A'lam al-Hijaz in the 14th Century AH
أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٠٤ - ١٤١٤ هـ
اصناف
محمد علي مغربي
أَعْلامُ الحِجَاز في القرن الرّابع عشْر للهجرة
١٣٠١ - ١٤٠٠ هـ
١٨٨٣ - ١٩٨٠ م
1 / 1
الجُزءُ الأوّل
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 3
النَّاشِر
تهامة
جَدّة - المملكة العربية السعودية
ص. ب ٥٤٥٥ - هاتف ٦٤٤٤٤٤٤
1 / 5
مقدمة
الحمد لله الذى خلق الإنسان فسواه، وصوره فأحسن تصويره، ووهبه من الصفات والمزايا وفضله على سائر المخلوقات، وأرسل الأنبياء والرسل لهدايته وتقويمه، وجعل له الخلافة في الارض وأسبغ عليه من نعمه ما لا يحصيه العد ولا يصل إليه حد، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله وصفوته من الخلق سيدنا ونبينا محمد الذي أرسله الله هدى للعالمين ورحمة، والذى اصطفاه ورباه وقومه أحسن تقويم، فكان كما قال تعالى في وصفه "وإنك لعلى خلق عظيم" صلوات الله وسلامه عليه وعلى كافة الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، وبعد فهذه تراجم لبعض أعلام الرجال الذين عاصرتهم وقد انتقلوا جميعا إلى جوار ربهم وهم جميعا ممن ولدوا وتوفوا خلال القرن الرابع عشر الهجرى الذى نقترب من نهايته، وأغلب هؤلاء الرجال ممن اتصلت أسبابي بأسبابهم فعرفتهم عن قرب وخبرت من أمورهم ما قد يخفى على كثير من شباب الأمة ورجالها خاصة وأن الكثير ممن عاصرهم وعرفهم إما أن يكون قد لحق بهم أو أنه مثلي في الطريق إليهم، ورأيت أن من الخير التعريف بهم والتذكير بما كانوا عليه من كريم الصفات وما قاموا به من عمل نافع، على اختلاف وجوه هذه الإعمال التي يمكن أن تجتمع تحت كلمة (النفع العام) نعم فإن جميع هؤلاء الرجال الذين تحدثت عنهم كانوا قد وهبوا أنفسهم للخدمة العامة على اختلاف السبل، وتفاوت الدرجات، ولست أزعم أن هؤلاء الرجال قد سلموا من الشوائب، أو تبرأوا من النقص فهم بشرٌ كسائر
1 / 7
الناس ولكني رأيت أن صفات الخير قد غلبت عليهم، وأنهم تغلبوا على الانانية الفردية فوهبوا من نفوسهم واموالهم واوقاتهم للناس ما يجعلهم مثلا يحتذى وحديثا يتردد فهم من الصفوة التي تتخذ قدوة حسنة لمن يرغب السير في طريق الخير والنفع العام، كما أن من الواجب أن أوضح أن كلما كتبته عن هؤلاء الرجال هو تسجيل لذكرياتى عنهم وعن اعمالهم، فهذه التراجم ادخل في باب الذكريات منها في باب التراجم التي قد يتطلب فيها الكثير من التدقيق، كما أني أود أن أذكر أن هؤلاء الرجال الذين تحدثت عنهم لم يكونوا وحيدين في عصرهم وإنما كان لهم اخوة وزملاء لا شك أن الكثيرين منهم يستحق أن يكتب عنه ويشاد بذكره ولكنى إنما كتبت عمن أعرف ولعل غيرى من الاخوة الكتاب في كافة مدن للكلمة يكتب عن اعلام بلده ومن عرف منهم إحياء للذكريات الحسنة والاعمال الطيبه، ولا شك أن هذا أن تم فستكون هناك حصيلة طيبة لاعلام هذا القرن تكون سندا لمن يكتبون تاريخه ويسجلون وقائعه، فالتاريخ إنما يصنعه الرجال.
وهناك مسألة أخيرة أود أن أذكرها في ختام هذا الحديث لقد كتبت عن الأعلام الذين توفاهم الله والذين ولدوا وتوفوا خلال هذا القرن الرابع عشر الهجرى، ولم أتعرض للكتابة عن الأعلام الكثيرين الباقين على قيد الحياة والذين أسأل الله تعالى لهم حياة طيبة مديدة وعملا نافعا طيبا، فلا يخفى أن الكتابة عن الاحياء لا يمكن أن تتم بنفس الأسلوب الذى اتبعته في الكتابة عن ذكرياتى عن هؤلاء الرجال الذين انتقلوا إلى جوار ربهم وهو الأسلوب الخاص بالجانب الحسن من حياتهم لأن ذلك أن تم في حال الحياة ربما اعتبره البعض من أسباب التقرب إليهم وتطلب موداتهم، وليس هذا هو الغرض من كتابة هذه الذكريات بحال من الأحوال، ولا شك أن كل من يقوم بعمل نافع فسيلقى جزاءه في الدنيا ذكرا حسنا وفى الآخرة مثوبة وأجرا وإني لأرجو أن يتيسر لى الكتابة عن طائفة أخرى من الأعلام في وقت قريب والله المعين وعليه الاتكال.
محمد علي مغربي
1 / 8
أَعْلَامُ الحِجَاز في القرن الرابع عشر للهجرة
1 / 9
الشيخ أحمد الزهراء
لعله من المستحسن قبل الكلام عن ترجمة الشيخ أحمد الزهراء أن أوضح للقراء الكرام القاعدة التي اتبعها في الكتابة عن الرجال الذين عاصرتهم أو عاصرت أخبارهم وآثارهم، أن هذه القاعدة تتلخص عندى في أن تكون حياة صاحب الترجمة واعماله ذات نفع ملموس للمجتمع سواء أكان هذا النفع يتمثل في خدمة عامة أدَّاها للناس مضحيا بماله أو جهده في سبيلها أو كان في عمل حضارى قدمه لبلاده وإن كان قد أفاد هو منه ربحا وفيرا أو مالا كثيرا وليست القاعدة عندى في الكتابة عن الرجال هي الشهرة فحسب، فقد يكون الرجل جهير الاسم ذائع الصيت ولكنها شهرة لا تتصل بالنفع العام أو بخدمة الناس، قد تكون الشهرة بالطغيان مثلا في الثراء وفى ظلم الناس واضطهادهم والإساءة إليهم، ليست الشهرة أو ذيوع الصيت هي الدافع عندى في الكتابة عن أعلام الرجال وإنما الدافع هو ما أثمرته حياة هؤلاء الناس وجهودهم من نفع للناس واثراء للحياة نفسها في شتى المجالات، وبعد هذه المقدمة التي رأيتها ضرورية بين يدى هذه الترجمة بالذات نعود إلى صاحب الترجمة فنقول:
1 / 11
ضئيل الجسم أقرب إلى القصر، اصفر اللون، مغضن الوجه، كفيف البصر يرتدى القفطان والعمامة المصرية وهي طربوش داكن الحمرة له زرٌّ طويل اسود وتطوقه عمامه بيضاء وهذا الزيّ في مجموعه هو زيُّ العلماء المصريين ولا يزال سائدا حتى اليوم، وكان الشيخ أحمد الزهراء شديد البخل مضيقا على نفسه فلم يكن يرتدى سوى الملابس الصوفية الغليظة حتى في أيام الصيف الذى يشتد في مدينة جدة شدته المعروفة ولم تكن له زوجة أو خادم يقوم بشأنه ولم يكن له مطبخ في داره وإنما كان يأكل الغليظ من الطعام كالعيش والبصل والكرَّات، هذا حينما يأكل في داره ولقد كان يشترى الجواري فلا تقيم الواحدة منهن في داره إلا أياما ثم تطلب منه أن يبيعها لغيره فلم يكن يطيق العيش معه إنسان، وعلى ذكر الجواري فقد كان هناك سوق للرقيق في مدينة جدة وفى مكة المكرمة أيضا وكان الرقيق الذى يرد من الحبشة والسودان وأفريقيا بصورة عامة يعرض في هذه الأسواق وبقوم على شؤون هذه الأسواق باعة مشهورون أو دلَّالون على الأصح وأشهر دلَّالى الرقيق الذين ادركتهم في جده كان رجلا حضرميا اسمه حسن العامودى وقد اختفت هذه الأسواق بعد ذلك ولكن الرفيق كان يعرض للبيع في بيت حسن العامودى آنف الذكر وكان يذهب إليه المشترون لاختيار الجارية التي يرغبون شراءها وقد تؤخذ للدار لتجربتها لفترة يومين أو ثلاثة حتى إذا ثبت للمشترى صلاحها وخلوها من العيوب الصحية اشتراها وقد انتهت هذه التجارة اللا انسانية إلى غير رجعة حيما أصدرت الحكومة أوامرها بعتق الرفيق وتعويض أصحابه الاثمان التي دفعوها في شرائه وكان ذاك في عهد رئاسة المرحوم الملك فيصل للوزارة أثناء ولاية الملك سعود للعرش رحمهما الله، ومن ألطف ما اذكره عن تجارة الرقيق هذه أن كبيرا من اثرياء نجد كتب إلى صديق له في الحجاز يطلب منه شراء جوار لا يشربن الدخان وليس عليهن زيران، وشرب الدخان هو
1 / 12
استعمال السجاير كما هو معلوم أما الزيران فجمع زار وهذا الزار كان نوعا من أنواع الشعوذة التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجرى وكانت تمارس خفية في العهد السعودى وهي ادعاء بعض المشعوذين والمشعوذات شفاء الأمراض يعمل الزار أو ما يسمى النعيش وهو إقامة حفلات رقص يلبس فيها النساء ملابس الرجال ويتحدثن إلى صانعى الزيران والى الحاضرين بلغة بدوية صرفة وتذبح فيها الذبائح للجن والعفاريت والعياذ بالله وربما تكون هذه البدعة الوثنية وفدت إلى الحجاز من بعض البلاد المجاورة وقد انتهت هذه العادات السيئة التي تدخل مرتكبيها في أبواب من الشرك والعياذ بالله إلى غير رجعة فلم يعد لها أثر فيما أعلم والحمد لله، نعود بعد هذا الاستطراد إلى الشيخ أحمد الزهراء فنقول أنه لم يكن يطيق العيش معه إنسان وهو على ما وصفنا من الضيق والتقتير على نفسه ومن معه، وكان الرجل إلى كل هذا طالب علم له حلقة للتدريس في مسجد الشافعي وهو أقدم مساجد جدة، وكان له تلامذة يحبونه ويخدمونه وكان الرجل مقرئا بل عالما بالقراءات السبع ومن أشهر المقرئين المجودين وكان الناس يدعونه إلى تلاوة القرآن في مآتمهم وفى ملحقات هذه المآتم إذا صحَّ هذا التعبير ذلك أن الناس كانوا يتمسكون بعادات كثيرة في الموت كادت الآن أن تنقرض، ولقد أدركت الناس إذا مات الميت حضر المعزون إلى المسجد المجاور لبيت المتوفى أو مسجد بعينونه فيصلون العصر ويتناول الواحد منهم جزءًا من القرآن فيتلوه حتى أذان المغرب فيعزوُّن أهل المتوفى ثم يصلون المغرب وينصرفون ثم تطورت هذه العادة فأصبحت تتم في بيت المتوفى بين المغرب والعشاء وبنفس الطريقة التي وصفناها فيحضر المعزُّون ويمسك كل واحد منهم جزءا من الصحف يتلوه حتى يحين موعد صلاة العشاء فيعزون وينصرفون وقد تطورت هذه العادة إلى ما هو متبع في الوقت الحاضر من حضور الناس بعد صلاة
1 / 13
المغرب لفترة بسيطة يستمعون فيها إلى تلاوة القرآن من المقرئين الذين يحضرهم أهل الميت ثم يعزُّون وينصرفون، وكان هناك إلى جانب الأيام الثلاثة للتعزية يوم العشرين والأربعين والحوْل فإذا مضت عشرون يوما على وفاة الميت أقام له أهله - العشرين - ويحضر في هذه الأثناء مقرئ واحد أو أكثر من الصباح فيقرأ القرآن على روح الميت إلى ما بعد الظهر حيث يحضر المدعوون من خاصة أهل المتوفى وأصدقائه فيستمعون إلى التلاوة ويتناولون الطعام ويقرأون الفاتحة على روح الميت ويدعون له بالمغفرة وينصرفون وبنفس الترتيب يقيمون حفل الأربعين بعد مضى أربعين يوما على وفاة الميت ثم حفل الحوْل وهو بعد مضى عام كامل على الوفاة، هذا علاوة على ما يتلى له من القرآن في شهر رمضان وكان يتولى هذه التلاوة صغار الأطفال ممن يحسنون القراءة والبعض كان يهتم بأمر هذه التلاوة لا في شهر رمضان وحده وإنما في رجب وشعبان كذلك قلنا وقد انتهت هذه العادات جميعها فلم يبق منها سوى ثلاثة أيام العزاء بين العشاءين.
نعود بعد هذا الاستطراد عن عادات الناس في أيام الوفاة إلى الشيخ أحمد الزهراء فنقول أنه كان من أبرز المقرئين في مدينة جدة ولهذا كان منشغلا في كثير من الأيام بتلاوة القرآن في المآتم وفى أيام العشرين والأربعين والحول كما أسلفنا وكان يتناول طعامه في كثير من الأيام في البيوت التي يدعى إليها، كما أن تلامذته كانوا يتحفونه بأطيب الطعام في بعض الأيام ويخدمونه ويقومون على تمريضه إذا مرض والله ﷾ هو الذى يدبر الأمور بحكمته فيسخر لهذا الرجل الكفيف البخيل من يقوم على إصلاح أمره وتسيير شؤونه.
هذا وكان الشيخ كثير الوسواس فلم يكن على تمكنه من التجويد وحفظه للقرآن الكريم وحسن ترتيله بمستطيع أن يتولى الإمامة في المساجد وهي الوظيفة الطبيعية لأمثاله، لأنه كان كثير الوسوسة وكنت أراه في مسجد الشافعي وهو
1 / 14
ينوى للصلاة - صلاة النفل فأسمعه يقول الله الله الله الله أكبر وما هي إلا ثوان ثم يعود لتكبيرة الإحرام بنفس الأسلوب السابق يكرر النطق بلفظ الجلالة مرات ومرات حتى يستقيم له الدخول في الصلاة، ولكن الرجل لم يكن بحاجة إلى الإمامة لأن موارده من المآتم وتلاوة القرآن كانت كبيرة في ذلك الزمان لا ينفق منها شيئا وقد أخذ نفسه بهذه الحياة الضيقة الشديدة وقد تجمعت لديه ثروة كبيرة هيأت له أن يشترى ثلاثة بيوت من أشهر بيوت جدة أولها في منطقة باب مكة مما يلى سوق البدو وكان يسكن في جزء منه ويؤجر الأجزاء الباقية وهي كثيرة للمستأجرين ويتسلم الغلة فيضيفها إلى ما يكنزه من مال والبيتان الآخران وكان يطلق عليها اسم بيوت الشرايبى على ما أذكر وهما يقعان الآن في قلب شارع الملك عبد العزيز في وسط شارع الأشراف بين شارع الملك عبد العزيز والسوق الكبير وكانت هذه المنطفة قبل تعمير شارع الملك عبد العزيز تسمى باب الصبَّة وهو باب يؤدى إلى البحر وكان هذا الباب من داخل سور مدينة جدة الموازى للبحر وكان هذا الباب فيه حرس للجمارك وتخرج منه العربات المحملة بالأرزاق ولعل معنى الاسم أنه الباب الذى تنصب منه البضائع إلى المدينة أو لعل له تعليلا آخر يعرفه المعمرون من أهل جدة أو المهتمون بتاريخها.
لقد كان شراء الشيخ أحمد الزهراء لهذه البيوت الكبيرة في مدينة جدة حديث الناس في ذاك الزمان فكانوا يعجبون لهذا المقرئ الأعمى الذى كان مجمع القرش إلى القرش والريال إلى الريال والدينار إلى الدينار ثم يشترى البيوت الشهيرة التي تعرض للبيع ولست أشك أن كثيرا من التجار كانوا يرغبون في شراء هذه البيوت أو واحد منها على الأقل فجميعها تقع في مناطق تجارية ولكن التجار كانوا لا يفكرون كثيرا في شراء أمثال هذه البيوت إذا لم تكن لهم حاجة ضرورية إليها لأنها تجمِّد المال السائل الذى يتعاملون به في تجاراتهم ولم يكن في
1 / 15
البلاد بنك واحد حتى يتعامل معه الناس أو يقترضوا منه وكانت العملة السائدة هي الجنيهات الذهبية بنوعيها العثماني والإنجليزى ثم الدينار الهاشمى والسعودى والريالات المجيدية أولا ثم الهاشمية والسعودية فما بعد ولم تكن أوراق البنكنوت بالعملة الرائجة إلا في مواسم الحج يشتريها الصرافون من الحجاج حيما يقدمون ويبدلونها لهم بالعملة المحلية ثم يبيعونها للحجاج حينما يعودون إلى بلادهم بأسعار أقل ويستفيدون الفرق بين السعرين وكانت أغلب العملات التي ترد مع الحجاج عملات فضية كالروبيات الجاوية والهندية وقد رأيت التجار يشترون الروبيات الهندية خاصة ثم يصدرونها إلى عدن أو إلى الهند وبعد ذاك كثر التعامل بأوراق البنكنوت فأصبح الناس يفضلون التعامل بها لأنها أخف حملا وأسهل حفظا وباستثناء البنك العثماني الذي افتتح فرعا له في مدينة جده في العهد الهاشمى ثم في أوائل العهد السعودى ولم يستمر طويلا كان أول بنك أسس في المملكة هو الشركة التجارية الهولندية وكان الصرافون يشترون العملات المختلفة ويبيعونها له ويقوم هو بتصديرها إلى الخارج عن طريق قسم الحوالات والطرود بالبريد في ظروف كبيرة مختومة بالشمع الأحمر ومؤمن عليها ويزن الواحد منها ألفى غرام.
نعود بعد هذا الاستطراد عن العملات الأجنبية فنقول أن شراء المتن أحمد الزهراء لهذه البيوت كان حديث الناس والتجار منهم خاصة في مدينة جدة لأن هذا القرئ الأعمى استطاع أن مجمع هذا المال الكثير الذي يشترى به هذه البيوت الكبيرة في مدينة جدة عبر سنوات طويلة من التقتير على نفسه والتضييق عليها ولكن المفاجأة العظمى التي فاجأ بها الشيخ أحمد الزهراء الناس جميعا هي أنه وهب هذه البيوت الثلاثة إلى مدارس الفلاح وأوقفها عليها فختم الرجل حياته أحسن ختام إذ تنازل عن ثروته الكبيرة التي جمعها خلال سنوات عمره الطويل من التضييق على نفسه لعمل من أنبل الأعمال وأجلها فوهب ثمرة سعيه في هذه
1 / 16
الحياة لتصرف على العلم والتعليم ممثلة في مدارس الفلاح التي كانت رائدة التعليم في ذاك الزمان وهكذا استحق الشيخ أحمد الزهراء أن يسجل اسمه بين أعلام الرجال في عصره بهذه الهبة العظيمة التي لم يقدم عليها أثرياء عصره فكان بها فريد العصر وواحد الزمان.
ولقد توفي الشيخ أحمد الزهراء في منتصف القرن الرابع عشر الهجرى عن عمر يناهز الثمانين عاما تغمده الله برحمته الواسعة وتقبل منه عمله الطيب العظيم.
1 / 17
أحمد صالح قنديل
1 / 18
أحْمَد صَالح قَنْدِيل
معتدل القامة أقرب إلى القصر، أسمر اللون شديد السمرة، ممتلئ الجسم واسع العينين، ذكي لماح، خفيف الظل، مرسل الشعر في غير إسراف، كان في مطلع شبابه يرتدى الكوفية الحجازية والشال وهو ما يستعمل للاعتمام وكان من أنواع كثيرة ترد من الشام وبعد أن التحق بوظائف الدولة أصبح يرتدى العباءة والعقال، ولد بمدينة جدة فما أقدر في أواخر العشرينات أو أوائل الثلاثينات من القرن الهجرى وتلقى تعليمه في مدرسة الفلاح وبعد تخرجه منها عمل بها أستاذا.
وقد أدركته وهو أستاذ بالمدرسة التحضيرية في الفلاح، والتى كانت تسمى المجتمع وهو البيت الذى أنشأه المرحوم الحاج محمد على زينل مؤسس الفلاح ليكون مقرا للاجتماعات الخاصة بالمدرسة ثم تحول إلى مدرسة تحضيرية تابعة لمدرسة الفلاح، وهو منفصل عن مبانى الفلاح الحالية وقد تخرب فلم تمتد إليه يد الإصلاح وأخشى أن يكون قد اندثر أو هو في طريقه إلى الاندثار، ثم عمل أستاذا بمدرسة الفلاح الكبرى واستمر يعمل فيها لسنوات طوال إلى أن انتقل إلى مكة رئيسا لتحرير جريدة صوت الحجاز عام ١٣٥٥ هـ بترشيح من صديقه
1 / 19
المرحوم الأستاذ حمزة شحاتة لدى المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان رئيس الشركة العربية للطبع والنشر.
قنديْل وَحَمْزة شحَاته
وكان الأستاذ أحمد قنديل ينشر شعره في صوت الحجاز بتوقيع الصوت الحساس وقد استرعى هذا التوقيع انتباه الأستاذ حمزة شحاتة فسألنى أن كنت أعرف هذا الشاعر الذى بدأت بواكيره الطيبة منذ القصائد الأولى التي نشرتها له صوت الحجاز فقلت أنه الأستاذ أحمد قنديل وهو مدرس بمدرسة الفلاح وأعرفه منذ أن كنت تلميذا بها وكان هو في الفصول الأخيرة ثم أستاذا بالمدرسة المذكورة، وطلب منى الأستاذ حمزة أن أجمعه بالقنديل بل وأعرفه عليه وكان شحاتة يومها أديبا جهيرا وشخصية مرموقه فاتصلت بالقنديل ﵀ وأعربت له عن إعجاب الأستاذ حمزة بما ينشره من شعر وضربت له موعدا للاجتماع بالأستاذ حمزة في - مربعة الجمجوم - وهو مبنى كان يومها خارج مدينة جدة بالعمارية قريبا من مقبرة حواء، كان قد بناه المرحوم الشيخ محمد أنيس جمجوم، وكان هذا المبنى الخلوى الذى يسمى مربعة أشبه ما يكون بنادٍ مجتمع فيه آل جمجوم وأصدقاؤهم عصر كل يوم وصدرا من الليل، وكنت والأستاذ حمزة شحاتة من رواد هذا المجتمع الجمجومى كل أصيل ونحن جميعا في مطلع الشباب في أوائل الخمسينات من هذا القرن وقد استمرت صلة القنديل بالأستاذ شحاتة منذ ذلك الوقت وإلى أن توفى الأستاذ حمزة شحاتة باستثناء فترة ليست بالطويلة حدث بينهما من الجفوة ما أوقف هذه الصلة ولكن هذا التوقف لم يستمر فعادت صلتهما إلى ما كانت عليه من قبل يرحمهما الله.
1 / 20
البَوَاكير الأُولى
لقد ذكرت أن بواكير شعر القنديل الأولى في الخمسينات كانت تبشر بميلاد شاعر كبير وأود أن اذكر أن اغلب من عرفت من الشعراء والكتاب الموهوبين كانت بواكيرهم الأولى تنبئ عن نهاياتهم العظيمة، ولعل الشاعر أو الكاتب الاصيل تولد معه الموهبة فإذا استطاع التعبير ظهرت بذور هذه الموهبة في بواكيره الأولى وما تلبث هذه الوهبة أن تتمكن وتتجلى بالدراسة والتجاريب.
عَودُ عَلى بدء
نعود بعد هذا الاستطراد إلى ترجمة حياة الأستاذ قنديل فنقول أنه عمل رئيسا لتحرير صوت الحجاز وانتقل بعمله هذا إلى مكة المكرمة وكانت فترة رئاسة تحرير القنديل لصوت الحجاز من الفترات الخصيبة في تاريخها فقد افسح صدر الجريدة لمقالات الكتاب وقصائد الشعراء كما أنه عين المرحوم الأستاذ عبد الله المزروع - والد الدكتور المزروع - مخبرا صحفيا يوافيه بالأخبار الداخلية وخاصة الأخبار الحكومية وخلال رئاسته لصوت الحجاز نظم قصائده الأولى من الشعر (الحلمنتيشي) وهو الشعر الذى تختلط فيه العربية بالعامية وكانت صحيفة صوت الحجاز مجال النشر لقصائده الأولى من هذا الشعر وقد استمر القنديل رئيسا لتحرير صوت الحجاز من ٤ شعبان سنة ١٣٥٥ هـ إلى ١٢ جمادى الأولى سنة ١٣٥٦ هـ وقد أقصى عن صوت الحجاز بعد أن نشر قصيدة أسيئ تفسيرها بتوقيع رمزى وحملها المرحوم الدكتور محمد على الشواف إلى صاحب السمو الملكى الأمير فيصل النائب العام لجلالة الملك - جلالة الملك فيصل فما بعد - وقد أصدر سموه أمره بإيقاف الشاعر وإقصائه عن الجريدة ثم تبين أن الشاعر هو رئيس
1 / 21
التحرير نفسه ولم تمض أيام طويلة حتى فاء سموه إلى الرضا وأفرج عنه فعاد إلى مدينة جدة مسقط رأسه مرة أخرى وعمل فترة في مكتب رئيس وكلاء مطوفى الجاوه - الأندنوسيين - الشيخ محمد نور جوخدار ﵀ ثم انتقل مرة أخرى للعمل في مكة المكرمة في ديوان التحرير بوزارة المالية زميلا للأساتذة عبد الوهاب آشى ومحمد حسن فقى ومحمد حسن كتبى ثم عين رئيسا لمصلحة أملاك الدولة بوزارة بالمالية وكانت تتخلل ما بين هذه الوظائف فترات تعطل ثم عين أخيرا مديرا لإدارة الحج بجدة في أول تأسيسها وكان أول مدير عام للحج هو الشيخ محمد صالح قزاز مد الله في عمره وكان مركزه في مكة المكرمة وبعد انتداب الشيخ محمد صالح قزاز للعمل في توسعة الحرم المدنى لانتقاله إلى المدينة المنورة .. أصبح الأستاذ أحمد قنديل مديرا عاما لإدارة الحج بجدة ثم أحيل إلى التقاعد وهاجر إلى مصر لبضع سنوات افتتح خلالها مكتبا تجاريا له بالاشتراك مع الأستاذ رشاد برنجى واحد أصدقائهما من المصريين ثم عاد مرة أخرى إلى الحجاز وما لبث أن هاجر مرة أخرى إلى بيروت، وفى بيروت تفرغ للانتاج الفنى للاذاعة والتليفزيون وعكف على طبع مؤلفاته عن جدة ودواوينه الشعرية الكثيرة وبعد أن اندلعت الحرب الأهلية في بيروت عاد مرة أخرى إلى جده وكان يسافر بين الفينة والأخرى إلى القاهرة لموالاة أعماله الفنية سواء في طبع مؤلفاته أو لعرض أعماله الفنية في الاذاعة والتليفزيون إلى أن توفاه الله تعالى وهو يكتب الحلقة الأخيرة من قناديل رمضان لعام ١٣٩٩ هـ في صباح الجمعة ١٢ شعبان ١٣٩٩ هـ
الشِّعُر الضَّاحِك
تميز الأستاذ أحمد قنديل ﵀ إلى جانب إبداعه الشعرى ومكانته في الكتابة والأدب بشعره الضاحك الذى كان ينشر مقطوعة منه كل صباح في
1 / 22
جريدة البلاد أولا ثم في جريدة عكاظ تحت عنوان (قناديل)، ثم أصبح يستعمل هذا النوع الضاحك ولكن في أسلوب نثرى وكان ينشر في الأعوام الأخيرة في جريدة البلاد بعنوان قناديل ملونة وهذه القناديل الشعرية خاصة كانت سبب شهرته على المستوى الشعبى وفد خلقت منه شاعرا شعبيا محبوبا يتحدت عنه الناس في طول البلاد وعرضها كما خلقت له قراء كثيرين يتابعون ما ينشر له في كل يوم ويتفكهون به ويتحدثون عنه في مجالسهم ومنتدياتهم وللتاريخ فإني سأورد هنا بداية القنديل في هذا الشعر الضاحك فأقول.
الأُسْتَاذ حُسَين شفيق المصْري ومجَلّة الفكَاهة
كانت دار الهلال في القاهرة تصدر مجلة أسبوعية اسمها (الفكاهة) وهي مجلة فكاهية كما يدل عليه اسمها وكان يتولى رئاسة تحريرها الأستاذ حسين شفيق المصرى وهو شاعر مجيد وزجال مصرى معروف، وكان الأستاذ حسين شفيق فيما أعرف هو أول من نشر الشعر الضاحك في أسلوب عامى ولكن هذا الشعر العامى كان يحتفظ بالوزن والقافيه، وكانت الطريقة أنه يفتتح القصيدة بمطلع قصيدة من عيون الشعر العربى القديم ثم ينسج على منوالها كلاما موزونا مقفى تختلط فيه العامية بالعربية الفصحى وكانت مواضيع هذا الشعر دائما انتقادية ولكنها في أسلوب فكاهى مقبول، وكنا نجتمع في مكة المكرمة الأستاذ حمزة شحاتة وأحمد قنديل رحمهما الله وأنا وكان الوقت صيفا وكنا نهرب من حر مكة اللاهب إلى اطراف الشهداء وكان في موضع مكاتب وقراج الشركة العربية للسيارات بالزاهر مقهى لرجل اسمه العم حمزة وكان العمران في مكة ينتهى عند قشلة جرول وكانت الأرض بعدها خلاء وكنا نجئ إلى هذا المقهى مع الغروب ونتسامر صدرا من الليل ونتناول عشاء خفيفا ثم يأوى كل منا إلى فراشه الذى كان يحفظ في
1 / 23