إنه لم يعد يستطيع، فليست هذه أول أو ثاني مرة. له شهر وهو يتفق مع صلاح وعبد المنعم على الذهاب إلى السينما، وفي كل مرة: غدا، أجل غدا. خلاص يا سامي، خلاص يا صلاح، الساعة تلاتة أمام شباك التذاكر، الساعة تلاتة. ثم يأتي الغد ولا يذهب. لا يستطيع الحصول على الشلن، ولا يستطيع حتى أن يري صديقيه وجهه ليبدي لهم عذره. وهذه المرة من أسبوع وهو يحاول. إن «المصروف» الذي يتناوله بين كل آن لا يكفي، والمطلوب خمسة قروش. قال لأبيه إنه يريد كراسة، وقال مرة ورق أشغال، ولم يحصل على ثمن لهذا أو لذاك. حاول مع أمه بلا فائدة. كلما ألحف عليها رفعت كفيها إلى السماء، وطلبت من الله أن «يسبك» ما معها من نقود على عينيها إن كان معها نقود.
ما هي حكاية هؤلاء الناس؟ إنه ما طلب منهم أبدا نقودا وأعطوه. دائما والله ما معنا. وأبوه، أبوه بطوله وعرضه وكرشه الودود وأصابعه الغليظة، أبوه كله لا يتورع عن القسم أمامه بأغلظ الأيمان أن ليس معه ولا «خردة». وهل هذا معقول؟ أمعقول أن أباه مفلس تماما كما يحاول أن يفهمه؟ أبدا! غير معقول بالمرة. إنه قادر على كل شيء، إنه يستطيع أن يفعل أي شيء، فقط لو أراد. أليس هو الذي أدخله المدرسة بعدما دخل الأولاد كلهم ورفضت أوراقه هو؟ أليس هو الذي أقسم يومها أن لا بد من دخوله في اليوم التالي، وغاب عن المنزل طيلة ما بعد الظهر، وأدخله في اليوم التالي؟ إنه يستطيع أن يفعل المستحيل. مرضت أخته، كانت أمه تقول إنها ستموت، وكانت تبكي، وكان سامي يبكي، وكان أبوه هو الوحيد الذي لم يبك، والذي قال إنها لن تموت، وهو الذي أخذها إلى الحكيم واشترى الدواء، ولم تمت سامية. أبوه هذا القادر على كل شيء قال له أمس وأول أمس واليوم أيضا إنه مفلس. حدثه سامي عن اتفاقاته السابقة مع صلاح وعبد المنعم واتفاقه ذاك، وضحك أبوه الطيب وقال: خليك لأول الشهر . وأكثر من الطلب وأكثر أبوه من القسم: والله ما معي يا بني. وهل هذا معقول؟ بيتهم كله إذن ليس فيه شلن؟ إنهم يضحكون عليه. إنهم يظنونه طفلا صغيرا من السهل خداعه. إنهم لا يعنيهم أبدا ذهابه إلى السينما ولا يقدرون قيمته؛ لأنهم لم يجربوها ولم يذهبوا إليها. إن المسألة بالنسبة إليهم ليست خطيرة. إنها ليست كمرض سامية. ويعتقدون أنه غر أبله يكفي أن يقسموا أمامه لكي يصدقهم؟!
لقد أحكم التدبير وكل لحظة معدة إعدادا دقيقا في رأسه. سيحصل على هذا الشلن بأسهل مما كانوا يتصورون. أيعتقد هؤلاء الناس أنه لا يعرف محفظة أبيه ومكانها وضخامتها وما تحتويه؟ أحسبوه مغفلا إلى هذا الحد؟
الساعة العاشرة. أبوه وأمه وإخوته كلهم نائمون في الحجرة الثانية. إنه لا يخاف من أحد سوى أبيه. أمه لا تستيقظ أبدا في الليل. أبوه هو الذي توقظه كل حركة مهما بلغت تفاهتها. عليه أن ينتظر قليلا حتى يطمئن إلى أنهم جميعا قد استغرقوا في النوم إلى آذانهم.
وأراد أن يقضي الوقت في حل مسألة الحساب الباقية من الواجب، ولم يستطع. كان «ثمن الشراء» يقفز أمامه ويصبح «ثمن البيع»، وكان يضع «العلامة العشرية» على يمين الرقم، فإذا بها تساهيه وتتسلل وتصبح على يساره. ونفض يده من المسألة، وراح يتأمل كالتائه محتويات الحجرة التي يذاكر فيها هو وأخته، والتي يأكلون فيها أيضا، ويستقبلون الضيوف، وتناله الصفعات أحيانا.
وانتبه إلى نفسه على صوت يأتي من الخارج، وأصاخ أذنيه. كان بيتهم كالقبر لا يسمع فيه خرير الماء القليل الذي يتسرب من الحنفية، وسرسعة الصراصير في المطبخ. وكان الحي بأكمله ساكنا سكونا أبديا لا يقطعه سوى ذلك الصوت؛ صوت وحيد متهدج كأنما يعزي الناس على خيبتهم.
وأدرك سامي بعدما تسمع قليلا أنه صوت المذيع يقول نشرة الأخبار.
ودق قلبه.
لقد حانت الساعة.
وغادر مكانه على أطراف أصابعه. واحتار أيطفئ نور الحجرة أم يبقيه؟ يبقيه. إنه خائف والنور يونسه. وتوقف في الصالة الصغيرة التي تفصل حجرتي شقتهم. أبوه يشخر، عظيم!
نامعلوم صفحہ