ومهما يكن من الأمر فقد رضت نفسي على تحمل نزوات صاحبي؛ لأن حسناته تغلب السيئات، وهذا حسبه من الإحسان. وكنت أجد متعة في مصاحبته، فجلنا معا في طرق جانبولاد، وزرنا حدائقها ومساجدها، وأسواقها المزدحمة وأحياءها الفقيرة وأحياءها العامرة بالقصور المنيفة، فوجدتها مثل سائر بلاد الأرض، يسكنها الناس مجتمعين لكي يمكر كل جار بجاره. هذه حقيقة أبدية ليس فيها جديد في جانبولاد. وكنت إذا سرت في صحبة «طوطاط» أسلم من العدوان؛ لأن الناس كانوا إذا رأوه فسحوا له الطريق، حتى في أشد الأسواق زحمة، مع أني كنت إذا سرت وحدي لا أنجو من الدفع والخبط، وكثيرا ما أصابتني ضربات من العصي إذا مررت بقوم يتعاركون. وقد كنت ذات مرة أسير وحدي في طريق خالية، فسمعت قوما يتخاصمون ويتقاتلون، فاستغاث بي أحدهم، فذهبت لكي أعين على السلام والوئام، وشغلت بسماع حجج الخصمين ووزنها، وتأمل مواضع الحق فيها، فلما فرقت بين المتخاصمين بالحق، وسرت عنهم راضيا تلمست ردائي فلم أجده. فنظرت ورائي وحولي فلم أجد منه شيئا، كأن الأرض قد ابتلعته. ورجعت إلى مكان المعركة فلم أجد أحدا هناك سوى شيخ يدب على عصاه، فلما رآني أبحث سألني عن الخصام فيم كان. فقلت له إن القوم كانوا يتخاصمون على ردائي فأخذوه، فنظر إلي الرجل في عطف ثم مد يده إلي وسألني «حسنة». فأعطيته ما كان معي وهو قليل، فنظر إلى ما أعطيته فاحصا، ثم انصرف عني وهو يغمغم شاتما. هذا يحدث لي إذا سرت وحدي، ولكني كنت إذا سرت في صحبة طوطاط رأيت على وجوه الناس إجلالا وأدبا، وقد سألته في ذلك مرة فضحك وقال: «من أراد صلاح قوم أخافهم.»
وفي هذا حق كثير بغير شك؛ فقد خلق الله في الإنسان غرائز كثيرة، والخوف من أعجبها أسرارا؛ فهو يتشكل في شتى المظاهر كما يتصور الجني في صور الإنسان والحيوان. فالخوف يتخذ حينا شكل الحب، وقد يتخذ شكل الإجلال أو الولاء أو الأدب، وهو يحمل كل هذه الأسماء مع أنه ليس في الحقيقة سوى الخوف. ولكن هذا الخوف لا يطغى على الطباع إلا إذا انعدم الحب الصحيح، والخير كله لا يكون إلا في الحب، ولا تكون الكرامة ولا الصلاح ولا الإنسانية إلا في المحبة.
وقد أطلعني صاحبي «طوطاط» على حقيقة فذة في جانبولاد لم أشهد مثلها في بلد من البلاد التي رأيتها؛ ذلك أني رأيت بعض بيوتها تحمل فوقها أعلاما مختلفة الأعداد، فبعضها يحمل عشرة، والبعض يحمل عشرين أو أكثر، والبعض لا يخفق فوقه إلا علم أو علمان. وكانت البيوت التي لا تعلوها أعلام بيوتا ضئيلة حقيرة المنظر. فوقع في نفسي من ذلك شيء من العجب؛ فعهدي بالأعلام أن تكون زينة يقيمها الناس إذا أرادوا احتفالا بمرور السلاطين في المدينة. وسألت صاحبي عن سرها، فقال في دهشة: «ألم تر هذا من قبل؟» فقلت له: «لعلي رأيته، ولكني لم أتنبه إليه.»
فكشف لي عن ذلك السر الخطير الذي تمتاز به جانبولاد، فقال: نحن هنا لا نتساهل في أمر من الأمور، كل شيء هنا مقرر على نظام مرسوم، هكذا يحكم تيمور دائما.
فانتقل بي خاطري فجأة إلى الغابة التي رأيتها في طريقي، وتذكرت صرخة الفريسة المسكينة.
وقلت لصاحبي في حماسة: لا شك في أن النظام أساس العمران. فقال وهو يرفع صدره ويميل برأسه في كبرياء: هنا طائفتان تحكمان جانبولاد: الأولى نحن.
ثم أشار إلى نفسه إشارة زهو.
فقلت في هدوء: طبعا.
فقال: ولكل أمير منا علامة تميزه؛ فمنا صاحب الريشة، ومنا صاحب الريشتين، ومنا صاحب الثلاث.
ثم توقف ليرى أثر كلامه على وجهي.
نامعلوم صفحہ