ووجدنا الناس قد كفوا عن استعمال أوراقها في علاج العيون، وحين كنا نسألهم عن السبب ونحن مذهولون، كانوا يهزون رءوسهم ويقولون: سيبك يا شيخ، القطرة برضك أنضف.
الوجه الآخر
كان الواحد منا إذا عثر على «نص فرنك» وهو صغير طار من الفرحة، وحين كبرنا أصبح ما يفرحنا أن نعثر على إنسان، أو كلمة طيبة!
والحركة كما يقولون بركة، وأن تقص شعرك كل مرة عند نفس الحلاق شيء ممل حقا. ولم أكن أستقر عند أحدهم، ولم أكن أطمع أن أدخل صالونا ذات صدفة فأجد صاحبه إنسانا كالأسطى زكي. كان كل همي إذا دخلت عند الحلاق أن أعد نفسي لعملية التعذيب القادمة. وقص الشعر عملية تعذيب يؤديها الإنسان كالواجب الثقيل المفروض؛ إذ ما معنى أن يجلس الواحد نصف ساعة أو أكثر، ورأسه مثني على وضع معين، وعروق رقبته متصلبة تكاد تنقطع، وكل هذا ليقص شعره بضعة ملمترات، أو ليبدو وجهه أكثر وسامة؟!
كان الأسطى زكي الذي أسلمته رأسي رجلا غريبا؛ فصوته رفيع كأصوات النساء، ووجهه أحمر كوجوه الأتراك، وهو قصير سريع الحركة كمخلوقات والت ديزني، وفي عينيه ذكاء. والأعجب من هذا سيجار توسكانيلي لا يغادر فمه مطفأ ولا مشتعلا، وكأنما ولد به. إذا أشعله يفعل هذا بثلاثة عيدان كبريت، ويكتم الدخان المتصاعد منه أنفاسي؛ دخان ثقيل قابض كأنه مصنوع من ذرات رصاص. وإذا انطفأ تركه بين شفتيه، وكلما نطق يتلاعب السيجار إلى أسفل وأعلى، وكأنما أصبح جزءا من تقاطيعه. وكان أكثر شعر رأسه أبيض منكوشا كشعر المذهولين، وهناك وجوه لا تحس بملامحها، وكنت تحس أن في وجهه أنفا. ولم يكن يرتدي البالطو الذي تعود الحلاقون ارتداءه. كان يرتدي قميصا وبنطلونا. القميص من قماش لا يستعمل للقمصان، ذو خطوط غامقة كثيرة وليس له ياقة، ومفتوح عند العنق يظهر بقعة من صدره فيها شعر كثيف أبيض. والبنطلون حائر في وسطه لا يعرف على أي جزء من كرشه المقوس الأملس يستقر. وهو كالمكوك لا يهدأ. في نفس الوقت الذي يقص فيه شعري كان مشتبكا في ثلاث مناقشات مع زملاء ثلاثة له؛ واحد دخل معه قافية حول البامية والقرون، والآخر يحدثه عن طريقة مبتكرة لعلاج المرارة، والثالث يضحك معه على الاثنين. وينثني فجأة ويهمس في أذني بتعليق أو كلمة ترحيب، ويسألني إن كنت في حاجة لجريدة. ولا ينتظر جوابي ويرتفع صوته باحثا عن «الاثنين»، ولا يجدها ويشتم الصبي، ويجد أن «آخر ساعة» قد طارت، ويعود إلي بالأهرام وعلى وجهه ابتسامة خجولة آسفة تكاد من برودتها تطفئ «ولعة سيجارة».
والمقص بين إصبعيه لا يكف عن الطقطقة به لحظة، وكأنه حاو يقوم باستعراض أمام الناس ويريهم معجزة.
ويبدو أنه كان مشهورا واسمه تتقاذفه الأفواه كالكرة الشراب، والداخل والخارج والزبون والزميل والجميع يعاملونه كما لو كان لعبة طيبة لطيفة مهما سخرت منها فلن تعقب، واللعبة تغري باللعب، وهكذا لم يكن أحد يدعه على حال، ولم يكن يبدو عليه الضيق بأمثال تلك المداعبات، بل لعله كان مسرورا. كنت الوحيد المغيظ؛ فرقبتي هي المثنية، والعبث كله على حساب رأسي وأعصابي، والرجل كان باديا أنه تعدى الخمسين ولا يستطيع الإنسان أن ينهره بسهولة.
وبلغ بي الضيق منتهاه، ومن كثرة ضيقي أمرت الصبي الواقف ينش علي الذباب أن يكف؛ فأن يحس الإنسان بالعذاب لأنه يقضي نصف ساعة وهو جالس أمر قد يحتمل، أما أن يقضي صبي صغير في العاشرة من عمره اليوم بطوله واقفا في مكانه لا يتحرك، ولا يفعل سوى نش الذباب عن وجه الزبائن وكأنه آلة، فأمر لا يحتمل.
والظاهر أن الأسطى زكي لم ينتبه إلى أني السبب في توقف النش؛ فقد نهر الصبي وأمره بمضاعفة جهوده في طرد الذباب. ولم يكن هناك إلا ذبابتان؛ واحدة لا تتحرك من فوق المرآة، والأخرى تحوم حولنا. إذا نفث الأسطى زكي دخانه فرت، وإذا كف عادت.
وانتهزت الفرصة، وانفجرت أطلب من الصبي أن يكف، وأقول للأسطى زكي: هذا تعذيب وقلة إنسانية ... (إلخ، إلخ).
نامعلوم صفحہ