الهلال
بقلم أبي عبيدة مشهور آل سلمان
1 / 1
لا ذِكر للهلال في نصوص الوحيين، إلا الهلال الذي هو مواقيت للناس في الحج والصيام في قوله ﷿: ﴿يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج﴾ [البقرة:١٨٩]، وقوله ﷺ: «لا تصوموا الشهر حتى تروا الهلال» (^١) وما ورد في معناه.
ولمَّا كان الهلال هو شعار العثمانيين؛ أصبح الهلال في نظر الكثيرين شعارًا للإسلام، وأما قبل ذلك؛ فلم يكن مشهورًا ولا معلومًا، إلا ما ذكره ابن حجر في «الإصابة» (^٢) في ترجمة (أبي الكنود سعد بن مالك بن الأقيصر بن مالك الأزدي)، قال:
«قال ابن يونس (^٣): وفد على النبي ﷺ، وعقد له راية على قومه، سوداء فيها هلال أبيض، وشهد فتح مصر».
قال ابن حجر: «رواه سعيد ابن عفير عن عمرو بن زهير بن أشيم بن أبي الكنود: أنَّ أبا الكنود وفد ... فذكره».
قلت: سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري من رجال الشيخين، وهو من شيوخ الإمام البخاري، وهو صدوق، أنكِرت عليه أحاديث تفرَّد بها، وكان علَّامة في الأخبار.
انظر: «الجرح والتعديل» (٤/ ٥٦)، «تاريخ ابن يونس» (٥٦٤)، «الميزان» (٢/ ١٥٥).
وعمرو بن زهير بن أشيم لم أجد له ترجمة.
ولا يمكن لمن في طبقة ابن عفير إدراك من روى عن طبقة الصحابة.
ولا يعلم حال من دون ابن عفير؛ فالسند مظلم.
_________
(^١) أخرجه البخاري (١٩٠٦) ومسلم (١٠٨٠) من حديث ابن عمر ﵄.
(^٢) (٤/ ٢٨٥).
(^٣) برقم (٥٣٢).
1 / 2
وأخرج ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٦٢/ ٤١٤) من طريق محمد بن عمرو بن إسحاق بن زبر الحمصي، أخبرنا أبي، حدَّثنا وحشي بن إسحاق بن وحشي بن حرب بن وحشي، حدَّثني أبي إسحاق، عن أبيه وحشي، عن أبيه حرب بن وحشي، عن أبيه وحشي بن حرب: «أنه وفد على رسول الله ﷺ في اثنين وسبعين رجلًا من الحبشة، وأنَّ النبي ﷺ قَوَّدني عليهم، وعقد لي راية صفراء ذراعين في ذراعين، وفيها هلال أبيض وعذبتان سوداوان وبينهما عذبة بيضاء ...» الحديث.
وإسناده مظلم؛ من ابن زبر إلى ابن وحشي بن حرب مجاهيل.
قال عبد الحي الكتاني في «التراتيب الإدارية» (١/ ٣٢٠) موجِّها اتخاذ الهلال شعارًا للمسلمين من خلال هذا الخبر؛ فقال:
«يُؤخذ من هذا أصل رسم صورة الهلال في الراية الإسلامية، وبذلك تعلم ما وقع لصاحب «وفيات الأسلاف»؛ فإنه قال في (ص ٣٨٠): أنَّ وضع رسم صورة الهلال على رؤوس منارات المساجد بدعة، وإنَّما يتداول ملوك الدولة العثمانية رسم الهلال علامة رسميَّة أخذًا من القياصرة، وأصله أنَّ قيليش المقدوني والد الإسكندر الأكبر لما هاجم بعسكره على بزنطية -وهي القسطنطينية- في بعض الليالي؛ دافعه أهلها، وغلبوا عليه، وطردوه عن البلد، وصادف ذلك وقت السحر، فتفاءلوا به واتَّخذوا رسم الهلال في عَلَمِهِم الرسمي تذكيرًا للحادثة، وورث ذلك منهم القياصرة ثم العثمانية لما غَلَبوا عليها، ثم حدث ذلك في بلاد قازان».
قال أبو عبيدة: أمَّا (الراية السوداء)؛ فقد وردت فيها عدة أحاديث (^١)، وبعضها في «السنن»، وجاء في كلام بعض الشُّرَّاح أنَّ فيها بياضًا؛ ففي «عون المعبود» (٧/ ٢٥٤): «قال القاضي: أراد بـ (السوداء) ما غالب لونه سواد؛ بحيث يُرى من البعيد أسود، لا ما لونه سواد خالص؛ لأنه قال: (من نمرة) -بفتح فكسر-؛ وهي بردة من صوف يلبسها الأعراب، فيها تخطيط من سواد وبياض، ولذلك سمِّيت (نمرة) تشبيهًا بـ (النمر)».
وقال الدمياطي في «المختصر في سيرة سيد البشر» (١/ ٣٩): «وكانت ألويَتُه بيضاء، وربَّما جعل منها الأسود، وربَّما كانت من خُمر بعض نسائه ﵅».
وقال ابن حجر في «فتح الباري» (٦/ ١٢٧): «وقيل: كانت له راية تسمَّى (الراية البيضاء)، وربَّما جعل فيها شيء أسود».
ولعلَّ هذا يُحمل على المغايرة بين (الراية) و(اللواء)؛ ففي «مصنف ابن أبي شيبة» (٥/ ٢٨٩) رقم (٩٦٤٣) عن رجل من أهل المدينة: «إنَّ راية النبي ﷺ كانت تكون بيضاء، ولواءه أسود».
وكيفما وجِّهت الأحاديث؛ فإنه لم يرِد في رايات النبي ﷺ وألويته ذِكرٌ للهلال، إلا ما عقَدَه لسعد بن مالك فيما تقدَّم.
1 / 3
نعم؛ كان الهلال يُرفع فوق بعض قصور الملوك قبل العثمانيين، ففي «مسالك الأبصار» (٣/ ١٢٨) ما يدل على رفعه في (القرن السادس الهجري)، ونص عبارته:
«وحدثني الفاضل شجاع الدين عبدالرحمن الخوارزمي التُّرجُمان: أنَّ مدينة السراي بناها بركة قان على نهر توران؛ وهي في أرض سبخة بغير سور، ودار الملك بها قصر عظيم على عليائه هلال من ذهب، زِنَتُه قنطاران بالمصري، ويحيط بالقصر سور به أبراج مساكن لأمرائه، وبهذا القصر مَشتَاهُم.
قال: وهذا النهر يكون قدر النيل ثلاث مرات أو أكثر، وتجري به السفن الكِبار إلى الروس والصَّقلب، وأصل هذا النهر -أيضًا- من بلاد صَقلَب.
قال: وهي -يعني: السراي- مدينة كبيرة ذات أسواق وحمامات ووجوه برٍّ، مقصودة بالأجلاب، في وسطها بركة، ماؤها من هذا النهر يستعمل ماؤها للاستعمال، وأمَّا شُربهم فمن النهر يُستقى لهم في جرار فُخَّار، وتُصفُّ على العجلات، وتُجرُّ إلى المدينة وتباع بها، وبُعْدها عن خوارزم نحو شهر ونصف، وبينها وبين السراي مدينة وحق ومدينة قطلوكنت».
فالهلال معروف قديمًا، ولاسيَّما عند الأعاجم! وشَهَرَته الدولة العثمانية، ولم يثبت ذلك عن النبي ﷺ.
_________
(^١) انظرها: في كتاب «العَلَم النبوي الشريف، وتطبيقاته القديمة والمعاصرة» (ص ٤٩ - ٥٤).
1 / 4
وقد أحسن العلامة أحمد تيمور باشا (^١) لما كشف النِّقاب عن سِرِّ اعتقاد العامَّة في الهلال، وأنَّه شعار الإسلام؛ فقد ذكر اللِّواء الذي سمَّوه بمصر (البَيرَق (^٢) النَّبوي):
«وهو عَلَم كبير من الأعلام التي كانت بالقلعة، أخرجه السيد عمر مكرم نقيب الأشراف للعامَّة عند قيامهم لدفع الفرنسيس عن القاهرة، فسمَّوه بـ (البيرق النبوي)، والظاهر أنَّ بعض قادتهم اختلق لهم ذلك ليزيد في تحمُّسهم فاعتقدوه، وملخَّص خبر هذه الواقعة: أنَّ الفرنسيس لما قصدوا الاستيلاء على مصر سنة ١٢١٣ هـ؛ كان عليها والٍ عثماني ليس له من الأمر شيء على عادة وُلاتهم بها، وكان يحكمها كبيران من الجراكسة مشاركة؛ وهما: إبراهيم بك الكبير ومراد بك، والتصرُّف في أغلب الأمور لمراد بك، وكان أخرق رَهَقًا، من شرِّ أمرائهم وأضرِّهم بظلم الرعيَّة وأجبنهم عند اللقاء، فمن مساويه في ذلك: أنَّه خرج قبل مجيء الفرنسيس للتنزُّه في الريف -أي: الوجه البحري- فعاث فيه، وأفحش في القتل والنهب وإحراق القرى وتشتيت سكَّانها، ثم عاد إلى القاهرة ظافرًا مملوء الوِفَاض بالغنائم بعد أن غادر أكثر قراه يبابًا، فلم يلبث أن بلغه نبأ احتلال الفرنسيس للإسكندرية في المُحرَّم من تلك السنة، وشروعهم في الزَّحف على القاهرة، فخرج إليهم بجنوده من الجراكسة وغيرهم والتقى بهم جهة الرحمانية بالبحيرة، فلم تكن غير مناوشات هيِّنة؛ نكص فيها على عقبيه إلى جهة إمبابة بالشاطئ الغربي للنيل تجاه القاهرة وأخذ يتحصن بها، فلحقه الفرنسيس فلم يَقوَ على لقائهم، وانهزم هو وجنده في أقلِّ من ساعة وفرَّ إلى الصعيد، وفرَّ الوالي العثماني وإبراهيم بك إلى جهة الشام، وتشتَّت بقيَّة الأمراء وتركوا الشِّيَاه للذِّئاب، وكان أهالي القاهرة قاموا قيامًا محمودًا أبانوا فيه عن نخوَة وحميَّة وسخاء بالنفوس والأموال، وساروا إلى بولاق بالشاطئ الشرقي لمساعدة الجنود، فلمَّا وقعت الهزيمة؛ حوَّل الفرنسيس الرَّميَ إلى هذا الشاطئ فشتَّتوهم ودخلوا القاهرة يوم الثلاثاء العاشر من صفر.
وهذا نصُّ ما ذكره الجبرتي عن قيام الأهالي ومسيرهم بهذا العَلَم إلى بولاق قبل ذلك بأسبوع -أي: في يوم الثلاثاء ٣ صفر سنة ١٢١٣ هـ-:
«وفي يوم الثلاثاء نادَوا بالنفير العام وخروج الناس للمتاريس، وكرَّروا المناداة بذلك كلَّ يوم، فأغلق الناس الدكاكين والأسواق، وخرج الجميع لبرِّ بولاق، فكانت كلُّ طائفة من طوائف أهل الصِّناعات يجمعون الدراهم من بعضهم، وينصبون لهم خيامًا أو يجلسون في مكان خَرِب أو مسجد، ويرتِّبون لهم قَيِّمًا يصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم، وبعض الناس يتطوَّع بالإنفاق على البعض الآخر، ومنهم من يجهِّز جماعة من المغاربة أو الشَّوامِّ بالسلاح والأكل وغير ذلك، بحيث إنَّ جميع الناس بذلوا وُسعَهم وفعلوا ما في قوَّتهم وطاقتهم، وسمحت نفوسهم بإنفاق أموالهم فلم يَشِحَّ في ذلك الوقت أحد بشيء يملكه، ولكن لم يسعفهم الدَّهر، وخرجت الفقراء وأرباب الأشائر بالطبول والزُّمور والأعلام والكاسات وهم يَضِجُّون ويصيحون ويذكرون بأذكار مختلفة، وصعد السيد عمر أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بَيرقًا كبيرًا سمَّته العامَّة (البيرق النبوي)؛ فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وأمامه وحوله أُلوف من العامَّة بالنبابيت والعِصِيِّ يهلِّلون ويكبِّرون ويُكثِرون من الصِّيَاح، ومعهم الطُّبول والزُّمور وغير ذلك» اهـ.
قلنا: وما زال في عوامِّ المصريين من يعتقد بأن العَلَم العثماني ذا الهلال والنجم مُتَّخذ على مثال العَلَم النبوي، ولهذا تضاعف تألُّمهم لمَّا غُيِّر في مصر بالعَلَم ذي الأهلة والأنجم الثلاثة بعد إعلان انفصالها من الدولة العثمانية إبَّان الحرب الكبرى الواقعة أواخر سنة ١٣٣٢ هـ، ولعلَّ منشأ هذا الاعتقاد: ظنُّهم أنَّ شارات دولة الخلافة تُقتبس عادة من شارات نبويَّة، على أنَّهم في ذلك ليسوا بأَوغَل في الوَهم من كثير من خاصَّة المسلمين وعامَّتهم في عدِّهم الهلال رمزًا دينيًّا، له عند المسلمين ما للصليب عند النصارى، وما كان -قَطُّ- كذلك، وإنَّما حُبِّب إلى مسلمي العُصور الأخيرة وعَظُم لديهم؛ لكونه شارة للعَلَم في آخر دولة أدركوها من دولة الخلافة».
_________
(^١) في كتابه «الآثار النبوية» (ص ١٠٠ - ١٠٢).
(^٢) (البيرق) لفظ تركي، وأصله في هذه اللغة (بيراق) أو (بايراق)، ومعناه: اللواء والراية. (أحمد تيمور)
1 / 5
قال أبو عبيدة: ذاع هذا الاعتقاد لسائر الناس هذه الأيام، ولم يَعُد مُقتصرًا على المصريِّين، ويظهر آثار ذلك في (الأهلة) التي تُنصب على البيوت وفي الأماكن العامة في المناسبات الدينية، وأراها -إبَّان تدوين هذه السطور- على أسطِحَة البيوت والشبابيك بمناسبة دخول شهر رمضان (^١).
وخُلاصة الأمر وزُبدَتُه: أنَّ الهلال لم يكن شعارًا للمسلمين في زمن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين، ولا في عصر الأمويين، ولا العباسيين، وإنَّما عرف بعد ذلك، ولم يقتصر المسلمون على معرفته؛ وإنَّما كان يعرفه البيزنطيون.
مستلٌّ من (الملحق الرابع) الذي وضعته آخر تحقيقي لترجمة العلَّامة تقي الدين الهلالي لكتاب «مدنية المسلمين في إسبانيا» (ص ٢٦٣ - ٢٧٠) لجوزيف ماك كيب.
_________
(^١) سنة ١٤٣٩ هـ.
1 / 6