Al-Insaaf wal-Itidaal ‘ind al-Haafidh adh-Dhahabi
الإنصاف والاعتدال عند الحافظ الذهبي
ناشر
نادي المدينة المنورة الأدبي
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٦ هـ - ٢٠١٥ م
اصناف
محتويات البحث
بين يدي البحث.
لماذا اخترت الذهبي؟
الذهبي في سطور.
منهجي في البحث وصعوباته والدراسات السابقة.
الفصل الأول: إنصافه في تراجمه.
الفصل الثاني: تحذيره من سفك الدماء.
الفصل الثالث: ذمه الشديد للخوارج وإنصافه في الحكم عليهم.
الفصل الرابع: تحذيره من المسارعة إلى التكفير بغير برهان قطعي.
الفصل الخامس: تحذيره من التكفير بسبب الاختلاف في فروع العقائد.
الفصل السادس: تحذيره من التبديع والتضليل لأجل زلة أو هفوة.
الفصل السابع: دفاعه عن الأئمة والتماس الأعذار لهم.
الفصل الثامن: دعوته إلى وجوب المحافظة على الأخوة برغم الخلاف.
الفصل التاسع: تقريره بأن كلام الأقران يطوى ولا يروى.
الفصل العاشر: دعوته إلى ترك الإغراق في صراعات التاريخ وإشعال نار العداوات بسببها.
1 / 7
الفصل الحادي عشر: تمييزه بين مستويات البدعة وتفرقته بين الغلاة وغيرهم.
الفصل الثاني عشر: تقريره بأن العبرة في الرواة الصدق والإتقان وإن تلبسوا ببدعة.
الفصل الثالث عشر: نقده كثرة الخوض في مضائق العقائد وتفصيلاتها الدقيقة.
الفصل الرابع عشر: نهيه عن القول بالمسائل الشاذة والغريبة.
الفصل الخامس عشر: توسطه في مسألة الاجتهاد والتقليد.
الفصل السادس عشر: نقده لعلل وأدواء طلبة العلم.
الفصل السابع عشر: دعوته إلى ترك التحدث بمسائل العلم التي تضرّ العامة.
الفصل الثامن عشر: تحذيره من الغلو في العبادات.
الفصل التاسع عشر: توقيره للنبي ﷺ بين الغلو والجفاء.
الفصل العشرون: توسطه في مسألة الأسماء والصفات.
1 / 8
بين يدي البحث
لعل من أبرز القضايا التي تشغل المجتمعات الإسلامية اليوم، قضية نقد الفكر الديني المتطرف وتفكيك بنيته، بعد أن اكتوت كثيرٌ من أقطاره بنيرانه، وتسبب في مزيد من أزماته واختناقاته داخليًا وخارجيًا على مرّ العصور.
إن نقد الفكر الديني المتطرف وإضعافه له أدوات مختلفة ووسائل متنوعة، منها: مواجهته بما يقابله من الفكر الوسطي المعتدل لدي كبار علماء الأمة وأعلامها، ممن يحظون باحترام وثقة وثقل وتقدير بين المسلمين. وقد رأيت أن أسلط الضوء في بحثي هذا على أحد أبرز هؤلاء الأعلام ممن عرفوا بقصدهم واعتدالهم ووسطيتهم وسعيهم للم الشمل والتماس الأعذار ونقدهم لكثير من أفكار الغلو والتطرف البعيدة عن تعاليم الإسلام السمحة وقيمه النبيلة. هذا العالم هو: الإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، المتوفى سنة ٧٤٨ هـ رحمه الله تعالى.
1 / 9
من الذهبي ولماذا اخترته؟
وربما تساءل البعض: لماذا اخترت الذهبي من بين سائر الأئمة؟
وجوابًا عن هذا السؤال أقول: إن منهج الاعتدال والوسطية هو السِّمة الغالبة على علماء الأمة منذ صدر الإسلام وعبر عصوره حتى يومنا هذا إلا من شذ وندر.
وإنما اخترت الذهبي لأسباب ثلاثة:
السبب الأول: يعود إلى أن الذهبي قد ترك لنا في هذا الباب تقعيدات مهمة وتأصيلات قيّمة، تجدر دراستها وإدارة حديث جاد حولها للإفادة منها.
السبب الثاني: أن هذه التأصيلات والتقعيدات صادرةٌ عن إمام كبير، وحافظ ناقد قدير، قد عرف علمه العلماء ودان لمكانته المحدثون والفقهاء، فضلًا عمّا عُرف به من الديانة والورع، فكلامه له وزنه وقيمته وتأثيره، وإن كنّا لا ندعي العصمة له ولا لغيره من علماء المسلمين.
1 / 11
السبب الثالث: أن الذهبي ﵀ لم يترك لنا في موضوع الاعتدال والوسطية كتابًا مستقلًا أو فصلًا مفردًا، وإنما هي تعقيبات وتعليقات متفرقة كان يبثها وينثرها في مختلف كتبه كلّما عنّت لها حاجة أو طرأت لها مناسبة.
إن الإمام الحافظ الذهبي لم يكن مجرد مؤرخ ينقل أخبار من تَقَدّم فحسب، بل كان كثيرًا ما ينقد ما ينقل ويعقّب ويعلّق على كل ما لا يراه صحيحًا أو مخالفًا للشرع أو العقل أو خارجًا على حدّ الذوق العام أو ما فيه مبالغة ومجازفة ظاهرة، فضلًا عن نقده للكثير من الكتب والمصادر التي يطالعها وينقل عنها.
ولعل هذه الخصلة هي أهم ما تتجلى فيه قيمة كتب الحافظ الذهبي، أعني هذه التعليقات والتعقيبات والتصويبات التي كان يبثها بين الحين والآخر، وإلا فإن ما يذكره من معلومات وحوادث قد تكون متاحة في بقية كتب التراجم والتاريخ الأخرى.
ولأجل هذه الأسباب كلها جاءت هذه المحاولة المتواضعة من كاتب هذه السطور في جمع ما تفرق من كلام الذهبي ولم شتاته
1 / 12
وتبويبه وتوثيقه فيما يخص موضوع الإنصاف والاعتدال فحسب، وإن كنت لا أزعم الاستيعاب والتقصي، وقد تكون فاتتني بعض المواضع مما هو من طبع البشر.
1 / 13
الذهبي في سطور (^١):
ولعله من المفيد قبل أن نبحر مع الإمام الذهبي وأفكاره أن نعرّف به أولًا ولو بشكل مختصر جدًا، ونوضّح شيئًا من مكانته العلمية الرفيعة.
وإن شئتم الحق فالتعريف بالذهبي يطول جدًا، والكلام عن علمه وفضله قد يكون له بداية وليس له نهاية. وباختصار أقول: الذهبي هو:
١ ــ الإمام الحافظ الناقد المؤرخ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي الدمشقي الشافعي.
٢ ــ كان مولده في مدينة دمشق سنة: ٦٧٣ هـ، وعلى ترابها نشأ وترعرع وطلب العلم.
٣ ــ طوَّف الإمام الذهبي في مختلف البلدان والأقطار، والتقى بأكثر شيوخ العالم الإسلامي في وقته وأخذ عنهم، وقد عرّف
_________
(^١) ترجم للذهبي كل من عاصره أو جاء بعده من أصحاب التراجم والسير، وقد أفرد ترجمته في كتب مستقلة غير واحد من الباحثين المعاصرين، ولعل من أجمعها، كتاب: الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام، للدكتور بشار عواد معروف، وكتاب: الحافظ الذهبي مؤرخ الإسلام، لعبد الستار الشيخ.
1 / 15
بشيوخه هؤلاء في مؤلف ضخم مطبوع في مجلدين كبيرين، سماه: "معجم الشيوخ"، وله كتاب آخر اقتصر فيه على شيوخه في الحديث، سماه: "المعجم المختص بالمحدثين".
٤ ــ بَرَع الإمام الذهبي في العديد من العلوم، وتقلّد مناصب علمية رفيعة، وانصبّ اهتمامه الأكبر على فنون الحديث والتاريخ ونقد الرواة، وحول هذه الموضوعات الثلاثة أخرج أروع كتبه ومؤلفاته.
٥ ــ تجاوزت مؤلفات الذهبي الثلاثمائة مؤلف، ما بين مطول ومختصر ومتوسط الحجم، ومن أشهر مؤلفاته: مدونته الكبرى: "تاريخ الإسلام"، والتي تجاوزت الخمسين مجلدًا، وكتابه "سير أعلام النبلاء"، الذي طبع في خمس وعشرين مجلدًا ضخمًا، و"تذكرة الحفاظ"، و"ميزان الاعتدال في نقد الرجال" وغيرها من المؤلفات.
٦ - تبوأ الذهبي منزلة رفيعة في علم الحديث والتاريخ، ويكفي أن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (٨٥٢ هـ)، صاحب "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، وهو من هو في العلم والحفظ والمعرفة، ذكر
1 / 16
أنه شرب من ماء زمزم سائلًا الله ﷿ أن ينال مرتبة الذهبي وبراعته في الرسوخ في العلم (^١).
٧ ــ وقد أثنى على الذهبي وأشاد بعلمه وفضله كلُّ من عاصره أو جاء بعده من أهل العلم والمؤرخين، كعَلَم الدين البرزالي (٧٣٩ هـ)،، وصلاح الدين الصَّفدي (٧٦٤ هـ)، والحُسيني (٧٦٥ هـ)، وابن السبكي (٧٧١ هـ)، وابن كثير (٧٧٤ هـ)، وابن ناصر الدين الدمشقي (٨٤٢ هـ)، والحافظ ابن حجر العسقلاني (٨٥٢ هـ)، وبدر الدين العيني (٨٥٥ هـ)، والسخاوي (٩٠٢ هـ) وجلال الدين السيوطي (٩١١ هـ)، والعلامة الشوكاني (١٢٥٠ هـ)، وغيرهم ممن يطول ذكرهم، ولا أرى حاجة لنقل كلامهم طلبًا للاختصار والإيجاز (^٢).
٨ ـــ ومع أن الذهبي عاش في عصر كثر فيه الجمود الفكري والتعصب المذهبي إلا أنه استطاع التخلص من كثير من ذلك بفضل سعة علمه وفطنته وبعد نظره وإنصافه.
_________
(^١) نقل ذلك غير واحد، منهم: السيوطي في كتابه: طبقات الحفاظ، ص ٥٥٢، والكتاني في: فهرس الفهارس والأثبات ١/ ٣٢٢.
(^٢) انظر بعض هذا الثناء في التقدمة التي كتبها العلامة بشار عواد لكتاب: تاريخ الإسلام ١/ ٦٥، وسير أعلام النبلاء ١/ ٦٩ كلاهما للذهبي.
1 / 17
وقد أشار إلى هذه الخصلة الحميدة فيه تلميذُه المؤرخ الناقد صلاح الدين الصَّفدي (ت ٧٦٤ هـ) عندما قال عنه: "لم أجد عنده جمود المحدثين ولا كودنة (^١) النقلة، بل هو فقيه النظر، له دُربة بأقوال الناس ومذاهب الأئمة من السلف وأرباب المقالات" (^٢).
_________
(^١) الكودنة: البطء والثقل كما في المعجم الوسيط، ٢/ ٧٨٠ مادة " كدن".
(^٢) الوافي بالوفيات للصفدي، ٢/ ١٦٣. وينظر أيضًا شعيب الأرنؤوط وآخرين، مقدمة سير أعلام النبلاء، ١/ ٥٣.
1 / 18
منهجي في البحث وصعوباته والدراسات السابقة:
وأما عن منهجي في البحث: فقد قمت بجمع ما وقفتُ عليه من كلام الحافظ الذهبي مما يخصّ موضوع الكتاب فحسب (^١)، ثم صنّفت كلامه ووثّقته وبوّبته ووضعت له ما يناسبه من عناوين جانبية.
ولم أر داعيا لإطالة البحث أو إثقال حواشيه بشرح كلام الذهبي أو نقل ما يشهد له من النصوص أو من كلام الأئمة إلا في القليل النادر. فكلام الذهبي واضح جدًا، ولو فتحت باب الشرح والتعليق لطالت ذيول البحث وتشعبت فصوله وخرج عن مقصوده.
أيضًا قد يكرر الذهبي بعض الآراء والأفكار في مواطن عدة من كتبه بحسب الحاجة والمناسبة، وفي هذه الحال قد أكتفي ببعض الشواهد من كلامه، وأترك الأخرى خشية الإطالة.
_________
(^١) للذهبي تعليقات وتعقيبات كثيرة، منها ما يتعلق بمسائل علمية كالحكم على الرواة ونقد المرويات، أو إبداء رأي في مسألة فقهية أو عقدية أو حديثية، أو تعليقات تتعلق ببعض الآداب ونحوها، لكني لم أقيّد هنا إلا ما يختص بموضوع الإنصاف.
1 / 19
وعلم الله أني قد اضطررت في سبيل جمع هذه المادة إلى مطالعة وجرد معظم كتب الذهبي الكبار، من أمثال مدونته الكبرى: تاريخ الإسلام بمجلداتها التي زادت على الخمسين مجلدًا، وكتابه العظيم: سِيَر أعلام النبلاء، وكتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال، ومعجم الشيوخ الكبير، والمعجم المختص بالمحدثين، والعِبَر في أخبار من غَبَر، وتذكرة الحفاظ، وبيان زَغَل العلم.
هذه أهم كتب الذهبي، وقد تكون له تعليقات في ثنايا كتبه الأخرى، لكني أتصور ندرتها فتركتها، والله أعلم.
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الباحثين كان قد سبقني في جمع شيء من كلام الذهبي وتعليقاته، لكني وجدتها كتبًا عامة جمعت من كلام الذهبي وآراءه قضايا متنوعة، تتعلق بالآداب والسلوك وضرورة لزوم سنة النبي ﷺ ومحبته وتعظيم العلماء، أو كلامًا يتعلق بتحقيق مسائل في السيرة أو التاريخ أو العقيدة أو الفقه، فضلًا عن كونها لم تستقرء كتب الذهبي وقد فاتها الشيء الكثير.
هذا وقد كنت عزمت على تسمية كتابي هذا بالوسيطة في
1 / 20
فكر الحافظ الذهبي، لكني عدلت إلى تسميته بـ "الإنصاف والاعتدال في فكر الحافظ الذهبي" لأني رأيت الذهبي نفسه قد استعمل هذه العبارة عندما ذكر اختلاف بعض الناس في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ بين غال في حبِّه أو مفرط في بغضه، فقال الذهبي ﵀ معلقًا: «فبالله كيف يكون حال من نشأ في إِقليم، لا يكاد يُشاهد فيه إِلاَّ غاليًا في الحبِّ، مفرطًا في البغض، ومن أين يقع له الإِنصاف والاعتدال؟ فنحمد الله على العافية …» (^١).
ولعلي أختم هذا المقدمة بما ختم به الحافظ الذهبي مقدمة كتابه تاريخ الإسلام عندما قال: (وأنا أرغبُ إلى الله تعالى، وابتهلُ إليه أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يغفر لجامِعة وسامِعه ومطالِعه وللمسلمين، آمين) (^٢).
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ٣/ ١٢٨.
(^٢) تاريخ الإسلام ١/ ١٠.
1 / 21
الفصل الأول إنصافه في تراجمه
لعل من أبرز السمات التي لا تخطئها العين في منهج الإمام الذهبي وفي مسيرته العلمية إنصافه الشديد لكل من ترجم له أو كتب عنه من الأعلام والمشاهير حتى وإن كانوا يختلفون معه في المذهب أو المعتقد.
إن كل من يطالع تراجم الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء أو تاريخ الإسلام أو تذكرة الحفاظ أو ميزان الاعتدال أو غيرها تجده لا يفرق في النقد بين علماء المذاهب وأرباب الطوائف وبيان ما لهم وما عليهم، سواء كانوا ممن يتفقون معه أو يختلفون.
فالذهبي ينقل عادة آراء الموافقين والمخالفين في العَلَمِ المترجَم، حتى يقدم صورة متكاملة عنه من كل جانب.
بينما نجد كثيرًا من الكتاب والمؤرخين قديمًا وحديثًا يتأثرون بمذاهبهم ومشاربهم واختلاف توجهاتهم وأمزجتهم عند الحديث عن غيرهم، فيقتصرون إما على التبجيل والمدح
1 / 23
أو على الذم والقدح، بحسب قرب المترجَم أو بعده عن مذاهبهم ومعتقداتهم وقناعاتهم الشخصية.
وشواهد الإنصاف كثيرة في كتب الذهبي، اكتفي منها بثلاثة طلبًا للاختصار.
الشاهد الأول: موقفه من الإمام أبي حامد الغزالي (ت: ٥٠٥ هـ)، صاحب كتاب إحياء علوم الدين، وأحد أبرز منظري الصوفية وزعماء الأشاعرة.
لقد انتقد الإمام الذهبي أبا حامد الغزالي كثيرًا وأبدى جملة من الملحوظات عليه، خاصة في باب التصوف واستدلاله بالأحاديث الضعيفة والموضوعة في كتبه دون علم له بذلك، لكن ولأن الغزالي له جهود كبيرة في نشر علوم الشريعة، والتصدي لكثير من الفرق الضالة والمنحرفة كالباطنية والفلاسفة فقد أنصفه الذهبي وعرف له فضله وقدره وصدّر ترجمته بقوله في السير: «الشيخ الإمام البحر، حجّة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين الدين، أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الشافعي الغزالي صاحب التصانيف والذكاء المفرط» (^١).
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ١٩/ ٣٢٣.
1 / 24
وقال منصفًا كتابه الإحياء: «وأما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثيرٌ، لو لا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علمًا نافعًا» (^١).
وقال أيضًا مدافعًا عن الغزالي: «الغَزالي إمامٌ كبير، وما من شَرط العالِم أنهُ لا يخطئ» (^٢).
وقد ختم ترجمته بقوله: «فرحم الله الإمام أبا حامد، فأين مثله في علومه وفضائله، ولكن لا ندَّعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول» (^٣).
وقد عدَّه من العلماء المجددين في القرن الخامس (^٤).
وما من شك أن موقف الذهبي هذا يعد غاية في الوسطية والاعتدال حيث لم يمنعه نقده للإمام الغزالي في بعض المسائل الشرعية من إنصافه والإقرار بعلمه وفضله، مع تصريحه بأن العالم في المنظور الإسلامي ليس من شرطه أنه لا يخطئ البتة، فليس في الإسلام كهنة ولا أئمة معصومون، وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ١٩/ ٣٣٩.
(^٢) سير أعلام النبلاء ١٩/ ٣٣٩.
(^٣) سير أعلام النبلاء ١٩/ ٢٤٦.
(^٤) تاريخ الإسلام ٢٣/ ١٧٩.
1 / 25
صاحب هذا القبر ﷺ كما يقول الإمام مالك بن أنس (^١).
الشاهد الثاني: موقف الحافظ الذهبي من الإمام ابن حزم الأندلسي الظاهري (ت: ٤٥٦ هـ)، صحاب كتاب المحلى وغيره.
فقد أثنى الذهبي في كتبه على ابن حزم ﵀، ووصفه بالإمامة والحفظ والتدين والتبحر في علوم الدين، مع أنه انتقده في الوقت نفسه بقسوة في مسائل شرعية كثيرة في الأصول والفروع، خاصة في تأثره بعلوم المنطق والفلسفة في باب الاعتقاد، وظاهريته المفرطة في الفقه، ولهجته الحادة في نقد الأئمة.
وقد ترجم الذهبي له في ثمان وعشرين صفحة من القطع الكبير من كتابه سير أعلام النبلاء وختم ترجمته بقوله: (ولي أنا ميل إلى أبي محمد ـــ يعني ابن حزم ـــ لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أُكفره ولا أُضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسَعَة علومه) (^٢).
_________
(^١) البداية والنهاية ١٤/ ١٦٩.
(^٢) سير أعلام النبلاء ١٨/ ١٨٤.
1 / 26
وفي تصوري أن هذا الموقف من الإمام الذهبي يعد غاية الغايات في باب التسامح والاعتدال والوسطية، والنظر إلى المخالِف بعين الإنصاف، والدعوة إلى عدم التهور في تكفير المسلم ورميه بالضلال لأجل زلّة أو اجتهاد خاطئ في مسألة.
الشاهد الثالث: موقفه من كتاب "الشِّفا في التعريف بحقوق المصطفى" للقاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي، (ت: ٥٤٣ هـ)، ففي ترجمته من السير قال: «تواليفه نفيسة، وأجلها وأشرفها كتاب الشِّفا، لو لا ما حشاه بالأحاديث المُفتعلة، عملُ إمام لا نقد له في فنّ الحديث ولا ذوق، والله يثيبه على حسن قصده، وينفع بشفائه وقد فعل» (^١).
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ٢٠/ ٢١٦.
1 / 27
الفصل الثاني تحذيره من سفك الدماء
لقد كان الحافظ الذهبي ﵀ كثيرًا ما يشدّد في شأن الدماء والأرواح كلما ترجم لشخص عرف باستهانته بها. والنبي ﷺ صحً عنه أنه قال: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا» (^١).
وإن تيسر لك مطالعة كتابه: سير أعلام النبلاء أو مدونته الكبرى: تاريخ الإسلام أو كتابه المختصر: العِبَر بأخبار من غَبَر فسوف تقف على شواهد كثيرة من نقده لكل من تورط في هذا الأمر المريع من أمثال: الحجاج بن يوسف الثقفي (ت: ٩٥ هـ)، وأبي مسلم الخُراساني (ت: ١٣٧ هـ)، الداعية إلى دولة بني العباس، والحاكم بأمر الله العُبيدي (ت: ٤١١ هـ)، حاكم مصر، والمهدي ابن تومرت (ت: ٥٢٤ هـ)، حاكم بلاد المغرب، وطاغية التتار جنكيز خان (ت: ٦٢٤ هـ)، الذي قال الذهبي: «بأن قتل المسلم
_________
(^١) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب بدون عنوان، ٩/ ٢ حديث رقم (٦٨٦٢).
1 / 29
عنده أهون من قتل البرغوث» (^١)!!. وحفيده هولاكو، الذي قال الذهبي: «بأنه سفك دم ألف ألف أو يزيدون» (^٢)!!
ــــــ وقد انتقد الذهبي ﵀ كثرة الأرواح البريئة التي أزهقت عند قيام دولة بني العبّاس، وقال: «فرحنا بمصير الأمر إليهم، ولكن والله ساءنا ما جرى؛ لما جرى من سيول الدِّماء، والسَّبي، والنَّهب، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فالدولة الظالمة مع الأمن وحقن الدماء، ولا دولة عادلة تنتهك دونها المحارم، وأنى لها العدل؟ بَلْ أَتَتْ دَوْلَةً أعجمية خراسانيَّة جبَّارة، ما أشبه الليْلة بالبارحة» (^٣).
ــــــ وقال في موضع آخر: «وفي عصر هذه الطبقة (^٤) تحولت دولة الإسلام من بني أمية إلى بني العباس في العام اثنتين وثلاثين ومائة، فجرى بسبب ذلك التحول سيولٌ من الدماء، وذهب تحت السيف عالَمٌ لا يحصيهم إلا الله بخراسان والعراق والجزيرة والشام، وفعلت العساكر الخراسانية الذين هم المسودة كلَّ قبيح، فلا حول ولا قوة إلا بالله» (^٥).
ــــــ ومن الطريف أن الذهبي ﵀ كان يرى أن الشدة
_________
(^١) سير أعلام النبلاء ٢٢/ ٢٤٣.
(^٢) تاريخ الإسلام ٤٩/ ١٨٣.
(^٣) سير أعلام النبلاء ٦/ ٥٨.
(^٤) يقصد طبقة صغار التابعين.
(^٥) تذكرة الحفاظ ١/ ١٥٨.
1 / 30