Al-Khulasah fi Tadabbur al-Qur'an al-Karim
الخلاصة في تدبر القرآن الكريم
ناشر
دار الحضارة للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٧ هـ - ٢٠١٦ م
اصناف
كتاب
الخلاصة
في تدبر القرآن الكريم
1 / 1
"ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله، وتدبره بقلبه؛ وجد فيه من الفهم والحلاوة والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره"
ابن تيمية
1 / 4
المقدمة
الحمد لله الذي جعل كتابه موعظةً وشفاء لما في الصدور، والصلاة والسلام على من نزل عليه الكتاب تبيانًا لكلِّ شيء، وهدًى ورحمة وبشرى للمسلمين، أما بعد:
فإن الله تعالى حَمِدَ نَفسَه على إنزال هذا القرآن العظيم فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾ (الكهف: ١، ٢)، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان: ١)، وجعله مُيَسَّرًا للأفهام: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: ١٧)، ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: ١٩٥)، وضَمَّنَه ألوان الهدايات: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: ٩)، ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: ٨٩)، وجعله في غاية التأثير: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ (الحشر: ٢١)، ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ (الرعد: ٣١)، ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (الزمر: ٢٣)، ودعا عباده إلى تدبُّره: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
(ص: ٢٩)، وأنكر على من لم يرفع بذلك رأسًا: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (النساء: ٨٢، محمد: ٢٤)، ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾ (المؤمنون: ٦٨)؛ في أربع آيات من القرآن الكريم؛ وذلك دليلٌ على عظيم
1 / 5
شأن التدبر، وجلالة قدره؛ إذ إنه الطريق لِتَعَقُّل معاني القرآن، والاعتبار بأمثاله وزواجره، والتأدُّب بآدابه، والامتثال لأوامره، والاتعاظ بمواعظه.
ومن هنا كانت هذه الرسالة التي أكتبها لنفسي أولًا؛ لتكون باعثةً على تحقيق هذا المطلب، ثم لإخواني المسلمين؛ تواصيًا بالحقِّ والصبر.
وقد تناولتُ فيها جملةً من الجوانب المهمَّة المتعلِّقة بهذا الباب الشريف؛ من جهة بيان حقيقته، وما له من تعلُّق ببعض المعاني المُقارِبة، مع بيان أركانه، وأنواعه، وشروطه، وموانعه. ولم أقصد الاستيعاب؛ إذ بعضُ القول قد يغني اللبيبَ عن تطويل العبارة، كما حرَصت على تضمينه كثيرًا من عبارات أهل العلم؛ ليقفَ القارئ عليها ويكونَ ذلك أنفعَ لمن أراد أن يُلقيَ درسًا أو يكتب في هذا الموضوع.
واللهَ أسألُ أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ومُقَرِّبًا إلى مرضاته، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
خالد بن عثمان السبت
٠٥/ ٠٩/١٤٣٦ هـ
khaled ٢٢٢٤@gmail.com
1 / 6
بيان معنى التدبر
١ - التدبُّر في اللغة:
التَّدَبُّر: مصدر (تَدَبَّر)، وأصل هذه المادة: (د ب ر) يدل على آخر الشيء وخَلْفِه (١)؛
يقال: دَبَر السهمُ الهدفَ: سقط خلفه، ودَبَر فَلانٌ القوم: صار خلفهم (٢).
وقد اشتقوا من (الدُّبُر) فعلًا، فقالوا: تَدَبَّر: إذا نظر في دُبُر الأمر؛ أي: في غائبه أو عاقبته (٣).
فهو من الأفعال التي اشتُقَّت من الأسماء الجامدة (٤).
ودُبُر كل شيء: عَقِبُه ومُؤَخَّرُه.
ومنه (الدُّبُر) خلاف القُبُل، وفي الحديث: «لا تدابروا» (٥)؛ وذلك أن يترك كلُّ واحد منهما الإقبالَ على صاحبه بوجهه (٦)؛ أي: لا يُوَلِّ بعضكم بعضًا دبره (٧).
قال أبو عُبيد: «التدابر: المُصَارَمة والهجران؛ مأخوذ من أن يُوَلِّي الرجلُ صاحبَه دُبُرَه وقفاه، ويُعْرِض عنه بوجهه» (٨).
_________
(١) ينظر: مقاييس اللغة (مادة: دبر)، (٢/ ٣٢٤).
(٢) ينظر: المفردات ص: ١٦٤ (مادة: دبر).
(٣) ينظر: معاني القرآن للزجاج (٢/ ٨٢)، تفسير البغوي (١/ ٥٦٦)، تفسير الكشاف (١/ ٥٤٦).
(٤) ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (٥/ ١٣٧).
(٥) رواه البخاري (٦٠٦٥، ٦٠٧٦)، ومسلم (٢٥٥٨، ٢٥٥٩)؛ من حديث أنس ﵁، وجاء أيضًا من حديث أبي هريرة وأبي بكر ﵄.
(٦) ينظر: مقاييس اللغة (مادة: دبر)، (٢/ ٣٢٤).
(٧) ينظر: معاني القرآن للزجاج (٢/ ٨٢)، تفسير القرطبي (٥/ ٢٩٠).
(٨) غريب الحديث لأبي عبيد (٢/ ٢٣٢).
1 / 7
ويُقال: أدبر القوم: مضى أمرهم إلى آخره (١).
ودَبَر القومُ يَدْبُرون دَبارًا: إذا هلكوا (٢).
ودَبِرَ البعير دَبَرًا، فهو أدبر: صار بِقَرْحِه دَبِرًا؛ أي: متأخرًا (٣).
ومنه: دُبُر الشهر: آخره.
ودابر الشيء: آخره.
ودُبُر الأمر: آخره.
والدَّبَار: الهلاك الذي يقطع دابرتهم (٤).
ويُقال: فلان ما يدري قِبَالَ الأمر من دِبَارِه؛ أي: أوَّلَه من آخره.
ومن ذلك: ﴿وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ (ق: ٤٠)؛ أي: أواخر الصلوات (٥).
ومنه قيل للنحل: (الدَّبْر)؛ لأنه يُعْقِب ما يُنتفع به (٦)، أو لأن سلاحها في أدبارها (٧).
وهكذا قيل للمال الكثير: (الدِّبْر)؛ لأنه يبقى للأعقاب (٨).
_________
(١) ينظر: تفسير القرطبي (٥/ ٢٩٠).
(٢) ينظر: معاني القرآن للزجاج (٢/ ٨٢).
(٣) ينظر: المفردات ص: ١٦٥ (مادة: دبر).
(٤) ينظر: السابق ص: ١٦٥. (مادة: دبر).
(٥) ينظر: السابق ص: ١٦٤. (مادة: دبر).
(٦) ينظر: معاني القرآن للزجاج (٢/ ٨٢).
(٧) ينظر: المفردات ص: ١٦٥ (مادة: دبر).
(٨) ينظر: معاني القرآن للزجاج (٢/ ٨٢).
1 / 8
ويُقال: دَبَّر الأمر وتَدَبَّره؛ أي: نظر وتَفَكَّر في عاقِبَتِهِ (١).
ويُقال: اسْتَدْبَرَه؛ أي: رأى في عاقبته ما لم يره في صدره (٢).
ويُقال: عرف الأمر تَدَبُّرًا؛ أي: بأَخَرَة.
ومنه قول جرير:
ولا تَتَّقُونَ الشَّرَّ حتّى يُصيبَكُم ... ولا تعرفونَ الأمرَ إلا تَدَبُّرَا (٣)
قال أَكْثَمُ بنُ صَيفيٍّ لبنيه: «يا بَنِيَّ، لا تَتَدَبَّروا أعجاز أمور قد ولّت صُدُورُها» (٤).
والتدبير في الأمر: أن تنظر إلى ما تؤول إليه عاقبته (٥)، فهو بمعنى التفكير في دُبُر الأمور (٦)، وذلك بأن يُدَبِّر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته (٧).
ولذا قيل: هو النظر في العواقب بمعرفة الخير، أو إجراء الأمور على علم العواقب (٨).
_________
(١) ينظر: معاني القرآن للزجاج (٢/ ٨٢)، الكشاف (١/ ٢٨٤)، تفسير القرطبي (٥/ ٢٩٠)، تفسير الخازن (١/ ٥٦٣)، نظم الدرر للبقاعي (٥/ ٣٤٠).
(٢) ينظر: تاج العروس، (فصل الدال من باب الراء) (مادة: دبر)، (١١/ ٢٦٦).
(٣) ديوان جرير ص: ٤٧٩.
(٤) ينظر: تفسير الرازي (١٠/ ١٩٦)، تفسير النيسابوري (٢/ ٤٥٥)، اللسان (٤/ ٢٧٣)، تاج العروس (١١/ ٢٦٥).
(٥) ينظر: (اللسان ٤/ ٢٧٣) (مادة: دبر)، تاج العروس (١١/ ٢٦٥).
(٦) ينظر: المفردات ص: ١٦٥.
(٧) ينظر: فتح القدير (١/ ٧٨١).
(٨) ينظر: التعريفات ص: ٥٦.
1 / 9
والتدبير: عِتق العبد عن دُبُر؛ وهو أن يقول له: أنت حرٌّ بعد موتي (١)، ويقال للعبد: مُدَبَّر.
ويقال: إن فلانًا لو استقبل في أمره ما استدبره لهُدي لوِجْهَةِ أمرِه؛ أي: لو علم في بَدْءِ أمرِه ما عَلِمَه في آخره لاسترشد لأمره (٢).
ومما تقدم يُعْلَم أن أصل التدبُّر: التأمُّل والتفكُّر في أدبار الأمور وعواقبها؛ أي: فيما لا يظهر منها للمُتَأَمِّل بادئ ذي بَدْء (٣).
ثم استُعمل في كل تَأَمُّل (٤)، سواء كان نظرًا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه (٥).
٢ - التدبُّر بمعناه العام:
التدبر في الأمر: التفكر فيه (٦)؛ أي: تحصيل المعرفتين لتحصيل معرفة ثالثة (٧).
وهو بمعنى قول بعضهم: «إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نُصبت له» (٨)
_________
(١) ينظر: المفردات (مادة: دبر) ص: ١٦٥، التعريفات ص: ٥٦، تاج العروس (فصل الدال من باب الراء) (مادة: دبر)، (١١/ ٢٦٥).
(٢) ينظر: اللسان (٤/ ٢٧٣)، تاج العروس (١١/ ٢٦٦).
(٣) ينظر: تفسير الرازي (١٠/ ١٩٦)، تفسير الخازن (١/ ٥٦٣)، تفسير النيسابوري (٢/ ٤٥٦)، روح المعاني (٥/ ٩٢)، التحرير والتنوير لابن عاشور (٥/ ١٣٧) (١٨/ ٨٧).
(٤) ينظر: تفسير الكشاف (١/ ٥٤٦)، تفسير الخازن (١/ ٥٦٣)، فتح القدير (١/ ٧٨١)، روح المعاني (٥/ ٩٢).
(٥) ينظر: روح المعاني (٥/ ٩٢).
(٦) ينظر: اللسان (٤/ ٢٧٣)، مختار الصحاح ص: ١٠١.
(٧) ينظر: تاج العروس (١١/ ٢٦٥).
(٨) ينظر: التحرير والتنوير (١٨/ ٨٧).
1 / 10
أي: تَصَرُّف القلب بالنظر في الدلائل (١)، وهذا تفسير له بالتفكر.
وبعضهم يفرق بينهما؛ باعتبار أن التدبر: تَصَرُّف القلب بالنظر في العواقب، وأما التفكر: فتَصَرُّفه بالنظر في الدليل (٢).
وعبَّر عنه بعضهم بأنه: التفكر في عاقبة الشيء وما يؤول إليه أمره (٣).
وهو بمعنى قول من فَسَّره بالنظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء (٤).
وهما تعريفان مُتقَارِبان، والله أعلم.
٣ - معنى تدبُّر القرآن خاصَّة (المعنى الشرعي):
هناك تعريفات متعددة لتدبر القرآن وبينها تقارب؛ فمن ذلك:
- قال في الكشاف: «معنى تدبر القرآن: تأمل معانيه وتَبَصُّر ما فيه» (٥).
وقال: «وتدبر الآيات: التفكر فيها، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يَدْبُر ظاهرَها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة؛ لأن من اقتنع بظاهر المتلوِّ لم يَحْل منه بكثير طائل، وكان مَثَلُه كمَثَل من له لِقْحَة دَرُورٌ لا يحلبها، ومُهْرَة نَثُورٌ لا يستولدها» (٦).
_________
(١) ينظر: الكليات ص: ٢٨٧.
(٢) ينظر: التعريفات ص: ٥٦.
(٣) ينظر: تفسير الخازن (٦/ ١٨٢).
(٤) ينظر: المحرر الوجيز (٢/ ٦١٢)، التعريفات ص: ٥٦.
(٥) الكشاف (١/ ٥٤٦).
(٦) السابق (٣/ ٣٧٢).
1 / 11
- وقال القرطبي: «هو التفكر فيه وفي معانيه» (١).
- وقال الخازن: «ومعنى تدبر القرآن: تَأَمُّل معانيه، وتَفَكُّر في حِكَمِه، وتَبَصُّر ما فيه من الآيات» (٢).
- وقال أبو حيان: «هو التفكر في الآيات، والتَّأَمُّل الذي يُفْضِي بصاحبه إلى النظر في عواقب الأشياء» (٣).
- وقال ابن القيم: «هو تَحْدِيق نَاظِر القلب إلى معانيه، وجَمْع الفكر على تَدَبُّره وتَعَقُّله» (٤).
- وقال السعدي: «هو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك» (٥).
- وقال ابن عاشور: «هو تَعَقُّب ظواهر الألفاظ؛ لِيُعْلَم ما يَدْبُر ظواهرَها من المعاني المكنونة والتأويلات اللائقة» (٦).
- وقال عبدالرحمن حبنَّكة: «هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة» (٧).
_________
(١) تفسير القرطبي (٥/ ٢٩٠).
(٢) تفسير الخازن (١/ ٥٦٣).
(٣) البحر المحيط (٧/ ٣٧٩).
(٤) مدارج السالكين (١/ ٤٥١).
(٥) تفسير السعدي (ص ١٩٣).
(٦) التحرير والتنوير (٣/ ٢٥٢).
(٧) قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله (ص ١٠).
1 / 12
- وقيل: هو التفكر والتَّأَمُّل لآيات القرآن من أَجْل فهمه، وإدراك معانيه، وحِكَمه، والمراد منه.
- وقيل: هو تَفَهُّم معاني ألفاظه، والتفكر فيما تدل عليه آياته مُطَابَقَة، وما دخل في ضمنها، وما لا تتم تلك المعاني إلا به مما لم يُعَرِّج اللفظ على ذِكْره من الإشارات والتنبيهات، وانتفاع القلب بذلك بخشوعه عند مواعظه، وخضوعه لأوامره، وأخذ العِبْرَة منه.
ويجمع ذلك: النظر إلى ما وراء الألفاظ من المعاني والعِبَر والمقاصد، الذي يثمر العلوم النافعة والأعمال الزاكية.
وإنما ذكرت هذه الجملةَ الأخيرة؛ لأنه قد ورد عن جماعة من السلف تفسير التدبر بالعمل والامتثال وما إلى ذلك مما يقع في القلب، ويظهر على الجوارح، ولا ريب أن هذا يكون أعلى مراتب التدبر، وإلا فقد يحصل ببعض ذلك كما لا يخفى.
٤ - ذكر بعض عبارات المفسِّرين في معنى التدبر:
من عبارات المفسرين في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (النساء: ٨٢، محمد: ٢٤)، وقوله تعالى: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ (ص: ٢٩):
- ابن جرير: «أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه ﵊، ويتفكرون في حُجَجِه التي بينها لهم في تنزيله؟ !» (١).
_________
(١) تفسير الطبري (٢١/ ٢١٥).
1 / 13
- البغوي: «أفلا يتفكرون في القرآن؟ !» (١).
- ابن الجوزي: «ليتفكروا فيها» (٢).
- القرطبي: «أي: يتفهمونه» (٣).
- الخازن: «يتفكرون فيه وفي مواعظه وزواجره» (٤).
- أبو حيان: «أي: فلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي ولا يعرضون عنه؛ فإنه في تدبره يظهر برهانه ويسطع نوره، ولا يظهر ذلك لمن أعرض عنه ولم يتأمله» (٥).
- البقاعي: «أي: يتأملون» (٦).
- الشوكاني: «أفلا يتفهمونه ...» (٧).
- ابن عاشور: «يتأملون دلالته ...» (٨).
وبهذا نعلم أن كلامهم يدور على إعمال الفكر والنظر بالتأمل والتفهم في آي القرآن الكريم للتوصل إلى معانيه ومقاصده. والله أعلم.
_________
(١) تفسير البغوي (١/ ٥٦٦).
(٢) زاد المسير (٢/ ١٤٤).
(٣) تفسير القرطبي (١٦/ ٢٤٦).
(٤) تفسير الخازن (٦/ ١٨٢).
(٥) البحر المحيط (٣/ ٣١٧).
(٦) نظم الدرر للبقاعي (٥/ ٣٤٠).
(٧) فتح القدير (٥/ ٤٦)
(٨) التحرير والتنوير (٥/ ١٣٧).
1 / 14
العلاقة بين التدبر وما يقاربه من الألفاظ
أولًا: علاقته بالتفسير:
إن أصل مادة (التفسير) تدور على الكشف والبيان؛ يقال: فسَّر الكلام؛ أي: أبان معناه وأظهره، فهو إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التَّجَلِّي (١).
وأما في الاصطلاح: فهو علم يُبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية (٢).
وبناء على ذلك، يقال في العلاقة بين التفسير والتدبر: بأن بينهما ملازمة؛ وذلك أن التوصل إلى مراد الله تعالى من كلامه يحتاج إلى تدبر ونظر وتأمل، كما أن التدبر يتوقف على معرفة المعنى. والله أعلم.
ثانيًا: علاقته بالتأويل:
التأويل يأتي لمعنيين (٣):
الأول: بمعنى التفسير؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ (الكهف: ٧٨)، وقوله: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ (الكهف: ٨٢)، وقوله: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ (آل عمران: ٧)؛ على أحد الأوجه في التفسير.
_________
(١) ينظر: مقاييس اللغة (كتاب الفاء، باب الفاء والسين وما يثلثهما) (٤/ ٥٠٤)، الصحاح (مادة: فسر) (٢/ ٧٨١)، المصباح المنير (مادة: فسر) ص: ٣٨٥، واللسان (مادة: فسر) (٥/ ٥٥)، المفردات (مادة: فسر)، ص: ٣٨.
(٢) ينظر: قواعد التفسير (١/ ٢٩).
(٣) وذلك هو المعهود في القرآن، وفي كلام العرب. وللمتأخرين إطلاق ثالث لا حاجة لذكره هنا.
1 / 15
فتأويل القرآن بمعنى تفسيره، وهو المراد بقوله ﷺ في دعائه لابن عباس ﵄: «وعَلِّمْه التأويل» (١).
وهكذا تأويل الرؤيا يأتي بمعنى تفسيرها؛ كما في قوله تعالى: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ (يوسف: ٣٦)، وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ (يوسف: ٦)، وقوله: ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ (يوسف: ٢١)، وقوله: ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ (يوسف: ٤٤)، وقوله: ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ (يوسف: ١٠١)، وقوله: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾ (يوسف: ٤٥)؛ فهذا كله بمعنى تفسير الرؤيا.
الثاني: بمعنى ما يصير إليه الشيء في ثاني حال؛ فتأويل الخبر بوقوع المُخْبَر؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ (الأعراف: ٥٣)، وقوله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ (يونس: ٣٩).
وهكذا يُعَبَّر بـ (التأويل) في الرؤيا بمعنى تحقق الوقوع، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ﴾ (يوسف: ١٠٠).
كما ورد بمعنى العاقبة؛ ومن ذلك قوله تعالى في موضعين من القرآن: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (النساء: ٥٩، الإسراء: ٣٥).
_________
(١) رواه أحمد في المسند (٢٣٩٧، ٢٤٢٢، ٢٨٧٩، ٣٠٣٢، ٣١٠٢).
1 / 16
وهكذا يُعبر بـ (التأويل) عن امتثال المأمور، ومن ذلك حديث عائشة ﵂: كان النبي ﷺ يُكْثِر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي»؛ يتأَوَّل القرآن (١).
بعد ذلك يمكن أن يُقَال بأن التأويل له تَعَلُّق بالتدبر باعتبار الإطلاقين السابقين، وبيان ذلك: أن تَعَلُّقه به من جهة إطلاقه مُرادًا به التفسير لا يخفى؛ إذ القول فيه كالقول في التفسير.
وأما وجه تَعَلُّقه بالتأويل إذا أُريد به المعنى الآخر: فإن ذلك يكون بالامتثال والعمل والتطبيق، وذلك من المعاني الداخلة تحت التدبر، إضافة إلى التفكر فيما يؤول إليه الإنسان، وما يقع في الدنيا والآخرة مما وعد الله به أهل طاعته وأهل معصيته، والله أعلم.
ثالثًا: علاقته بالبيان:
البيان: من بان الشيء: إذا اتضح وانكشف.
هذا من حيث الجملة، ويتقيَّدُ معناه بحسب مُتَعَلَّقِه، والمقصود هنا: ما يتعلق بالتدبر؛ وذلك بإطلاق البيان على ما يُشْرَح به المُجْمَل والمُبْهَم ويُكْشَف به عن المعنى، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: ١٩)، وقوله: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: ٤٤) (٢).
والقول فيه بهذا الاعتبار كالقول في التفسير من جهة المُلازَمة بينه وبين التدبر.
_________
(١) رواه البخاري (٨١٧، ٤٩٦٨)، ومسلم (٤٨٤).
(٢) ينظر: مقاييس اللغة (كتاب الباء، باب الياء وما يثلثهما) (١/ ٣٢٨)، والمفردات (مادة: بان) ص: ٦٩.
1 / 17
رابعًا: علاقته بالاستنباط:
ترجع مادة (الاستنباط) إلى الاستخراج (١)؛ قال ابن جرير ﵀: «وكل مُسْتَخرِج شيئًا كان مُسْتترًا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب، فهو له مُسْتَنْبِط» اهـ (٢).
وبناء على ذلك، فإن الاستنباط من القرآن يكون بمعنى استخراج المعاني والأحكام وألوان الهدايات في العقائد والسلوك وغير ذلك، وهذا يكون نتيجة للتدبر كما لا يخفى، وهو قدر زائد على مجرد فهم اللفظ والكشف عن معناه، والله أعلم.
قال ابن القيم ﵀: «وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم، ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعِلَل، ونِسْبة بعضها إلى بعض، فيُعْتَبَر ما يَصِحّ منها بصحة مِثْلِه ومُشْبِهه ونَظِيره، ويُلْغَى ما لا يَصِحّ. هذا الذي يَعْقِله الناس من الاستنباط.
قال الجوهري: «الاستنباط: كالاستخراج» (٣)، ومعلوم أن ذلك قَدْر زائد على مُجَرّد فَهْم اللفظ؛ فإن ذلك ليس طَرِيْقُه الاستنباط؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تُنَال بالاستنباط، وإنما تُنَال به العِلَل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم، والله سبحانه ذَمّ من سمع ظاهرًا مُجَرَّدًا فأَذَاعَه وأَفْشَاه، وحَمِد من استنبط من أُولي العلم حقيقتَه ومعناه.
_________
(١) ينظر: السابق (كتاب النون، باب النون والباء وما يثلثهما) (٥/ ٣٨١).
(٢) تفسير الطبري (٨/ ٥٧١).
(٣) انظر: الصحاح (باب الطاء، فصل النون) (مادة: نبط) (٣/ ١١٦٢).
1 / 18
ويُوَضِّحه: أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يَخْفَى على غير مُسْتَنْبِطه، ومنه: استنباط الماء من أرض البئر والعين، ومن هذا قول علي بن أبي طالب ﵁ وقد سئل: هل خَصَّكم رسول الله ﷺ بشيء دون الناس؟ فقال: «لا، والذي فَلَق الحَبّة، وبَرَأ النَّسَمَة؛ إلا فَهْمًا يُؤْتِيه الله عبدًا في كتابه» (١).
ومعلوم أن هذا الفَهْم قَدْر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه؛ فإن هذا قَدْر مُشْتَرك بين سائر من يَعْرِف لغة العرب، وإنما هذا فَهْم لَوَازِم المعنى ونظائره، ومُرَاد المُتَكَلِّم بكلامه، ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المُرَاد، ولا يَخْرُج منها شيء من المراد ...» اهـ (٢)، ثم ذكر أمثلة لذلك.
خامسًا: علاقته بالفهم:
الفهم: قيل: هو تصور المعنى من اللفظ، وقيل: هيئة للنفس يتحقق بها ما يَحْسُن (٣).
وبناء على ذلك، فإن الفهم يكون نتيجة للتدبر، كما أنه يكون وسيلة لما وراء ذلك من المعاني الداخلة تحت التدبر، فإن من التدبر ما لا يكون إلا بعد الفهم، والله أعلم.
وبهذا نعلم أن بين التدبر والفهم ملازمة، ولا يخفى أن الناس يتفاوتون في الفهم تفاوتًا كبيرًا، وكلٌّ يحصل له من التدبر بحسبه.
_________
(١) أخرجه البخاري (١١١، ٣٠٤٧، ٦٩١٥).
(٢) إعلام الموقعين عن رب العالمين (٢/ ٣٩٧).
(٣) ينظر: القاموس (باب الميم، فصل الفاء) (٤/ ١٦٢)، المعجم الوسيط (مادة: فهم) (٢/ ٧٠٤).
1 / 19
سادسًا: علاقته بالتَّفَكُّر:
ظهر جليًّا من خلال عرض عبارات أهل العلم في التدبر بمعناه العام، أو الخاص، وما ذكره المفسرون عند تفسير الآيات المتعلقة بذلك- أن الكثيرين يُفَسِّرون التدبر بالتفكر؛ وذلك لما بينهما من المُقَاربة الشديدة، وقد فَرَّق بعضهم- كما سبق- بأن التدبر: تَصَرُّف القلب بالنظر في العواقب، وأما التفكر: فَتَصَرُّفه بالنظر في الدلائل.
والذي يظهر أنهما يرجعان إلى معنًى واحد في الأصل، وقد يَفْتَرِقان في بعض المعاني الدِّلَالية الخاصة بكل لفظة؛ وذلك أن كلمة (التدبر) تحمل معنى زائدًا، وهو (دُبُر الشيء، وعاقبته)، ومن هنا جاء التفريق السابق بينهما.
ولا يخفى أن الواقع في الاستعمال أوسع من ذلك؛ حيث صار يُعَبَّر بكلٍّ منهما من غير مراعاة لِمُتَعَلَّق النظر في كل لفظة، والله أعلم.
1 / 20
فضله وشرفه
معلوم أن شرف الشيء بشرف مُتَعَلَّقِه، ولما كان التدبر يتعلق بكتاب الله تعالى، صار من أشرف الأمور وأَجَلِّها وأفضلها.
للتدبر من النتائج والثمرات ما هو في غاية النفع كما سيأتي.
قال الآجري ﵀: «والقليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه وتدبُّره، أحبُّ إليَّ من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك، والسنة، وأقوال أئمة المسلمين» (١).
التدبر شأن العَالِمِين الذين يعقلون آيات الله ويتفهمونها.
أهمية التدبر
يمكن أن نستبين أهمية التدبر من وجوه عدة؛ منها:
أن الله تعالى جعل ذلك مقصودًا من إنزاله؛ كما في قوله: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ص: ٢٩).
قال الشيخ محمد الأمين الشِّنقيطي ﵀ تعليقًا على هذه الآية: «وأمَّا كون تَدبُّر آياته، من حِكَم إنزاله: فقد أشار إليه في بعض الآيات، بِالتَّحْضِيضِ على تَدبُّره، وتوبيخ من لم يتدبره؛ كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: ٢٤)، وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (النساء: ٨٢)، وقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ (المؤمنون: ٦٨)» اهـ (٢).
_________
(١) أخلاق أهل القرآن ص: ١٦٩.
(٢) أضواء البيان (٦/ ٣٤٥).
1 / 21
أن الله تعالى أنكر على من لم يتدبره؛ كما في قوله ﷿: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (النساء: ٨٢)، وقوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: ٢٤).
قال الشيخ الشنقيطي ﵀ تعليقًا على هذه الآية: «ومعلوم أن كلَّ من لم يشتغل بتدبُّر آيات هذا القرآن العظيم- أي: تَصَفُّحِها وتَفَهُّمِها، وإدراك معانيها والعمل بها- فإنه مُعْرِض عنها، غير متدبِّر لها؛ فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهمًا يقدر به على التدبر، وقد شكا النبي ﷺ إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن؛ كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ (الفرقان: ٣٠).
وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتَفَهُّمَه وتَعَلُّمَه والعمل به، أمر لا بد منه للمسلمين.
وقد بين النبي ﷺ أن المشتغلين بذلك هم خير الناس؛ كما ثبت عنه ﷺ فِي الصحيح، من حديث عثمان بن عفان ﵁، أنه ﷺ قال: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» (١)، وقال تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران: ٧٩).
فإعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتَفَهُّمه والعمل به وبالسنة الثابتة المُبَيِّنة له، من أعظم المناكر وأشنعها، وإنْ ظن فاعلوه أنهم على هدى ...» (٢).
_________
(١) رواه البخاري (٥٠٢٧).
(٢) أضواء البيان (٧/ ٢٥٧).
1 / 22