على الظلم والطغيان هو في صميمه تمرد على المحال في صورته التاريخية. وعلى الإنسان تقع أمانة هذا التمرد الذي ينبغي أن يتمثل فيه بسيزيف أو بالدكتور ريو؛ أعني أن يبقى في تمرده وفيا للمحال، واعيا بالحدود التي رسمها لنفسه. مثل هذا التمرد المعتدل لا مجال له إلا في النسبي والممكن والواقعي المعين، فإذا تجاوز هذه الحدود لم يعد تمردا من أجل الحياة، بل جموحا لا يخدم إلا الموت.
واجب إذن على الإنسان أن يطابق بين التمرد وبين الحد والمقياس، وواجب على التمرد المعتدل المحدود أن يكفكف من غلواء الثورات التاريخية التي أفلت طموحها من كل حد وأن يعيدها من جديد إلى منبع التمرد الحي الخلاق.
94
بذلك يوضع حد أخلاقي للثورة التاريخية لا يجوز لها أن تتعداه؛ فهو احترام الإنسان، واعتبار كرامته، وفرديته، وتقدير الطبيعة الإنسانية المشتركة بينه وبين سائر البشر. ويصبح مبدأ التمرد الذي يحترم الحد الذي وضع له بما هو تمرد هو المبدأ الذي يمكن أن نعبر عنه على النحو التالي: «بدلا من أن نقتل ونموت لكي نخلق وجودا ليس هو وجودنا، ينبغي علينا أن نعيش ونترك غيرنا يعيشون، لكي نخلق الوجود الذي هو وجودنا.»
95
هذا الفكر الذي يحرر العقل حين يضعه موضع اليقين بحدوده يسميه كامي فكر الظهيرة. إن مثله الأعلى هو الفكر اليوناني الذي التزم دائما بتصور الحد،
96
فلم يدفع شيئا إلى نهايته الأخيرة، لا القداسة ولا العقل. لقد استطاع أن يحافظ على التوازن بين الظل والنور، ويعين مكان الإنسان من الطبيعة والغيب والآلهة. إنه فكر الحد والمقياس. وهو بذلك فكر الوحدة، الذي لم يعرف شيئا عن نزعة الشمول التي تهدد اليوم لكي ب «قتل أوروبا».
97 «فكر الظهيرة» اليوناني يقابله «فكر منتصف الليل» الأوروبي الحديث، الذي يندفع بأقصى سرعته في غزو الشمول، وينفلت على الدوام من الحدود ليتوه في مغامرة اللامحدود، إنه في جنونه قد غير الحدود والمقاييس الأبدية.
كيف يستطيع التمرد أن يوجد الوحدة، التي تقوم عليها روح التضامن بين بني الإنسان؟ الإجابة المباشرة تقول: عن طريق تأكيده للحد . وتأكيده للحد هو في الوقت نفسه تأكيد لكرامة وجمال مشتركين بين الناس،
98
تمكنان للمتمرد أن يخطو إلى الوحدة بغير أن يتنكر للأصل والمنبع.
قلنا إن تأكيد الحد هو في الوقت نفسه تأكيد لواجب الالتزام به؛ فالتمرد يقف باسم الكرامة الإنسانية في وجه كل محاولة لتجاوز هذا الحد؛ وبالتالي لنفي القيمة الأولى ونعني بها الطبيعة الإنسانية.
99
أما عن الجمال، فهو ما لا نجده في «عالم المحاكمة»، بل في عالم الخلق الفني وحده. هنالك نجد التمرد في حالته الأصيلة، مما يقتضينا أن نتناوله في هذا القسم من حديثنا بشيء من التفصيل. (ه) إستطيقا التمرد
تستحق إستطيقا التمرد من الباحث أوفر نصيب من العناية والاهتمام. ولا يرجع هذا إلى أنها تعبر عن فلسفة التمرد في حالتها النقية الأصيلة فحسب، بل إنها تختلف كذلك عن إستطيقا المحال التي تحدثنا عنها فيما تقدم بعض الاختلاف. نقول ذلك لأنها لا تناقضها تمام المناقضة كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين المعاصرين.
100
ولقد نبه كامي بنفسه إلى المكانة الممتازة التي تحتلها النظرية الإستطيقية (الجمالية الفنية) في فكرة الفلسفي؛ فهو يرى أن الفن بدوره حركة تثني وتنفي، وترحب وترفض في آن واحد. إن نيتشه يقول في عبارة مشهورة: «ما من فنان يحتمل الواقع.» هذا الرأي صحيح، ولكن ينبغي أن نضيف إليه أنه ما من فنان يستطيع أن يستغني عن الواقع. إن الإبداع الفني نشدان للوحدة ورفض للعالم في وقت واحد، ولكنه يرفض العالم بسبب ما يحس فيه من نقص وباسم ما يكون عليه هذا العالم في بعض الأحيان. ما من فن يمكن أن يوجد على أساس من الرفض الشامل؛ فالفنان الذي يريد أن يبدع الجمال مضطر إلى أن يرفض الواقع اضطراره في الوقت نفسه إلى تمجيد بعض جوانب هذا الواقع نفسه، فالفن إذن ينازع في قيمة الواقع أو يلغيه في بعض الأحيان، ولكنه لا ينسلخ عنه أبدا.
101
وإذا كان كامي يؤكد أن الإبداع الفني نشدان للوحدة ورفض للعالم في آن واحد، فهو بهذا التأكيد لا يقتصر على أن يقدم لنا التعريف الملائم للتمرد، وأن يبصرنا ببنائه الديالكتيكي فحسب، بل إنه يقدم لنا كذلك مفتاح فهم تفكيره الفلسفي على المستوى الجمالي والمستوى التاريخي معا. ونستطيع إن نقول إن مطلب التمرد للوحدة هو في الوقت نفسه مطلب جمالي وفني. هذا السعي إلى الوحدة، وهذا الرفض للعالم والموافقة عليه في آن واحد يجعلنا نتعرف على طبيعة التمرد والإبداع الفني معا.
وإذا كان التمرد بدون علاقته بالمحال لا معنى له (فالتمرد دائما تمرد على المحال كما قدمنا) فإن الإبداع والخلق في العمل الفني (وهو بحسب ماهيته عمل محال) هما في الوقت نفسه إبداع وخلق في التمرد. ونستطيع أن نذهب إلى القول بأن الفن يقرب الإنسان من الوعي الناصع بمصيره أكثر مما تصنع الفلسفة: «إنني أطالب العمل الفني المحال بما أطالب به الفكر؛ التمرد، والحرية، والتنوع.»
102
كان كل هم الإنسان في تجربة المحال منصبا على وصف العالم بكل ما فيه من تنوع الألوان والأصوات والمشاعر، دون أن يضيف إليها شيئا من عنده: «الوصف: ذلك هو آخر ما يطمح إليه الفكر المحال.»
103
وفي هذا الوصف الظاهري المحض، وفي غمرة اللحظة المباشرة التي يتم فيها هذا الخلق المحال لا يوجد ثمة حد فاصل بين المظهر والوجود. هذه النظرة الجمالية (الإستطيقا) في مرحلة المحال كانت ملائمة لأخلاق الكم الفردية المتعلقة بالأنا وحدها والتي كان شعارها يقول: «عش كما لو ...» ولكن التجربة حين اتسعت أبعادها بالتمرد اتسع معها المنهج وتغيرت معها الألفاظ، دون أن يؤدي ذلك إلى التعارض الصريح بين تفكير التمرد وبين تفكير المحال في إجماله؛ فالعالم لم يعد غريبا لا سبيل إلى تغييره (على الأقل من الناحية التاريخية لا الطبيعية) ولكنه أصبح قابلا للتغيير، لا بل لإعادة خلقه من جديد. والتمرد طاقة خلاقة تعيد خلق العالم في كل لحظة من جديد كما تبدع قيما جديدة على الدوام، وليست كالمحال نفسه مجرد تكرار عقيم لا نهاية له ولا أمل في الخلاص منه. وفي مرحلتي المحال والتمرد يبقى مطلب الإنسان للوحدة في أساسه على ما هو عليه، ولكنه لا يطلبها الآن لكي يعاند محالية العالم ويستنفد جهده في التحدي وحده، بل لكي يشكل هذا العالم من جديد على صورة القيمة التي اكتسبها عن طريق التمرد. ويبقى الدافع إلى طلب الوحدة في الحالين واحدا لا يتغير، ونعني به المحافظة على كرامة الإنسان والإبقاء على «عزته الميتافيزيقية». وليس الفن إلا الشهادة التي تنطق بهذه الكرامة والعزة الإنسانية، اللتين تتكشفان في التمرد على المصير المحال وفي الإصرار على مواصلة الجهد العقيم.
إن وصف كامي للإنسان وسعيه الدائب إلى الوحدة وراء التعدد، والحقيقة وراء المظهر، وحديثه عن العالم بما فيه من شقاق وغرابة وانفصال لم يتغير في جوهره في «إستطيقا» التمرد عنه في إستطيقيا المحال. ولعل الفارق الأساسي بين المرحلتين الفكريتين المتلازمتين هو في أن الإنسان في تجربة المحال لم يكن مطالبا بأن يخلق عالما موحدا خلقا جديدا على أساس قيم جديدة؛ فلقد كان الإنسان محكوما عليه بأن يموت مع متناقضاته، مع حقيقته الوحيدة (المحال) بعد أن يصل إلى الوعي الناصع بمصيره. أما في التمرد فالإنسان مطالب - على الرغم من الموت - بأن يبدع قيمة تمكنه من أن يشكل العالم من جديد.
104
وهذا التوسع في مجال الفكر على أساس التوسع في القدرات المبدعة الخلاقة عند الإنسان يرجع في حقيقته إلى القيمة الأساسية التي يؤكدها التمرد وهي التضامن؛ ففي التضامن يتوحد البشر في كفاحهم المشترك ضد إهدار كرامة الإنسان على يد الإنسان، وضد الموت المصنوع أو القتل في العصر الحديث. وهذه الحركة الصاعدة من «الأنا» إلى «النحن»، ومن الفردية إلى التضامن بين أفراد وحيدين هي التي تميز هذا التوسع في المجال الفكري.
بهذا تكون «الإستطيقا» جزءا متكاملا من فلسفة التمرد، تحاول هذه الفلسفة أن تصل عن طريقه إلى التركيب
Synthése
المبدع الخلاق، ولكن هذا التركيب الخلاق لا وجود له في الفن ولا في فعل التمرد إلا حيث يكون الطرفان المتباعدان من رفض وموافقة، ومن لا ونعم على أشد ما يكونان من توتر. وإذا صح أن كل فن يستحق هذا الاسم ينطوي على التمرد، فمن الصواب أيضا أن يقال إن نفي الفنان للواقع ينطوي على نفس التأكيد الذي ينطوي عليه التمرد التلقائي الذي يعلنه المضطهد في وجه مضطهده.
105
ونحن نلمس في فن القرن العشرين نفس الجحود الذي لمسناه في ثورة القرن العشرين لديالكتيك التمرد؛ فكلاهما يشترك في نفس التناقض بحيث نجد اتجاهين رئيسيين في الفن؛ فإما نفي الواقع نفيا مطلقا يؤدي إلى تشويهه (كما في النزعة الشكلية الخالصة) وإما تأكيده تأكيدا مطلقا نتيجة التسليم به على ما هو عليه (كما في النزعة الواقعية المتطرفة).
إن الإبداع الفني الذي يعبر عن التمرد في حالته النقية الأصلية هو وحده الذي يستطيع أن يوصلنا إلى التوازن والانسجام الضروريين لتحقيق الوحدة التركيبية الخلاقة. في هذه الوحدة الخلاقة يستطيع عندئذ الفن والمجتمع، والخلق والثورة أن تجد طريقها إلى منبع التمرد حيث يتلازم النفي والتأكيد، والفرد والتاريخ، والخالص والعام في توتر ديالكتيكي حاد تتعادل فيه الكفتان. عندئذ نستطيع أن نقدر كلمة نيتشه التي تنبأ فيها بعصر يسود فيه الفنان المبدع بدلا من القاضي والجلاد.
106
نستطيع أن نجمل الفصل السابق في الملاحظات التالية:
أولا:
يبدأ الفكر عند كامي من التناقض أو الفضيحة
Scandale ، سواء في ذلك الفكر عند إنسان المحال أو عند الإنسان المتمرد؛ فالتناقض الذي حرك التفكير عند إنسان المحال هو الانتحار، والذي حرك المتمرد هو القتل الذي تبرره الحجج الأيديولوجية والمذاهب الفلسفية. هذا الموت الذي يفتعله البشر، وعذاب الأبرياء والأطفال، يمثلان عنده المتناقضات أو الفضائح التي تدفعه إلى التمرد.
ثانيا:
لا سبيل إلى فهم التمرد إلا من حيث علاقته بالمحال الذي يفترض التمرد وجوده؛ فالتمرد بما هو تمرد هو في الحقيقة تمرد على المحال، كما أن المحال من حيث هو محال لا وجود له إلا إذا وجد التمرد عليه. إن التمرد ينشأ عن الإحساس بالجنون أمام قدر ظالم ولا سبيل إلى فهمه.
107
ثالثا:
التمرد حركة موجهة ضد إنسان ما ومعه تنطوي على اللا والنعم، والرفض والموافقة في وقت واحد. في هذا التعارض الديالكتيكي نكشف جذوره العميقة في أرض المحال. ولقد استطاع هذا المحال أن يحدد لنا طبيعة هذين الطرفين المتصارعين من نعم ولا، من تأكيد ونفي، تحديدا واضحا مستمدا من بنائه هو نفسه. وعلى هدي من تعاليم المحال استطعنا أن نتبين طبيعة التمرد الحقيقي الوفي لأصله ومنبعه، فكان التمرد حركة من أجل الإنسان والأرض؛ أعني من أجل المحدود والنسبي، اللذين وضح المحال من قبل حدودهما وإمكانياتهما. والتمرد في الوقت نفسه حركة ضد كل من يطلبون المطلق؛ أعني ضد كل من يتجاوز حدود المحال.
رابعا:
لم يبق للإنسان، بعد أن سلب المطلق، من واجب إلا أن يحاول على الدوام أن يتمرد ذلك التمرد النسبي المحدود الذي ينبغي ألا يكف عن خلقه في كل لحظة من لحظات حياته خلقا جديدا. هذا التمرد وحده هو الذي يتيح للإنسان أن يحيا في البعد التاريخي الملائم له، وهو الذي يستطيع أن يحميه من الانحراف عن التمرد الحق إلى العدمية التي تردت فيها الثورات التاريخية وذلك بتأكيده لطبيعة إنسانية يشترك فيها بنو الإنسان على السواء. أما ما هي هذه الطبيعة الإنسانية فذلك ما سوف نتناوله بالبحث في الفصل القادم.
خامسا:
في الخلق الفني وحده نستطيع أن نجد أصل التمرد ومنبعه النقي الحق. ولا وجود للمتعالي (الترانسندنس) الحي الذي يعدنا بالجمال إن كان له وجود على الإطلاق إلا في الفن.
108
وما من شيء سوى العمل الفني يستطيع أن «يرفع» الزمان؛ فهو وحده الذي يستطيع أن ينقل المتعة الفانية بطبعها من جيل إلى جيل، فيضفي طابع الدوام على ما من شأنه أن يعبر ويزول، وأن يهب الفنان نفسه ذلك «الخلود الزائل»، وهو الخلود الوحيد الممكن في هذا العالم الفاني. ويظل الفن، على الرغم من هذا التعالي الظاهري، هو المجال الوحيد الذي يستطيع التمرد فيه أن يحرز الانتصار الكامل. الفن وحده هو الذي يستطيع أن يجعلنا نعيش هذه «الأبدية الزائلة»، هذه اللحظة التي تلتقي فيها أبعاد الزمن الثلاثة في حضور نادر فريد وسعيد.
الفصل الرابع
التضامن
«اخترت العدالة لكي أظل وفيا للأرض. ما زلت أومن بأن هذا العالم ليس له معنى يعلو عليه، ولكنني أعلم أن هناك شيئا فيه ذا معنى، وذلك هو الإنسان؛ لأنه هو الكائن الوحيد الذي يطالب به.»
كامي: «رسائل إلى صديق ألماني، ص78» (أ)
الطبيعة الإنسانية. (ب)
التضامن. (ج)
الديالوج والمونولوج. (د)
عبارة كامي وعبارة ديكارت. (أ) الطبيعة الإنسانية
بالمقارنة بين «ملاحظة عن التمرد»،
1
وهو مقال نشره كامي في عام 1945م، وبين «المتمرد» نستطيع أن نتبين تغييرا في نص عبارة واحدة يكشف لنا عن ماهية الطبيعة الإنسانية. لقد بقي النص والموضوع في الحالين على ما هو عليه، باستثناء هذه العبارة الوحيدة التي غيرها كامي تغييرا اختلف معه رأيه في الحالين اختلافا كبيرا، حتى لنستطيع أن نلمح التناقض الصريح بينهما.
ونود قبل أن نتعرض لهذا التغيير الأساسي الذي سنحاول أن نبرز دلالته على تفكير كامي كله، أن نشير إلى الموضوع الرئيسي في التمرد؛ فالتمرد كما قدمنا هو الحركة الواعية التي يطلب بها الإنسان الوضوح والوحدة في عالم تسوده ظروف حياة ظالمة غير مفهومة. وإذا كان الفعل الأصيل للتمرد يريد أن يضع حدا لسيطرة السيد على العبد، فهو بهذا التحديد نفسه يؤكد قيمة معينة. وهذه القيمة التي نستطيع أن نجدها في أنفسنا، في قلب تجربتنا الإنسانية وفي صميم فكرة التمرد نفسها، هي التي يحاول كامي أن يطبعها بطابع اليقين الذي تتصف به البديهية الأولى.
2
هذه القيمة التي نتحدث عنها هي التي تنتزع الفرد من وحدته وانفراده، فهي إذن قيمة جمعية لا قيمة فردية. والدليل على هذا يكمن في الحقيقة التي تقول إن الفرد لا يتردد في التضحية بحياته في سبيل تأكيد هذه القيمة والدفاع عنها. واستعداد الفرد لفدائها بحياته إذا دعته الضرورة إلى ذلك يدل على أنه يرفع من شأن هذه القيمة بحيث يضعها فوق وجوده الذاتي، وبحيث تتجاوز قدره وتعلو على مصيره.
3
ولو كانت هذه القيمة ذات طبيعة فردية لما استطاعت أن تنتزعنا من دائرة المحال، الذي كان ينطوي هو أيضا على قيمة فردية (لنتذكر هنا أن المحال قد نشأ من شقاق لا سبيل إلى تهدئته بين الإنسان من ناحية وبين العالم المحيط به من ناحية أخرى، بين سعيه إلى النظام والوحدة وبين الاضطراب والغرابة والظلام من حوله؛ أعني أنه نشأ عن أزمة فردية خالصة).
هنا لا بد لنا من أن نسأل سؤالا آخر يرتبط بالمشكلة السابقة: هل في إمكان الإنسان أن يؤمن بمثل هذه القيمة التي تؤلف بين «الأنا» و«النحن» في وحدة واحدة، وتنتزعني من ذاتي المغلقة لتجمع بيني وبين الآخرين، والتي تجعلني لا أتردد إذا اقتضت الأحوال أن أضحي بحياتي في سبيلها لكي أثبت وجودها لدى جميع الناس، أقول هل في مقدور أحد أن يؤمن بمثل هذه القيمة بغير أن يفترض الإيمان بوجود العلو أو المتعالي
4 (ترانسندنس) المتعلق بها؟
بهذا السؤال نصل إلى التغيير الذي أشرنا إليه في نص إحدى العبارات الواردة في «المتمرد» عما كانت عليه قبل ذلك ببضع سنوات في المقال السالف الذكر، كما يتضح لنا موقف كامي من المتعالي ورفضه له رفضا حاسما صريحا؛ لقد استطاع في ذلك المقال أن يقول إن القيمة المتعالية أو المتعالي (الترانسندنس) الذي أوجده التمرد ليس متعاليا عموديا بل هو متعال أفقي؛ أي إنه يريد بعبارة أخرى أن يقول إن القيمة المتعالية التي يريد التمرد أن يؤكد وجودها، والتي يقوم عليها فعل التمرد نفسه، لا يصح أن نتصورها تصورا استاتيكيا جامدا، ولا أن نتخيلها كما لو كانت «معطى» نصل إليه مرة واحدة وإلى الأبد، بل ينبغي أن نتذكر دائما أن المتمرد لا ينفك يؤكدها ويدافع عنها في كل لحظة من لحظات وجوده؛ أي إنه لا يكف عن خلقها خلقا متصلا لا ينقطع.
5
هل تسرع كامي في مقاله ذاك فكتب كلمة «المتعالي» أو «الترانسندنس» بغير وعي منه، أم تراه أحس إحساسا واضحا بالحاجة وبالضرورة إلى افتراض وجود هذا المتعالي؟ ذلك أنه إذا صح أن الإنسان لا يستطيع، في لحظات ومواقف معينة من حياته على الأقل، أن يمنع نفسه عن التمرد، فمن الصحيح كذلك أنه لن يستطيع أن يحكم مقدما إذا كان تمرده سيكون له أي معنى، طالما أنه لم يعطه مثل هذا المعنى من قبل، فالرأي إذن أن التمرد الذي لا يرتبط بمعنى عال ولا ب «ترانسندس» لن يزيد عن أن يكون مجرد ثورة عاطفية، أو دافع أعمى، أو حماس في فراغ، لا يشك أحد في أنه جدير حقا بالإعجاب، ولكن لا يشك أحد أيضا في أنه مجرد عن كل معنى، خال من كل اتجاه. وجه الخطر في مثل هذا التمرد أنه يمكن أن ينحرف ويتردى في متناقضات الثورات التاريخية. قد تكون مثل هذه الخواطر قد وردت على ذهن كامي وقد لا تكون قد خطرت له على بال. المهم أنه حين أعاد كتابة النص أراد أن يتجنب كلمة «الترانسندنس» بأية ثمن. وها هو الآن يحاول بتعديله لهذه العبارة الفريدة أن يطبع تلك القيمة التي يريد التمرد أن يؤكدها ويدافع عنها وأن يخلع عليها ثوب الموضوعية وذلك بإضفائه عليها طابع النسبية والمحدودية. هذه العبارة التي ذكرناها من قبل لا نجد لها أثرا في كتاب المتمرد. إننا نقرأ في مكانها قوله: «هذه القيمة السابقة على كل فعل، لا سبيل إلى التوفيق بينها وبين الفلسفات التاريخية المحضة التي تكتسب القيمة فيها إن كان ثمة سبيل لاكتسابها) بعد أن ينتهي الفعل.
إن تحليل التمرد يحمل على الأقل على الظن بأن هناك طبيعة إنسانية، على نحو ما ذهب إليه اليونان وبخلاف ما يسلم به التفكير المعاصر.
6
وإذن فنحن نجد في مكان كلمة الترانسندنس،
7
التي نقابلها أكثر من مرة في مقاله «ملاحظات عن التمرد»، والتي تختفي في نفس الموضع من النص الذي نقله بحذافيره (فيما عدا تلك العبارة) في كتابه «المتمرد»، أقول نجد كلمة أخرى هي «الطبيعة الإنسانية» التي قرر كامي أن يستخدمها ليتجنب كلمة الترانسندنس التي تضعه أمام مشكلات عديدة، ولكن حذف الكلمة لا يعني حذف المشكلة، على نحو ما سنرى فيما بعد.
إن الطبيعة الإنسانية التي نتحدث عنها هي تلك القيمة التي تسبق كل فعل، وتقدم بذلك السبب المبرر له، والمعنى الذي يهدف إلى تحقيقه. هذه القيمة التي يضحي الإنسان بحياته لكي يقيم الدليل على وجودها - كما فعل كالياييف ورفاقه - لا بد أن تكون قيمته تتجاوز وجوده كفرد تاريخي. ولما كان المتمرد بطبيعته لا يريد أن يؤكد وجود هذه القيمة في ذاته فحسب، بل يريد أن يؤكدها ويدافع عن وجودها عند بني الإنسان جميعا، كانت هذه القيمة بالضرورة قيمة ترانسندنتالية متعالية؛ فلو لم يكن الأمر كذلك ما استطاع المتمرد أن يضع نفسه فوق هذا العالم حين يضع هذه القيمة فوق ذاته، كما فعل «القتلة الأبرياء»، كالياييف وأصدقاؤه وهم على أعتاب المشانق.
8
هل يجر هذا التغيير في النص وراءه تغييرا في الموضوع؟ أليست هذه الطبيعة الإنسانية قيمة يضعها الإنسان فوق ذاته، ويقف منها موقف الخضوع ويصل إلى حريته الحقيقية عن طريق هذا الخضوع نفسه لها؟
9
ألا تدل هذه الطبيعة المشتركة بين الناس جميعا على أن هناك معنى ساميا يعلو فوق الإنسان، ويستطيع عن طريقه أن يتجاوز ذاته إلى الآخرين، ويحقق ما يسميه المحدثون ب «الوجود مع الغير»؟ وإذا صح هذا كله، ألا يعني ذلك أن كامي يقفز القفزة التي حرمها الإنسان على نفسه في تجربة المحال، وأصر على أن يتلافاها بكل ثمن؟ وهل يتناقض كامي مع نفسه باعترافه بالقيمة العالية التي سماها الطبيعة الإنسانية؟
الواقع أن كامي يشعر بضرورة افتراض وجود قيمة عالية، ولكنه لا يزال يتمسك بموقف النفي لكل متعال ولكل مطلق. يتضح ذلك حين يقول في خلال مناقشاته للثورات التاريخية إن القرنين التاسع عشر والعشرين قد حاولا في صميم اتجاهاتهما أن يعيشا بغير ترانسندنس.
10
أو حين يتصدى لدحض الشيوعية، ويبين كيف انحرفت عن التمرد الأصيل، فيرجع ذلك إلى حد ما إلى أنها قد جردت القيم الثابتة والمبادئ العالية من معناها: «بمجرد أن توضع المبادئ الخالدة مع الفضيلة الشكلية (عند اليعاقبة أو الجمهوريين الأحرار في الثورة الفرنسية) موضع الشك ويحط من شأن كل القيم الممكنة، يندفع العقل في حركته فلا يقيم لشيء وزنا، اللهم إلا لما يصيبه من نجاح. إن إرادته تتجه الآن إلى السيادة والتحكم، وذلك حين ينفي كل ما كان موجودا ويؤكد كل ما سوف يوجد في المستقبل.»
11
عندئذ يعطى كل ما كان لله لقيصر. ولكن الله وقيصر كلاهما موجود مطلق، فلا بد أن يقاومهما كامي باسم التمرد، على نحو ما قاوم كل مطلق ورفض كل نزعة مطلقة.
لقد عرضنا في الفصل السابق لموقف كامي من المطلق، أما مشكلة القيمة فنستطيع الآن أن نحددها على النحو التالي؛ فإما أن تتقدم القيمة على التمرد - وبذلك تعلو عليه علو الترانسندنس، وإما أن يخلق التمرد القيمة. والواقع أن في نصوص كامي من الأسانيد ما يؤيد الرأيين معا. ونستطيع فيما يتعلق بالقسم الأول من المشكلة أن نقول إن رفض المتعالي، هذا الرفض الذي يصر عليه كامي بكل قوة، هو في الواقع هروب منه وتأكيد له بغير وعي منه،
12
بل إننا نستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا، إذا قلنا إن مأساة الوجود الإنساني بوجه عام إنما تكمن عنده في غياب المتعالي من أفق هذا الوجود. ورفضه له يزيد من حدة المأساة ولا يخفف منها. وربما استطعنا أن نفسر موقفه - ولا نقول نبرره - إذا تذكرنا أنه لا يفهم تحت كلمة المتعالي والمطلق ما يتجاوز وجود الإنسان فحسب، بل ما يتسلط فوق هذا الوجود، وكأنه قوة غاشمة تحد من حريته وقد تلغيها إلغاء. وفي هذا الموقف، كما قدمنا من قبل، خلط بين مجالي الفلسفة والسياسية يصل إلى حد الخوف من المتعالي خوفه من دكتاتورية بوليسية.
13
وأما فيما يتصل بالقسم الثاني من المشكلة فإن السؤال عند كامي - كما تعبر عنه شخصيتا تارو والدكتور ريو في رواية الوباء - هو هل يستطيع الإنسان وحده وبغير أن يلجأ إلى وجود أبدي خالد أن يخلق قيمه الخاصة به.
14
هذه القيم لا يمكن أن تكون في رأيه قيما مطلقة ولا مجردة، بل لا بد أن تحتفظ بطابع النسبية، والواقعية ؛ فالقيمة هنا ليست قيمة عمودية ولا هي قيمة أفقية متعالية (إن صح لنا أن نستخدم هذه التشبيهات الرياضية في مجال القيم!) أعني أنها ليست قيمة معلقة فوق رأس الإنسان وكأنها قدر قاس، ولا هي قيمة ينتظر أن تتحقق في مستقبل الأيام، وكأنها حلم غامض؛ فأما القيمة الأولى فكامي مضطر إلى رفضها لكي يكون منطقيا مع نفسه. وأما القيمة الثانية فلا يمكن إلا أن تكون متناقضة مع نفسها؛ لأنها ما بقيت خالية من الشكل فلن تستطيع أن تحدد لنا فعلا من الأفعال، ولا أن تعطينا مبدأ نختار على أساسه.
15
إن كلمة القيمة التي يستخدمها كامي هنا لا تعني إلا الحياة نفسها في امتلائها الخصب المباشر، هذه الحياة التي هي الشيء الوحيد الذي يمتلكه إنسان المحال، والذي لا يكف المتمرد عن تأكيده والدفاع عنه وبذل حياته في سبيله إذا اقتضت الضرورة ذلك. لعل القتلة الأبرياء، كالياييف وأصدقاءه من شعراء الجريمة، الذين يعكسون أصفى صورة للتمرد، هم خير مثل على ما نقول. إنهم وإن لم يسلموا من الانحراف عن التمرد الحق، قد تعذبوا من متناقضات التمرد أقسى عذاب وأعمقه. وإذا كانت القيمة التي أرادوا أن يؤكدوها ويدافعوا عنها قد علت فوق أشخاصهم المحدودين، فإنها لم تعل فوق الحياة والتاريخ.
16
كان احترامهم للحياة فوق كل شيء. لم يلمسوا حياة غيرهم قبل أن يحاسبوا ضميرهم أقسى حساب. واحترام الحياة هو الذي جعل كالياييف يتردد في إلقاء قنبلته على الأمير الروسي الأكبر سيرجي حين لاحظ وجود أطفال في عربته. إنه في مسرحية «العادلون» يقول لستيبان: «... إنني أحب الحياة. لقد انضممت إلى الثورة لأنني أحب الحياة.» ولكن ستيبان، مثال الأيديولوجي الذي يضع القيمة المطلقة المجردة فوق الحياة، يجيبه قائلا: «أما أنا فلا أحب الحياة، بل أحب العدالة، التي تعلو بكثير فوق الحياة.» ويخاطب كالياييف حبيبته دورا قائلا: «لا بد من أن تقوم الثورة حقا،
17
ولكنها ينبغي أن تكون ثورة من أجل الحياة، أتفهمين؟ من أجل أن تفتح للحياة بابا!» ويقول لها كذلك في موضع آخر: «إننا نقتل لكي نبني عالما يخلو من القتلة. إننا نأخذ على عاتقنا أن نكون مجرمين لكي يصبح سكان الأرض في النهاية أبرياء.»
18
كالياييف ورفاقه يجسدون هذا التناقض العجيب إزاء قيمة الطبيعة الإنسانية؛ فهم من ناحية يضعون وجود القيمة فوق وجود الإنسان. وهم من ناحية أخرى يخلقون القيمة ويبرهنون بموتهم على أن التمرد خلاق للقيم.
19
هذا التناقض الذي نلمحه في موقفهم لا بد لنا من التسليم به ما دمنا نسلم بأن التمرد في صميم بنائه الجدلي يحتوي على اللا والنعم في وقت واحد. وليس للتمرد، كما نعلم، أن يتخلى عن أحد طرفي هذا التناقض، وإلا تخلى عن سبب وجوده الذي يحميه.
20
وليس هذا التناقض في نهاية الأمر إلا الطريق الوسط العسير، الذي يشقه التمرد بين التأكيد المطلق والنفي المطلق. والذي يمكن عليه أن تعاش المتناقضات وأن يتغلب عليها.
21
ما هي إذن هذه الطبيعة الإنسانية التي تعبر عنها عبارة «أنا أتمرد فنحن إذن موجودون» والتي وجدنا فيها القيمة الواضحة البديهية الأولى؟ الجواب بسيط كما أنه مباشر؛ إنها هي الوعي الذي يظهر بظهور حركة التمرد.
22
إنها المعرفة المفاجئة بأن في الإنسان بما هو إنسان شيئا يستطيع أن يتوحد وإياه، ويريد أن يخلق الاحترام له والاعتراف به.
23
وهي بعد هذا كله ذلك الجزء من كيانه الدافئ بالحياة، الذي ليس له من هدف غير الحياة.
24
بالطبيعة الإنسانية يحاول كامي محاولته الأولى للوصول إلى ما وراء المظهر واختراق الدائرة التي لا يكون الوجود نفسه في داخلها إلا مظهرا. وهنا نجد أن العبارة التي تردد ذكرها فيما تقدم والتي تلخص فكر كامي في مرحلة المحال، ونعني بها عبارة «المظهر يصنع الوجود»،
25
قد تغيرت في هذا الموضع تغييرا حاسما. إن دييجو، الشخصية الرئيسية في مسرحية «الحصار» يريد أن ينقذ سكان المدينة الإسبانية البائسة كاديز، والدكتور ريو يريد أن يأخذ بيد سكان مدينة أوران، وكالياييف يطمح إلى إنقاذ الإنسانية بأسرها.
26
إنهم جميعا يريدون أن يتجاوزوا منطقة المظهر، وأن يخرجوا من دائرته لكي يؤكدوا الوجود الذي تعرفوا عليه عن طريق الخطر المشترك في طبيعة واحدة يشترك فيها أبناء الإنسان جميعا. وإذا كانت هذه الطبيعة الإنسانية تظهر لهم في ظرف محدد، فليس معنى هذا أنها غير موجودة، بل الأولى أن يقال في هذا الموضع إن الوجود سابق على المظهر.
وإذن فالطبيعة الإنسانية كائنة في الموقف المشترك الذي يتخذه وجدان جميع الأفراد الذين يواجهون خطرا مشتركا، ويجدون أنفسهم مطالبين بإزائه بالتصميم على اختيار معين. في هذا التقابل بين الوعي وبين الخطر المهدد (سواء أكان هو الوباء أو الحرب الديكتاتورية أو تحكم الأيديولوجيات الفكرية) تتجلى الطبيعة الإنسانية في الوجود المشترك إزاء الخطر المشترك؛ أعني في التضامن، فما هي طبيعة هذا التضامن؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي علينا الآن أن نتولى الإجابة عليه. (ب) التضامن
من الوعي الوحيد الذي يسعى إلى السعادة الأرضية الحسية التي تتمثل في عبارة «عش كما لو ...» والذي يقف من نفسه ومن العالم موقف الغريب (نماذج المحال ومرسو قبل صدور حكم الإعدام عليه) إلى الوعي الوحيد الذي لم يعد يحس بالغربة أمام نفسه وإن كان لا يزال مقطوع الصلة بالآخرين (كاليجولا، سيزيف، مارتا ومرسو قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه بقليل) نصل الآن إلى الإنسان الذي يتم له الوعي بوجوده ووجود الآخرين عن طريق التضامن، فكيف يتحقق هذا الانتصار على الوحدة؟ سنجيب بقولنا: عن طريق التضامن. ولكن ما هي طبيعة هذا التضامن؟
إنه ينشأ عن الوعي بالشقاء المشترك، سواء أصاب مجموعة من الناس أو داهم جميع الناس، ويظهر إلى الوجود بقدر مواجهتهم لخطر مشترك يتهددهم (سواء أكان هو وباء الطاعون أو كارثة الحرب أو استبداد نظم الحكم والأساطير الأيديولوجية). في الكفاح المشترك ضد الخطر المشترك يتحد الناس ويخاطرون بالتضحية بكل شيء لكي ينقذوا هذا الجزء من كيانهم الذي لا يمكن أن يرد إلى فكرة مجردة،
27
ولو كانت هي فكرة الإنسان، ويؤكدوا وجود طبيعة إنسانية مشتركة تضع لكل فعل مقياسا وتعين له حدا يقف عنده. وبعبارة أخرى نقول إن الإنسان ينتزع ذاته عن طريق العذاب المشترك من بين جدران وحدته. ويتخطى هذه الذات إلى الآخرين ويرتبط معهم برباط التضامن لكي يدافع عن حقه، لا بل عن واجبه في أن يكون سعيدا على هذه الأرض: لقد كسبنا تضامننا عن طريق العذاب.
28
وبهذا التضامن لم نتخط ذواتنا المحدودة فحسب، بل انتصرنا كذلك على الوحدة
29 (ولكن بغير أن نحرم الفرد من حقه في أن يكون وحيدا، على نحو ما سنرى فيما بعد).
ربما بدا التضامن من هذا الوصف وكأنه شيء عابر أو عرضي؛ فرب سائل يسأل: ألا يرتبط التضامن بعذاب مشترك حقا ولكنه مرهون بزمان؟ أليس الهدف من ورائه هو الدفاع عن حق الفرد في أن يكون سعيدا؟
قد يكون هذا كله صحيحا. غير أننا لو تذكرنا أن حركة التمرد، التي تعرفنا عن طريقها على التضامن الذي تنطوي عليه عبارة «نحن نكون»، هي حركة الحياة نفسها،
30
وأن التمرد لا يموت إلا بموت آخر إنسان يعيش على الأرض،
31
وأن هناك وحدة «هوية» بين الإنسان والإنسان قائمة على الطبيعة البشرية المشتركة،
32
وأن عبارة «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون» تؤكدها عبارة أخرى لا تنفصل عنها وهي «إذا لم يكن لنا وجود، فليس لي أنا أيضا من وجود». إذا تذكرنا هذا كله لم نجد تناقضا بين سعادة فرد واحد وبين سعادة الجميع؛ إذ إنهما يقومان معا على أساس واحد، وهو تساوي الناس أجمعين،
33
كما يقومان على وجود «شيء ما» لا أستطيع أن أحطمه بدون أن أحطم نفسي معه، وليس له من هدف آخر سوى الحياة أو الوجود نفسه.
34
قلنا إن التضامن ينشأ بين أناس نزلت بهم كارثة شقاء واحد. إنه هو رباط القرابة الذي يوحد الضحايا تجاه الجلاد، ويجمع المضطهدين تحت سوط المستبد. ورواية «الوباء» - أو الطاعون كما تسميها الترجمات العربية المختلفة - تصور هذه الوحدة الجماعية التي تتمثل في عبارة «نحن نكون» والتي تؤلف بين سكان «أوران»، المدينة الجزائرية البائسة التي دهمها الوباء: «من هذه اللحظة أصبح الوباء أمرا يهمنا جميعا.»
35
هكذا يقول الطبيب برنار «ريو» مؤرخ
36
الوباء وراويته. إنه واحد من أولئك الذين يقفون إلى جانب المعذبين في هذه اللحظة وفي هذا المكان. إن أهم شيء بالنسبة إليه أن يكون أمينا؛ أعني أن يؤدي واجبات مهنته كطبيب، على الرغم من يأسه من القضاء نهائيا على الوباء.
37
وحين يسأله الصحفي «رامبير» عما يقصده بالأمانة يرد عليه قائلا: «لا أعرف ما هي بوجه عام، ولكنني أعلم أن معناها في حالتي أن أمارس مهنتي.»
38
هذه الأمانة هي وسيلته الوحيدة في صراع الوباء.
39
والأمانة عنده معناها أيضا ألا يشتت جهوده، وأن يركزها على القيام بواجبه كطبيب. مثل هذا التشتيت يشبه «القفزة» التي يحاول بها الإنسان أن يتهرب بها من الموقف المحال؛ ومن ثم كانت الأمانة عنده في أن يمارس مهنته، وأن يتجنب هذه القفزة بكل ما يستطيع. وبينما يهتم راعي الكنيسة الأب «بانيلو» بنجاة الأرواح، نجد «ريو» يصرف كل اهتمامه إلى شفاء الأجساد، فالتشتت إذن يأتي من جانب بانيلو الذي يرضى بالقدر ويستسلم له، ويؤجل نجاة الإنسان إلى عالم آخر وراء هذا العالم.
الحق أن كل تجاوز لحدود الموقف المحال (الذي تمثله لعنة الوباء) يعني التشتت والضياع في نظر الطبيب «ريو» كما يساوي القفزة التي تمزق رباط التضامن والإخاء. وليس الأب بانيلو هو وحده الذي يقدم على هذه القفزة المميتة، حين يضع أقدار البشر في كف الرحمن، بل إن «كوتار» الذي يعذبه إحساس قديم بالذنب يفعل مثل ذلك. لقد ارتكب جريمة قبل أن يداهم الوباء مدينة أوران بزمن بعيد، وهو يشعر الآن أنه مستبعد من مجتمع المدينة. إنه يحيا الآن معهم في تضامن كاذب، مفضلا أن يحيا مع الجميع في حالة الحصار، على أن يحيا وحده مع خطيئته. إنه الشامت المسكين الذي يحاول أن يغرق ذنبه في طوفان الذنب الكبير الذي غمر المدينة الكبيرة. إنه يفضل أيضا أن يعيش في الشمول، حيث تتلاشى الحدود الفاصلة بين الخير والشر، وبين الذنب والبراءة، على أن يعيش في الوحدة التي تؤلف بين الجميع؛ ولذلك تظل فكرة البراءة التي تميز كل متمرد أصيل، فكرة غريبة عليه. ألا يسعده أن يحيا الآخرون بأجمعهم في شقاء لم يستحقوه؟ لقد أعلن كوتار - رمز الهزيمة الذليلة في كل مكان - تفاهمه مع الموقف الظالم المحال، بدلا من أن يشارك غيره في التمرد عليه؛ ولذلك فهو أبعد ما يكون عن روح التمرد الحق، وهو عاجز عن الحياة مع غيره من الضحايا والمتضعين.
قلنا إن التضامن هو الوجود المشترك لمجموعة من الناس يواجهون خطرا مشتركا، وإنه يقوم على أساس التساوي بين جميع الناس، كما يقوم على الهوية أو الذاتية بين كل واحد منهم وبين الآخرين. ويقودنا هذا إلى السؤال عن وضع الفرد الواحد في داخل الجماعة المتضامنة، فهل التضامن معناه حقا الانتصار الكامل على الوحدة والانفراد؟ وهل ينفي الوجود المتضامن
Solidarité
الوجود الوحيد
Solitude ؟
لنتأمل حالة الدكتور ريو. إنه، وهو التعيس، يحرص على سعادة الآخرين. إنه يفقد صديقه تارو، ويفقد زوجته التي كانت قد سافرت إلى سويسرا للاستشفاء قبل أن تتجمع سحب الوباء فوق المدينة بقليل. وهو يبقى إلى جانب مرضاه في أوران، على الرغم من الأنباء السيئة التي ترد إليه عن تدهور صحتها، وعلى الرغم من أنه يستطيع لو شاء أن يغادر المدينة؛ إذ إن قوانين الحجر الصحي المفروضة عليها لا تنطبق عليه. إنه يضم يأسه بين جنبيه، ولا ينقطع مع ذلك عن الأمل. وفي النهاية يعلم بموت زوجته، كما يعلم علم اليقين أنه لا سبيل إلى الانتصار على الوباء كل الانتصار.
هل نستطيع أن نجد سببا موضوعيا يبرر هذا الإحساس العميق بالتضامن، الذي يبلغ التضحية بالسعادة الذاتية في سبيل إسعاد الآخرين؟ إن «ريو» نفسه لا يعرف هذا السبب، ولعله ينكر أن يكون هناك سبب على الإطلاق: «ما من شيء في العالم يستحق أن يتخلى الإنسان عما يحب. ومع ذلك فإنني أتخلى عنه، دون أن أدري لذلك سببا. هذه هي الحقيقة. هذا هو كل شيء.»
40
هل هي الأمانة التي تدفعه إلى ممارسة مهنته، والحرص على القيام بواجبه دون نظر إلى أية اعتبار آخر؟ أم هي عاطفة الولاء للمحال، التي تكمن في نفيه والمحافظة عليه في آن واحد؟ أم هو التكرار السيزيفي الذي لا ينتهي لصراع عقيم لا ينتهي أيضا ضد الوباء، دون أن تكون نتيجة الجولة للكسب ولا للخسران؟
41
إن «ريو» يرفض أن يبرر مسلكه الأمين الغريب، أو لعله في تواضعه اليائس لا يعرف ولا يريد. وتشتد المفارقة في هذا الرفض إذا عرفنا أن «ريو» يعي تمام الوعي أن الانتصار على الوباء لن يتعدى أبدا الانتصار العابر الموقوت.
الحق أن «ريو» يؤثر أن يكون أمينا على أن يكون سعيدا. إنه يجسد في شخصيته ذلك الانتقال من الفردية إلى التضامن، من موقف من يقول: «ليس عارا أن يكون الإنسان سعيدا»
42
إلى الموقف الذي يصبح شعار الإنسان فيه: «من المخجل أن يكون الإنسان وحده سعيدا».
43
إن «ريو» يهب نفسه لشقاء المرضى المجهولين، بدلا من أن ينصرف للعناية بزوجته «التي ترمز إلى السعادة الشخصية». وهو بذلك يجعل سلوكه في سبيل إسعاد الجميع، كما يعبر عن أمانته برفضه لأن يستأثر وحده بالسعادة.
44
غير أن «ريو» يظل إلى النهاية إنسانا وحيدا، مثله في ذلك مثل معظم شخصيات كامي. والتضامن الذي نتحدث عنه لم يستطع أن يلغي وجوده الوحيد، بل ارتفع إلى مستوى الواجب الأخلاقي؛ ذلك أن التضامن لا يجوز له أن يسلب الفرد من حقه في الانفراد؛ لأن الإنسان لا يكون وحيدا، إلا حيث يدافع عن «الواحد» في «وحدته».
45
عالج كامي هذا الموضوع معالجة معبرة في أقصوصته «جوناس أو الفنان أثناء العمل».
46
فجلبرت جوناس (أو لعله يونس في جوف الحوت!) رسام يتحلى بالبساطة المحببة والتواضع المحمود، ويؤمن بنجمه الذي يراه دائما في صعود. والحق أنه يصل إلى قمة المجد والشهرة، ويحس بالسعادة المتزايدة في ظل أبنائه وزوجته، ولكن الأيام تمر، وتعمل الأسرة، والأصدقاء والنقاد، والتلاميذ على طرده من حياته الخاصة ومن مسكنه. إنهم يزدحمون حوله ليحدثوه عن الفن، ويحكموا على لوحاته، ويفسروا ما رسمه ولماذا رسمه، ويلغطوا في نظرياته الجمالية والفنية التي ينسبونها إليه وهو يصغي إليها دون أن يفهم منها شيئا، ويلفون حوله رداء الشهرة رغما عنه. وينزوي الفنان في نفسه شيئا فشيئا حتى يقبع في ركن مظلم وحيد. ويتزايد عدد الزوار من كل نوع ومن كل بلد ويحرمونه من عزلته التي لا غنى له عنها، ويعجز الفنان عن مواصلة العمل. ويلجأ إلى الشرب، ويقضي أيامه بين المقاهي والمطاعم والحانات، يلتمس الاختفاء عن أعين الناس ، مجهولا لا يعرفه أحد ولا يثقل عليه أحد، ولكن هذه العزلة الكاذبة تزيد أزمته حدة. وإذا بفكرة تخطر على باله، وتوحي له أن في استطاعته أن يعتزل العالم في مخبأ يقيمه في مسكنه، بين الأرض والسقف، بعيدا عن ضجة الشهرة والزوار، قريبا من أهله وأولاده. وينتظر في هذا المخبأ المعتم أن يطل نجمه من جديد. وذات مساء يطلب لوحة وفرشاة وفي نهاية اليوم التالي يسقط على الأرض في سكون. أما اللوحة فقد بقيت بيضاء، ولكن نبش في وسطها بحروف صغيرة لا تكاد العين تراها كلمة لا يدري أحد إن كانت هي «وحيد»
Solitaire
أو «متضامن»
Solidaire .
بين حاجته إلى الوحدة وواجبه في الانضمام إلى المجموع مزق الفنان حياته وفنه؛ فما التضامن في حقيقة الأمر إلا هذا التمزق بين الوجود الوحيد والوجود المتضامن، وما «نحن نكون» التي وجدناها في صميم فعل التمرد، إلا مجموعة من «الأنات» الوحيدة. ولا يمكن أن نفهم ال «نحن نكون» حتى نضم إليها «نحن نكون وحدنا» التي لا تنفصل عنها،
47
ولكن هذه الكينونة أو هذا الوجود لا يمكن أن يبقى حيا إلا عن طريق التضامن وارتباط الناس بعضهم ببعض.
48
والتضامن بدوره لا يحتفظ بالحياة إلا في ظل الديالوج الحر، الذي نستطيع أن نتعرف فيه على إنسانيتنا الحقة، ونعترف بوجودها عند الآخرين، ولكن ما هو الديالوج وما الفرق بينه وبين المونولوج؟
قبل أن ننتقل إلى الإجابة على هذا السؤال نجد لزاما علينا أن نواجه سؤالا آخر، وهو إن كان التضامن يستطيع أن يمدنا بقاعدة للسلوك، وإن كان من الممكن أن نجد تعبيرا واقعيا عنه في حياتنا المعاصرة، التي وصل فيها الصراع بين الأيديولوجيات إلى ذروته المخيفة.
فإذا سأل سائل عن قاعدة السلوك التي يستطيع التضامن أن يقدمها لنا، والتي لا نحتاج معها أن ننتظر إلى نهاية التاريخ لكي نفسر بها أفعالنا، جاءته قاعدة «فعلنا ومقاومتنا» في هذه الصيغة: «كل ما يحط من قيمة العمل يحط في الوقت نفسه من قيمة العقل، والعكس صحيح. وبذلك يكون الكفاح الثوري والسعي الدنيوي (أي غير المستند إلى عقيدة سماوية) إلى التحرر هو الرفض المتصل للإذلال، والدحض المضاعف له.»
49
وقد نجد تلك القاعدة في صياغة أخرى: «إن من واجبنا أن نقدم الدليل على أننا لا نستحق هذا الظلم كله.»
50
لا شك فيما تنطوي عليه هذه القاعدة من نبل، وما تفيض به من إحساس صادق بعذاب الإنسان. ولكنها لم تحدد لنا الأفعال الواقعية التي تنطبق عليها على مستوى الجماعة، ولم تبين نوع الظلم الذي لا نستحقه والذي ينبغي علينا أن ندفعه عن أنفسنا، ولا تضع يدها على الظالم الذي يتحتم علينا أن نواجهه، ولا توضح لمن نقدم الدليل على أننا لا نستحق كل هذا الظلم. كل هذه الملاحظات تجعلنا نؤيد النقد الذي وجهه «سارتر» وفرانسيس جانسون إلى كامي، واتهماه فيه بالتمرد الحالم المتعالي على الواقع الاجتماعي.
51
غير أننا لن نستطيع أن ننساق وراء هذا النقد من كل نواحيه؛ فلو سألنا إن كان هناك في عالمنا الحاضر تعبير سياسي عن التضامن نستطيع أن ننقذ به كرامتنا المشتركة من الإذلال والهوان، لجاءنا الرد بالإيجاب، وعرفنا أن ذلك ممكن عن طريق الحياة النقابية؛ فالحياة النقابية تقوم على المهنة التي تلعب في النظام الاقتصادي نفس الدور الذي تلعبه الجماعة في الحياة السياسية والمدنية؛ فالنقابة الحرة هي الخلية الحية التي ينبني عليها الكيان العضوي.
52
إنها تختلف عن الأيديولوجيات السياسية والعقائد التاريخية التي تبدأ من المذهب وتحاول بعد ذلك أن تحشر الواقع فيه؛ فالنقابة تبدأ من الواقع العيني الحي، من الحرفة والقرية، اللتين يختلج فيهما الوجود، وينبض فيهما القلب الحي الذي يخفق في الأشياء وفي الناس.
53
واختيار الحياة النقابية معناه اختيار الجماعة بدلا من الدولة، والمجتمع الواقعي بدلا من المجتمع النزاع إلى المطلق، والحرية المتبصرة بدلا من الطغيان العقلي، والفردية المؤثرة للغير بدلا من تكتيل الجماهير. إنه بعبارة واحدة الإيمان بالحد والمقياس، بروح البحر الأبيض وبالفكرة المشمسة، واختيار الديالوج الحر على المونولوج الأجوف الممل.
54 (ج) الديالوج والمونولوج
المعنى الأصلي لكلمة «ديالكتيك» يقوم على إمكانية الحوار والتخاطب (أو الديالوج) وهذه الكلمة الأخيرة مشتقة من الفعل اليوناني «ديالجستاي»
Dialegesthai
55
الذي دخل اللغة اللاتينية في صورة الكلمتين
Dialecticus, Dialectice
ثم انتقل منها إلى اللغات الأخرى. ومعناه الحوار أو الحديث، أو التخاطب، أو المناقشة في موضوع من الموضوعات من أطرافه المتعددة، ولكن المحاورة تفترض وجود شخص آخر نحاوره، ونتحدث معه في أمر من الأمور، ونعرضه عليه أو نحلله له، فالحوار يتم إذن على هيئة «الكلام مع»، وشرح قضية من القضايا أو حقيقة من الحقائق، شرحا يتبادل فيه سؤال وجواب، وكلام ورد على كلام. ويتخذ هذا الحوار صورته الحادة في هيئة نزاع أو خلاف، كان له عند قدماء اليونان أساتذته العارفون به المتمكنون منه
56
وهم الذين كان يسمى الواحد منهم بالديالكتيكوس
Dialecticus .
في الحديث أو الحوار الديالكتيكي، وبخاصة في أحد صوره وهو الديالوج، تتجلى حركة فكرية تدور بين قطبين هما الفكر السالب والفكر الموجب. في هذه الحركة التي تتم بين النفي والتأكيد، أو بين الموضوع ونقيض الموضوع، يكون ثمة مجال للحديث ونقيضه، للقول والرد عليه. ومعنى هذا أن الحديث الذي يعد حالة أصيلة مميزة من أحوال وجود الإنسان مع غيره هو في جوهره حديث مع الغير؛
57
ومن ثم فإن الحديث الأصيل لا يمكن بحسب طبيعته أن يحدد من قبل. ولا أن يملى من قمة جبل وحيد.
58
وليس من المستطاع كذلك أن يتعسف أو يفرض، بل لا بد له لكي يحتفظ بحقيقته من أن ينمو ويتفتح في حرية من ذات نفسه.
إن الحوار أو الديالوج هو العلاقة الأولية الأصيلة في حياة الإنسان مع غيره، وهي أساس وجوده كحيوان اجتماعي. وفي هذه العلاقة التي تتجسد في الحديث الحر بين إنسان وإنسان، تقف الأنا حرة في مواجهة الأنت، في علاقة متبادلة، بعيدة عن إرادة السيطرة أو المنفعة، مجردة عن المبدأ الذي يتسلط عليها أو يتحكم في سيرها. هنا يتحقق الوجود الحي مع الآخرين، لا الوجود المجرد من فوقهم. ويتصل السؤال والجواب، والأخذ والإعطاء، والنفي والتأكيد، وترتبط حلقاتها في زمانية واحدة مباشرة؛ فالبعد الذي يتحرك الحوار الديالوجي في دائرته بعد لم يتحدد تحديدا قبليا ولا بعديا. لا من الماضي ولا إلى المستقبل، بل لا يمكن إلا أن ينبثق في حضور نابض حي.
وبقدر ما يكون الديالوج علاقة أولية أصيلة بين أشخاص، بقدر ما يفترض اللقاء الحق بين اثنين يعترف كلاهما بما لصاحبه من شخصية كلية مفردة ومتكاملة. ويخاطب كل منهما الوجود الكائن في صاحبه لا الوجود الذي لم يتحقق بعد. الإنسان الدي يبحث عن الديالوج، يبحث عن وجوده الذي هو عليه، لا عن وجود مجرد ملقى في غياهب الماضي أو ملتف بضباب المستقبل؛ ولذلك كان الديالوج الحق ممكنا بين أناس يبقون على ما هم عليه؛
59
فالعبارة التي أوردناها فيما تقدم والتي تقول «إن المظهر يصنع الوجود»
60
لا يمكن أن تحتفظ في هذا السياق أيضا بصحتها، بل الأولى الآن أن يقضى على المظهر وعلى الرغبة في الظهور من أجل النفاذ إلى الوجود نفسه.
إن إنقاذ الديالوج معناه المحافظة على الإنسان في حالته النقية الأصيلة، والرجوع به إلى منبع التمرد المعتدل المحدود. والدفاع عن الديالوج على المستوى الإنساني معناه الدفاع عن القيمة البديهية الأولى التي وجدناها في صميم التمرد، وتأكيد وجود «نحن نكون» عن طريق التضامن الحر بين أناس يكافحون معا قدرا ظالما محالا؛ ذلك أن هذا «البعض من الوجود»،
61
هذا الشيء الكامن في صميم الإنسان الذي يرى فيه ذاته الحقيقية، وهذا الجزء من وجوده الذي يريد أن يخلق له الاحترام والتقدير، لا يمكن الإبقاء عليه إلا عن طريق التواصل الشامل بين الناس؛ أعني عن طريق الديالوج الحر بين بعضهم والبعض. وكل متمرد يقف في صف الديالوج بين الناس، ويبذل جهده لإحيائه والإبقاء عليه، إنما يقف في الوقت نفسه في صف الحياة، ويلزم نفسه بمكافحة العبودية والرعب والكذب
62
وإذا كان التمرد بطبيعته احتجاجا على الموت، فهو لا يملك إلا أن يصارع هذه الأوبئة الثلاثة التي تنشر الصمت أو حكم المونولج بين الناس، وهو الذي ينتهي بالضرورة إلى القتل والقسوة والعنف.
والأمر الآن مع المونولوج يختلف عنه مع الديالوج؛ فالأول يقوم على حركة فكرية تتطور في خط مستقيم ، وتستخلص النتائج من مقدماتها الضرورية؛ فبينما يحاول الديالوج أن يؤيد عدة حقائق أو حقيقة واحدة من جوانب مختلفة، نجد المونولوج يهدف إلى إثبات حقيقة واحدة عن طريق منهج محدد مرسوم من قبل. حينئذ يسقط الاستقطاب الذي لاحظناه في الحوار الحر بين السؤال والجواب، والموضوع ونقيض الموضوع، والكلام والرد على الكلام. هنا لا يكون ثمة مجال للأخذ والعطاء، والمناقشة الحرة المستأنية بين الأطراف المشتركة في الحديث؛ لأن هناك صوتا واحدا يملي من فوق، ولا يستطيع ولا يريد أن يسمع إلا صداه. ويسقط وجود الطرف الآخر، ولا يعود يعترف بشخصيته الواحدة الكلية المتكاملة، بل يرد إلى محض شيء أو موضوع؛ ذلك لأن نفي الحديث، وهو بحسب ماهيته تخاطب مع الآخرين يجعل «الشيء» يتقدم على «الشخص»، لا بل يحيل الشخص نفسه إلى شيء أو أداة.
63
ويضيع التفتح الذاتي، الذي يقوم عليه كل حديث أصيل. وينعدم السؤال، ولا يعود ثمة مجال إلا للجواب؛ أعني للصمت والخضوع. بل إن المونولوج الذي يقع خارج دائرة السؤال-والجواب، وخارج علاقة الأنا-بالأنت لا يمكن أن يحتمل التغير والصيرورة؛ ومن ثم فهو يستبعد الزمانية من بنائه. إن المونولوج بطبيعته لا زمني، وكل ما هو غريب عن الزمان فهو غريب عن الوجود.
هذا الصراع بين المونولوج والديالوج يظهر في أجلى صورة في رواية كامي الأخيرة أو قل درته الفريدة «السقطة».
64
إن بطلها القاضي المكفر عن ذنبه جان بابتست كليمانس يضرب لنا المثل الواضح على الحياة التي يقضيها صاحبها أسير المونولوج. إن الشقاء الذي يعانيه الناس يرجع في نظره إلى أنهم لا يقدرون على أن يدخلوا في حديث مشترك أصيل فيما بينهم، ولا أن يعيشوا في حوار بكل ما يميزه من حرية وتفاهم، ومن محبة وتعاطف. إنهم في نظر بعضهم مجرد موضوعات تلاحظ بعضها أو تستخدم بعضها، فهم عاجزون عن تحقيق العلاقة الديالوجية الأصيلة التي تربط الإنسان بالإنسان. إنهم يتحدثون حقا مع بعضهم، ولكن أحاديثهم تمضي عبثا، ولا تحدث لقاء حقيقيا بينهم: «... نحن لم نعد نقول كما كان يحدث في الأزمنة السالفة الطيبة: هذا هو رأيي، فما هي اعتراضاتك عليه؟ لقد تفتحت اليوم عيوننا. واستبدلنا بالديالوج الأوامر.»
65
إن حديث كليمانس مع صاحبه الذي لا نسمعه ولا نراه هو في الحقيقة حديث مع ذاته، أو حوار باطني من طرف واحد، لا يستطيع هو نفسه أن يسميه حديثا. وصاحبه الخفي زميله في المهنة والوطن، وهو بذلك يمثل ذاته الماضية التي لا يكف عن اتهامها واتهامنا معها، في مونولوج متصل يعيده علينا.
كان كليمانس محاميا ناجحا مرموقا في باريس، راضيا عن نفسه وعن العالم، مغتبطا بفضائله الزائفة، سعيدا بتمثيل دور الإنسان الطيب الشاعر بواجبه. ظل يعيش هذه الحياة الراضية المنافقة، لا يعرف نفسه ولا يحاول أن يعرفها، حتى كانت تلك الليلة الحاسمة على مفترق الطريق؛ كان يعبر على أحد جسور نهر السين فإذا به يسمع صرخة مكتومة لامرأة شابة مجهولة، نحيلة متشحة بالسواد، كان قد رآها منذ قليل مائلة بجسدها على سور الجسر. سمع صوت شيء يرتطم بالماء، وتناهت إليه استغاثة فتوقف عن المسير، وتردد فلم تواته الشجاعة الكافية ليحاول إنقاذها. ولم يطل تردده أكثر من لحظات، ولكنها اللحظات التي تكفي لتغيير المصير: «كنت قد قطعت حوالي الخمسين مترا عندما سمعت صوت اصطدام جسم بالماء. وعلى الرغم من المسافة التي تفصلني عنه، فقد بدا لي في سكون الليل كأنه صوت هائل مرتفع الضجيج. ظللت واقفا ولم ألتفت ورائي. وسمعت في الوقت نفسه صرخة تتكرر عدة مرات، متجهة مع تيار النهر المنحدر جنوبا، ثم خرست مرة واحدة. أردت أن أتابع سيري، ولكنني لم أستطع أن أتحرك من مكاني. قلت لنفسي إن الأمر يحتاج إلى السرعة، وأحسست كأن شيئا لا سبيل إلى مقاومته قد تسلط على جسدي ... رحت أتنصت وأنا جامد في موضعي، ثم ابتعدت في خطوات مترددة والمطر يتساقط علي. ولم أخبر أحدا.»
66
كانت سقطة هذه الشابة البائسة في الماء هي سقطته في الخطيئة، ونقطة التحول في حياته. منذ تلك الليلة والصرخة التي لم يسمعها أحد سواه ولم تستنجد بأحد غيره تتردد في أذنيه وتؤرق نومه: نوديت، ولكنني لم أستمع إلى النداء. امتدت يد مجهولة، ذات ليلة باردة معتمة تستنجد به. ولكنه لم يمد يده إليها، لم ينقذ الغريقة ولا أنقذ نفسه معها. إنه الآن الغريق على اليابسة، ينادي في صوت يائس بعد فوات الأوان: «أيتها الفتاة! ألقي بنفسك مرة أخرى في الماء لكي يتسنى لي مرة ثانية أن أنقذك وأنقذ نفسي معك!»
67
من تلك الليلة وهو يحلل نفسه تحليلا ساخرا مريرا، ويوجه الاتهام القاسي إليها وإلى البشر جميعا. إنه يكتشف الآن أنه لم يحب إلا نفسه، ولا تذكر شيئا إلا نفسه.
68
والذي يعذبه أنه لم يستطع أن يحب إنسانا ولا أن يحب من إنسان: «لا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير أن يحب نفسه.»
69
وهو يمضي في اعترافاته فيقول: «إنني لم أتغير عما كنت عليه، ما زلت أحب نفسي واستخدم غيري في مصلحتي.»
70
وأقرب الناس إليه لا يحبونه، بل يدينونه: «تحدثت يا سيدي عن الحساب الأخير. لقد عانيت أسوأ ما يمكن أن يعانيه الإنسان، وذلك هو حساب الناس.»
71
إنه لا يكتفي بأن يتهم نفسه ويدينها، فينبغي على الآخرين أيضا أن يتهموه ويدينوه: «ولكن من لديه الجرأة ليحكم علي في عالم بغير قضاة، عالم ليس فيه بريء؟» وهكذا يتكشف له مجتمع الناس عن مجتمع من القضاة والمجرمين، كل من فيه متهم أو متهم، يسيرون صفوفا ترتعش تحت نظرة قاسية يسلطها عليهم قضاة محاكم التفتيش. لقد أصبح كليمانس قاضي نفسه ومتهمها والمكفر عن ذنبها، يوجه اتهامه الساخر المرير إليها وإلى الناس وإلينا جميعا. لقد أغلق أبواب مكتبه في باريس، وراح يسافر من بلد إلى بلد، حتى استقر به المطاف في حي الميناء في مدينة أمستردام، في حانة متسخة (مكسيكوسيتي بار) رخيصة، ينبش في ضمير كل من يتحدث إليه، مثل نبي كاذب ينادي فيضيع صدى صوته في صحراء من الضباب والحجارة والأنانية (واسمه اللاتيني يدل على صوت المنادي في الصحراء).
وإذا كان كل قاض ينهي حياته بالندم أو بالرغبة في التكفير عن الذنب، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يدين غيره بغير أن يدين نفسه معه، فإن كليمانس يرى من المحتوم عليه أن يسير في الاتجاه المضاد؛ فيبدأ بالحكم على نفسه لكي يتسنى له بعد ذلك أن يصدر حكمه عليهم ويفلت بذلك من حكمهم عليه، ثم يسير من «الأنا» إلى «النحن»، حتى تصبح الصورة التي يضعها أمام الناس هي المرآة التي يرى نفسه فيها،
72
وينتهي بأن يعمم حكم الإدانة على الجميع دون استثناء ودون رحمة أو إشفاق «عندي لا تمنح البركة لأحد، بل يقدم الحساب بكل بساطة.»
73
إن اتهام كليمانس لنفسه وللناس هو محاولته اليائسة الأخيرة للإفلات من سجن ذاته والاتصال بالآخرين. ولكن اعترافه المفعم بالشك والسخرية والمرارة لا يهدف إلى هداية الناس إلى الديالوج (فسخريته القاتلة وتهكمه الهدام يحولان بينه وبين ذلك) بقدر ما يهدف إلى تبصيرهم بهذه المعرفة المرة التي وصل إليها؛ نحن لا نستطيع أن نهرب من الأنا. نحن نعيش في صحراء المونولوج. إنه، وهو الذي عرف في النهاية أنه مذنب وأناني، يصمم الآن على أن يبدأ حياة جديدة، وأن ينسى نفسه ولو مرة واحدة قبل مماته من أجل إنسان آخر.
74
إنه الآن يرى الصورة الحقيقية المضادة له ولأشباهه منعكسة في إنسان «كان صديقه يعيش في السجن، وكان هو ينام كل ليلة على الأرض الرطبة العارية لكيلا يتمتع بشيء حرم منه صديقه المحبوب.»
75
ثم يسأل محدثه الخفي هذا السؤال الذي يفضح عذابه وعذاب الناس في هذه الأيام: «من يا سيدي العزيز، من منا على استعداد اليوم لأن ينام على الأرض من أجلنا؟!»
كاليجولا كذلك مثل على حياة المونولوج التي تنتهي إلى الجريمة والقتل. يقول سيزوينا عنه: «إن روما بأسرها ترى كاليجولا في كل مكان، ولكن كاليجولا لا يرى في الواقع إلا فكرته.»
76
لقد تملكته هذه الفكرة، كما تملك هو كل وسائل البطش والقوة التي تمكنه من تنفيذها في الفعل والواقع. لم يستطع أحد من رعيته أو المحيطين به أن يقنعه بأن فكرته ضرب من المحال. وكل إنسان لا يمكن إقناعه فهو إنسان يبعث الخوف في النفوس.
77
إن كاليجولا يريد أن يصل إلى القمر، وأن يتخلص الناس من الموت، وأن يجعل من المستحيل أمرا ممكنا. إنه بعبارة واحدة يريد أن يحقق المحال على الأرض. ولكن ما بقي الناس يموتون ويحسون بالشقاء، وما بقي المحال بعيدا عن أن يتحقق على هذه الأرض، وكاليجولا بعيدا عن أن يلمس القمر بيديه، فهو مضطر إلى أن يتابع منطقه المحال ويعتزل الحياة في المجتمع، ويحطم الديالوج ليعلن حكم المونولوج. وهذه الحياة في المونولوج تتجلى فيما يصدره من أوامر القتل بالجملة، ومن تدبير مجاعة مصطنعة. وإهدار شرف رجال البلاط. ولا يبقى أمام كاليجولا في النهاية إلا أن يموت باختياره، بعد أن عرف أنه ما من إنسان يستطيع أن ينقذ نفسه بمفرده، وأن الحرية لا يمكن أن تتحقق على حساب الآخرين.
تصل المأساة إلى ذروتها، عندما يكون البطل أصم.
78
وكاليجولا واحد من هؤلاء الأبطال الصم، الذين لا يستطيع أحد أن يقنعهم؛ لأنهم يوصدون دونهم أبواب الديالوج. إننا نستطيع الآن أن نرى فيه أحد آباء الأيديولوجية الذين يستبدلون بالإنسان الواقعي الذي يعيش في الحاضر فكرة مجردة عن إنسان آخر لم يولد بعد، ولا يزالون يتنبئون به من جيل إلى جيل. إنهم يعتقدون أنهم بأفكارهم المطلقة يملكون الحق المطلق. وليس في وسعهم ما داموا يعيشون في المونولوج إلا أن يتبعوا منطق المحال عند كاليجولا، الذي رأينا كيف انتهى بالضرورة إلى القتل والبطش والتعذيب. وعلى ذكر المنطق يجدر بنا على كل حال أن نلاحظ أن كامي لا يعترض على المنطق ولا يدحض التفكير المعقول في حد ذاته، بل يعترض على الأيديولوجية التي تستبدل بالواقع الحي سلسلة من الحجج المنطقية، وتعصب عينيها عن الحياة لتلقي بنفسها في أحضان التجريد. لقد حاولت الفلسفات التقليدية في رأيه أن تفسر العالم، لا أن تفرض عليه قانونا بعينه، كما تفعل الأيديولوجيات المعاصرة.
كان الوباء كما رأينا مونولوجا طويلا مجردا، أمام ما يمكن أن نسميه بدولة المونولوج. اختفت العواطف في هذه الدولة ليحل محلها التجريد، تلاشى الجسد واللامعقول وتركا مكانهما للفكرة والمنطق. وضع الإنتاج في موضع الإبداع الحي الخلاق، وبطاقة التموين في مكان الخبز، والنظرية والمذهب محل الصداقة والحب. ولم يكن عجيبا بعد هذا أن يكون المونولوج رمزا لعالم الرعب المنظم المعقول،
79
وأن تحل الدعاية والجدل - وهما نوع من المونولوج - محل الديالوج، وهو العلاقة الأولية الأصيلة التي تؤلف بين الناس.
80
هكذا يقوم عالم المونولوج؛ أعني عالم الشمول والمحاكمات والثورات التي أفلتت من كل حد ومقياس في مواجهة عالم الديالوج؛ أعني عالم الوحدة والصداقة والتمرد المعتدل المحدود. لقد بدأ الصراع العظيم غير المتكافئ بين قوى الرعب وبين قوى الديالوج.
81
وهذا الصراع المستمر بين الديالوج والمونولوج، بين الإقناع والإرهاب هو في الوقت نفسه صراع بين الحد وبين الإفلات من كل الحدود، بين التردد الذي يثور ليؤكد حقيقته القائلة: «نحن موجودون»، وبين الثورات التاريخية التي لا تمل من تكرار شعارها: «نحن سوف نوجد في المستقبل».
ليس في استطاعة أحد أن يتكهن بنتيجة هذا الصراع، وليس له أيضا أن يخدع نفسه بالتفاؤل أو بالتشاؤم. ولكن علينا مع ذلك أن نؤمن دائما بأن هناك في العالم كثيرين قد صمموا على مواصلة هذا الصراع. إن برنامج الغد لا يمكن إلا أن يكون هو دولة الديالوج أو الموت الرائع لشهوده وأنصاره.
82
والأمر بعد ليس أمر إعادة العلاقة الديالوجية بين شخص وآخر، أو بين نظامين اجتماعيين أو أيديولوجيتين مختلفتين فحسب، بل هو قبل كل شيء العمل على إزالة «سوء التفاهم» الذي يحطم كل إمكانيات الحوار الأصيل بين الإنسان والعالم. إن الإنسان الذي يعلن تمرده على المحال في صوره الميتافيزيقية والاجتماعية والتاريخية لا يطمح في نهاية الأمر إلى شيء مقدار طموحه لإعادة حقيقة الديالوج إلى قيمتها وأصالتها الأولى. وتمرده لا يكون تمردا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة حتى يقف في وجه المونولوج (أعني في وجه السيادة المجردة المطلقة للمحال) ليؤيد الديالوج (أعني التراحم الشامل بين الإنسان والإنسان والتفاهم الحقيقي بينه وبين العالم)؛ فإنقاذ الديالوج هو الواجب الأساسي الملقى على عاتقيه في العصر الحديث، وهو في نفس الوقت تأكيد لطبيعة إنسانية مشتركة بين الناس جميعا على اختلاف ميولهم وأجناسهم وعقائدهم، وعود إلى المنبع الأصيل للتمرد الحي الخلاق. (د) عبارة كامي وعبارة ديكارت
يؤكد كامي في مواضع عديدة من كتاباته قرابته الروحية والعقلية لديكارت؛ فليس المحال على مستوى الوجود مكافئا للشك المنهجي عند ديكارت فحسب،
83
وليس تحليل عاطفة المحال في كتابه «أسطورة سيزيف» مجرد تطبيق لهذا الشك المنهجي على هذا «الداء الروحي» الذي يعاني منه العصر،
84
بل إنه يذهب إلى أن التمرد يقوم في مجال التجربة الإنسانية بنفس الدور الذي يقوم به الكوجيتو (أنا أفكر) الديكارتي المشهور في مجال الفكر. ويعبر كامي عن هذا التشابه تعبيرا واضحا في عبارته التي أوردناها مرارا في الصفحات السابقة ونعني بها عبارة «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون»، وهي التي تشبه من حيث صياغتها اللغوية على الأقل صياغة الكوجيتو المشهور: «أنا أفكر فأنا إذن موجود».
85
وسوف نحاول الآن، مستعينين بالكوجيتو الديكارتي، أن نحلل عبارة ديكارت لنرى مدى التشابه بينها وبينه ولنتعرف على بنائها وطبيعتها.
من المعلوم أن عبارة ديكارت المشهورة، التي تسمى في صياغتها بالمختصرة باسم الكوجيتو، ترد في الصيغة الآتية: أنا أكون أنا موجود
Ego sum, ego existo
86
أو في الصيغة الأخرى الذائعة الصيت، التي فضلها ديكارت نفسه وإن كانت لا تخلو من الغموض وازدواج المعنى: أنا أفكر، فأنا إذن موجود
Ego cogito, ergo Sum
87
إن ديكارت يطبق الشك إلى أقصى مداه، في تماسك منطقي شديد؛ إنه لا يستثني حقيقة واحدة لا يضعها موضع الشك والسؤال، لا يفاضل في ذلك بين حقيقة وأخرى، ولكن هذا التطبيق الكامل للشك، باعتباره فعلا من أفعال الفكر، ينطوي هو نفسه على الفعل الذي ينتصر على الشك ويلغيه. ويمكن أن نعبر عن ذلك في هذه الصورة: «إنني لا أستطيع، وأنا أشك في كل شيء، أن أشك في شكي.»
هذا العجز من جانبي عن الشك في الشك يجعل من فعل الفكر السالب معرفة إيجابية موضوعية يعبر عنها الشطر الثاني من جملة أنا أفكر فأنا إذن موجود؛ فالبداية السلبية النافية التي ابتدأ منها التفلسف؛ أعني الشك القاطع في كل شيء لا أجد أنه بلغ من اليقين مبلغا مطلقا، هو الذي يمهد لي الطريق إلى يقين إيجابي لا يتزعزع، وأعني به أنني لا أستطيع أن أشك في شكي. وإذن فيقين الكوجيتو الذي لا يتزعزع لا يمكن فهمه إلا من الشك الشامل في كل شيء، وهو الذي لا يمكنه أن يشك في نفسه. وإذن فلا بد من أن نفهم هذا الفعل الفكري الفريد المباشر فهما ديالكتيكيا. بحيث نستطيع أن نعبر عنه على هذا النحو: «أنا أشك في كل شيء، أنا لا أستطيع أن أشك في كل شيء.»
88
ومعنى هذا أن النظر في الكوجيتو - أنا أفكر، إذن فأنا موجود - نظرة مستقلة عن دليل الشك يؤدي إلى اعتباره صياغة مختلطة يمكن أن تحمل على أكثر من معنى، وربما فهم على أنه قياس من النوع الذي يسمى في المنطق باسم قياس تحصيل الحاصل، كما فعل كانت بالفعل.
89
ويهمنا الآن أن نسأل إلى أي حد يشبه المحال الشك المنهجي؟ وهل يمكن أن نقارن بين تفكير المحال وبين شك ديكارت؟
حقا إن كامي يعلن في بداية كتابه «أسطورة سيزيف» أن تأملاته عن «مرض العصر» خطوة مؤقتة، وأنه لا يصح أن يتعجل القارئ بالحكم على وجهة النظر التي تعرضها. وإذن فوصف المحال أو مرض العصر، الذي يسميه بالتأمل المحال، نقطة ابتداء أولية ضرورية، مهمتها أن تمهد الطريق لشفاء هذا المرض والتغلب عليه. حتى إذا جاءت مرحلة التمرد، وجدناه في الصفحات الأولى من كتاب «التمرد» يشبه المحال بالشك المنهجي عند ديكارت ويضعه معه على قدم المساواة، ولكننا لو أمعنا النظر قليلا لوجدناه يختلف عن الشك المنهجي اختلافا أساسيا.
الواقع أننا نستطيع أن نتحدث عن «كوجيتو المحال» عند كامي، ولكننا مضطرون إلى التفرقة بينه وبين الكوجيتو الديكارتي؛ فالتحليل الدقيق الذي يقوم به لمرض العصر لا يمكن أن يطابق الشك المنهجي مطابقة تامة؛ فهو من ناحية يفوق في تطرفه الشك الديكارتي، حتى لنستطيع أن نقول إنه في وصفه للمحال يغالي في الشك، بل في الرفض والإنكار، مغالاة تسد عليه طريق التغلب عليه فيما بعد. ولعلنا قد لاحظنا من الصفحات السابقة أن النفي في التأمل المحال أقوى وأبعد بكثير من النفي في الشك المنهجي الذي يظل على الرغم من كل ما يزعمه ديكارت شكا مؤقتا؛ ذلك أن الشك عند كامي - وكلمة الشك كلمة مخففة بغير نزاع للرفض المطلق الذي ينطوي عليه المحال - لا يمتد إلى الحقائق اليقينية التقليدية فحسب، بل إنه يستبعد كل إمكانية في بلوغ اليقين بما هو كذلك، كما ينكر أن تكون ثمة حقيقة على وجه الإطلاق، ولكن التأمل المحال من ناحية أخرى - وفي هذا يكمن التناقض الحقيقي الذي ينطوي عليه المحال الذي يضم اللحظتين المتضادتين في بنائه الديالكتيكي، ونعني بهما اللا والنعم، أو النفي والتأكيد - يسمح منذ البداية بوجود يقين لا يمسه، ونعني به الوعي؛
90
فالنفي في المحال يمتد إلى كل شيء، ما خلا هذا اليقين الأول البين بنفسه، بل إننا لنستطيع أن نضيف إلى هذا أن الوعي يزداد تماسكا مع كل فعل من أفعال النفي، ويزيد في تأكيد يقينه وحقيقته.
فإذا كان ديكارت قد بدأ من الشك المنهجي الشامل الذي لا يلبث أن يتعرف على وجود الأنا الشاكة في فعل الشك نفسه، فإن كامي يبدأ من الوعي، أو الأنا المسلم بوجودها لكي يشك بعد ذلك شكا شاملا في كل شيء (ما خلا هذه الأنا نفسها!) بذلك لا ينقلب الشك عنده إلى زعم ميتافيزيقي شامل. إنه يؤكد وجود «أنا» تضع كل شيء ما عداها موضع الشك، وتزهد في قيمة العالم، ولكنها لا تقبل لقيمتها هي أن تمس؛
91
فالعناد والتصميم هنا أهم بكثير من البحث المنهجي عن حقيقة يقينية مؤكدة؛ إذ إن الحقيقة بما هي حقيقة شيء لم يمل كامي من الشك فيه كما رأينا من قبل.
قلنا إن عبارة كامي تشبه الكوجيتو الديكارتي (أنا أفكر، إذن فأنا موجود) على الأقل من ناحية الصياغة. إنها تقول: أنا أفكر، إذن فنحن موجودون. ويتضح لنا على الفور أن الإنسان الذي يقابلنا في هذه العبارة ليس هو الإنسان المفكر الذي رأيناه في الكوجيتو. إنه إنسان متمرد، يكتشف وجوده في الفعل لا في الفكر. وأول سؤال يتبادر إلى الذهن هو هذا السؤال: ما الذي يسبق الآخر: الوجود أم التمرد؟
غير أن هذا السؤال، الذي يقوم على الخلاف النوعي بين التمرد والوجود، يستند هو نفسه على الاعتقاد الخفي بأن عبارة «أنا أتمرد، إذن فنحن موجودون» نوع من القياس أو الاستدلال يستنبط فيه الوجود من التمرد. ولكن لما كان الوجود والتمرد كما رأينا من قبل يكونان في الحقيقة وحدة واحدة، بل كان التمرد كلمة أخرى للوجود الحقيقي؛ أعني للوعي الناصع العنيد عند الإنسان، فإن مثل هذا القياس لا يمكن إلا أن يكون مجرد تحصيل حاصل. فالواقع أن عبارة كامي لا يمكن أن تفهم فهما منطقيا-صوريا، بل ينبغي أن ينظر إليها نظرة ديالكتيكية-وجودية في فعل التمرد الفريد. ولو حاولنا أن نضع العبارة في صورة قياس صوري لكان من المحتمل أن تتكون لدينان هذه الأقيسة الثلاثة: (أ)
كل ما يتمرد فهو موجود.
أنا أتمرد،
إذن فأنا موجود. (ب)
حين أتمرد، أوجد.
أنا أتمرد،
إذن فأنا موجود. (ج)
في كل مرة أتمرد فيها أوجد.
أنا أتمرد الآن،
إذن فأنا الآن موجود.
والملاحظ لأول وهلة على هذه الأقيسة الثلاثة أننا نفتقد فيها «النحن» الموجودة في الجزء الأخير من عبارة أنا أتمرد، إذن فنحن موجودون، وأنها لا تبرر لنا الانتقال من «الأنا» إلى «النحن». أضف إلى هذا أن الأقيسة الثلاثة تنكر جوهر التمرد، حيث يصل الوعي لأول مرة إلى الوعي بنفسه في فعل التمرد، وبذلك يسقط عنصر المباشرة والذاتية بين التمرد والوجود.
ولا بد لنا، لكي نستطيع تعليل الانتقال من الأنا إلى النحن، أن نعود إلى التمرد نفسه؛ فالتمرد الذي يتجه بطبيعته ضد المحال، ينطوي كما رأينا على ديالكتيك النعم واللا، والتأكيد والنفي في وقت واحد . إنه يضع لنفسه حدا، تعينه الطبيعة الإنسانية، فيقول نعم لكل ما يعترف بهذه الطبيعة، ولا لكل ما يحاول أن يتخطاها؛ فأنا حين أتمرد أهب كياني كله في سبيل الدفاع عن طبيعة أو كرامة إنسانية مشتركة ؛ أي إنني أتخطى ذاتي المحدودة إلى «الآخرين» من البشر جميعا، الذين اكتشفت في فعل التمرد اتحادهم معي في إنسانية واحدة. إن علي، لكي أوجد، أن أتمرد،
92
وإذا لم أعترف بالطبيعة الإنسانية عند سواي من الناس، فلن يكون في وسعي أن أتعرف على نفسي كإنسان؛ فنحن إن لم نكن موجودين، لم يكن لي أنا أيضا وجود.
93
وإذن فعبارة «حين أتمرد أوجد» تسبقها بالضرورة عبارة «نحن نوجد حين نتمرد»، كما أن عبارة «نحن موجودون» عبارة صادقة بالضرورة، ما دمت أتمرد باسم الجميع.
إن عبارة «أنا أتمرد، إذن فنحن موجودون.» لا يمكن أن ينظر إليها مستقلة عن مجموعة الأفكار التي ينطوي عليها التأمل المحال. وكلما وقعنا في هذا الخطأ، ظهرت العبارة غامضة مفتعلة، وقد تبدو كما لو كانت تحصيل حاصل. إن يقين الوجود الجمعي يقوم على الكفاح المشترك ضد المحال؛ أعني على التضامن. وكما أن الذي يشك في كل شيء لا يستطيع أن يشك مع ذلك في كل شيء، ولا بد له على الأقل أن يؤمن بشكه هو أو بالأنا التي تقوم بهذا الشك، فكذلك الإنسان المتمرد الذي يطلق صرخته في وجه المحال لا يستطيع أن يشك في صرخته، ولا بد له على الأقل من أن يؤمن باحتجاجه.
94
ويمكن أن نعبر عن هذه الفكرة على نحو ديالكتيكي في حكمين يرفع أحدهما الآخر: (أ)
إن المحالية يمكن أن تشمل كل شيء. (ب)
إنها لا تستطيع أن تمتد على صرختي أو احتجاجي على هذه المحالية نفسها. أو هي بعبارة أخرى لا تستطيع أن تشمل الوعي بهذه المحالية.
وخلاصة القول إن عبارة كامي، مثلها في ذلك مثل عبارة ديكارت، لا يمكن أن توضع في صورة قياس منطقي؛ فالأمر فيها ليس أمر استنتاج عقلي، بل فعل ديالكتيكي وجودي للموجود. والموجود الحق هو دائما ذلك الكائن الذي يتميز بالوعي ويثور على المحال، ولن يكون ذلك الكائن سوى الإنسان.
خاتمة
حاولنا في هذا الكتاب أن نستخلص اللحظات الفلسفية في فكر ألبير كامي وأن نعرضها من خلال تطورها العام في صورة كلية شاملة. وقد يتبين لنا الآن أن من الخطأ أن ننظر إلى التطور الفكري عند كامي كما لو كان يسير في خط مستقيم، يرتفع من المحال إلى التمرد، ومن التمرد إلى التضامن. كما أن من الخطأ أن ننظر إلى هذا التطور وكأن التمرد ينتصر على المحال ويلغيه إلغاء؛ فالواقع أن هاتين اللحظتين يرتبطان ببعضهما ارتباطا وثيقا، ويكونان ذلك التوتر الأساسي الذي يضفي على الكل طابعه الديالكتيكي. والذي يتحقق بالفعل هو ما شئنا أن نسميه بالاتساع في المجال، الذي يبرز فيه الإيجاب من النفي نتيجة للالتقاء مع الواقع الجديد، بكل ما يحمل من مشكلات وأسئلة جديدة.
الأمر إذن، كما نرجو أن يكون قد تبين بوضوح من الصفحات السابقة، هو أمر ديالكتيك، أو منهج جدلي، يعد في حقيقته بحثا متصلا معذبا عن التوازن في المركب والتأليف.
1
وإذا كان كامي لم يصف نفسه في أي موضع من كتاباته بأنه مفكر ديالكتيكي بالمعنى المنطقي لهذه الكلمة، فقد كان من اليسير دونما حاجة إلى مزيد من الجهد أو حدة النظر أن نتتبع الطابع الديالكتيكي الذي يميز تفكيره الفلسفي في كل مراحله.
لقد رأينا كيف أن فلسفة كامي تبدأ من التناقض وتتلقى منه دفعة الحياة. ولم يكن هذا التناقض من النوع المنطقي الصوري، بل كان تناقضا ديالكتيكيا وجوديا، تناقضا معاشا ممزقا للقلب، هو نقطة انطلاق الفكر الفلسفي وقمته في آن واحد. إن النفي كامن في صميمه، ولكنه النفي الذي ينطوي في ذاته على الإيجاب ويظهره للوجود؛ فكل نفي يحتوي على ازدهار النعم،
2
وكل «لا» تفترض وجود «نعم» سابقة عليها.
3
كان المحال سالبا ونافيا بمقدار ما كان يمهد الطريق للوصول إلى يقين واضح بين، ويعد الوجدان للوعي بقيمة كلية شاملة، وأعني بها الطبيعة الإنسانية. وكان التمرد سالبا ونافيا، بمقدار ما بين لنا من خلال الحركات الثورية في تاريخها الطويل ما يخالف حقيقته، أي ما ليس بتمرد. ومرت أمام أبصارنا صور التمرد التي انبثقت في الأصل منه، ثم ما لبثت بعد ذلك أن حادت عنه وانحرفت إلى التمرد الميتافيزيقي والثورة التاريخية. وهكذا لم يتيسر لنا أن نتعرف على حقيقة التمرد إلا بعد التعرف على كذب الثورة.
4
إن فكر كامي الفلسفي يؤكد وينفي، ويوافق ويرفض في آن واحد. إنه يحاول أن يحافظ على الحد والمقياس الذي يحقق التوازن بين الطرفين المتضادين.
5
فالثنائية الأصيلة المشحونة بالتوتر، ثنائية النعم واللا، والوجود والتحول، والذات والموضوع، والحياة والموت، والسعادة والمأساة، والحب للحياة واليأس منها، والنور والظل، والحد والانفلات من كل الحدود، وفكر الظهيرة وفكر منتصف الليل، والديالوج والمونولوج، والبحر والسجون ... إلخ.
6
هذه الثنائية الحاسمة للحظتين متضادتين هي التي تكون علاقة التوتر الديالكتيكي الكامنة في الوجود نفسه، التي سميناها بالتمزق، وقلنا عنها إنها هي جوهر التمرد. إن كل لحظة منهما تشغل مكانها داخل توتر ذي قطبين، لا تتلقى معناها من ذاتها وحدها، بل تتلقاه كذلك من القطب المضاد لها، أو من علاقة التضاد نفسها. هذا الاستقطاب الديالكتيكي يتخلل أعمال كامي ويطبعها بطابعه. إن في الحرمان الامتلاء، كما أن في الفرحة اليأس، وفي محالية الحياة زيادة الإقبال على الحياة، كما أن في النفي التأكيد، وفي التمرد الموافقة والترحيب. وما المحال والتمرد سوى قطبين متقابلين لنفس علاقة التوتر الديالكتيكي التي لا سبيل إلى رفعها أو التغلب عليها.
يعلمنا الديالكتيك أن الوحدة تأتي بعد التضاد.
7
والحق أننا نلمح في تفكير كامي محاولة تهدف إلى تحقيق المركب الخلاق،
8
تتبين لنا في الديالوج وفي الإبداع الحي في مجالات الفن والعمل والأخلاق. غير أن هذه المرحلة الثالثة والأخيرة من كل تطور ديالكتيكي، التي تسعى إلى الوصول إلى وحدة الأضداد في الفكر والشعور، وتبغي حل المتناقضات في التاريخ والفن، مرحلة لم يصل إليها تفكير كامي ولا كان في استطاعته أن يصل إليها؛ فطبيعة تفكيره نفسها تحول بينه وبين بلوغ الانسجام بين الأضداد أو التخفيف من حدة الصراع الناشب في قلب الوجود نفسه. إن الحقيقة تتطور فيه على نحو ديالكتيكي وجودي، يعبر عن قلق الفكر المتمرد الذي يصارع المحال في مظاهره الميتافيزيقية والتاريخية المختلفة؛ ومن ثم كان تفكير كامي في صميمه محاولة لغزو هذه الحقيقة التي تعذبه في كل لحظة غزوا متجددا، وإلقاء الضوء عليها بكل ما يملك من وسائل الفن والتعبير.
9
هذه الحقيقة تتكشف من خلال الصراع الدائم بين التمرد والمحال. وليس المحال والتمرد - وما هما بالرفض المطلق ولا الموافقة المطلقة بل ينطويان عليهما جميعا - في نهاية الأمر إلا التمزق المتصل الذي يعانيه الإنسان الباحث عن التوازن في عالم يفيض بالاضطراب، وعن الحد والمقياس في عصر أفلت من كل حد ومقياس. إنهما معا يظلان أسيري علاقة التضاد الحادة التي أشرنا إليها.
إن الموقف المحال الذي يحيط بالوجود الإنساني والتمرد المتصل عليه يتميزان بطابع التضاد الأساسي. وكون هذا التضاد لا يقبل «الرفع» هو الذي يميز طبيعته. وكل من يقبل الموضوع ويرفض نقيضه إنما يهدر معنى الموقف الإنساني كله. وكل من يحاول الوصول إلى مركب التأليف، إنما يحطم في الوقت نفسه هذا الموقف ويفقده معناه. وليس للموقف من معنى إلا أن يعاش التضاد فيه بكل ما ينطوي عليه من حدة وتوتر؛ فالحياة في المحال (الذي يشتمل دائما على بذرة التمرد) معناها الحياة في التمزق، فما الحياة نفسها إلا هذا التمزق.
10
بهذه النظرة تكون الحياة محاولة متصلة يبذلها الإنسان لكي يحافظ على هاتين القوتين المتضادتين المتصارعتين، ونعني بهما العاطفة الملتهبة للحياة والوعي الناصع بمحاليتها. وليست حقيقة الوجود، المقتصر بكليته على حدود هذه الأرض - فليس خارج هذا العالم نجاة
11 - إلا الوحدة التي تتألف من اجتماع الضدين؛ النفي والتأكيد، الرفض للواقع والموافقة عليه؛ أي المحال والاحتجاج الواعي عليه عن طريق التمرد. وها هو وكامي يعلن للمرة الأخيرة عن غربة الإنسان في العالم وعرس زفافه عليه، عن عاطفته المتحمسة للحياة وكرهه العنيد للموت، عن عظمة الإنسان وعن تعاسته: «هنالك عرفت كيف ترقد الموافقة في صميم تمردي.»
12
مثلما يجتمع السكون والحركة في القوس المشدود، كذلك يتلامس الطرفان هنا في آن واحد، ولعلنا لا نجد شيئا يعبر عن فكر كامي خيرا مما تعبر عنه فكرة باسكال التي يقول فيها: «إن الإنسان لا يظهر عظمته حين يلمس طرفا واحدا ، بل حين يلمس الطرفين معا في آن واحد، ويشغل كل ما يقع بينهما من فراغ.»
13
قائمة المصادر والمراجع
أولا: أعمال كامي (أ) المقالات الفلسفية
Le mythe de Sisyphe, essai sur l’absurde (1940-1941), Paris, Gallimard, 1942. 31 éd., augm. d’une étude sur Franz Kafka (Les essais. 12), Paris, Gallimard, 1946.
أسطورة سيزيف، مقال عن المحال (1940-1941م)، باريس، جاليمار (ظهرت منه طبعة أخرى في عام 1946م، زودت بدراسة عن فرانز كافكا).
Remarque sur la révolte, in: Existence. La métaphysique, coll. dirigée par Jean Grenier, Paris, Gallimard, 1951. L’homme révolté (1945-1951), Paris, Gallimard, 1951.
ملاحظة عن التمرد، نشر في كتاب «الوجود» ضمن مجموعة «الميتافيزيقا» التي يشرف عليها جان جرنييه، باريس، جاليمار، 1951م.
L’Homme révolté, Paris, Gallimard, 1951.
المتمرد، باريس، جاليمار، 1951م. (ب) المقالات الأدبية
L’envers et L’endroit (1935-1936), Charlot, Alger, 1936.
الظهر والوجه (1935-1936م)، الجزائر، شارلو. ظهرت طبعة جديدة منه في عام 1954م، مع مقدمة هامة.
Noces (1936-1937), Charlot, Alger, 1938. Gallimard, Paris 1947.
أعراس (1936-1937م)، الجزائر، شارلو، 1938م (ظهرت منه طبعة أخرى عند الناشر)، جاليمار، 1947م.
L’été (1939-1953), Paris, Gallimard, 1954.
الضيف (1939-1953) باريس، جاليمار، 1954م. (ج) قصص وروايات
L’étranger (récit), (1939-1940), Paris, Gallimard, 1942.
الغريب (1939-1940م)، باريس، جاليمار، 1942م.
La Peste (Chronique), (1943-1947), Paris, Gallimard, 1947.
الوباء (1943-1947م)، باريس، جاليمار، 1947م.
La chute (récit), (1955-1956), Paris, Gallimard, 1956.
السقطة (1955-1956م)، باريس، جاليمار، 1956م.
L’exil et le royaume (Nouvelles), (1953-1957), Paris, Gallimard, 1957.
المنفى والمملكة (قصص قصيرة)، 1953-1957م، باريس، جاليمار، 1957م. (د) مسرحيات (باستثناء المسرحيات المترجمة والمقتبسة)
Caligula (1938), Le malentendu (1942-1943),
كاليجولا (1938م)؛ سوء فهم (1942-1943م)، باريس، جاليمار، 1944م.
L’état de Siège (1948), Paris, Gallimard, 1948.
حالة الحصار (1948م) باريس، جاليمار، 1948م.
Les Justes (1948-1949), Paris, Gallimard, 1950.
العادلون (1948-1949م)، باريس، 1950م. (ه) رسائل
Lettres à un ami allemand (1942-1944), Paris, Gallimard, 1945.
رسائل إلى صديق ألماني (1942-1944م) باريس، جاليمار، 1945م. (و) خطب وأحاديث
Die Krise des Menschen, deutsche Ubertragung in: “Die Ameri-kanische Rundschau” III, 12, 1947.
أزمة الإنسان، ترجمة ألمانية نشرت في المجلة المذكورة.
Discours de Suède, Paris, Gallimard, 1958.
حديث السويد، باريس-جاليمار، 1958م (ألقاه بمناسبة الإنعام عليه بجائزة نوبل، في العاشر من ديسمبر عام 1957م في ستوكهولم). (ز) مجموعات من الأحاديث والمقالات والإجابات
Actuelles I, Chroniques 1944-1948, Paris, Gallimard, 1950.
Actuelles II, Chroniques 1948-1953, Paris, Gallimard, 1953.
Actuelles III, Chroniques Algérienne, 1939-1958, Paris, Gallimard, 1958.
جمعت كلها في الأجزاء الثلاثة من كتاب «مشكلات معاصرة» التي ظهرت بين عامي 1950م و1958م، لدى الناشر جاليمار في باريس.
ثانيا: أعمال عن كامي
Bespaloff, Rachel, Le monde du condamné à mort, in: Esprit, numéro consacré à Camus, Les carrefours de Camus I8 année, P.1-27, Janvier 1950.
بسبالوف، عالم المحكوم عليه بالموت، في مجلة أسبري، ص1-27، يناير 1950م.
Blocker, Günther, Die neuen Wirklichkeiten. Linien und Profile der modernen Literatur, Berlin, Argon Verlag, 1959, S. 267-277.
بلوكر، جنتر، الواقع الجديد، خطوط وملامح في الأدب الحديث، برلين، مطبعة أرجون، 1959م، ص267-277.
Boisdeffre, Pierre, Albert Camus; in: La Revue des Deux Mondes, Fevrier 1960, p.398-414.
بواديفر، بيير، ألبير كامي في مجلة العالمين، فبراير 1960م، ص398-414.
Albert Camus ou l’expérience tragique; in: “Métamorphose de la littérature, t. II, de Proust à Sartre”,
بواديفر، بيير، ألبير كامي أو التجربة التراجيدية-باريس، ألساتيا ، 1953م، ص309-379.
Bondes, François, Albert Camus’ Meisterwerk. Zu seiner Erzählung “La chute”, in: Der Monat, Heft 94, 8. Jahrg, Juli 1956, S. 67-71.
بونديس، فرانسو، رائعة ألبير كامي - حول قصته، السقطة - مجلة الشهر، العدد 94، يوليو 1956م.
Der Aufstand als MaB und Mythos, in: Der Monat, Heft 61, 6.
Jahrg, Oktober 1953, S. 87-96.
بونديس، فرانسو، الثورة كمقياس وأسطورة، مجلة الشهر، العدد 261، أكتوبر1953م.
Brée, Germaine, Camus, Rutgers University Press, New Brunswick, N. J., 1959.
بري، جرمين، ألبير كامي، مطبعة جامعة روتجرز، نيوبرنشفيك، 1959م.
Brisville, Jean-Claude, Camus, La Bibliothèque Idéale, Paris, Gallimard, 10éd. 1959.
برسفيل، جان كلود، كامي، المكتبة المثالية، باريس، جاليمار، الطبعة العاشرة، 1959م.
D’Astorg, Bertrand, De la Peste ou d’un nouvel humanisme, in: Aspects de la littérature européenne depuis 1945, Paris, Ed. Du Seuil, 1952, p.191-200.
داستورج، برتراند، الوباء أو الإنسانية الجديدة، معالم الأدب الأوروبي بعد عام 1945م، باريس، دوسي، 1952م، ص191-200.
Gabriel, Leo, Existenziphilosophie, Wien 1951.
جابرييل، ليو، فلسفة الوجود، فينا، 1951م.
Hanna, Thomas, The thought and art of A. Camus, Henry Regnery Company, Chicago 1958.
هانا، توماس، فكر كامي وفنه، شيكاغو، شركة هنري رجنري، 1958م.
Hommage à A. Camus, (1913-1960) La Nouvelle Revue Française. Paris, Année o., 1960, n. 87.
تكريم ذكرى ألبير كامي، العدد 87 من المجلة الفرنسية الجديدة، 1960م.
Jeanson, Francis, Albert Camus ou l’âme révoltée, in: Les temps modernes, Mai 1952, p.2070-2090.
جانسون، فرانسيس، ألبير كامي أو النفس المتمردة، في مجلة العصور الحديثة، مايو 1952م، ص2070-2090.
1952, p.354-383.
لكي أقول لك كل شيء، مجلة العصور الحديثة، أغسطس 1952م، ص354-383.
Kopper, Joachim, Die Dialektik im französischen Denken der Gegen-wart, in: Zzitschrift f. Philosophische Forschung, 1957. Bd. XI, S. 80-91.
كوبر، يواخيم، الديالكتيك في الفكر الفرنسي المعاصر، مجلة البحث الفلسفي، 1957م، المجلد الحادي عشر، ص80-91.
Krings, Hermann, A. Camus oder die Philosophie der Revolte, in: Philosophisches Jahrbuch der Görres-Gesellschaft, 62. Jahrg., 1953. S. 347-358.
كرنجز، هرمان، ألبير كامي أو فلسفة التمرد، في الكتاب السنوي لجمعية جوريز، 1953م، ص347-358.
Lebesque, Marvin, Albert Camus-in Selbstzeugnisse und Dokumente, Hamburg, Rowohlt Verlag.
ليبسك، مارفان، ألبير كامي، وثائق عن حياته بقلمه هامبورج، مطبعة روفولت (مترجم إلى الألمانية عن الأصل الفرنسي).
Luppé, Robert de, Albert Camus. 5. Ed. revue et mise à jour (Coll. Classiques du XXe. siècle), Editions universitaires, Paris, 1958.
لوبيه، روبير دو، ألبير كامي، الطبعة الخامسة، دار النشر الجامعية، باريس، 1958م (وقد ترجم الكتاب إلى العربية ونشرته دار الآداب، بيروت).
Marcel, Gabriel, Homo Viator, Philosophie der Hoffnung. Bastion Verlag, Düsseldorf 1949, S. 258-298.
مارسيل، جابرييل؛ هوموفياتور، فلسفة الأمل، مطبعة باستيون، دوسلدورف، 1949م، ص258-298.
Moeller, Charles, Littérature de XXe. siècle et christianisme, t. I (“Silence de Dieu”), 7e. éd. revue et augmentée, Paris, Casterman, 1958, p.25-107.
مولر، شارل، أدب القرن العشرين والمسيحية، المجلد الأول، «صمت الله» الطبعة السابعة، باريس، كاسترمان، 1958م، ص25-107.
Mounier, Emmanuel, A. Camus ou l’appel des humiliés, in: Esprit, numéro consacré à Camus, “Les carrefours de Camus”, I8e. Année, Janvier 1950, p.27-67.
مونييه، إمانويل، ألبير كامي أو دعاء المهانين، في مجلة «إسبري»، عدد خاص عن كامي، السنة الثامنة عشرة، يناير 1950م، ص27-67.
Nicolas, André, La pensée existentielle d’Albert Camus ou la révolte jugulée par l’absurde (Thèse de doctorat soutenue à l’univ. de Grenoble pendant l’année 1955).
نيكولا، أندريه، الفكر الوجودي عند ألبير كامي أو التمرد الذي يخنقه المحال، رسالة دكتوراه، قدمت لجامعة جرينوبل، في عام 1955م.
A. Camus, in: Der Monat, II. Jahrg., Sept. 1959, Heft 132, S. 3-13.
بوليتزر، هانيس، الطبيب الحق، فرانز كافكا وألبير كامي، في مجلة الشهر، سبتمبر 1959م، العدد 132، ص3-13.
Quillot, Roger, La mer et les prisons, essai sur Alber Camus, Paris, Gallimard, 1956.
كويو، روجير، البحر والسجون، مقال عن ألبير كامي، باريس، جاليمار، 1956م.
Rousseaux, André, A. Camus et la philosophie du bonheur, in: lit-térature du XXe. siècle, t. III, Paris, Ed. Albin Michel, 1949, P.73-105.
روسو، أندريه، ألبير كامي وفلسفة السعادة، في أدب القرن العشرين، المجلد الثالث، باريس، ألبان ميشيل، 1949م، ص79-105.
Sartre, J.P., Alber Camus: in: Der Monat, Heft 137, Februar 1960.
سارتر، جان-بول، ألبير كامي، في مجلة «الشهر»، العدد 137، فبراير 1960م.
Explications de l’étranger in; Situations I,
سارتر، جان -بول، تفسير «الغريب» في «مواقف، الجزء الأول»، باريس، جاليمار، 1947م.
Réponse à Albert Camus, in: “Les temps modernes”, Août 1952, P.334-353.
سارتر، جان بول، رد على ألبير كامي، في «العصور الحديثة»، أغسطس 1952م، ص334-353.
Simon, Pierre-Henri, L’homme en procès, Malraux, Sartre, Camus, Saint-Exupéry; Neuchatel, Ed. de la Canonnière, 1950.
سيمون، بيير هنري، الإنسان يحاكم؛ مالرو، سارتر، كامي، سان-اكسوبري، نويشانل، 1950م.
Thierberger, Richard, Albert Camus, Sein Werk und sein Künstlertum, in: Universitas, Januar 1959, Heft I, S. 21-30.
تير برجر، ريتشارد، ألبير كامي، أعماله وفنه، في مجلة الجامعة، يناير 1959م، العدد الأول، ص21-30.
Thody, Philip, A. Camus, Study of his work, London, Hamish Hamilton, 1957.
تودي، فيليب، ألبير كامي، دراسة لأعماله، لندن، هامش هاملتون، 1957م.
Wilson, Colin, Der Outsider, Stuttgart, Scherz & Goverts Verlag, 1957.
ويلسون، كولين، الغريب، (الطبعة الألمانية) شتوتجارت، مطبعة شيرتس وجوفرتس، 1957م.
ثالثا: أعمال أخرى
Becker, Oskar, Mathematische Existenz. Untersuchungen zur Logik und Ontologie mathematischer
494-505.
بيكر، أوسكار، مباحث في المنطق وأنطولوجية الظاهرات الرياضية، في الكتاب السنوي للبحث الفلسفي والفينومينولوجي، العدد 8.
Grundlagen der Mathematik in geschichtlicher Entwicklung, Verlag Karl Alber, Freiburg-München, 1954. S. 317-383.
بيكر، أوسكار، أسس الرياضة في تطورها التاريخي، فرايبورج وميونيخ، مطبعة كارل ألبير، ص327-382.
Becker, Oskar, Grösse und Grenze der mathematischen Denkweise Verlag Karl Alber, Freiburg München 1959. S. 125-128.
بيكر، أوسكار، عظمة وحدود أسلوب التفكير الرياضي، فرايبورج وميونيخ، ألبير، 1959م، ص125-128.
Bradley, J.-H., The Principles of logic, Vol. 1, Chap. V., London 1950, 2. Ed.
برادلي، ج-ه، مبادئ المنطق، المجلد الأول، الفصل الخامس، لندن، 1950م.
Bréhier, Emile, Transformations de laphilosophie française, Paris, Flammarion, 1950.
بربيه، إميل، تحولات الفلسفة الفرنسية، باريس، فلاماريون، 1950م.
Buber, Martin, Die Schriften über das dialogische
1954.
بوبر، مارتن، الكتابات عن مبدأ الديالوج، هيدلبرج، مطبعة شنيدر، 1954م.
Burkamp, W., Die Krise des Satzes vom ausgeschlossenen Dritten, in: “Beitrage zur Philos. D. deutschen Idealismus”, IV, 2, 1927, S. 59-81.
بور كامب، وأزمة مبدأ الثالث المرفوع، في: «مساهمات في فلسفة المثالية الألمانية»، المجلد الرابع، 0 2، 1957م، ص59-81.
Delfgaauw, Bernard, Das Nichts, in Zeitschrift f.
393-401.
دلفجاءوف، برنارد، العدم، في «مجلة البحث الفلسفي»، المجلد الرابع، 1955م، ص393-401.
Eisler, Rudolf, Wörterbuch der philosophischen Begriffe, Bd. 1, Berlin, E.S. Mittler, 1910.
أيسلر، رودلف، معجم التصورات الفلسفية، برلين، ميتار، 1910م.
Fink, Eugen, Sein, Wahrheit, Welt. Vor-Fragen zum
1958.
فنك، أويجن، الوجود والحقيقة والعالم، أسئلة تمهيدية لمشكلة الظاهرة لاهاي، مارتينوس نيجهوف، 1958م.
Heiss, Robert, Die Logik des Widerspruchs. Eine Untersuchung zur Methode des Philosophie und zur Gültigkeit der formalen Logik. Berlin u. Leipzig 1932.
هايس، روبرت، منطق التناقض، بحث في الفلسفة وفي سلامة المنطق الصوري، برلين وليبزج، 1932م.
Wesen und Formen der Dialektik, Kiepenhauer & Witsch, Koln Berlin 1959.
هايس، روبرت، ماهية الديالكتيك وأشكاله، كولن وبراين، كيبنهاور وفيتش، 1959م.
Heidegger, Martin, Was ist Metaphysik? 7. Aufl., Vittorio Klostermann, Frankfurt a. M., 1955.
هيدجر، «مارتن»، ما هي الميتافيزيقا؟ الطبعة السابعة، فرانكفورت، كلوسترمان، 1955م.
Lalande, André, Vocabulaire technique et critique de la philosophie 7e. éd., revue et augm., Paris, Presses Universitaires de France, 1956.
لا لاند، أندريه، المعجم الفني والنقدي للفلسفة، الطبعة السابعة، باريس، المطابع الجامعية، 1956م.
Linke, P.F., Die Mehrwertigenlogiken und das Wahrheitsproblem, in Zeitschrift f. Philos. Forschung, Bd. III, 1948. S. 378-398, 530-546.
لينكه، ب. ف، منطق القيم المتعددة ومشكلة، الحقيقة، في «مجلة البحث الفلسفي»، المجلد الثالث، 1948م، ص378-398، ص330-346.
Meinertz, Joseph, Das Sein und das Nichts in Zeitschrift für philos. Forschung, Bd. IX, 1955, S، 32-55, 461-489.
مينرتس، يوسف، الوجود والعدم، في «مجلة البحث الفلسفي»، المجلد التاسع، 1955م، ص32-55، 461-489.
Meyer, Hans, Systematische Philosophie, Bd. 1, Allgemeine Wissens Chaftstheorie und Erkenntnistheorie,
ماير، هانز، الفلسفة المذهبية، المجلد الأول، نظرية العلم العامة ونظرية المعرفة، بادربورن، مطبعة فرديناند شوننج.
Morot-Sir, Ed., La Pensée négative. Recherche logique sur sa structure et ses démarches, Paris, Aubier, 1947. P. 111-119. 335-343, 345-385.
مورو-سير، الفكر السالب، مبحث منطقي عن بنائه ومساره، باريس، أوبييه، 1947م.
Müller, Max, Existenzphilosophie im geistigen Leben der Gegenwart, 2. erw. Auf., F.H. Kerle-Verlag, Heidelberg 1958.
مولر، ماكس، فلسفة الوجود في الحياة العقلية المعاصرة، هيدلبرج، مطبعة كيرله، 1958م.
Nink, Caspar, Der Satz vom ausgeschlossenen Dritten. Ein philoso phischer Beitrag zur Grundlagenkrise der Mathematik. Scholastik, 1937, S. 552 ff.
ننك، كاسبار، مبدأ الثالث المرفوع، مساهمة فلسفية في أزمة أسس الرياضة، مجلة شولاستيك، 1937م، ص552 وما بعدها.
Rombach, Heinrich, Uber Ursprung und Wesen der Frage, in: Symposion, Bd. III, 1952, S. 139-167.
رومباخ، هيزيش، أصل السؤال وماهيته، في مجلة «سيمبوزيوم»، المجلد الثالث، 1952م، ص139-167.
Scheler, Max, Uber Ressentiment und moralisches Werturteil, Leipzig, Verlag von Wilhelm Engelmann, 1912.
شيلر، ماكس، الإحساس بالمرارة والحكم الأخلاقي، ليبزج، إنجلمان، 1912م.
Struve, Wolfgang, Die neuzeitliche Philosophie als Metaphysik der Subjektivität. Interpretationen zu Kierkegaard und Nietzsche, in: “Symposion I”, 1949, S. 207-335.
شتروفه، فولفجانج، الفلسفة الحديثة كميتافيزيقا للذاتية، تفسيرات لفلسفة كيركجارد ونيتشه، في مجلة سيمبوزيوم، العدد الأول، 1949م، ص207-335.
Unamuno, Miguel de, Das tragische Lebensgefühl, Meyer & Jessen Verlag, München 1925.
أونامونو، ميجيل دو، الشعور التراجيدي بالحياة، ميونيخ، مطبعة ماير وجيسون، 1925م.
نامعلوم صفحہ