Al-Sahib and Caliph Abu Bakr Al-Siddiq
الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق
اصناف
سلسلة الصديق_حب رسول الله ﷺ
حب النبي ﷺ فريضة من فرائض الدين التي لا يتم إسلام المرء إلا بها، وقد ضرب الصحابة الكرام أمثالًا عظيمة في حبه ﷺ، ومنهم الصديق الأكبر ﵁ وأرضاه، أكثر الناس وأعظمهم حبًا للنبي ﷺ.
1 / 1
أهمية دراسة التاريخ الإسلامي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم فقهنا في الدين، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علمًا.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فمرحبًا بكم في هذا اللقاء الطيب، وفي هذا الجمع المبارك، وأسأل الله أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتنا أجمعين، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
قد تحدثت قبل ذلك كثيرًا عن أهمية دراسة التاريخ الإسلامي، وأشرت قبل ذلك كثيرًا إلى أنه لا جديد على الأرض، نعم والله لا جديد على الأرض، والتاريخ يكرر نفسه بصورة عجيبة، فنفس الأحداث نراها رأي العين، ولكن باختلاف في الأسماء والأمكنة.
فمن يدرس التاريخ بعمق يكون كأنه يرى المستقبل ويقرأ ما يجد على وجه الأرض من أمور، ولا يخدع بسهولة مهما تعاظمت المؤامرات ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.
من يدرس التاريخ بعمق يعرف أين يضع قدمه وكيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته، ويكون كالشمس الساطعة تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم تقوم الساعة، كيف لا وقد ذكرنا من قبل أنه لا جديد على الأرض؟ ويكفينا في ذلك قول الله ﷿: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:١٧٦]، وهذا أمر من الله ﷿.
ولكن قص القصة أو رواية الرواية لا يغني شيئًا إن لم يتبع بتفكر وتدبر، فدراسة التاريخ ليست دراسة تكميلية أو جانبية أو تطوعية، بل دراسة التاريخ ركن أساسي من أركان بناء الأمة القوية الصحيحة.
وفي دراستنا للتاريخ نعرض لأمور لا تستقيم حياة المسلمين بغيرها، وستجدون أننا في دراستنا للتاريخ نعرض لأمور من العقيدة وأمور من الفقه وأمور من الأخلاق وأمور من المعاملات، وأمور من الأحكام، ونعرض لفقه الموازنات والأولويات، ونعرض لفقه الواقع وغير ذلك من الأمور، وإن شئت فقل: نعرض لكل أمور الدين، فإن الله ﷿ في كتابه الحكيم يقص القصة فيعرض فيها الحجة التي تقنع العقل، ويعرض فيها الرقائق التي تلمس القلب، وقد يعرض فيها أمرًا عقائديًا، وقد يعرض فيها حكمًا فقهيًا، ثم هو يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع، والماضي بالحاضر، فتشعر أن التاريخ حي ينبض ولسانًا ينطق.
ولا يحدثنا عن رجال ماتوا ولا عن بلاد طواها التاريخ بين صفحاته العديدة، بل يحدثنا عن أحداثنا وينبئنا بأنبائنا، ويخبرنا بأخبارنا.
فالتاريخ ثروة حقيقية، ولكنها مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود وتفريغ وقت وحشد طاقات، وتحتاج إلى عقول وقلوب وجوارح، يعني: لن ينفع جهد رجل أو رجلين أو عشرة أو جهد يوم أو يومين أو سنة، بل تحتاج إلى جهود إلى جهود علماء كثر، وتحتاج إليكم جميعًا يا من ترجون للإسلام قيامًا.
التاريخ الإسلامي هو أنقى وأزهى وأعظم وأدق تاريخ عرفته البشرية، ووالله! إني أشعر أن الدنيا قد سعدت بتدوين التاريخ الإسلامي، فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة، أمة خاتمة، أمة صالحة، أمة تقية نقية، هو تاريخ أمة آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر، داعية إلى كل خير، محاربة لكل شر.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ رجال ما عرف التاريخ أمثالهم، رجال فهموا دينهم ودنياهم فأداروا الدنيا بحكمة، وعيونهم على الآخرة، فتحققت المعادلة العجيبة، عز في الدنيا وعز في الآخرة، ومجد في الدنيا ومجد في الآخرة، وملك في الدنيا وملك في الآخرة، التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية، حضارة جمعت الأخلاق والسياسة والاجتماع والاقتصاد والمعمار والقضاء والترفيه، جمعت القوة والإعداد والذكاء والتدبير، جمعت كل ذلك جنبًا إلى جنب مع سلامة العقيدة وصحة العبادة وصدق التوجه ونبل الغاية، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣].
هذا هو التاريخ الإسلامي في أصله وجوهره، ولا يمنع ذلك أنه يحوي أخطاءً بعضها عظيم، ويشمل عيوبًا بعضها خطير، وإنه لمن العبث أن ندعي أنه بياض بلا سواد، ونقاء بلا شوائب، لكن أيضًا من الظلم البين أن نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام؛ فالإسلام دين لا ثغرة فيه ولا خطأ ولا عيب، فهو دين محكم تام كامل، أنزله الذي يعلم السر وأخفى ﷾ الحكيم الخبير، ومن خالف دين الإسلام من المسلمين فوباله على نفسه وليس على الإسلام، وكثيرًا ما يخالف الناس فتحدث هنات وسقطات، لكنه في تاريخ المسلمين ما تلبث أن تتبع بقيام إذا ثاب المسلمون إلى رشدهم وعادوا إلى دينهم، وإلا استبدلهم القوي العزيز بغيرهم من المجاهدين الصابرين الطاهرين.
هذا هو التاريخ الإسلامي، ومع كل هذا القدر لهذا التا
1 / 2
أهمية دراسة قضية استخلاف الصديق
ولقد اخترت حدثًا هامًا جليلًا عظيمًا من أحداث التاريخ الإسلامي، آثرت أن أفرد له مجموعة من المحاضرات حتى ندرسه ونفقهه ونحلله، ثم نتحرك به خطوات -إن شاء الله- إلى الأمام، هذا الحدث الجليل هو استخلاف الرجل الجبل أبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه على المسلمين بعد وفاة الرسول ﷺ، ولاحظوا أنني أقول: استخلاف أبي بكر الصديق فقط، ولا أقول: إني سأتحدث عن خلافة أبي بكر الصديق؛ فهذا حديث يطول ويتشعب.
لكني فقط في هذه المجموعة أتحدث عن قصة الاستخلاف، وكيف تم اختيار الصديق ﵁ وأرضاه خليفة للمسلمين؟ وما هي الخطوات؟ وما هي التبعات؟ وماذا حدث في سقيفة بني ساعدة؟ وماذا أثير حولها من شبهات من المستشرقين وأحبابهم؟ والحق أني أذكر لكم أن كثيرًا من الإخوة المتابعين لهذه المحاضرات قد تعجبوا من إفراد مجموعة كاملة من المحاضرات لهذا الحدث، فهم يعدونه حدثًا قصيرًا بسيطًا في التاريخ؛ لأن هذا الحدث تم في أقل من يوم واحد، فيقولون: لماذا نحن سنأخذ عشرة أيام أو عشرين يومًا في شرح حدث تم في يوم واحد أو في ساعة واحدة وتاريخ المسلمين أربعة عشر قرنًا من الزمان؟ يعني: على هذا نحن محتاجون إلى حوالي ألف سنة أو ألفي سنة من أجل أن نذكر التاريخ الإسلامي.
والحقيقة أننا لن نفرد مثل هذا الوقت الطويل لكل الأحداث غير هذا الحدث؛ لأن هذا الحدث في غاية الأهمية، ولماذا هذا الحدث بالذات؟ أجيب عن هذا السؤال بنقاط خمس:
1 / 3
حرص المسلمين على دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين
النقطة الأولى: دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين بصفة عامة - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ﵃ أجمعين- تعتبر من أهم الأمور التي يحرص عليها المسلمون، ويجب أن نحرص على دراستها دراسة وافية مستفيضة شاملة؛ لأنها فترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي، بل هي أهمها على الإطلاق بعد فترة رسول الله ﷺ؛ لأن هذه الفترة تعتبر جزءًا من التشريع الخاص بالمسلمين، فإن قيل: وهل هناك تشريع بعد رسول الله ﷺ؟ فيقال: إن كثيرًا من الأمور استجدت في حياة المسلمين بعد وفاة الرسول ﷺ، وكانت هناك أمور تحتاج إلى فقه واجتهاد فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار، واختاروا آراءً سديدة ساروا عليها وسارت معهم الأمة فكانت تشريعًا للمسلمين، فحدثت أمور ما كان لها شبيه في حياة الرسول ﷺ، ومنها هذا الحدث الذي نحن بصدده، وهو اختيار خليفة للمسلمين.
ومنها: فتوحات عظام في أراض شاسعة، وما تبع ذلك من أمور، ومنها أمور فقهية، ومنها شبهات أثيرت فدافعوا عنها.
إنها فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين بعد رسول الله ﷺ، وكان المحكومون هم خير أهل الأرض بعد الأنبياء.
وهنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله ﷺ الذي رواه الترمذي ﵀ وقال عنه: حديث حسن صحيح، ورواه أيضًا أبو داود ﵀ عن العرباض بن سارية ﵁ قال: (وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا) وصدقت يا رسول الله! فنحن الآن نعيش في هذا الزمن الذي فيه اختلاف كثير، حيث تشعبت بنا الطرق، وكثرت عندنا المناهج، وتعددت أمامنا الأساليب، فماذا نفعل؟ وفي أي الطرق نسير؟ وأي مناهج نتبع؟ وأي الأساليب نختار؟ استمع إلى نصيحة رسول الله ﷺ وهو يقول: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ -أي: الأضراس؛ لأنها تمسك بشدة- وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
فعند تشعب الطرق عليك بسنة رسول الله ﷺ، وهذا بالطبع أمر مفهوم، لكن لماذا يضيف ﷺ: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، ولو كان الخلفاء الراشدون سيعيشون حياة ليس فيها اختلاف عن حياة رسول الله ﷺ فإنه من الطبيعي والمنطقي أن يقلدوا رسول الله ﷺ في كل شيء، ولا يبقى مجال لاجتهادهم، ومن ثم لا يقول رسول الله ﷺ: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، لكن الواقع أن الأمور التي جدت على الأمة في عهدهم وضحت أشياء كثيرة كانت تحتاج إلى عقول ذكية وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين، فأصبح ما يفعلون ليس مقبولًا فقط، بل وشرع للأمة إلى يوم الدين.
خلاصة هذه النقطة: أن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع، ولابد أن يعطي له المسلمون اهتمامًا خاصًا، وقصة الاستخلاف هي أول الأحداث في عهد الخلفاء الراشدين، ولذلك سنتحدث عنها، ثم -إن شاء الله- يليها بعد ذلك أحاديث كثيرة عن تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين بتفصيل كبير.
1 / 4
استخلاص أحكام تفيد في بناء الأمة الإسلامية
النقطة الثانية: التي تهمنا في قصة استخلاف أبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه: أننا سنستخلص أحكامًا وأمورًا هامة من هذه الحادثة تفيد جدًا في بناء الأمة الإسلامية بناءً صحيحًا: ما هو معنى الشورى؟ وكيف تم تطبيقها في هذا الحدث؟ وكيف التصرف عند الاختلاف؟ وما هي طرق عرض وجهات النظر؟ ولماذا يختار رجل دون آخر لإمارة ما؟ وهناك أمور أخرى كثيرة سيتم مناقشتها في مكانها إن شاء الله.
1 / 5
اعتبار هذا الحدث بداية حياة المسلمين بدون رسول الله ﷺ
النقطة الثالثة: أن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله ﷺ، ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام، فغياب رسول الله ﷺ أمر جلل، والأصعب من ذلك غياب الوحي، وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحًا من قصة أم أيمن ﵂: روى مسلم عن أنس ﵁ قال: (قال أبو بكر لـ عمر ﵄ بعد وفاة رسول الله ﷺ: انطلق بنا إلى أم أيمن ﵂ نزورها كما كان رسول الله ﷺ يزورها) وأم أيمن كانت بمثابة الأم لرسول الله ﷺ، فإنها كانت الحاضنة له بعد وفاة آمنة أم رسول الله ﷺ، قال: (فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله ﷺ؟ فقالت: ما أبكي ألا أكون لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله ﷺ، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها).
فالصحابة كانوا يعايشون الوحي، وتخيل معي هذا الأمر الفريد: كل يوم أو يومين يحدثهم رسول الله ﷺ بما يريده الله ﷿ منهم: الله يقول لكم كذا، الله ينهاكم عن كذا، الله غفر لفلان، الله يحب فلانًا، الله يبشر فلانًا بالجنة، الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمة في غزوة أخرى.
وإذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأيًا على رأي، ويعدل المسار، ويصحح الوجهة، وفجأة انقطع الوحي بموت رسول الله ﷺ، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله ﷿، وأصبح عليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا أين غضب الله وأين رضاه؟ وإذا اختلفوا فعليهم أن يختاروا رأيًا دون انتظار التعديل الإلهي.
نعم وضع الله ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع الوحي والموقف بعد انقطاع الوحي.
فحادثة استخلاف أبي بكر الصديق هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولابد أن في دراستها عبرًا لا تحصى وفوائد لا تقدر بثمن.
1 / 6
الأحداث الجسام التي تبعت هذا الحدث في حياة المسلمين
النقطة الرابعة في أهمية دراسة حادث الاستخلاف: أنه تبعه أحداث جسام في حياة المسلمين، ما كانت لتتم لولا أن اختار المسلمون أبا بكر الصديق ﵁ وأرضاه ليكون خليفة للمسلمين بعد رسول الله ﷺ، فالرجل له طابع يختلف كثيرًا عن كثير من الصحابة، وسنتعرف عليه -إن شاء الله- في هذه الحلقات، وستشعر كم كان الله رحيمًا بالمؤمنين، ومسددًا لخطاهم لما يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة الثقيلة، مهمة خلافة المسلمين بعد رسول الله ﷺ.
ومنهما على سبيل المثال: حروب الردة، وسنفرد لها -إن شاء الله- مجموعة خاصة من المحاضرات بعد أن ننتهي من هذه المحاضرات، وسترون فيها أنه لولا أبي بكر الصديق لما ثبت المسلمون في فتنة الردة العظيمة.
يقول أبو هريرة ﵁ وأرضاه: والذي نفس أبي هريرة بيده! لولا الصديق استخلف لما عبد الله في الأرض.
ومنها على سبيل المثال أيضًا: الفتوح الإسلامية العجيبة لدولتي فارس والروم، إنها أحداث من العجب أن تتكرر على هذه الصورة إلا بقيادة مثل قيادة أبي بكر الصديق، وقد يكون من السهل على من تبعه من خلفائه أن يقوموا بالفتوح من بعده؛ لأنه فتح لهم الطريق، لكن يبقى الأثر أعمق، والأجر أعظم لمن بدأ بسن سنة حسنة تبعه فيها الآخرون.
فحادث الاستخلاف هو النقطة التي انطلقت منها الأمة إلى هذه الأحداث الجسام، ولابد أن دراسة هذه الفترة ستلقي بظلال هامة على هذه الأحداث العجيبة.
1 / 7
كثرة طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذا الحدث
النقطة الخامسة والأخيرة في أهمية دراسة هذا الحدث الخطير: أنه كثر طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذه العملية الهامة، فلم يتركوا أحدًا، وطعنوا في كل الرموز الإسلامية العظيمة، وأظهروا الأمر على أسوأ ما يكون، فطعنوا في أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح وعائشة وسعد بن عبادة وزيد بن ثابت وأبي هريرة والسيدة فاطمة ﵃ أجمعين، بل طعنوا في علي بن أبي طالب في صورة الثناء، وذموه في صورة المدح، وطعنوا في العباس بن عبد المطلب ﵁ عم رسول الله ﷺ، وطعنوا في معظم -أو قل: في كل- صحابة رسول الله ﷺ.
وخلاصة الأمر: أنهم أخرجوا لنا صورة مهلهلة قبيحة لخير الأجيال وخير القرون، فإن كانوا هم كذلك كما يقولون فأي خير يرتجى فيمن جاء من بعدهم؟ وأخطر من ذلك: إن كانوا هم كذلك فكيف نأخذ ديننا عن طريقهم؟ وكيف نقبل باجتهادهم؟ فالمستشرقون بذلك يضربون الدين في عمقه، ويدمرون الإسلام في أصوله، وهذا الكلام ليس تاريخًا قديمًا فعله بعض المستشرقين في السابق، والحال الآن غير كذلك، بل هذا الكلام ما زال يتردد في أفواه بعض من يدرسون التاريخ في الجامعات المتخصصة التي تدرس التاريخ، سواء في الجامعات المحلية أو في الجامعات الغربية التي تفتح فروعًا في البلاد الإسلامية، وبالطبع يردد أيضًا بكثرة في الجامعات الغربية في خارج الأقطار الإسلامية؛ وذلك لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.
وهنا وجب علينا أن ندفع هذه الشبهات، وأن نوضح للناس الصورة الحقيقية للأحداث التي تمت بخصوص قصة استخلاف أبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه، ورضي الله عن صحابة رسول الله ﷺ أجمعين.
لهذه الأسباب مجتمعة فإننا نستعين بالله في شرح هذا الحدث، وسنتبعه بغيره إن شاء الله؛ فتاريخ المسلمين بحق بحر لا ساحل له.
1 / 8
شخصية أبي بكر الصديق
لكي نفهم هذا الحدث الكبير ولكي نستوعب اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين لابد أن ندرس في البداية شخصية هذا الرجل النادر أبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه، ولابد أن نفرد بعض المحاضرات لنعرض لطرف بسيط في حياته، فنحن لا نستطيع أبدًا أن نفتح الباب على مصراعيه لرؤية هذا الرجل العملاق الفذ أبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه، وإنما نحن فقط كما يقولون: نغلق الباب وننظر على استحياء لنعرف من هذا، وما هي مفاتيح الشخصية عند هذا الرجل العظيم، وما سر هذه الرؤية الواضحة عنده في كل الأمور، وما سر هذه الدرجة الرفيعة التي نالها في دنياه وفي آخرته.
أبو بكر الصديق ﵁ شخصية عجيبة جمعت بين طياتها الرقة والشدة، والرحمة والقوة، والأناة والسرعة، والتواضع والعظمة، والبساطة والفطنة، شخصية عجيبة جمعت كل ذلك وأضعافه من فضائل الأخلاق والطباع، وهبه الله ﷿ حلاوة المنطق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة الأفق، وبعد النظرة، وصلابة العزيمة، كل هذا وغيره وليس بنبي، إن هذا لشيء عجاب! واستمع إلى رأي علي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه في هذه الشخصية، شخصية أبي بكر الصديق، فقد دار حوار لطيف بين محمد بن علي بن أبي طالب المشهور بـ محمد ابن الحنفية وبين أبيه علي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه، أخرج هذا الحديث البخاري ﵀.
قال محمد بن علي بن أبي طالب يسأل أباه علي بن أبي طالب: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله ﷺ؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: عثمان.
فهو يعلم قدر سيدنا عثمان بن عفان ﵁ وأرضاه، وأن علي بن أبي طالب يتبعه، فقال: وخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
وهذا تواضع كبير من سيدنا علي بن أبي طالب ﵁، ورضي عن صحابة رسول الله ﷺ أجمعين.
ترى كيف تكون شخصية هذا الرجل الذي هو خير الناس في المسلمين بعد رسول الله ﷺ؟ قال رسول الله ﷺ في جزء من حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري ﵁: (إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر) يعني: من أكثرهم منة وفضلًا علي في صحبته وماله أبو بكر، قال: (ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته) إنها مقامات عالية جدًا، فـ أبو بكر من أمن الناس على رسول الله ﷺ، وهذا رسول الله ﷺ يتخذ الله خليلًا، ولولا ذلك لاتخذ أبا بكر، فكيف يكون هذا الرجل الذي ظفر بتلك المنزلة الراقية؟ وكيف وصل إليها؟ في هذه المجموعة لا نريد دراسة أكاديمية لحياة أبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه، بمعنى: تاريخ حياته منذ الميلاد إلى أن مات، وإنما سندرس الشخصية بالبحث في مفاتيحها، وأحب أن نبحث في مفاتيح شخصية هذا الرجل العظيم، وكيف سهل عليه فعل هذا الخير كله؟ وكيف وصل إليه؟ وكيف حافظ عليه؟ ثم هل من سبيل بعد معرفة هذا التاريخ إلى أن نقلده فيما فعل، ونصل إلى ما إليه وصل؟ سنحاول في هذه المجموعة أن نضع أيدينا على هذه النقاط التي جعلت من أبي بكر الصديق أبا بكر الصديق.
1 / 9
الجوانب التي تميز بها أبو بكر الصديق
بتحليل شخصية أبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه وجدت أنه يتميز عن غيره في جوانب كثيرة لعل من أهمها أربعة أمور، من هذه الأمور الأربعة تنبثق معظم صفات الصديق ﵁ وأرضاه:
1 / 10
حب أبي بكر للنبي ﷺ
الصفة الأولى: حب رسول الله ﷺ، إذا أردنا أن نصل إلى ما وصل إليه الصديق ﵁ وأرضاه أو إلى جزء منه فعلينا بحب رسول الله ﷺ، فـ الصديق أحب رسول الله ﷺ حبًا خالط لحمه ودمه وعظامه وروحه، حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ من تكوينه، والصحابة جميعًا أحبوا رسول الله ﷺ حبًا عظيمًا فريدًا، ولكن ليس كحب أبي بكر الصديق ﵁، فإنه أحبه الحب الذي فاق حب المال والولد والأهل والبلد، بل فاق حب الدنيا جميعًا.
روى البخاري ومسلم رحمهما الله عن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
فـ أبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه كان أشد الناس حبًا لرسول الله ﷺ، ففي حديث رسول الله ﷺ في مسند الإمام أحمد: (إن أبا بكر وزن بأمة محمد ﷺ فوزن بها).
وفي رواية: (إن أبا بكر وضع في كفة وأمتي في كفة فعدلها).
إذًا: هذا الرجل كان أشد الناس إيمانًا بعد النبي ﷺ، وهو أشد الناس حبًا لرسول الله ﷺ، هذا الحب المتناهي له دليل من كل موقف من مواقف السيرة، ولو تتبعت رحلة الصديق ﵁ وأرضاه مع الرسول الكريم ﷺ لرأيت حبًا قلما يتكرر في التاريخ.
وتعالوا نقلب بعض الصفحات في حادث واحد من أحداث السيرة النبوية، إنه حادث الهجرة إلى المدينة المنورة، ثم سنتبعه بأحداث في مواقع أخرى من هذه المحاضرات.
لما جاء رسول الله ﷺ إلى بيت أبي بكر الصديق في ساعة لم يكن يأت إليهم فيها كان أول ما قال أبو بكر ﵁ وأرضاه: (فداء له أبي وأمي، والله! ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر) يعني: هناك أمر خطير جاء برسول الله ﷺ في هذه الساعة، فإنه لم يكن ﷺ يأتي الصديق في هذا الوقت في الظهيرة.
ولما أخبره ﷺ بأمر الهجرة قال أبو بكر الصديق بلهفة: (الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فقال ﷺ: نعم، الصحبة).
فماذا كان رد فعل أبي بكر الصديق لما علم أنه سيصاحب رسول الله ﷺ؟ اسمعوا إلى السيدة عائشة تروي هذا الحدث، جاء في صحيح البخاري عنها ﵂ أنها قالت: (فوالله! ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ) سبحان الله! يبكي من الفرح لصحبة رسول الله ﷺ في أمر الهجرة، مع أن هذه الصحبة الخطيرة قد يكون فيها ضياع النفس، فمكة كلها تطارده ﷺ، وسيكون فيها ضياع المال، وسيكون فيها ضياع الأهل، وسيكون فيها ترك البلد، لكن ما دام في صحبة رسول الله ﷺ فهذا أمر جعله يبكي من الفرح لأجله.
وهنا نقطة أخرى من نقاط الهجرة، وهي عند الوصول إلى غار ثور، (ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله! لا تدخله حتى أدخله قبلك؛ فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه -يعني: كنس الغار ونضفه- ثم وجد في جانبه ثقوبًا فشق إزاره وسدها، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه)، يعني: بقي ثقبان لم يسدا، فـ الصديق ﵁ وأرضاه وضع رجليه كل رجل تسد ثقبًا من هذه الثقوب، ثم قال لرسول الله ﷺ: (ادخل، فدخل رسول الله ﷺ ووضع رأسه في حجره -يعني: في حجر الصديق - ثم نام ﷺ، فلدغ أبو بكر في رجله) يعني: عقرب أو حية لدغت الصديق في رجله، قال: (ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله ﷺ، ثم سقطت دموعه على وجه رسول الله ﷺ يعني: أصابه ألم شديد ولم يتحرك حتى بكى من شدة الألم، قال: (فسقطت دموعه على وجه رسول الله ﷺ، فقال ﷺ: ما لك يا أبا بكر؟! قال: لدغت فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله ﷺ فذهب ما يجده)، يعني: أن الرسول ﵊ وضع على الإصابة من ريقه ﷺ فذهب ما يجده من الألم ومن الإصابة، وهذا يدل على حب عجيب لرسول الله ﷺ.
ونقطة أخرى من نقاط الهجرة الجميلة: روى البخاري ﵀ في صحيحه عن أبي بكر الصديق رضي ا
1 / 11
حب النبي ﷺ لأبي بكر
فهل كان هذا الحب من طرف واحد؟ كلا والله! يقول رسول الله ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة ﵁ وأرضاه: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) فلأن أبا بكر الصديق أحب رسول الله ﷺ هذا الحب الذي فاق كل حب فإن رسول الله ﷺ قد رفع مكانته في قلبه فوق مكانة غيره من الصحابة ومن الناس أجمعين.
روى الشيخان عن عمرو بن العاص ﵁ قال: (بعثني رسول الله ﷺ على جيش ذات السلاسل)، أرسل رسول الله ﷺ عمرو بن العاص على رئاسة هذا البعث أو هذا الجيش، فـ عمرو بن العاص يظن أنه ما دام قد أُمِّر على هذا الجيش فهو أحب الخلق إلى قلب رسول الله ﷺ، قال: (فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟!) وهو يظن أنه سوف يقول له: أنت، قال: (أي الناس أحب إليك؟ فقال: عائشة) فجاءت صدمة في قلب عمرو بن العاص، قال: (قلت: من الرجال؟ قال: أبوها) أي: الصديق ﵁ وأرضاه، قال: (قلت: ثم من؟ قال: عمر، فعد رجالًا) فاستمر يقول له: ثم من؟ ثم من؟ في رواية الترمذي يقول عمرو بن العاص: (فسكت مخافة أن يجعلني آخرهم).
وهنا
السؤال
هل كان يرغم أبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه نفسه على هذا الحب؟ وهل كان يشعر بألم في صدره عندما يقدم حب رسول الله ﷺ على حب ماله أو ولده أو عشيرته أو تجارته أو بلده؟ ممكن أن يظن بعض الناس أن الصديق ﵁ وأرضاه متعب بسبب هذا الحب الذي تتبعه تكاليف وتبعات، لكن أبدًا والله! فقد انتقل الصديق من مرحلة مجاهدة النفس لفعل الخيرات إلى مرحلة التمتع والتلذذ بفعل الخيرات، انتقل إلى مرحلة حلاوة الإيمان التي ذاقها ﵁ وأرضاه في قلبه وعقله وكل كيانه.
يقول رسول الله ﷺ في الحديث الذي وراه البخاري ومسلم عن أنس ﵁ وأرضاه قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) وهذه هي حالة الصديق ﵁ وأرضاه قال: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار).
كل الناس يقولون: نحن نحب رسول الله ﷺ أكثر من أهلنا ومالنا وأنفسنا، وطبعًا الكلام سهل جدًا، لكن أين الدليل؟ ما هو الدليل أنك فعلًا تحب رسول الله ﷺ أكثر من نفسك ومالك وأهلك؟
1 / 12
نتائج حب أبي بكر الصديق للنبي ﷺ
هذا الحب الفريد الذي كان عند أبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه لرسول الله ﷺ قاده إلى شيئين عظيمين يفسران كثيرًا من أعمال الصديق ﵁ وأرضاه في التاريخ، وهذه علامات الحب الصادق لرسول الله ﷺ، هذان الشيئان هما: الشيء الأول: اليقين الكامل بصدق ما قال رسول الله ﷺ، يقين دون جدال ولا نقاش ولا تنطع.
الشيء الثاني: الاتباع الكامل له ﷺ في كل ما قاله أو نهى عنه ﷺ، فما نهاك عنه فانته، وما أمرك به فائت منه ما استطعت، قال ﷿: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:٣١].
1 / 13
يقين الصديق ﵁
تعالوا نرى هذا اليقين بصدق رسول الله ﷺ، وهذا الاتباع لكلام رسول الله ﷺ في حياة الصديق: أولًا: اليقين بصدق رسول الله ﷺ، يقول الله ﷿: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر:٣٣].
قال علي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه في هذه الآية كما جاء في القرطبي: الذي جاء بالصدق محمد ﷺ، والذي صدق به أبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه.
وطبعًا الآية عامة، فالنبي ﷺ جاء بالصدق وكل من صدق به هو من المتقين، لكن يقول علي بن أبي طالب: إنها نزلت في الصديق ﵁ وأرضاه، ونحن نجد أن حياة الصديق ﵁ وأرضاه ما هي إلا تصديق مستمر متصل لرسول الله ﷺ، وما شك لحظة فيما قاله الرسول ﷺ، فكان بحق الصديق.
ومن المؤكد أنه ليس عفويًا أو اعتباطيًا أن الصديق سمي بـ الصديق، إذ نجد هذا التصديق في حياة الصديق من أول يوم عرض عليه فيه الإسلام، وعرض الإسلام على أبي بكر الصديق حدث لابد أن نقف معه وقفات ووقفات، فكيف قبل الصديق ﵁ وأرضاه أن يدخل في دين جديد ما سمع به من قبل، وأن يترك دين الآباء والأجداد هكذا بمنتهى السهولة؟ وكيف قبل أن يخالف الناس أجمعين ويتبع النبي ﷺ؟ إنه أمر عجيب! لابد أن يلتفت إليه، يقول رسول الله ﷺ: (ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر إلا أبا بكر، ما عتم عنه حين ذكرته) يعني: ما تردد، قال: (ما عتم عنه حين ذكرته وما تردد فيه) إنه يقين كامل أن هذا الرجل ﷺ لا يكذب.
وسنأتي -إن شاء الله- في محاضرة لاحقة إلى تحليل هذا الإسلام المبكر للصديق ﵁ وأرضاه، لكن هناك حادث يشير فعلًا إلى يقين الصديق بكلام رسول الله ﷺ، يشير إليه بوضوح، إنه حادث الإسراء.
1 / 14
نماذج من يقين الصديق ﵁
1 / 15
يقين الصديق في حادثة الإسراء والمعراج
أخرج الحاكم في مستدركه عن عائشة ﵂ قالت: (جاء المشركون إلى أبي بكر فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس!) وهذا أمر عجيب وعجيب جدًا! فالمسافة بين مكة والقدس أكثر من (١٠٠٠) كيلو متر ذهابًا فقط، فكيف يذهب ويعود في جزء من الليل وفي هذا الزمن؟ انظر إلى رد فعل الصديق قال: (أوقال ذلك؟ -أي: هل قال ذلك رسول الله ﷺ؟ - قالوا: نعم، قال: لقد صدق) صدقه هكذا حتى دون أن يذهب إلى رسول الله ﷺ ليستوثق منه، ثم يعطي التبرير لمن يستمع له، يقول: (إني لأصدقه بأبعد من ذلك؟ بخبر السماء غدوة وروحة) يعني: أصدقه أنه ينزل عليه ملك من السماء ثم يعود في طرفة عين، فانظر إلى المنطق الرائع وانظر إلى توابع تصديق هذا المنطق في حياة المسلمين لو كل المسلمين فعلًا يصدقون بكل ما قاله ﷺ دون جدال ولا نقاش ولا تنطع.
ويقال: إنه لأجل هذه الحادثة سمي أبو بكر ﵁ وأرضاه بـ الصديق.
والثابت أن رسول الله ﷺ هو الذي سمى أبا بكر بـ الصديق، روى البخاري عن أنس بن مالك ﵁: (أن النبي ﷺ صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم، فقال: أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) وهذا من نبوءات رسول الله ﷺ، فالنبي هو رسول الله ﷺ والصديق هو أبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه والشهيدان هما: عمر وعثمان ﵄ استشهدا في سبيل الله.
بل في رواية الحاكم في المستدرك عن النزال بن سبرة ﵀ أن الذي سماه بذلك هو الله ﷿.
قال النزال بن سبرة: (قلنا لـ علي: أخبرنا عن أبي بكر؟ قال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان جبريل وعلى لسان محمد ﷺ، كان خليفة رسول الله ﷺ رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا).
1 / 16
موقف الصديق في قتال الفرس والروم
هذا اليقين بصدق ما قال ﷺ يفسر لنا أيضًا موقفًا عجيبًا من مواقف الصديق ﵁ وأرضاه وهو موقف إعلان الحرب على الفرس فور الانتهاء من حروب الردة، هذا والله! من أعجب مواقف التاريخ إن لم يكن أعجبها على الإطلاق، وتعالوا كذا نحسبها بحسابات المادة البشرية.
دولة المسلمين دولة ناشئة لا تشتمل إلا على جزيرة العرب فقط، والدولة ليس لها تاريخ في الحروب النظامية، فدولة المسلمين ما هي إلا مجموعة من القبائل جمعها رسول الله ﷺ منذ أعوام قلائل، والدولة خارجة من حروب أهلية طاحنة هي حروب الردة الشديدة، والتي ارتدت فيها كل جزيرة العرب، باستثناء ثلاث مدن وقرية: مكة والطائف والمدينة المنورة وقرية تسمى قرية هجر في البحرين.
والفرس على الجانب الآخر دولة تقتسم العالم مع دولة الروم، أي: أنها إحدى الدول العظمى في العالم في ذلك الوقت، وتاريخ الفرس قديم في الحروب النظامية، وجيوش الفرس تجاوز الملايين، والمسلمون لما كانوا يفتحون بلاد الفرس كان أقل جيش يقابلهم (٦٠.
٠٠٠) عدة مرات، وفي القادسية كانوا (٢٤٠.
٠٠٠)، والجيش الإسلامي المعد لحرب الفرس لم يكن يتجاوز الـ (١٠.
٠٠٠) ووصلوا إلى (١٨.
٠٠٠) عند اكتمال العدة، وهو عدد لا يمثل قوة مدينة واحدة من مدن الفرس، كل هذا وغيره ويأخذ الصديق هذا القرار العجيب بالتوجه لفتح هذه البلاد.
1 / 17
سبب إقدام الصديق على قتال فارس والروم
ومن أجل أن تفهم هذا القرار ادرس الموقف في ضوء اليقين الذي تحلى به الصديق ﵁ وأرضاه.
الأمر الأول: رسول الله ﷺ بشر بغلبة هذا الدين بصفة عامة على كل الأمم، والأحاديث أكثر من أن تذكر في هذا المجال، لكن على سبيل المثال نذكر ما جاء في صحيح مسلم من قول رسول الله ﷺ: (إن الله زوى لي الأرض ورأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) وليس فقط الدعوة التي ستبلغ، بل سيبلغ ملك المسلمين، والصديق يعرف ذلك، ويعرف أن ملك المسلمين سيصل إلى فارس وإلى غير فارس.
الأمر الثاني: أن الصديق سمع البشارة من رسول الله ﷺ أكثر تخصيصًا، فإن رسول الله ﷺ قال لمشركي قريش وكان فيهم أبو جهل: (أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم) والعجم في ذلك الوقت هم الفرس والروم، (فقال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك! لنعطيكها وعشر أمثالها، فقال ﷺ: تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم وقالوا: أتريد يا محمد! أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب) وأبو جهل هذا فعلًا كان أبو جهل، لكن فاز بها الصديق.
فـ أبو بكر كان قد قال كلمة لا إله إلا الله، وسبق بها، وعمل بها، وجيش أبي بكر كذلك، قال الكلمة وصدق بها وعمل بها فلماذا لا ينصر؟ بل العجب كل العجب ألا ينصر؟ الأمر الثالث: أن الصديق ﵁ وأرضاه قد سمع بشارة أكثر تخصيصًا من تلك التي سبقت، فقد كان مع المسلمين في حفر الخندق في الأحزاب يوم اعترضت المسلمين صخرة كبيرة فقام إليها رسول الله ﷺ وضربها وكان مما قال ﷺ: (الله أكبر، أعطيت فارس، والله! إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن) وهذه بشارة في منتهى الوضوح أن أمة المسلمين ستعطى فارس.
الأمر الرابع: أن الصديق رأى بعينه وسمع بإذنه هو دون بقية الصحابة ما حدث في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة من أمر سراقة بن مالك، ورأى أقدام فرس سراقة تسوخ في الرمال، ثم سمع رسول الله ﷺ يقول لـ سراقة: (كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟) فالرسول ﵊ يبشر سراقة وسراقة كان حيًا في خلافة الصديق وفي خلافة عمر بن الخطاب بعد ذلك، يقول رسول الله ﷺ: إن بشرى فتح فارس ستكون قريبة جدًا حتى يلبس سراقة سواري كسرى.
الأمر الخامس: الصديق حضر بنفسه مباحثات رسول الله ﷺ مع بني شيبان في مكة، وذلك لما رفض بنو شيبان الدعوة الإسلامية لأنهم اشترطوا شرطًا ألا ينصروه إذا حارب الفرس فإنهم ليست لهم طاقة بحرب الفرس قال لهم رسول الله ﷺ وسمع ذلك أبو بكر الصديق: (أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلًا) ولبعثوا قليلًا فعلًا، يعني: حوالي (٢٠) سنة، و(٢٠) سنة في عمر الأمم تعتبر قليلة، قال: (أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلًا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم -يقصد بذلك الفرس- أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقالوا: لك ذلك).
الأمر السادس أكثر من ذلك: حدث من الصديق ﵁ ما يذهب العجب منك عندما تعلمه، فإنه في أوائل الفترة المكية نزل القرآن الكريم بمقدمات سورة الروم وفيها: ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم:١ - ٤]، وكان هذا إخبارًا بما حدث من هزيمة الروم، وبما سيحدث من انتصارهم لاحقًا على الفرس.
فذهب أبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه يذكر ذلك للمشركين يغيضهم به؛ وقد كان المسلمون يفرحون بنصر الروم؛ لأنهم أهل كتاب، بينما كان يفرح المشركون بنصر الفرس؛ لأنهم وثنيون مثلهم، فقال أبو بكر بيقين: ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا، فصاح به أبي بن خلف الجمحي: كذبت قال الصديق ﵁: أنت أكذب يا عدو الله! قالوا: هل لك أن نقامرك؟ فقامروه على أربع قلائص إلى سبع سنين، يعني: أربع من الإبل إلى سبع سنين، وطبعًا لم يكن القمار حرامًا لما فعل ذلك الصديق ﵁ وأرضاه، فمضت السبع ولم يكن شيء، يعني: أن الروم ما انتصرت على الفرس، ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين، فذكر ذلك للن
1 / 18
سلسلة الصديق_رقة القلب
كان أبو بكر الصديق ﵁ من أرق الناس قلبًا وأكثرهم خشية وخشوعًا، فكان لا يملك نفسه من البكاء في الصلاة وعند قراءة القرآن، حتى أثر ذلك على النساء والأطفال من كفار قريش، ولذا رفع الله قدره وأعلى مكانته.
2 / 1
اتباع الصديق ﵁ لرسول الله ﷺ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم أما بعد: فأهلًا ومرحبًا بكم في لقاء جديد نقلب فيه بعض الصفحات في تاريخ أعظم رجال الأمة بعد رسول الله ﷺ، صفحات في تاريخ الصديق أبي بكر ﵁ وأرضاه.
والحقيقة أني لا أخفي عليكم أني سعيد سعادة عظيمة جدًا، وأنا أعد لهذه الحلقات وهذه المحاضرات أشعر بسعادة حقيقية لمعايشة الصديق ﵁ وأرضاه، وأشعر أن هذه المعايشة انتقلت من طور المعايشة على صفحات الكتب والمراجع إلى طور المعايشة الفعلية، وكأني أسير معه في شوارع مكة والمدينة، وكأني أصلي بجواره في مسجد رسول الله ﷺ، وكأني أسمعه وهو يأمر الأجناد ويسير الجيوش ويعلم الناس، وأتعجب إن كنت أنا أشعر بهذه السعادة بمجرد القراءة عنه، فكيف بمن كانوا يعيشون حقيقة معه ﵁ وأرضاه؟ وإن كان أبو بكر كذلك فكيف بمعلمه ومرشده ومربيه محمد ﷺ؟ يا إخوة! نحن محتاجون أن نعيش فعلًا مع كل دقيقة وكل لحظة وكل موقف من مواقف هؤلاء الأطهار، فكم سينير الطريق، وكم ستظهر الحقيقة وكم ستطمئن النفس! في الدرس السابق تحدثنا عن السمات المميزة لشخصية أبي بكر الصديق ﵁، وذكرنا أن هناك أمورًا أربعة كانت تميز حياته ﵁، وذكرنا منها أمرًا واحدًا ولم نكمله بعد.
هذه السمة الأولى هي حب رسول الله ﷺ، فقد أحبه الصديق ﵁ وأرضاه حبًا صادقًا حقيقيًا مقدمًا على حب النفس والمال والولد والأهل والبلد وغير ذلك من الأمور، وذكرنا في الدرس السابق أن هذا الحب له علامات وله أدلة، وإلا ادعى كل الناس أنهم يحبون محمدًا ﷺ: الدليل الأول على هذا الحب هو: التصديق بكل ما قاله وأخبر عنه رسول الله ﷺ، التصديق الذي ليس فيه شك ولا تخالطه ريبة.
وقد تحدثنا عن هذا الأمر في الدرس السابق.
الدليل الثاني هو: الاتباع الكامل لكل ما أمر به ﷺ، والعمل الدءوب وفق سنته ﷺ، فالتصديق دون عمل نوع من العبث.
وما أجمل ما قاله الحسن البصري ﵀: ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
وهذا من كلام الحسن البصري، وبعض الناس يظن أنه حديث عن رسول الله ﷺ وليس بحديث.
إنه كلام جميل جدًا، فما وقر في القلب هو التصديق بما أخبر به ﷺ، والاقتناع الكامل به.
(وصدقه العمل) هو الاتباع والاقتداء وفق التصديق الذي وقر في القلب.
وفي هذا الدرس نتحدث عن اتباع الصديق ﵁ وأرضاه لرسول الله ﷺ، وكيف كان هذا الاتباع علامة واضحة على حبه ﵁ لرسول الله ﷺ.
يقول الله ﷿ في كتابه الكريم: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧].
ويقول: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:٣١].
وأبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه يحب الله ﷿ حبًا لا يوصف، ويحب رسوله الكريم ﷺ حبًا لا يقدر، ويعلم أن الطريق الطبيعية لحب الله هو اتباع الرسول ﷺ الاتباع المطلق، بمعنى: إن علم الحكمة فبها ونعمت، وإن لم يعلمها فالعمل هو العمل بنفس الحماسة وبنفس الطاقة.
وكثير من الناس يعرضون أقوال الرسول ﷺ على عقولهم القاصرة، فإن وجدت موافقة من عقولهم فعلوها، وإن لم توافق عقولهم أو أهواءهم تركوها ونبذوها، بل وقد يسخرون منها.
أما أبو بكر الصديق ﵁ فلم يكن من هذا النوع، أبو بكر الصديق ﵁ كان يقتدي برسول الله ﷺ في كل صغيرة وكبيرة، حتى إنك لتشعر أنه لا يفرق بين فرض ونافلة؛ لما كان عنده من التصاق شديد بسنة رسوله ﷺ، والتصاق شديد بطريقته ومنهجه في الحياة، فإذا كنت تريد أن تصل إلى ما وصل إليه الصديق أبو بكر وأمثاله ﵃ أجمعين فاعلم أن قدر السنة عندهم كان عظيمًا جدًا، وليس المقصود بالسنة النوافل التي كا
2 / 2