وارتبك.
كانت الخطة التي وضعها منذ الأمس تنتهي بحصوله على المحفظة، ثم، ثم ماذا يفعل؟
وفي سرعة كان قد أدرك أنه من المستحسن أن يأخذها إلى الحجرة الأخرى، ويأخذ منها القروش الخمسة، يأخذها من «الفكة»، فأبوه قطعا يعرف عدد النقود الورق، أما «الفكة» فإنه لا يعرف عددها، ولن يلحظ غياب خمسة قروش منها.
وتسلل خارجا. وتقلبت أمه وغمغمت وهو يمرق بين ضلفتي الباب، ولكن الموقف كان قد دبغ أعصابه، فلم تعد تهزه أصوات أو غمغمات. وما كاد يصبح في الحجرة الأخرى حتى أغلق الباب وجر الكنبة ووضعها خلفه، وجهز حكاية يقولها لأبيه إذا صحا وضبطه محكما إغلاق الباب على تلك الصورة.
وجلس أخيرا على نفس الكرسي الذي دبر عليه الخطة، ووضع المحفظة أمامه. كانت شيئا ضخما كبيرا في حجم الكتاب المجلد وكأنها محفظة بنك، وكانت من النوع القديم الأجرب الكالح. وكان يعرف أن أباه يضع الفكة في جيبها الرئيسي الطويل، وفتحها بسرعة ومد يده داخلها ولم يجد شيئا. وقلبها وظل يرجها وسقط منه شيئان: نص فرنك ممسوخ معضوض لا بد أنه كان لازقا في طياتها. والشيء الآخر كان غريبا عجيبا؛ «زلطة» سوداء صغيرة مفلطحة شكلها لذيذ. ماذا يفعل أبوه بتلك الزلطة؟ ولماذا يحافظ عليها ويضعها هكذا في أعماق المحفظة؟ أفيها سر؟ وهل يتقي بها العفاريت؟ أو يستعين بها على جلب النقود إلى المحفظة؟
ولم يلبث أن ترك الزلطة وأمسك بالقرشين، قرشان؟ كل ما معه من فكة لا يتعدى «النص فرنك»، وليته نصف فرنك صالح للاستعمال، إنه يشك كثيرا من إمكان تداوله.
ما هذه المصائب؟ كل ما توقعه يصفي على قرشين؟!
وأخرج سامي كل ما في باقي جيوب المحفظة من أوراق، وتفحصها جميعا بنظرة واحدة سريعة. ولمح من خلال الكومة التي أصبحت أمامه عشرة قروش تكاد تزهق روحها من كثرة ما تراكم فوقها. وكان من المستحيل أن يصدق أنها كل ما في المحفظة من نقود. لا بد أن البقية يحتويها ظرف من تلك الظروف؛ إذ كثيرا ما رأى أباه يضع فيها الأوراق الخضراء والصفراء.
ومضى يفتح الظروف ويستخرج محتوياتها. كانت رغبته العارمة في العثور على الشلن هي التي تدفعه أول الأمر إلى فض المظاريف والبحث بينها، ولكن بعد لحظات غلبه حب الاستطلاع على أمره. كانت تلك أول مرة يتاح له فيها أن يطلع على مكنون محفظة أبيه، وعلى ما فيها من أوراق لا بد أنها مهمة جدا، لها أهمية غير عادية، وإلا لما احتفظ بها داخل تلك الحوصلة الجلدية. كثيرا ما رأى المحفظة وهي خارجة داخلة إلى جيب أبيه، وهي مفتوحة ومطوية، وهي في مكانها المعتاد، ثم وهي ترقد تحت «المخدة» أحيانا. كثيرا ما ألحت عليه الخواطر والهواجس تخمن ما تحتويه وتدفعه إليها دفعا، ومحتوياتها كلها أمامه الآن، فأية فرصة ذهبية جاءته من السماء!
لم يكن يفهم ما يقرؤه تماما، ولكنه كان مسرورا قلقا؛ ذلك النوع الغريب من القلق البهيج الذي يعتري الإنسان كلما أتيحت له معرفة سر من الأسرار بطريقة محرمة.
نامعلوم صفحہ