Al-Hanifiya and the Arabs - Among al-Muallimi's Works
الحنيفية والعرب - ضمن «آثار المعلمي»
تحقیق کنندہ
عدنان بن صفا خان البخاري
ناشر
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
ایڈیشن نمبر
الأولى
اشاعت کا سال
١٤٣٤ هـ
اصناف
الرسالة الرابعة
الحنيفيَّة والعَرَب
6 / 139
الحَنيفيَّة والعَرَب
الحنيفيَّة مِلَّة إبراهيم ﵇، وبقيت بعده في ابنَيْه إسماعيل وإسحاق وذريَّتهما. فأمَّا إسحاق فكان ابنه يعقوب ــ وهو إسرائيل ــ نبيًّا، وجرى له مع بَنِيه ما جرى.
وكان يوسف بن يعقوب نبيًّا، وبسببه صار يعقوب وذريَّته إلى مصر، وبها مات. ثم مات يوسف، وبقي بنو إسرائيل هناك مضطهدين، حتى بعث الله تعالى موسى وهارون.
وأخبار بني إسرائيل مع موسى تدلُّ على أنَّ دينهم قد ضعُف جدًّا، مع أنَّه ليس بين وفاة يوسف ومبعث موسى إلَّا نحو مائة سنة.
ثم أنزل الله تعالى على موسى التوراة، وصارت له شريعةٌ مستقلَّة، ولكن بني إسرائيل لم يكادوا ينتفعون بها! أنجاهم الله من فرعون، فمرُّوا بقومٍ يعبدون أصنامًا، فقالوا لموسى: ﴿اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾! [الأعراف: ١٣٨].
ثم دعاهم موسى إلى قتال عدوٍّ لهم، وأخبرهم أنَّ الله تعالى وعَدَهُم النَّصر، فقالوا لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾! [المائدة: ٢٤].
وعبدوا العِجْل، وفعلوا الأفاعيل.
وبعد موسى ﵇ بقليلٍ ارتدُّوا وعبدوا الأوثان، ثم أظهروا التوبة، ثم عادوا.
6 / 141
وهكذا، لم يكد الدِّين يستقرُّ فيهم، مع أنَّ الله تعالى لم يَزَل يبعث فيهم بعد موسى نبيًّا بعد نبيٍّ، وقد يجتمع في وقتٍ نبيَّان أو أكثر، ولم يكد ذلك يؤثِّر فيهم.
بل كذَّبوا كثيرًا من الأنبياء، وآذوهم، وقتلوا بعضهم، وكان يتنبأُ فيهم رجال ونساء، يماشون أهواءهم، فيصدِّقون الكاذب، ويكذِّبون الصَّادق، حتى بعث الله تعالى عيسى، فكذَّبوه وأرادوا قتله.
وأمَّا إسماعيل فإنَّ أباه أسكنه في بلاد العرب بمكَّة المكرَّمة، فنَشَأ بها، وبنى مع أبيه الكعبة البيت الحرام، وتزوَّج إسماعيل من العرب، ونَشَأ بنوه عَرَبًا، واستجاب من العرب للحنيفيَّة من استجاب.
وبقاء البيت معمورًا، والحرمِ معظَّمًا، وما عُرِف عن العرب قاطبةً أنَّهم لم يزالوا يعظِّمون مكَّة والبيت، ويحجُّونه، سواء منهم من كان من ذريَّة إسماعيل، ومن كان من غيرهم = يدلُّ على ذيوع الحنيفيَّة في العرب ورسوخها.
وقد قامت الأدلَّة ــ كما يأتي ــ على أنَّ الدِّين الحقَّ بقي في عرب الحجاز وما حولها فوق عشرين قرنًا بعد إبراهيم ﵇، ثم غيَّروا أشياء، وبقوا متمسِّكين بأشياء، حتى بعث الله خاتم أنبيائه، محمدًا ﷺ.
في «مجموعة كتب أهل الكتاب»، الترجمة المطبوعة ببيروت سنة ١٨٧٠ م (^١)، في الفقرة (١٠ - ١١)، من الإصحاح الثاني، من «سفر أرميا»،
_________
(^١) في مقدِّمة الطبعة المعرَّبة الحديثة أنَّ هذه الطبعة انتهوا من إصدارها عام ١٨٨١ م، ولكنَّهم أعادوا النَّظر في هذه التَّرجمة عام ١٩٤٩ م، فأخرجوها في ترجمةٍ أفضل من حيث الأسلوب والتَّراكيب، مع العناية بفنِّ الطباعة، وأتمُّوا العمل فيها عام ١٩٨٠ م.
وقد بيَّنتُ الفروق المهمَّة الظَّاهرة بين نصِّ التَّرجمة عند المؤلِّف ممَّا يخالف التَّرجمة الحديثة المشار إليها.
6 / 142
في صَدَد توبيخه اليهودَ على عبادة الأصنام: «لذلك أخاصمكم بعد. يقول الربُّ: وبني نبيِّكم أخاصم، فاعبروا جزائر كتيم، وانظروا، وأرسلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًّا، هل صار مثل هذا؟ هل بدَّلت أمَّةٌ آلهةً، وهي ليست آلهةً؟ أمَّا شعبي [يعني: بني إسرائيل] فقد بدَّل مجده بما لا ينفع» (^١).
ففي هذا أنَّ «بني قيدار» كانوا في عهد «أرميا» ثابتين على الدِّين الحق.
وقيدار هو: ابنُ إسماعيل ﵇، كما في الفقرة (١٣) من الإصحاح (٢٥) من «سفر التَّكوين» (^٢).
وفي الفقرة (١٣ - ١٧) من الإصحاح (٢١) من «سفر أشعيا»: «وَحْيٌّ من بلاد العرب، من الوعر من بلاد العرب ... في مدَّة سنى كسنى الأجير يفنى كلُّ مجدِ قيدار، وبقيَّة عدد قسي بني قيدار تقل» (^٣). يعني: أنَّه سيغزوهم مَلِك بابل.
_________
(^١) بنحو هذه الترجمة في الطبعة الحديثة (ص ١٦٤٥).
(^٢) في الأصل: «الإصحاح (١٥)»، ولعلَّ الصواب ما أثبتُّ؛ إذ الذي في (١٥/ ١٣): «فقال لأبرام: اعْلم يقينًا أنَّ نَسْلَك سيكون غريبًا في أرضٍ ليست لهم، فيذلُّونهم أربعمائة سنة». وهذا النصُّ ليس فيه كلام عن كونه ابن إسماعيل.
أمَّا الذي فيه الكلام عن هذا الأمر فهو في (٢٥/ ١٣) من «سفرالتَّكوين»، (ص ١٠٤ الطبعة الحديثة): «هذه أسماء بني إسماعيل بحسب أسمائهم وسلالتهم: نبايوت بِكرُ إسماعيل، وقِيدار، وأدْبَئيل، ومِبْسام ..».
(^٣) (ص ١٥٦٠ - ١٥٦١) في الطبعة الحديثة منه، بنحوه.
6 / 143
ففي الفقرة (٢٨)، من الإصحاح (٤٩)، من «سفر أرميا»: «عن قيدار وعن ممالك حاصور التي ضَرَبَها نبوخذ راصر (^١) ملك بابل، هكذا قال الرب: قوموا، اصعدوا إلى قيدار».
و«حاصور» هذه يقول مؤرِّخُو العرب إنَّها «حَضُور» من بلاد اليمن، وأنَّ مَلِك بابل (^٢) لمَّا غزا العرب بَلَغَها وبَطَش بأهلها (^٣).
وفي الفقرة (٢١)، من الإصحاح (٢٧)، من «سفر حِزْقِيال»: «العَرَب وكل رؤساء قيدار هم تجَّار يدك» (^٤).
وانظر الفقرة الخامسة، من الإصحاح (١٢٠)، من «المزامير» (^٥)، والفقرة الخامسة، من الإصحاح الأول، من «نشيد الأنشاد» (^٦)، والفقرة
_________
(^١) (ص ١٧٢٨) من الطبعة الحديثة، ولفظه: «إلى قيدار وممالك حاصور .. نبوكدنصَّر».
(^٢) يسمِّيه العرب: «بختنصَّر». [المؤلِّف].
(^٣) يُنظَر: «نسب معد واليمن الكبير» لابن الكلبي (٥/ ٥٣٩)، و«صفة جزيرة العرب» للهمداني (ص ٨٣)، و«تاريخ الرسل والملوك» للطَّبري (١/ ٥٨٥)، و«معجم البلدان» لياقوت (٢/ ٢٧٢)، وغيرها.
وقد ردَّ الدكتور جواد علي في «المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (١/ ٣٤٨ - ٣٥٢) = بكلام مفصَّل دعوى أنَّ «حاصور» هي «حضور»، وبيَّن أنَّ من قال ذلك من الإخباريين قلَّدوا فيه ابن الكلبي، وأنَّ «حاصور» أراض لعربٍ كانت ديارهم جنوب فلسطين أوشرقها.
(^٤) في الطبعة الحديثة (ص ١٨١٤): «من زبائنك»، بدل «تجَّار يدك».
(^٥) فيه (ص ١٢٨٦): «ويلٌ لي فإنِّي في ماشك نزلتُ، وفي خيام قيدار سكنتُ».
(^٦) فيه (ص ١٣٨١): «أنا سوداء ولكنني جميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار ..».
6 / 144
(١١)، من الإصحاح (٤٢)، من «سفر أشعيا» (^١)، والفقرة السَّابعة، من الإصحاح السِّتِّين، منه أيضًا (^٢).
هذه النُّقول مأخوذةٌ من مجموعة كتب القوم، من الطَّبعة التي تقدَّم ذكرُها.
وممَّا يلفِت النَّظر أنَّ الطَّابِعِين التزموا في الأسماء التي تقع في المتن أن يشيروا عليها، وينبِّهوا في الهامش على المواضع الأخرى التي وَرَد فيها ذلك الاسم من المجموعة. وكذلك صنعوا باسم قيدار، ما عدا الموضع الذي بدأتُ بنقله، وفيه الدِّلالة على ثبات بني قيدار على الدِّين الحق؛ فإنَّهم أغفلوه فلم ينبِّهوا هناك على أنَّ هذا الاسم وقع في موضع أو مواضع أُخَر، ولا نبَّهوا في بقيَّة المواضع على هذا الموضع، كأنَّهم يحاولون إخفاءه (^٣)!
قيدار بن إسماعيل هو جدُّ العَرَب العدنانيين، وعدنان هو الجدُّ الموفي عشرين في أجداد النَّبي ﷺ.
_________
(^١) فيه (ص ١٥٩٤): «لترفع البرية ومدنها صوتها، والحظائر التي يسكنها قيدار».
(^٢) وفيه (ص ١٦٢٣): «كل غنم قيدار تجتمع إليك، وكباش نبايوت تخدمك».
(^٣) ثم أحالوا إليها في الطبعة الحديثة منه (ص/١٦٤٥) إلى «سفر التَّكوين» ٢٥/ ١٣، و«سفر إشعيا» ٢١/ ١٦، ولكنَّهم شرحوه بقولهم: «قيدار: قبيلة بدويَّة، من قبائل عبر الأردن»!
وهذا فيه تناقضٌ مع نص ما في الموضع الذي أحالوا عليه من «سفر التَّكوين»، إذ كيف يكون ولد إسماعيل، وهو في مكَّة، ثم يقال إنَّها قبيلة بالأردن! إلَّا أن يُراد أنَّهم ولَدُه، وأنَّهم نزحوا إليها، وهذا يخالف ما يقرِّره المؤلِّف ههنا ــ كما سيأتي ــ واستشهاده بشعر قصي بن كلاب وكلام النسَّابة والمؤرِّخين= من أنَّ أولاد قيدار أو قيذر كانوا بمكَّة، وهم أولاد عدنان، الذين بُعِث فيهم النَّبي ﷺ.
6 / 145
وفي «السِّيرة» وغيرها (^١): أنَّ قُصَيَّ بن كلاب ــ وقُصَيٌّ هو الجدُّ الرابع للنَّبي ﷺ ــ لمَّا كان يسعى للاستيلاء على مكَّة قال:
أنا ابنُ العاصِمِين بني لُؤَيٍّ ... بمكَّة منزلي وبها ربيتُ
إلى البَطْحاءِ قد علِمَتْ مَعَدٌّ ... ومَرْوَتها رضِيتُ بها رضِيتُ
فلستُ لغالبٍ إنْ لم تَأثَّلْ ... بها أولاد قَيْذَر والنَّبيتُ
رزاحٌ ناصِري وبه أُسَامِي ... فلستُ أخافُ ضَيْمًا ما حَيِيتُ
القافية مرفوعةٌ كما ترى.
و«قيذر» هو «قيدار» نفسه، هكذا ينطق به العرب، كما في كتب اللُّغة وغيرها (^٢).
والنَّبيت أُرِيد بهم أولاد ابن إسماعيل الآخر، واسمه في «التوراة»: نبايوت (^٣)، وقد كان بالشام قومٌ يُقال لهم: النَّبَط بفتحتين، والنَّبِيط أيضًا.
وفي «صحيح البخاري»، في باب السَّلَم (^٤)، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «كُنَّا نُسلِف نبيط أهل الشَّام في الحنطة والشَّعير والزَّيت ...».
_________
(^١) همَّش المؤلف في هذا الموضع ثم لم يكتب شيئًا. وهو في «السيرة النبويَّة لابن هشام» (١/ ٢٦٠)، و«البداية والنهاية» لابن كثير (٣/ ٢٤١ - ٢٤٢).
(^٢) يُنظر: «لسان العرب» (٥/ ٨٢)، و«تاج العروس» (١٣/ ٣٨٦).
(^٣) من ذلك: ما تقدَّم في «سفر التكوين»، وفيه أيضًا: (تكوين: ٢٨/ ٩): «.. فمضى عيسو إلى إسماعيل، فتزوَّج مَحْلَة بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت ..». وفيه أيضًا (تكوين: ٣٦/ ٣): «وبسمة بنت إسماعيل، أخت نبايوت».
(^٤) كتاب السَّلَم، باب السَّلَم إلى من ليس له أصلٌ (٢/ ١٢٥) السَّلفية.
6 / 146
وفي «فتح الباري» (^١): «قوله: «نبيط أهل الشَّام» .. هم قومٌ من العرب، دخلوا في العَجَم والرُّوم، واختَلَفَت أنسابُهم، وفَسَدَت ألسنتُهم، وكان الذين اختلطوا بالعَجَم منهم ينزلون البَطائِح بين العِراقَين، والذين اختلطوا بالرُّوم ينزلون في بوادي الشَّام، ويُقال لهم: «النَّبَط» بفتحتين، و«النَّبِيط» .. قيل: سُمُّوا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء ...».
وفي «دائرة المعارف الوجديَّة» (^٢) في مادة «عَرَب»: «دولة الأنباط: ذكر العَرَب دولة الأنباط في كتبهم، وأرادوا بهم أهل العراق، وقد تحقَّق المنقِّبون في الآثار، والمتَتَبِّعون لتاريخ اليونان والرومان، وما ذُكِر في «التَّوراة» أنَّ دولة الأنباط كانت عربيَّة، قامت بمشارف الشَّام ...
اختلف المؤرِّخون في أصل الأنباط، فقال قومٌ: إنَّهم من نسل نبايوط بن إسماعيل، متابعين في ذلك ما قالته التَّوراة ..».
وذكر أنَّهم ملكوا مملكة أدوم «قبل القرن الرَّابع للميلاد، وبقيت [دولتُهم] إلى أوائل القرن الثاني بعده، حتى دخلت في حوزة الرُّومان سنة ١٠٦» (^٣).
وذكر بعد ذلك دول قُضَاعة، وأنَّها خلفت دولة النَّبَطِيين تحت رعاية الرُّومان، وكانت قُضَاعة بالشَّام (^٤).
_________
(^١) (٤/ ٤٣١) السَّلفية.
(^٢) ج ٦ ص ٢٣٣. [المؤلِّف].
ويقصد به: «دائرة معارف القرن العشرين»، لمؤلِّفها: محمد فريد وجدي.
(^٣) «دائرة معارف القرن العشرين» (٦/ ٢٣٤).
(^٤) المصدر السابق (٦/ ٢٤٦).
6 / 147
وقُصَي بن كلاب قائل الأبيات المتقدِّمة وُلِد بمكَّة، ومات أبوه وهو صغير، فتزوَّج أمَّه رجلٌ من قضاعة، وذهب بها وقُصَيٌّ معها إلى بلاده، وولَدَت له رزاحًا، الذي استنصره قُصَيٌّ في شعره؛ لأنَّه أخوه لأمِّه، ونشأ قُصَيٌّ في بلاد قضاعة، ثمَّ عاد إلى مكَّة بعد أن كبر وسعى في الاستيلاء على مكَّة، وفي ذلك الصَّدد قال تلك الأبيات.
فمن المعقول أن يكون ــ إذ كان في الشَّام بلاد قضاعة ــ قد تعرَّف إلى «النَّبيط»، أو «النَّبيت»، أو «النَّبَت» ــ كما اقترحه السَّيِّد محبُّ الدِّين الخطيب ــ، وقد لا يبعد أن يكون بعض قضاعة حينئذٍ كان ينسبُ قضاعة إلى النَّبيت، ولكن هذا لم يشتهر، وإنَّما ذكر النَّسَّابون الخلاف في «قضاعة»، أعدنانيَّةٌ أم قحطانيَّةٌ؟
بقي أنَّ أكثر الروايات في نسب عدنان تنسبه إلى «نبت» أو «نابت» بن قيذر بن إسماعيل، وبعضها يُسقِط «نبتًا»، وبعضها يذكر أنَّ «النَّبيت» لقبٌ لـ «قيذر».
وجاء في بعض الروايات: نبت بن إسماعيل، بإسقاط «قيذر».
وقد دلَّ شعر قُصَيٍّ أنَّ «النَّبيت» غير أولاد «قيذر»، ولا مانع أن يسمَّى «ابن قيذر» باسم عمِّه أونحوه، فـ «عدنان» من ولد «قيذر»، ونبيط الشَّام ــ وكذا العراق فيما يظهر ــ من «نبايوت».
كان «أرميا» قبل ميلاد عيسى بنحو ستَّة قرون، وبعد إبراهيم ببضع عشرة قرنًا، فقوله لليهود: «وأرسِلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًّا هل بدَّلت أُمَّةٌ آلهة وهي ليست آلهة» = إشارة إلى أنَّ بني قيدار ثابتون على الدِّين الحق، مع بُعد
6 / 148
عهدهم بإبراهيم وإسماعيل، ولم يكن فيهم بعدهم إلى ذاك التاريخ نبيٌّ، مع أنَّ اليهود غيَّروا وبدَّلوا مرارًا، رغمًا عن كثرة الأنبياء المتتابعين فيهم. هذا مع تبجُّح بني إسرائيل بأنَّهم أبناء الحُرَّة، وأنَّ بني إسماعيل أبناء أَمَةٍ.
وفي الإصحاح الرَّابع والخمسين، من «سفر أشعياء» (^١):
«تَرَنَّمي أيَّتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنُّم أيتها التي لم تمخض؛ لأنَّ بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل ... لأنَّك تمتدِّين إلى اليمين وإلى اليسار، ويرث نسلك أُممًا، ويعمِّرُ مُدُنًا خَرِبة، لا تخافي لأنَّك لا تخزين ... بالبر تثبتين بعيدة عن الظُّلْم، فلا تخافين، وعن الارتعاب فلا يدنو منك ... كلُّ آلةٍ صورت ضِدَّك لا تنجح، وكلُّ لسانٍ يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه ...».
ذكر صاحب «إظهار الحقِّ» (^٢) هذه العبارة، ثم قال: «المراد بالعاقر ... مكَّة المعظَّمة ...»، وأطال في ذلك.
وحاصله ــ مع تعديلٍ ــ أنَّ الخطاب هنا لا يصلح أن يكون لمدينة القدس «أورشليم».
أولًا: لأنَّها ليست بعاقر، بل قام بها عددٌ من الأنبياء، بخلاف مكَّة؛ فإنَّه لم يُولَد بها نبيٌّ حتى ذاك العهد، وإنَّما جاء إبراهيم بابنه إسماعيل طفلًا،
_________
(^١) من الفقرات: (١، ٣، ٤، ١٤، ١٧) الطَّبعة الحديثة (ص ١٦١٥ - ١٦١٦) بنحو لفظه.
وفيه من التَّغاير في اللَّفظ: في فقرة ١: «فإنَّ بني المهجورة أكثر من بني المتزوِّجة»، وفي فقرة ١٤: «فإنَّك لا تخافين، وعن الدَّمار فإنَّه لا يدنو منك»، وفي فقرة ١٧: «كل سلاحٍ صُنِع عليك لا ينجح، وكلُّ لسانٍ يقوم عليك في القضاء تردِّينه مجرمًا».
(^٢) ج ٢ ص ١٤٠، وفي الألفاظ اختلاف لأنَّه نقل من ترجمةٍ أخرى. [المؤلِّف].
وتُنظر الطبعة الجديدة (٤/ ١١٦٠) بتحقيق: الملكاوي.
6 / 149
فأسكنه بها.
ثانيًا: لأنَّ في العبارة مقابلة بين اثنتين، متوحِّشة ــ وفي «إظهار الحق»: وحشيَّة (^١) ــ وغيرها، ولم تكن أورشليم وحشيَّة، بخلاف مكَّة.
وفي «إظهار الحق» (^٢): «وقع في حقِّ إسماعيل في وعد الله هاجر: هذا سيكون إنسانًا وحشيًّا» (^٣).
ثالثًا: لأنَّ بقيَّة الأوصاف، من الأمن وتسلُّط النسل على أُمَمٍ، ودحر القاصد بالسُّوء = كلُّ هذا لا نصيب فيه لأورشليم، وهو حاصلٌ لمكَّة قطعًا. وكان أشعيا قريبًا من أرميا، فكما ذكر أرميا بني قيدار بن إسماعيل، وبيَّن فضلهم على بني إسرائيل فكذلك ذكر أشعيا مكَّة وبيَّن فضلها على أورشليم.
وصاحب «إظهار الحق» حَمَل المتوحِّشة أو الوحشيَّة على هاجَر، وذات البعل على سارة (^٤).
والأشبه بالسِّياق أنَّ الأُولى: مكة، والثانية: أورشليم.
هذا وإنَّ بني قيدار استمرُّوا على الثَّبات على الدِّين الخالص بعد أرميا بضعة قرون؛ فقد تضافرت الأحاديث الصَّحيحة عن النَّبي ﷺ بأنَّ أوَّل مَن غيَّر دين إبراهيم، ودعا إلى عبادة الأصنام ــ يعني: بمكَّة وحواليها ــ عمرو بن عامر بن لُحَيٍّ.
_________
(^١) وفي الطَّبعة الحديثة (ص ١٦١٥) فقرة ١: «المهجورة».
(^٢) (٤/ ١١٦٠) ت: الملكاوي.
(^٣) وفي الطبعة الجديدة منه (في سفر التَّكوين ١٦/ ١٢، ص ٩١): «ويكون حمارًا وحشيًّا»!
(^٤) المصدر السابق.
6 / 150
انظر تلك الأحاديث مجموعةً في «فتح الباري»، كتاب الأنبياء، باب قصَّة خزاعة، وفي «الإصابة»، ترجمة أكثم بن الجون (^١).
و«عمرو» هذا نُسِب في الحديث (^٢): «عمرو بن عامر بن لُحَيِّ بن قِمَّعة»، فعلى هذا هو: عمرو بن عامر بن لُحَيِّ بن قِمَّعة بن إلياس بن مُضر بن نِزار بن معد بن عدنان.
لكن المشهور بين النسَّابين أنَّه: عمرو بن عامر بن ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو ــ مزيقيا ــ بن عامر بن حارثة، ورفعوا نَسَبَهُ إلى الأزد، ثم إلى سَبَأ، ثم إلى قحطان.
وحقَّق بعض النَّسَّابين (^٣) أنَّ لُحَيًّا وربيعة واحد، الأول لقب، والثاني اسم. وأنَّه: ابن قمعة، ولكن قمعة مات ولُحَيٌّ صبيٌّ، فتزوَّج أمَّه حارثة بن ثعلبة الأزدي، وتبنَّى حارثةُ لُحَيًّا فمن ثَمَّ نُسِب إليه، ونُسِب هو وولده إلى الأزد.
ويظهر أنَّ هذا تحقيقٌ بالغٌ، وإن حكاه بعضهم بلفظ «زعم»!
وقد ذكر أبو الفداء في «تاريخه» (^٤) قصَّة عمرو بن لُحَيٍّ، ثم قال: «ذكر
_________
(^١) «الفتح» (٦/ ٥٤٨ - ٥٤٩)، و«الإصابة» (١/ ١٠٧).
(^٢) يُنظر هذا الحديث وغيره في: «الفتح» (٦/ ٥٤٨ - ٥٤٩).
(^٣) يُنظر: «الروض الأُنُف» للسُّهيلي (١/ ٣٤٧).
(^٤) ج ١ ص ٨٠ [المؤلِّف]. ويُنظَر: طبعة دار المعارف (١/ ٩٩ - ١٠٠).
وكلام الشِّهْرستاني في كتابه «المِلَل والنِّحَل» (٢/ ٥٨٠)، وقد نصَّ فيه أنَّه سابور ذوالأكتاف، فقال: «وكان ذلك في أول ملك شابور [كذا!] ذي الأكتاف»، فلم يعد للاحتمال وجه.
6 / 151
الشَّهْرستاني أنَّ ذلك كان في أيَّام سابور، كان قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة، إن كان سابور بن أزدشير بن بابك.
وأمَّا إن كان سابور ذا الأكتاف فهو أبعد من الصَّواب؛ لأنَّه بعد سابور الأول بمدَّة كثيرةٍ».
وكان بين موت سابور بن أزدشير وبين مولد النَّبي ﷺ ــ على ما يُعلم من «تاريخ أبي الفداء» نفسه ــ ثلاثمائة واثنتان وعشرون (^١) سنة. فبين موت سابور والبعثة النبويَّة ثلاثمائة واثنتان وستون سنةٍ (^٢).
ويظهر أنَّ قصَّة عمرو بن لُحَيٍّ كانت قبل موت سابور بقليل؛ فإنِّي تتبَّعتُ أنساب من يُنسب من الصَّحابة إلى عمرو بن لُحَيٍّ فوجدت أكثرهم لا تزيد الوسائط بينهم وبين عمرو على تسع، والقاعدة التاريخيَّة المبنيَّة على الأوسط: أنَّه في كلِّ قرنٍ ثلاثة آباء.
وبمعنى ما في «تاريخ أبي الفداء» (^٣) وغيره أنَّ بين وفاة إبراهيم وبعثة
_________
(^١) في الأصل: «اثنتين وعشرين» وفي السطر التالي: «اثنتين وستين» بالنصب، والوجه ما أثبت.
(^٢) «المختصر في أخبار البشر» لأبي الفداء (١٠٠).
(^٣) بيان هذا: أنَّ الذي ذكره أبو الفداء في «المختصر في أخبار البشر» (١/ ١٥٧) أنَّ بين الهجرة النَّبويَّة ومولد إبراهيم (٢٨٩٣) سنة على اختيار المؤرِّخين.
وقد ذكر أيضًا قبل ذلك (١/ ٢٨) أنَّ إبراهيم ﵊ مات وله (١٧٥) سنة. فلو طرحنا (١٧٥) عامًا من (٢٨٩٣) عامًا فستكون المدَّة الزمنيَّة بين هجرة النَّبي ﷺ ووفاة إبراهيم ﵊ هي (٢٧١٨) عامًا.
وذكر أيضًا في (١/ ١٥٨) أنَّ بين بعثة النَّبي ﷺ وهجرته (١٣) سنة، فلو طرحنا (١٣) عامًا من (٢٧١٨) عامًا فسنصل إلى أنَّ المدَّة الزمنيَّة بين بعثة النَّبي ﷺ وبين وفاة إبراهيم ﵊ هي كما ذكرها المؤلِّف (٢٧٠٥) عامًا.
6 / 152
محمدٍ عليهما الصَّلاة والسَّلام ألفين (^١) وسبعمائة وخمس سنين، فلْنفرض أنَّ قِصَّة عمرو بن لُحَيٍّ كانت قبل موت سابور بثلاث عشرة سنة؛ فيكون ذلك قبل البعثة بثلثمائة وخمس وسبعين سنة، فيكون بين ذلك وبين موت إبراهيم ألفان وثلثمائة وثلاثون سنة. بقي بنو قيدار هذه المدَّة بطولها على الحنيفيَّة الخالصة، هذا مع أنَّه لم يكن فيهم بعد إبراهيم نبيٌّ إلَّا إسماعيل، الذي توفِّي بعد أبيه بنحو خمسين سنة.
فأمَّا بنو إسرائيل فإنَّهم عبدوا العِجْل بعد إبراهيم بنحو ستمائة سنة، وقد كان فيهم من الأنبياء إسحاق، ثم يعقوب ــ وهو إسرائيل ـ، ثم يوسف، وعبدوا العِجْل وموسى وهارون بين أظهرهم، ولعلَّه قد كان منهم قبل موسى ما كان، ثم كان منهم بعده ما كان.
فبِحَقٍّ قيل لهم على لسان أرميا: «أرسلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًّا».
وبِحَقٍّ كانت الوحشيَّة، العاقر، المجفوَّة = خيرًا من الإنسيَّة، الولود، الموصولة، كما مرَّ عن «سفر أشعيا».
ومن هنا يظهر ــ والله أعلم ــ أنَّ تخصيص بني إسرائيل دون بني إسماعيل بكثرة الأنبياء إنَّما كان لتمرُّد الأوَّلِين، واستقامة الآخِرين، لا لفضيلةٍ في بني إسرائيل أنفسهم.
على أنَّ الله ﵎ جعل العاقبة للمتَّقين.
_________
(^١) في الأصل: «ألفان» والوجه ما أثبت.
6 / 153