Al-Maghribiyya fi Sharh al-'Aqida al-Qayrawaniyya
المغربية في شرح العقيدة القيروانية
ناشر
دار المنهاج للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٨ هـ
پبلشر کا مقام
الرياض - المملكة العربية السعودية
اصناف
سلسلة منشورات مكتبة دار المنهاج والتوزيع بالرياض (١٧٠)
المغربية في شرح العقيدة القيروانية
«مقدمة الرسالة لابن أبي زيد القيرواني المغربي ت ٣٨٦ هـ»
وهو ما نقله القيرواني من قول مالك، والمعلوم من مذهبه وما عليه أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث
تأليف
عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
نامعلوم صفحہ
المغَرِبيَّة في شَرِحْ الْعَقِيدَةِ الْقَيْرَوَانِيَّة
1 / 3
جميع حقوق الطبع محفوظة لدار المنهاج بالرياض
الطبعَة الأولى
١٤٣٨ هـ
مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع
المملكة العربية السعودية - الرّياض
المركَز الرئيسي - الدائري الشرقي - مخرَج ١٥ - جنوب أسوَاق المجد
ت: ٤٤٥٦٢٢٩ - فاكس: ٤٩٦٢٠١٤ - ص ب: ٥١٩٢٩ - الرّياض ١١٥٥٣
الفرُوع - طريق خالد بن الوليد (إنكاس سَابقا) ت: ٢٣٢٢٠٩٥
مكّة المكرمة - الجميزة - الطريق النازل للحَرَم - ت: ٥٧٦١٣٧٧/ ٠٢
المَدينة النَّبويَّة - أِمَام الجامِعَة الإسلاميَّة مِن جهةَ الجنوب - ت: ٨٤٦٧٩٩٩/ ٠٤
حِسَاب الدَّار في موقع تويتر: Alminhajj
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المُقَدِّمَةُ الْعَقَدِيَّة، للرِّسَالَةِ الفِقْهِيَّة
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عبدُ اللهِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى (ت ٣٨٦ هـ):
الحمدُ للهِ الَّذِي ابْتَدَأَ الْإِنْسَانَ بِنِعْمَتِهْ، وَصَوَّرَهُ فِي الْأَرْحَامِ بِحِكْمَتِهْ، وَأَبْرَزَهُ إِلَى رِفْقِهْ، وَمَا يَسَّرَهُ لَهُ مِنْ رِزْقِهْ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَم، وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْهِ عَظِيمًا.
وَنَبَّهَهُ بِآثَارِ صَنْعَتِهْ، وَأَعْذَرَ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسلِينَ الْخِيَرَةِ مِنْ خَلْقِهْ، فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ بِفَضْلِهْ، وَأَضَلَّ مَنْ خَذَلَهُ بِعَدْلِهْ، وَيَسَّرَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيُسْرَى، وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلذِّكْرَى، فَآمَنُوا بِاللهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقِينْ، وَبِقُلُوبِهِمْ مُخْلِصِينْ، وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينْ، وَتَعَلَّمُوا مَا عَلَّمَهُمْ، وَوَقَفُوا عِنْدَ مَا حَدَّ لَهُمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا أَحَلَّ لَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا بَعْدُ:
أَعَانَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ عَلَى رِعَايَةِ وَدَائِعِهْ، وَحِفْظِ مَا أَوْدَعَنَا مِنْ شَرَائِعِهْ.
فَإِنَّكَ سَأَلْتَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَكَ جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَهْ؛
1 / 5
مِمَّا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَهْ، وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبْ، وَتَعْمَله اْلجَوَارِحْ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ؛ منْ مُؤَكَّدِهَا وَنَوَافِلِهَا، وَرَغَائِبِهَا وَشَيْءٍ مِنَ الْآدَابِ مِنْهَا، وَجُمَلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُنُونِهْ؛ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَطَرِيقَتِهْ.
مَعَ مَا سَهَّلَ سَبِيلَ مَا أَشْكَلَ مِنْ ذَلِكَ؛ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاسِخِينْ، وَبَيَانِ الْمُتَفَقِّهِينْ؛ لِمَا رَغِبْتَ فِيهِ مِنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ لِلْوِلْدَانْ؛ كَمَا تُعَلِّمُهُمْ حُرُوفَ الْقُرْآنْ؛ لِيَسْبِقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ فَهْمِ دِينِ اللهِ وَشَرَائِعِهْ: مَا تُرْجَى لَهُمْ بَرَكَتُهْ، وَتُحْمَدُ لَهُمْ عَاقِبَتُهْ؛ فَأَجَبْتُكَ إِلَى ذَلِكَ؛ لِمَا رَجَوْتُهُ لِنَفْسِي وَلَكَ مِنْ ثَوَابِ مَنْ عَلَّمَ دِينَ اللهِ أَوْ دَعَا إِلَيْهِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ خَيْرَ القُلُوبِ: أَوْعَاهَا لِلْخَيْر، وَأَرْجَى الْقُلُوبِ لِلْخَيْرِ: مَا لَمْ يَسْبِقِ الشَّرُّ إِلَيْهِ.
وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونْ، وَرَغِبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونْ: إِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينْ، لِيَرْسَخَ فِيهَا، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَهْ، وَحُدُودِ الشَّرِيعَهْ؛ لِيُرَاضُوا عَلَيْهَا، وَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ تَعْتَقِدَهُ مِنَ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ، وَتَعْمَلَ بِهِ جَوَارِحُهُمْ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ لِكِتَابِ الله، يُطْفِئُ غَضَبَ الله، وَأَنَّ تَعْلِيمَ الشَّيْءِ فِي الصِّغَرْ؛ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرْ.
وَقَدْ مَثَّلْتُ لَكَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَنْتَفِعُونَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- بِحِفْظِهْ، وَيَشْرُفُونَ بِعِلْمِهْ، وَيَسْعَدُونَ بِاعْتِقَادِهِ وَالْعَمَلِ بِهْ.
وَقَدْ جَاءَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَيُضْرَبُوا عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَيُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ؛ فَكَذَلِكَ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمُوا مَا فَرَضَ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ؛ لِيَأْتِيَ عَلَيْهِمُ الْبُلُوغُ، وَقَدْ تَمَكَّنَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَأَنِسَتْ بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ جَوَارِحُهُمْ.
1 / 6
وَقَدْ فَرَضَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْقَلْبِ عَمَلًا مِنَ الاِعْتِقَادَاتْ، وَعَلَى الْجَوَارحِ الظَّاهِرَةِ عَمَلًا مِنَ الطَّاعَاتْ.
وَسَأُفَصِّلُ لَكَ مَا شَرَطْتُ لَكَ ذِكْرَهُ بَابًا بَابًا؛ لِيَقْرُبَ مِنْ فَهْمِ مُتَعَلِّمِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَإِيَّاهُ نَسْتَخِيرْ، وَبِهِ نَسْتَعِينْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمْ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّه، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
* * *
1 / 7
بَابُ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَتَعْتَقِدُهُ الأَفْئِدَةُ مِنْ وَاجِبِ أُمُوُرِ الدِّيَانَاتِ
مِنْ ذَلِكَ: الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ، وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ: أَنَّ اللهَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ غَيْرُهْ، وَلَا شَبِيهَ لَهْ، وَلَا نَظِيرَ لَهْ، وَلَا وَلَدَ لَهْ، وَلَا وَالِدَ لَهْ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهْ، وَلَا شَرِيكَ لَهْ.
لَيْسَ لِأَوَّليَّتِهِ ابْتِدَاءْ، وَلَا لِآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءْ.
لَا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الْوَاصِفُونْ، وَلَا يُحِيطُ بِأَمْرِهِ الْمُتَفَكِّرُونْ.
يَعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُونَ بِآيَاتِهْ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي مَاهِيَّةِ ذَاتِهْ.
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: ٢٥٥].
الْعَالِمُ الْخَبِيرْ، الْمُدَبِّرُ الْقَدِيرْ، السَّمِيعُ الْبَصِيرْ، الْعَلِيُّ الْكَبِيرْ.
وَأَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهْ، وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهْ.
خَلَقَ الْإِنْسَانَ، وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: ٥٩].
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى.
وَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ الْعُلَا، لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ؛ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مَخْلُوقَهْ، وَأَسْمَاؤُهُ مُحْدَثَهْ.
1 / 9
كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهْ، لَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهْ.
وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَصَارَ دَكًّا مِنْ جَلَالِهْ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ الله، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدْ، وَلَا صِفَةٍ لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدْ.
وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهْ، حُلْوِهِ وَمُرِّهْ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ قَدَّرَهُ اللهُ رَبُّنَا، وَمَقَادِيرُ الْأُمُورِ بِيَدِهْ، وَمَصْدَرُهَا عَنْ قَضَائِهْ.
عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلَ كَوْنِهْ؛ فَجَرَى عَلَى قَدَرِهْ، لَا يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إِلَّا وَقَدْ قَضَاهْ، وَسَبَقَ عِلْمُهُ بِهْ؛ ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: ١٤].
يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَخْذُلُهُ بِعَدْلِهْ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ بِفَضْلِهْ؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ بِتَيْسِيرِهْ، إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ وَقَدَرِهْ، مِنْ شَقِيٍّ أَو سَعِيدٍ.
تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدْ، أَو يَكُونَ لِأَحَدٍ عَنْهُ غِنًى، أَو يَكُونَ خَالِقٌ لِشَيْءٍ إِلَّا هُوَ، رَبُّ الْعِبَادِ وَرَبُّ أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُقَدِّرُ لِحَرَكَاتِهِمْ وَآجَالِهِم.
الْبَاعِثُ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ؛ لإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ وَالنِّذَارَةَ وَالنُّبُوَّةَ بِمُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ ﷺ؛ فَجَعَلَهُ آخِرَ الْمُرْسَلِينَ، بَشِيرًا وَنَذِيرَا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرَا.
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْحَكِيمْ، وَشَرَحَ بِهِ دِينَهُ الْقَوِيمْ، وَهَدَى بِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمْ.
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ يَمُوتُ، كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ.
1 / 10
وَأَنَّ اللهَ ﷾ ضَاعَفَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَسَنَاتْ، وَصَفَحَ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتْ، وَغَفَرَ لَهُمُ الصَّغَائِرْ، بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرْ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنَ الْكَبَائِرِ صَائِرًا إِلَى مَشِيئَتِهْ؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨].
وَمَنْ عَاقَبَهُ اللهُ بِنَارِهْ، أَخْرَجَهُ مِنْهَا بِإِيمَانِهْ، فَأَدْخَلَهُ بِهِ جَنَّتَهْ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧].
وَيُخرِجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ، مَنْ شَفَعَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهْ.
وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ الْجَنَّةَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لِأَوْليَائِهْ، وَأَكْرَمَهُمْ فِيهَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمْ، وَهِيَ الَّتِي أَهْبَطَ مِنْهَا آدَمَ نَبِيَّهُ وَخَلِيفَتَهُ إِلَى أَرْضِهْ، بِمَا سَبَقَ فِي سَابِقِ عِلْمِهْ.
وَخَلَقَ النَّارَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لِمَنْ كَفَرَ بِهْ، وَأَلْحَدَ فِي آيَاتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهْ، وَجَعَلَهُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ رُؤْيَتِهْ.
وَأَنَّ اللهَ ﵎ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَة، ﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢]؛ لِعَرْضِ الْأُمَمِ وَحِسَابِهَا، وَعُقُوبَتِهَا وَثَوَابِهَا.
وَتُوضَعُ الْمَوَازِينُ لِوَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ؛ ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: ٨].
وَيُؤْتَوْنَ صَحَائِفَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ؛ فَـ: ﴿مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [الانشقاق: ٧ - ٨]، وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَأُولَئِكَ يَصْلَوْنَ سَعِيرَا.
وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، يَجُوزُهُ الْعِبَادُ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ؛ فَنَاجُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُرْعَةِ النَّجَاةِ عَلَيْهِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ فِيهَا أَعْمَالُهُمْ.
1 / 11
وَالْإِيمَانُ بِحَوْضِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، تَرِدُهُ أُمَّتُهُ؛ لَا يَظْمَأُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ، وَيُذَادُ عَنْهُ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ.
وَأَنَّ الْإِيمَانَ: قَوْلٌ بِاللِّسَان، وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارحِ، يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ، وَيَنْقُصُ بِنَقْصِهَا؛ فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ، وَبِهَا الزِّيَادَةُ.
وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إِلَّا بِالْعَمَلِ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ.
وَأَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِذَنْبٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.
وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونْ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ بَاقِيَةٌ نَاعِمَةٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونْ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ مُعَذَّبَةٌ إِلَى يَوْمِ الدِّينْ.
وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَيُسْأَلُونَ؛ ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: ٢٧].
وَأَنَّ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عِلْمِ رَبِّهِمْ.
وَأَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ بِإِذْنِ رَبِّهِ.
وَأَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ: الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَآمَنُوا بِه، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.
وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ: الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونْ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ؛ ﵃ أَجْمَعِينْ.
وَأَلَّا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُولِ ﷺ إِلَّا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ، وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجْ، وَيُظَنَّ بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبْ.
1 / 12
وَالطَّاعَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ مِنْ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ.
وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَاقْتِفَاءُ آثَارِهِمْ، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمْ.
وَتَرْكُ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ فِي الدِّينْ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونْ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
* * *
1 / 13
المُقَدِّمَة
الحمدُ للهِ؛ له الحمدُ كلُّهْ، أوَّلُهُ وآخِرُ، ظاهِرُهُ وباطنُهْ، وله الشكرُ كلُّهُ على ما أفاضَ به وتكرَّمْ، وتفضَّلَ به على عبادِهِ وأنعَمْ.
ونَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُه.
وصلَّى اللهُ وسلَّم على النبيِّ الأَمِينْ، محمَّدِ بنِ عبد اللهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينْ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ أعظَمَ الواجباتِ على الإنسانِ: مَعرِفةُ مُوجِدِهِ، وغايةِ وجودِهِ، وحَقِّ مُوجِدِهِ -وهو اللهُ- عليه؛ وذلك أنَّ هذا هو دعوةُ جميعِ الرسل؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]، وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦].
وبيانُ الحقِّ يكونُ بأخذِهِ مِن أصولِهِ والتدليلِ عليه به، وبيانُهُ يكونُ بلا جدالٍ ولا مراء؛ فإنَّ الجدالَ والمراءَ الزائدَ عن البَيِّنة يُورِثُ العنادَ والمكابَرة، ويُحدِثُ في نفوسِ المخالِفِينَ العِزَّةَ بالإثمِ حتى وإنِ استبانوا الحقَّ.
فمِن الناسِ مَن يقولُ الخطأَ بِلا قَنَاعة، فإذا جادَلَه أحدٌ عانَدَ وكابَر؛ فيكونُ جِدَالُه تَثْبيتًا للخطأِ في نَفْسِه! ومِثلُ هذا يبيَّنُ له الصوابُ ويُترَكُ بلا جِدال.
1 / 15
وقد نهَجَ الأئمَّةُ مِن السلفِ بيانَ الحقِّ والبعدَ عن الجدالِ الزائد فيه، وقد قيل لمالك: الرجُلُ له عِلْمٌ بالسُّنَّةِ يجادِلُ عنها؟ قال: "لا، ولكنْ يُخبِرُ بالسُّنَّة؛ فإنْ قُبِلَ منه، وإلَّا سكَتَ" (١).
وإيضاحُ الحقِّ بلا جدالٍ ولا مراءٍ زائدٍ عن الحُجة، يُبقِي في قلبِ المخالِفِ قبَسًا منه وإنْ لم يُظهِرْ قَبُولَه، وربَّما حمَلَهُ ذلك على المراجَعةِ في السِّرِّ؛ تهيُّبًا من الرجوع في العَلَن؛ فللنَّفْسِ سُلْطانٌ وعِزَّةٌ لا يَغلِبُها بالحقِّ إلا النُّدْرةُ مِن أصفياءِ الناس.
والواجبُ على المتكلِّم: بيانُ الحقِّ بحُجَّتِهِ بما يَفهَمُهُ السامعُ والقارئُ بلا تكلُّف، مع الأخذِ في الحُسْبانِ: المعانِدُ، وضعيفُ الفَهْم، والتفريقُ بينهما؛ فإنَّ بعضَ مَن يَعجِزُ عن الفهم، يظُنُّ أنَّ القائلَ يَعجِزُ عن التعبير؛ وهذا يُمكِنُ تقريبُهُ بالرِّفْق، ويُمكِنُ أن يُبعَدَ فيَصنَعَ منه الإبعادُ معانِدًا بالشِّدَّة.
ولم يَزَلِ العلماءُ يعرِّفونَ الإنسان ويذكِّرونَهُ بذلك، ويعرِّفونَهُ بحقِّ ربِّه عليه، وذلك في كلِّ بلدٍ، وفي كلِّ زَمَن، ولم تَخْلُ بلدٌ مِن بلدانِ الإسلامِ مَشرِقًا ومَغرِبًا مِن مبلِّغٍ عن اللهِ مُقِيمٍ للحُجَّةِ على الخلق؛ وهذا مقتضى حفظِ اللهِ لدينِهِ أنْ سخَّر له حَفَظةً يَحفَظُونَهُ ويبلِّغونه.
وفي المغرِبِ أئمَّةٌ على آثارٍ مِن سلفٍ؛ فقد نَزَلَها صحابةٌ وتابعون، وأئمَّةٌ مهتدون، وأخَذَ عنهم أهلُها، ومنهم أبو محمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ أبي زيدٍ القَيْرَوَانيُّ، وله كتبٌ على آثارٍ مِن السلفِ في الأصولِ والفروع، ومنها كتابَاهُ: "الرِّسَالة"، و"الجامِع"، وقد أبان فيهما اعتقادَ السلفِ في
_________
(١) "جامع بيان العلم" (١٧٨٤).
1 / 16
مَعرِفةِ اللهِ وحقِّه على عبادِه، وقد تعدَّى نفعُ كتبِهِ أهلَ بلدِهِ؛ فانتفَعَ بها أهلُ المشرِقِ والمغرِب.
هذا؛ وقد زُرْتُ القيروانَ عامَ ثلاثةٍ وثلاثينَ وأربعِ مِئَةٍ وألفٍ، وكان في أهلِها حبٌّ للعلمِ وحرصٌ على تلَقِّيهِ فيما كان مِن مجالسَ في جامعِ القَيْرَوانِ: (عُقْبةَ بنِ نافعٍ)، وغيرِه.
وقد رَغِبَ إليَّ بعضُ مَن لَقِيتُ: شرحَ معتقَدِ ابنِ أبي زيدٍ، وبيانَ ما عليه أسلافُهُ مِن الأئمَّةِ المهديِّينَ مِن الصحابةِ والتابعينَ، وما عليه الإمامُ مالكٌ وأصحابُهُ؛ خاصَّةً مِن أهلِ المغرِبِ الذين لا يَختلِفُونَ عن طَبَقَتِهم مِن الأئمَّةِ في شيءٍ مِن الأصولِ إلا باختلافِ الأَرْض، وتباعُدِ القُطْر.
وقد كان التعليقُ على مقدِّمة "الرِّسَالة"؛ مِن غيرِ إطالةٍ تُمِلّ، ولا اختصارٍ يُخِلّ، حتى يتحقَّقَ المقصود، ومِن اللهِ التوفيقُ والتسديد.
وصلَّى اللهُ وسلَّم على النبيِّ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين
عبد العزيز الطَّرِيفي
1 / 17
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين، مستوجِبِ كمالِ الشكرِ لتفرُّدِهِ بالنِّعَمْ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِ ولَدِ آدَمَ المبعوثِ لجميعِ الأُمَمْ:
أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ توفيقَ الإنسانِ يكونُ بمقدارِ علمِهِ وصدقِهِ فيه؛ فلا ينالُ التوفيقَ إلَّا بالعلمِ بالحَقّ، وكمالُ التوفيقِ إصابةُ الحقِّ عن علمٍ به، وذلك أنه قد يُصِيبُ الإنسانُ الحقَّ وهو جاهلٌ؛ وذلك بالصُّدْفةِ والتقليد، ومَن أصاب الحقَّ بالصُّدْفةِ والتقليدِ لا يثبُتُ عليه، وإنما يتغيَّرُ بحسَبِ عواملِ الصُّدْفةِ وسَيْرِ المتبوعينَ وما يَلحَقُهُ مِن خوفٍ أو طمَعٍ في طريقِه.
وقد ينشأُ الإنسانُ في بلدٍ أو مجتمَعٍ ويكونُ على ما كان عليه مَنشَؤُه، وقد يُصيبُ الحقَّ وقد لا يُصيبه، وقد يُصيبُهُ عن علمٍ، وقد يُصيبُهُ عن جهلٍ، كما أنه قد يُخطِئُهُ عن علمٍ، وقد يُخطِئُهُ عن جهلٍ.
* فضلُ العلم وأفضَلُه:
ولا يَختلِفُ الناسُ على فضلِ العلم، وأنَّ زيادةَ اليقينِ تكونُ -من بينِ ما تكون- بمقدارِ زيادةِ العلم، وأعظَمُ مراتبِ اليقينِ اليقينُ بالله، ففضلُ العلومِ بفضلِ المعلوم، وأفضَلُ العلومِ نوعان:
الأوَّل: العلمُ بالمعبودِ؛ وهو اللهُ تعالى.
الثاني: العلمُ بحقِّ المعبودِ، وحقُّه: أن يُعبَدَ وَحدَه بما شرَعَ؛
1 / 19
فالعبادةُ هي الصلةُ التي تكونُ بين العابِدِ ومعبودِه، والمخلوقِ وخالقِه.
وأدنى دَرَكاتِ الجَهْلِ: الجهلُ بالمعبود، ثُمَّ الجهلُ بعبادتِه؛ فمَن كان جاهلًا بالله، صرَفَ العبادةَ لغيرِ الله، ومَن كان عالِمًا بالله، وجاهلًا بالعبادةِ، عبَدَ اللهَ بغيرِ ما شَرَع، ومَن كان جاهلًا بالعبادةِ والمعبود، وقَعَ في الشركِ والبدعةِ كِلَيْهما.
وقد أوجَدَ اللهُ الإنسانَ في الأرض، وجعَلَ له عقلًا لِيُبْصِرَ به دنياه، وأنزَلَ إليه النقلَ (الوَحْيَ) ليُبْصِرَ به دِينَه؛ فمَن عطَّل العقلَ، فسَدَتْ دنياه؛ كما تفسُدُ دنيا المجنون، ومَن عطَّل النقلَ، فسَدَ دِينُهُ؛ كما يفسُدُ دِينُ المحرِّفينَ وأهلِ الأهواء، ومَن أبصَرَ فسادَ دنيا فاقدِ العقل، عرَفَ كيف يكونُ فسادُ دِينِ فاقِدِ النقل.
* حفظُ العقلِ والنقلِ:
وقد فطَرَ اللهُ الإنسانَ على الاحترازِ ممَّا يُفسِدُ عقلَهُ مِن الأمراضِ والعِلَلِ؛ حتى لا تؤثِّرَ على دنياه، وبمثلِ ذلك جاءت حِيَاطةُ النقلِ مِن الأهواءِ والبِدَعِ؛ حتى لا تؤثِّرَ على الدِّين، ولكنْ لما كانت لَذَّةُ الدنيا عاجِلةً، ومتعةُ الآخرةِ آجِلةً، غلَبَ على الناسِ حمايةُ الدنيا أكثَرَ مِن حمايةِ الدين.
وقد وصَفَ اللهُ مَيْلَ الإنسانِ وحبَّه للذةِ العاجلةِ في مواضع؛ قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ [القيامة: ٢٠]، وقال: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ﴾ [الإنسان: ٢٧]، وقال: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ﴾ [الإسراء: ١٨].
فالنفسُ ميَّالةٌ للمتعةِ العاجلةِ؛ فإنَّ المتعةَ العاجِلةَ تسلُبُ الحواسَّ وتَجذِبُها إليها؛ ولهذا أمَرَ اللهُ بعدمِ مدِّ البصَرِ إليها حتى لا تَجذِبَهُ وتَحرِفَهُ، وقد قال اللهُ لنبيِّه المعصومِ: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
1 / 20
أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: ١٣١]، والتوسُّعُ بالمتعةِ العاجلةِ يُنسِي النعيمَ الآجِلَ؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: ١٨].
وسَيْرُ الإنسانِ لتحقيقِ المتعةِ الدنيويَّةِ والاكتفاءُ بذلك، قَدْرٌ يُشارِكُهُ فيه الحيوانُ؛ كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد: ١٢]، بل إنَّ الحيوانَ أكمَلُ في تحقيقِ كمالِ متعتِهِ مِن الإنسان، ولكنَّ اللهَ اختصَّ الإنسانَ بالعبوديَّة له؛ وهي التي يُفارِقُ الإنسانُ بها الحيوان؛ ولهذا فإنَّ اللهَ إذا ذكَرَ الإنسانَ في القرآنِ ذكَرَهُ مذمومًا، وإذا وصفَهُ بالإيمانِ مدَحَهُ.
وقد أنزَلَ اللهُ الوحيَ ليحفظَ العقولَ مِن سطوةِ النفوسِ واستبدادِها على الإنسان.
* فضلُ قُرْبِ الزمانِ والمكانِ الأوَّلِ:
وأصحُّ الناسِ اعتقادًا وأسلَمُهم فهمًا: أصحابُ القرونِ الثلاثةِ الأُولى؛ لقولِهِ ﷺ: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)، وقد أنزَلَ اللهُ الوحيَ على نبيِّه ﷺ بلسانٍ عَرَبيٍّ مُبِين، وكان وضعُهُ على وضعِ قُرَيْشٍ ولسانِهم، وأقرَبُ الناسِ إلى الحَقِّ وفهمِهِ: مَن تحقَّق فيه القُرْبانِ مِن الوحيِ:
القربُ الأوَّلُ: قربُ الزمان.
والقربُ الثاني: قربُ المكان.
وقد كان طُلَّابُ الحقِّ في القرونِ الأُولى يعظِّمونَ أهلَ الفقهِ في الحجاز، ويقدِّمونَ فَهْمَهم:
1 / 21
فكلَّما كان الواحدُ منهم أسبَقَ زمنًا وأقرَبَ مكانًا، كان أقرَبَ إلى الصوابِ مِن غيرِه؛ لأنَّ الوحيَ نزَلَ بين أظهُرِهم وبلسانِهِم أو لسانِ مَن حَوْلَهم.
وكلَّما تقادَمَ الزمانُ، وتباعَدَ المكان، ضَعُف اللسان.
وقد يُوجَدُ صحيحُ الاعتقادِ بعيدَ المَنزِل، وقريبُ المَنزِلِ فاسدَ الاعتقاد.
* المَغرِبُ في زمَنِ الصحابةِ والتابعين:
دخَلَ الإسلامُ المَغرِبَ في خلافةِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، ثُمَّ توسَّع في خلافةِ مَن بعدَهُ؛ كعُثْمانَ، ثُمَّ في إمارةِ مُعاوِيةَ، ويَزِيدَ، وعبدِ المَلِكِ بن مَرْوانَ:
فإنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ قد بعَثَ عَمْرَو بنَ العاصِ، وعُثْمانُ بعَثَ عبدَ اللهِ بنَ أبي السَّرْح، ومعاويةُ بعَثَ رُوَيفِعَ بنَ ثابتٍ، ومعاويةَ بنَ حُدَيْجٍ، وعبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيْرِ، وعُقْبةَ بنَ نافعٍ، وجاء يزيدُ وأتَمَّ أمرَ عُقْبةَ بنِ نافعٍ.
وكلُّ أولئكَ المبعوثينَ صحابةٌ؛ إلا عُقْبةَ، فمولودٌ زمَنَ النبيِّ ﷺ؛ وبه دخَلَ الإسلامَ عامَّةُ المَغرِبِ الأدنى والأوسَط، حتى بلَغَ محيطَهُ الأَطْلَسِيَّ، ومما اشتَهَر عنه قولُهُ: "اللَّهُمَّ، اشْهَدْ أَنِّي قَدْ بَلَغْتُ المَجْهُودَ، وَلَوْلَا هَذَا البَحْرُ، لَمَضَيْتُ فِي البِلَادِ أُقَاتِلُ مَنْ كَفَرَ بِكَ؛ حَتَّى لَا يُعْبَدَ أَحَدٌ دُونَكَ" (١).
ثم اتسَعَ الإسلامُ بعدُ بيَدِ زُهَيْرِ بنِ قيسٍ، وموسى بنِ نُصَيْرٍ، وطارقِ بنِ زيادٍ؛ حتى جاوَزَتِ الأَنْدَلُسَ إلى جنوبِ فَرَنْسَا.
_________
(١) "رياض النفوس" (١/ ٣٩).
1 / 22
وكلُّ هذا قبلَ تمامِ المئةِ مِن الهِجْرة.
وقد دخَلَ بلدانَ المغربِ جماعةٌ مِن الصحابةِ فاتحين، وقد سمَّى أهلُ السِّيَرِ خلقًا منهم متفرِّقين؛ يقرُبُونَ أو يزيدون على خمسينَ نَفْسًا، وقد أخرَجَ ابنُ عبد الحَكَمِ عن سُلَيْمانَ بنِ يَسَارٍ؛ قال: "غَزَوْنَا إفريقيَّةَ معَ معاويةَ بنِ حُدَيْجٍ، ومعنا بَشَرٌ كثيرٌ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ مِن المهاجِرِينَ والأنصارِ" (١).
وأمَّا التابعونَ: فخلقٌ كثيرٌ لا يُحصَوْنَ، وقد ارتحَلَ إلى المَغرِبِ جماعةٌ مِن فقهاءِ التابِعينَ ممَّن سَمِعَ أو أدرَكَ جماعةً مِن أصحابِ النبيِّ ﷺ-كابنِ عبَّاس، وابنِ عُمَر، وعبدِ اللهِ بنِ عمرو، وطبقتِهم -لنشرِ العلمِ في المغرِبِ؛ كحَيِّ بنِ مَوْهَبٍ المَعَافِرِيِّ، وحِبَّانَ بنِ أبي جَبَلةَ القُرَشيِّ، وإسماعيلَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ القُرَشيِّ، وبكرِ بنِ سَوَادةَ الجُذَاميِّ، وعبدِ الرحمنِ بنِ رافعٍ التَّنُوخِيِّ، وعبدِ اللهِ بنِ يزيدَ المَعَافِرِيِّ، وإسماعيلَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ أبي المُهاجِر، وجُعْثُلِ بنِ عاهانَ الرُّعَيْنِيِّ، وسعدِ بنِ مسعودٍ التُّجِيبِيِّ، وطَلْقِ بنِ جَعْبانَ الفارسيِّ.
وهؤلاءِ أرسَلَهم عمرُ بن عبدِ العزيزِ لتعليمِ أهلِ المغرِب.
وكذلك في المغرِبِ مِن التابعينَ: عبدُ اللهِ بن أبي بُرْدةَ القُرَشيُّ، وعُلَيُّ بن رَبَاحٍ اللَّخْميُّ.
وعامَّةُ هؤلاءِ سكَنَ القَيْرَوانَ بلدَ ابنِ أبي زيدٍ، وأكثَرُهم تُوُفِّيَ فيها، وخَلَفَهم في ذلك تلامذتُهم، وكان السلفُ يسمُّونَ القيروانَ بإفريقيَّةَ، وقد قال مالك: "تُوُفِّيَتْ حَفْصةُ عامَ فُتِحَتْ إفريقيَّةُ" (٢)؛ يريدُ: القيروانَ،
_________
(١) "فتوح مصر" (ص ٢٢٠).
(٢) "تاريخ أبي زرعة" (٤٨٩ و١٢٨٢).
1 / 23
وهكذا في "المدوَّنة" إذا أُطلِقَ إفريقيَّةُ، فالمراد بها: القَيْرَوانُ؛ لأنها أظهَرُ مَعَالِمِها وعَوَامِرِها (١).
* السُّنَّةُ والأثَرُ وعلمُ الكلامِ في المَغرِب:
وكان الناسُ في إفريقيَّةَ والمَغرِبِ على السُّنَّةِ والأثَر، ولمْ تَظهَرْ فيهم البِدَعُ متمكِّنةً، ولا علمُ الكلامِ والفلسفةُ، وقد كان الفيلسوفُ أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ الطُّفَيْلِ القَيْسيُّ في القرنِ السادسِ يصفُ نُدْرةَ الفلسفةِ في المغرِبِ بأنها أعدَمُ مِن الكِبْرِيتِ الأحمَر (٢)، وكانتِ المغربُ آخِرَ بلدانِ الإسلامِ يَنتظِمُ فيها علمُ الكلام، وقد كانت بلدانُ الإسلامِ على جهاتٍ ثلاثٍ:
الأُولى: بلادُ المَشرِقِ؛ وهي: مِن عِرَاقِ العجَمِ إلى خُرَاسانَ وما وراءَها، وهي موضعُ الفلاسفةِ في الإسلام، وفيها ظهَرَ علمُ الكلامِ، ودخَلَ في تقريرِ مسائلِ الدِّين؛ كأقوالِ الجَهْمِ بنِ صَفْوانَ، والجَعدِ بنِ دِرْهَمٍ، وهي مَوطِنُ الفارابيِّ، وابنِ سِينَا، وابنِ مِسْكَوَيْهِ، وهي موطنُ الأئمَّةِ المتكلِّمينَ؛ كابنِ فُورَكَ، وأبي إسحاقَ الإِسْفَرايِينيِّ، وأبي القاسمِ القُشَيْرِيِّ، والجُوَيْنِيِّ، والغَزَاليِّ.
الثانية: بلادُ المَغرِبِ؛ وهي: المغرِبُ الأدنى؛ وتُسمَّى إفريقيَّةَ، وهي القيروانُ وما حولَها، والمغرِبُ الأقصى؛ وهي الأَندَلُسُ وما وراءَها.
الثالثةُ: ما بينَهما؛ وهي: جزيرةُ العرَبِ وما اتصَلَ بها مما بين
_________
(١) "حاشية العدوي بهامش شرح مختصر خليل" (٣/ ١٨٦).
(٢) "حي بن يقظان" (ص ٢٠).
1 / 24