وأحس بألم حاد ينتشر في نفسه، وشيء يريد خنقه، ثم أحس برغبة عارمة في البكاء، ثم أحس أنه يود أن يلقي كل ما بنفسه، ويندفع إلى الرجل الغلبان أمامه يعانقه ويضمه بشدة ويقبله، ويقبل فمه المفتوح الطيب ذاك، وذقنه النابتة الخشنة، وعيونه المغلقة في استسلام.
ولم يكف أبوه طوال الوقت عن الشخير. يستريح وجهه لحظة، ثم تخرج الأصوات من أنفه وفمه. أصوات ممدودة غلبانة هي الأخرى، تكاد تقسم وتقول: والله ما معي ولا أمتلك.
لم يضحك عليه أبوه إذن ويخدعه، وهو ليس كما ظن سامي قادرا على كل شيء. إنه نائم، مستسلم، وطيب، ولم يكن يخدعه.
وتململ الأب واضطرب شخيره.
وتحرك سامي والأحزان تملؤه، وأغلق الباب، وأخرج القروش العشرة من جيبه ودسها بغير حماس في المحفظة، ثم أسقطها في الجيب الذي كانت فيه.
وبعدما أطفأ النور في الحجرة الأخرى رقد بجوار أخيه على «الملة».
وكان يحب تلك الفترة التي يرقد فيها وينتظر النوم؛ إذ كان يحلم فيها بالقلم الأحمر الذي رآه في المكتبة والخمسين من خمسين في الإنجليزي، أو يفكر في الحيلة الجديدة التي عليه أن يبتكرها ليحصل على قرش في الصباح.
ولكن أفكاره طوال الوقت لم تغادر الرجل الراقد غير بعيد عنه فوق السرير، وثمة إحساس كبير يملؤه، وكأنه كان يستند إلى جدار، وإذا بالجدار ينهار من خلفه ويتركه مستندا إلى الفراغ.
وكلما استعاد مشهد ملامحه ومحفظته أحس وهواتف خفية تنبثق في صدره وتهيب به أن يفعل شيئا. لا بد أن يملأ محفظته بالنقود، بمئات الجنيهات، لا بد أن يجلب له كنزا، لا بد أن يشتغل، يعمل أي شيء، وعلى الأقل يقبض عشرة جنيهات في الشهر يعطيها لأبيه قائلا: خذ ولا تزعل. قم وانهض وغط ساقك، واستعد ملامح الأسد. قم يا أبي، ثم أنا لم أعد طفلا. أنا والله رجل، رجل كبير يا أبي، لا تخف علي، سأحميك ولن أطلب منك نقودا، ولن أحتال عليك لأحصل على القروش، وحياتك يا أبي لن أفعل هذا.
وتقلب أخوه وزأم كمن يحلم، ثم علا صوته، وغمغم. عاوز أشرب، هه، عاوز أشرب.
نامعلوم صفحہ