فقام مسرعا يشتد في أثري، حتى أدركني ودس في يدي أربعين درهما وقال لي: أحب أن تبدأ تجارتك، فاشتر لي بهذه عشرين وزة لطعام ضيوفي.
ولم أكن عند ذلك فارغ البال، فأناقشه أو أجادله، فوضعت الدراهم في جيبي ثم مضيت عنه صامتا، وجعلت أعيد سؤاله على نفسي: لم لا تشتغل بالتجارة يا جحا؟
ولقد كانت التجارة مهنة الكرام، وكان من أجدادي من اشتغلوا بالتجارة، وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - تاجرا، وكان أبو بكر وعثمان تاجرين، فلم لا أكون مثلهم تاجرا؟
ولكن التجارة تحتاج إلى المال، ولست أدري أيقيض الله لي كنزا أم يجعل لي في طريقي لقى من ذهب أو جوهر؟ والتجارة فوق هذا تحتاج إلى ولوج الأسواق ومعاملة السوقة، فهل أستطيع أن أكون تاجرا؟
ولكني عدت إلى نفسي قائلا: ما لي أضعف عن الحياة، وإذا عدت منها بالخيبة التمست الأعذار لنفسي؟ وعزمت على أن أخوض زحمة الناس، وأن أضرب في الحياة كما يضربون.
فما عدت إلى منزلي حتى كنت قد استقر عزمي. ونظرت حولي وجعلت أقلب وجوه الرأي وألتمس الحيلة في تحصيل رأس المال، حتى عزمت على بيع داري ليكون ثمنه رأس مالي.
وهكذا بعت البيت القديم الذي خلفه لي الأجداد، والذي يحمل في كل ركن من أركانه ألوفا من الذكريات. وكان بيع ذلك البيت صدمة كادت نفسي تتصدع منها. فوقفت عند كل جذع في الحديقة الجرداء. ووقفت عند الساقية المتهدمة التي لا تخرج الماء، وذكرت ثوري المسكين الذي ودره جاري جمال الدين - سامحه الله. وسرت حوله أذرف الدموع الغزار أسفا وحزنا، فوقفت عند كل لبنة من لبنات السور المتهدم الذي لا يبلغ علوه ذراعا، وجعلت أناجي حيطانه وأندب لها اضطراري لفراقها، ولم يفارقني الشعور بأنني أنا الذي جعل الدهر من محنته أن يبيع هذا التراث العزيز.
ثم جمعت كل متاعي وانتقلت إلى دار أخرى في زقاق ضيق، ونزلت إلى ميدان العمل كما ينزل الناس في التماس الأرزاق.
وكانت كلمات القاضي ترن في أذني كل صباح؛ إذ قال لي يوم لقيته: «إن الأرزاق موفورة لمن أقبل على التماسها.»
وذهبت إلى السوق لأنظر في السلع وأختار من بينها ما يصلح لأن أتخذه متجرا. وبعد تفكير وتردد اخترت أن أتجر في الطنافس؛ فهي نظيفة لا يأنف الحس منها، وهي جميلة يرتاح الذوق إليها، ولا يتعفف عنها أصحاب المروءة، ولا يشتريها إلا العظماء.
نامعلوم صفحہ