Al-Hakim Al-Jushami and His Approach in Interpretation
الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير
ناشر
مؤسسة الرسالة
پبلشر کا مقام
بيروت
اصناف
ـ[الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير]ـ
(أصل الكتاب رسالة ماجستير - كلية دار العلوم بجامعة القاهرة بإشراف الشيخ محمد أبو زهرة ﵀
المؤلف: عدنان محمد زرزور
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
حوار مجلة الفرقان مع الدكتور عدنان زرزور (*) ضيفنا في هذا العدد عالم من العلماء البارزين على مستوى العالم الإسلامي، له جهود علمية في أكثر من علم من علوم الشريعة، أكسبته نشأته الدينية ومعرفته بكبار علماء الأمة ومفكريها رؤية شاملة للإسلام وعلومه، وأكسبه ذلك رؤية نقدية وتاريخية ثاقبة مكّنته من الوقوف على كثير من المغالطات التي درج عليها أهلها سنوات عديدة سواءً في مجال العلم الشرعي أو في مجال العمل الإسلامي، فقام بالتنبيه إليها وبيان خطرها. نشأ الأستاذ الدكتور عدنان زرزور في دمشق، ودرس في مدارسها، ثم درس في كلية الشريعة في جامعة دمشق -التي كان للأستاذ مصطفى السباعي الفضل في إنشائها- وتخرج فيها عام ١٩٦٠، وكان هو والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني/ رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم على مقعد دراسي واحد في العامين الأول والثاني. ثم حصل على الماجستير في القاهرة، ثم الدكتوراه في عام ١٩٦٩ وكان على رأس لجنة المناقشة الشيخ محمد أبو زهرة ﵀ الذي نهل من علمه الكثير. ثم رجع إلى جامعة دمشق للتدريس فيها لمواد العقيدة ومقارنة الأديان والنظام الإسلامي ومقررات ثقافية أخرى بالإضافة إلى تفسير الحديث الشريف خلال الفترة من ١٩٧٣ حتى ١٩٨٠، وخلال هذه الفترة درَّس في الجامعة الأردنية بصفة محاضر غير متفرغ من ١٩٧٢ حتى ١٩٧٥، ثم عمل في جامعة الإمارات، ثم جامعة قطر التي قضى فيها خمسة عشر عامًا، وهو الآن يعمل في جامعة البحرين في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية التابع لكلية الآداب. تابع الدكتور زرزور دراسة تفسير مخطوط من عشرة مجلدات، لكن ظروف الخروج من بلده أضاعت النسخ للأسف الشديد حيث كان قد بلغ فيه جهدًا في نسخ سورة البقرة، وهذا التفسير للحاكم الجشمي المتوفى عام ٤٨٥هـ، من أعلام القرن الخامس، مما دفعه واضطره ليؤرخ للقرن الخامس تقريبًا بشكل كامل وعرّج على القرن الرابع بمناسبة كتاب القاضي الجبار، فصار متابعًا لقراءة التاريخ وأحداثه بعد قراءته لأحداث هذين القرنين في كتب التاريخ القديم. يقول الدكتور زرزور في هذا الصدد: أعجبني من المؤرخين (ابن كثير) بصورة خاصة لأنه كان حاضر الذهن وناقدًا، وكان لآرائه في تفسير المسائل أو في عرضها الرجحان بوصفه محدثًا أيضًا. فيبدو أن اختياره للروايات أو الترجيح أفاد فيها من منهجه النقدي في علم المصطلح، مع مزايا أخرى تمتع بها بالقياس إلى ابن الأثير أو حتى الطبري أو ابن الجوزي وغيرهم. ثم اشتغل الدكتور زرزور بعد ذلك في التفسير والحديث، ثم اشتغل بعلوم القرآن الكريم حيث تخصصه الأساسي: التفسير وعلوم القرآن، وله كتاب في ذلك ينوف على (٧٠٠) صفحة، لا يخلو من نظرات نقدية أو إعادة النظر في قضايا كثيرة. صدر للدكتور زرزور أكثر من أربعين كتابًا وبحثًا منها: تحقيق (متشابه القرآن) للقاضي عبد الجبار المعتزلي، نشر في مجلدين مع مقدمة للدكتور تقرب من (٧٠) صفحة. وكتاب (الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن)، (علوم القرآن وإعجازه وتاريخ توثيقه)، (البيان النبوي: مدخل ونصوص)، (سمات البلاغة النبوية بين الجاحظ والرافعي والعقاد)، (ابن خلدون وفقه السنن)، (منهجية التعامل مع علوم الشريعة في ضوء التحديات المعاصرة)، (نحو عقيدة إسلامية فاعلة)، (الفجوة بين جانبي الأطلسي والحروب الحضارية)، (مدخل إلى السنة النبوية لدى أهل السنة والشيعة الإمامية) وهو تحت الطبع. والدكتور زرزور إذا تكلم فسيل متدفق، تراه يجلّي مسائل الشريعة بالتحليل الدقيق والتفسير العميق، وقد كان مدرسًاَ لعدد من العلماء المعروفين اليوم. التقيته على هامش المؤتمر القرآني الأول الذي عقدته جمعية المحافظة على القرآن الكريم وكان هذا اللقاء. _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أثبت هذا الحوار هنا لفائدته
(نحو جيل قرآني) الفرقان: شاركتم في بعض جلسات المؤتمر القرآني الأول الذي عقدته الجمعية تحت عنوان: (نحو جيل قرآني)، كيف ترى السبيل إلى هذا الجيل؟ أ. د. زرزور: أنا أفهم من هذا العنوان أنه جيل الأمة المعاصر، كيف ننتقل به من حالة الضياع وتوزيع الأهواء إلى جيل قرآني مصدره واحد، لكن هذا يحتاج إلى أن تكون هناك أنواع من التخصصات تجتمع في النهاية لإشاعة قيم القرآن في الأمة. إن المشكلة الآن أن التحديات في وجه أجيال المسلمين طويلة، عصر ما قبل سقوط الخلافة وعصر ما بعده، تحديات داخلية وخارجية طاحنة، وإن أسوأ ما تعرضنا له موضوع التقسيم الجغرافي، وموضوع تعدد المشارب أو تعدد المذاهب الذي حُمل إلينا على جناح (المعاصرة) مثلًا، فهذه الكلمة أو كلمة (الحضارة) كانت المدخل لإشاعة قيم لا تأتلف مع القرآن أساسًا، فهبطت علينا القومية والاشتراكية والماركسية والوجودية والعلمانية مصحوبة بدول متقدمة حضاريًّا فاندفعنا في طريق التغريب ونحن نظن أننا نحقق لأنفسنا الحداثة أو المعاصرة، فوجدنا أنفسنا متغربين لا متحضرين، فلسنا نحن الذين صنعنا الحضارة بكل تأكيد. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الإسلام بالنسبة للمجتمع العربي والإسلامي هوية أم اتجاه؟ إنه هوية وليس اتجاهًا، لكن التعبير عن الهوية في ظل هذا الزخم أخذ شكل الاتجاه. والأسوأ من ذلك أن المعبرين عن هذه الهوية عندما أخذت شكل الاتجاه ربما وقعوا في خطأ تصور أو خطأ الممارسة مما أبعد الفكر الإسلامي عن الحياة الذي هو نتاج قرآني بالأساس، فحدث التغريب. لكن المذاهب غير الإسلامية سقطت في الواقع كالماركسية مثلًا. أما الخصوصية التي تفضلتَ بالسؤال عنها وهي (الجيل القرآني) فالقرآن إنساني الرسالة وعالمي الخطاب؛ فمواصفات الجيل القرآني هي مواصفات النص القرآني، لكن النص القرآني الذي فُسِّر خلال العصور ربما أمكننا الآن أن نعيد النظر في جزء كبير من قواعد التفسير أو أن نضيف إليها ونعدّل فيها بحيث نستطيع أن ننتج جيلًا قرآنيًّا معاصرًا لا جيلًا يكرر ما كتب حول التفسير في كتب التفسير أو في كتب التاريخ، فليس كل ما كتب في هذه الكتب صحيحًا.
(أسباب النزول) الفرقان: نرجو توضيح هذه المسألة، حتى لا يشكل الأمر على القارئ والمهتم بعلوم التفسير؟ أ. د. زرزور: الآن -مع الآسف- يجري التركيز على أسباب النزول، فيراد إغراق القرآن في البيئة التي نزل فيها، وأنا الآن أبحث في هذا الموضوع، وقد رددت على بعض الآراء والنظريات في ذلك، لكن ليس معنى ذلك أن لا نقبل الآراء التي تقال، ولكن يجب مناقشتها والاتفاق على مجموعة من القواعد: لماذا نزل القرآن منجمًا؟ هل نستطيع أن نستفيد من التنجيم الآن؟ هل في القرآن ناسخ ومنسوخ؟ هل أسباب النزول تُقبل هكذا، وهل كل آية في القرآن لها سبب نزول وهذا السبب مرتبط بها؟ يجري التركيز الآن على سبب النزول من قبل كثير من المعاصرين لإثبات أن القرآن كتاب تاريخي أو منتج بشري في تاريخ معين، وأن التاريخ عندما يتطوّر يمكن أن تعدّل بعض الأحكام. فهذا الربط بأسباب النزول أدى إلى مبالغات ومجازفات وكلام غير صحيح. أنا الآن عندما أقول: إن الآية لها سبب نزول، فإن معنى ذلك أنني مضطر أن أفسِّر الآية من خلال سبب النزول، صحيحٌ أن النص أعم من سبب النزول، ولكن سبب النزول أن يكون داخلًا فيه، فإذا كنت ولا بد مضطرًا لأفسِّر الآية في ضوء سبب النزول، والنص القرآني متواتر، فأنا الآن لو اشترطت التواتر في أسباب النزول لما كان ذلك بعيدًا أو خطأً. لكن أنا لا أقول بضرورة أن يكون سبب النزول متواترًا، لكن لا أقلَّ من أن يكون صحيحًا على مثل شروط البخاري أو شروط الشيخين مثلًا. ولقد وجدت أن أسباب النزول الموجودة في البخاري لا تعدو أن تكون ثمانين أو واحدًا وثمانين رواية فقط، علمًا بأن البخاري من أكثر المفسرين عناية بأسباب النزول. لذلك يجب عزل هذا الركام من أسباب النزول أو إعادة النظر فيه، لأن هناك تفسيرًا للآيات بأشياء غير صحيحة. وأعتقد أن كثيرًا من الزيف دخل على الفكر الإسلامي -وخصوصًا من الفرق الأخرى - من خلال أسباب نزول واهية أو مكذوبة أو لا أصل لها. لذا إذا أردنا أن ننتج جيلًا قرآنيًّا يجب أن يكون منهجيًّا في التفسير ليس فيه أخطاء التاريخ ولا وزره، كما يجب أن يكون مصحوبًا ببعض المقارنات ومنفتحًا من خلال دراسة ما عند الأمم الأخرى ودراسة حضاراتها. والزعم بأن القرآن كتاب تاريخي مرفوض من زاوية أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأؤكد على أن ما أنتجه التاريخ يمكن للتاريخ تجاوزه، ولكن ما كان تنزيلًا من حكيم حميد هو لكل العصور والأجيال.
(قضية الإعجاز العلمي) الفرقان: ثمة جدل في قضية الإعجاز العلمي في القرآن وخلاف حول التسمية والمضمون، ولقد بحثتم في هذا الموضوع. نرجو منكم جلاء هذا الأمر. أ. د. زرزور: أتت فكرة الإعجاز العلمي من أن القرآن أشار إلى مجموعة من الحقائق المتصلة ببناء الكون وبعلوم خلق الإنسان والنبات والبحار والجنين وغير ذلك، وأن تفسير الآيات التي حملت هذه الإشارات بما انتهى إليه العلم الحديث يسمى إعجازًا. أنا لا أسميه إعجازًا إطلاقًا، لأن الإعجاز أساسًا هو ثمرة التحدي كما يقول العلماء القدامى ﴿فأتوا بعشر سور مثله مفتريات﴾، فعجزوا فثبت أن القرآن معجز. كما أن الحقائق العلمية التي تضمنها القرآن في آيات عدة إنما جاءت في سياق الاستدلال على الله تعالى لا في سياق التحدي أساسًا. فمثلًا: آيات الطبيعة والإنسان وردت في سياقين: سياق الانتفاع والتسخير، وسياق التأمل والتدبر والانتقال من المخلوق إلى الخالق بمعنى الدلالة على الصنعة الإلهية. أنا أريد أن أفرّق بين ثلاثة مصطلحات: إعجاز القرآن، والتفسير العلمي للقرآن، والمنهج العلمي في القرآن. فإعجاز القرآن هو القضية الأساسية القديمة التاريخية، التي كتب فيها العلماء وتداولوا فيها وكُتبت فيها نظريات كثيرة أبرزها نظرية (النظم) لعبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري وما زال الناس حتى الآن يقتبسون من نوره أو يسرجون مصابيحهم من زيته، لأن كلامه في غاية العمق، وهو قدّم النظرية الهيكلية لإعجاز القرآن إن صح التعبير، ثم جاء على هذا المنوال من بعده الرافعي وسيد قطب وآخرون. أما التفسير العلمي للقرآن فمعناه الانتفاع بحقائق العلم التجريبي في شرح الآيات، مثل: ﴿يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل﴾ أو خلق الجنين أو غير ذلك. وفي هذا التفسير قد نضلّ أو نخطئ، أو قد يتبين لنا فيما بعد أنّ كلامنا حول ذلك غير صحيح ولذلك لا يمكن أن يقال عنه إنه إعجاز. دعنا نقول إن (موريس بوكاي) هو أصح ذهنًا من كثير من المسلمين المعاصرين. وهنا أشير إلى أن (مراد هوفمان) نصّ في كتابه (الإسلام كبديل) على أن بوكاي أسلم، وهو أمر تؤيده بعض أفكاره في كتبه وبالذات كتابه: ما الإنسان؟ - يقول بوكاي: لا يمكن إدراك هذه الحقائق العلمية خارج النص العربي أي خارج القرآن باللغة التي نزل بها التي يسمى معها قرآنًا، لأن الترجمة لا تسمى قرآنًا، يريد القول إن الترجمة ستضيّع المعاني. ويقول: أنا لا أريد المجازفة، لا يفسَّر القرآن بأية نظرية إنما يفسَّر بالفعل القائم الواقع. فمثلًا: دوران الأرض حول الشمس فعل واقع وليس نظرية، لكن المدار الذي تدور فيه نظرية، وقد تأتي نظرية فتحدد المدار بشكل أفضل. وهذا تنزيه للنص القرآني عن أن يكون كلامًا في الطب أو الفلك أو الرياضيات أو غير ذلك. ما أريد قوله: إن هذه الحقائق أو الأدلة العلمية تصب في خانة أن القرآن وحي يوحى. لكن هل هذه الأدلة تسمى إعجازًا؟ لا، إنها تدل على أن القرآن من كلام الله مثله في ذلك مثل التوراة والإنجيل قبل أن يدخلهما التحريف. لكن القرآن ينفرد عنهما بوصف آخر، وهو أن هذا الوحي معجز، فالإعجاز وصف زائد على كونه وحيًا، ومن ثم فالأدلة التي يسوقها الباحثون في الإعجاز العلمي على أن القرآن وحي لا تدخل في باب الاستدلال على أن القرآن معجز. الفرقان: الدكتور زغلول النجار لا يتكلم في الإعجاز من باب التحدي، وإنما من باب الاستدلال على أن هذا القرآن من عند الله. أ. د. زرزور: نعم هذا لا بأس به، لكن يجب أن يتم إخراجه من باب المصطلحات. الفرقان: ولماذا يحدث خلط في هذا الموضوع إذن؟ أ. د. زرزور: أنا أقول: إن القرآن معجز بنفسه وليس بتفسيرنا له. وكأن الدكتور النجار وغيره يتحدثون عن إعجاز التفسير العلمي وليس عن إعجاز القرآن، علمًا بأن الإعجاز وصف للقرآن نفسه، بمعنى أن النص نفسه معجز، سواء فهمنا معناه أم لم نفهم، أو أدركنا المدلول العلمي له أم لم ندركه. وهناك قضية مهمة: قد نقول إن القرآن تحدّانا بهذه العلوم فعرفناها. فهل إذا عرفناها انتهى إعجاز القرآن، أم ماذا؟ هذه قضية خطيرة حقًّا، القرآن لم يتحدَّ بموضوع معين، لقد تحدَّى بالنظم، تحدَّى بالسور، تحدَّى بسورة، لأن السورة هي عبارة عن نظام بياني يعجز عنه الإنسان، لم يتحدَّ القرآن بعشر آيات في موضوع معيّن. الفرقان: ولكن الإعجاز العلمي -كما يرى الدكتور زغلول النجار- يفيدنا في دخول غير المسلمين في الإسلام؟ أ. د. زرزور: أنا أعتبر أن أثر هذا الأمر ضعيف. وقد أشرت إلى هذا في المؤتمر القرآني. وأقول: إن دعوة للقرآن بمبادئه وأخلاقه وأحكامه تحقق نتائج أضعاف أضعاف ما تحققه الفكرة التي أشرتَ إليها. من الذي يدخل في الإسلام الآن؟ إنه الذي يعاني من أزمة عقائدية أو أزمة فكرية أو أخلاقية أو روحية. إذن الإعجاز لم ينته بالتحدي ولن ينتهي، الإعجاز ليس بالسبق (١٤٠٠ عام أو أكثر) إنما بالتفرد، بمعنى أن أحدًا لا يستطيع أن يأتي بمثله من حيث النظم ومن حيث النظام؛ نظام وحدة السورة التي فيها ترابط وبلاغة. والجاحظ يشير إلى أنه لم يجر التحدي بأقل من سورة. وعبد القاهر الجرجاني في معرض حديثه عن (عشر سور مفتريات) يقول: "إن الافتراء في المعاني وليس في النظم". فالقرآن لم يتحدَّ بالمضامين إطلاقًا بدليل (مفتريات)، وهذا من أعظم أنواع التسهيل على العرب وغيرهم أن يتحداهم القرآن بأي موضوع شاءوا. ونضرب مثالًا بالقصص القرآني؛ فالقصة القرآنية ملتزمة بواقع معين، ومع ذلك عُرضت عرضًا فنيًّا رائعًا بلغ حدّ الإعجاز. القرآن يقول لك: تحدّث بالقصة التي تريدها، ولكن بشرط أنك إذا عرضتها أن يكون لها مثل رواء النظم القرآني وبهائه وأناقة أسلوبه ... إلخ. هذا تسهيل لأن الخيال أقوى من الحقيقة ... وأنا إذا كنت فنانًا أو قصاصًا وأردت مثلًا أن أكتب قصة وألتزم فيها بالوقائع سأصير مؤرخًا، وإذا أردت الخروج عن النص لم أعد مؤرخًا. لذلك أقول: إن الإعجاز هو بياني في الأساس، لكن الآيات التي موضوعها علمي فيها مسحة بيانية إضافية، وجاء التعبير عن هذه الموضوعات على وجه لا يعجز عن خطاب الإنسان في أي عصر ولا يحمّله كذلك أكثر مما يطيق. وهذا أمر لا يستطيعه أحد من خلق الله. فأنا لا أستطيع - مثلًا - أن أنشئ جملة فيها حقيقة علمية يكتشفها الناس بعد (١٠٠٠) عام، والذي نزلت عليه يفهمهما ويتعامل معها، والذين يقرؤها بعد (٢٠٠٠) عام يرى فيها أمرًا آخر. هذا يدل على أن الإنسان ابن عصره وزمانه، لذا أنا أرجعت الإعجاز العلمي إلى التفسير البياني من هذه الزاوية؛ من زاوية التعبير عن هذه الحقائق العلمية على نحو لا يعجز عن خطاب الإنسان في عصر التنزيل ولا في العصور اللاحقة، ولا يحمّله كذلك أكثر مما يطيق. تصوّر الآن، لو نزلت في القرآن آية تتحدث عن كروية الأرض في عصر التنزيل لكُذّب النبي ﷺ، هو أساسًا ﵊ لم يأت بما يخالف الناس وكذّبوه! فجاء التعبير ﴿يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل﴾، ﴿رب المشارق والمغارب﴾، ﴿رب المشرقين ورب المغربين﴾ ففهمنا هذا - كما يقول موريس بوكاي - في عصر متأخر ولا غبار علينا ولا حرج. الفرقان: فهمت من كلامك أنه يمكن أن يكون هناك إعجاز فيما يخص القضايا العلمية الثابتة، وهذا يدعو إلى ضرورة وجود ضوابط منهجية لترشيد البحث في الإعجاز العلمي. أليس كذلك؟ أ. د. زرزور: نعم، أنا بحثت هذا الموضوع تحت اسم (شروط التفسير العلمي) وليس الإعجاز العلمي، بمعنى أنه لا يُفسَّر القرآن إلا باليقينيات العلمية. واليقينيات هي التي ارتقت من درجة الفروض إلى مقام الحقائق التي لا يتطرق إليها شك. يقول موريس بوكاي: يجب أن نرتقي بها إلى درجة الفعل القائم المشاهد أو المحسوس. وهناك نقطة مهمة وهي أن التفسير العلمي لا تفسَّر به المعجزات لأن المعجزات ثبتت على خلاف القضية العلمية، فهي استثناء من قضايا العلم؛ لأن العلم بمعنى القانون أو السنة، فالمعجزات لإيقاف السنة أو إبطال عملها أو لإيقاف الدلالة على أن الذي يأتي بها نبي أو موحى إليه، فعندما يأتي البعض - تحت عنوان الدفاع عن القرآن وبيان أن القرآن لا يتعارض مع العلم - ويفسر المعجزات بأنها قضايا علمية، فهذا عكس الموضوع تمامًا. وهذا (علي فكري) فسَّر أن العصر السليماني كان يعرف الحروب الهوائية والطيران الشرعي، لأنه كان فيه سفر هوائي منظم، وأن الجنود التي تهبط بالمظلات ليس قضية جديدة، لأن يوم بدر هبطت فيه الملائكة .. هذا الكلام سخيف في الحقيقة.
(التفسير الموضوعي) الفرقان: ما أهمية أو فائدة التفسير الموضوعي للقرآن، وما مهمته؟ أ. د. زرزور: ليست كل سورة من سور القرآن الكريم مختصة بموضوع واحد بل بعدة موضوعات، يقابل هذا أن الموضوع الواحد - بطبيعة الحال - يتوزع في سور متعددة. لا بد من ضم أطراف الموضوع الواحد على صعيد واحد حتى لا نخطئ في التفسير؛ لأن هذا أحد الأسباب التي دعت إلى الخلاف بين الفرقاء أو المتكلمين عندما يأتي أحدهم إلى جزء من السورة أو جزء من الموضوع في آية ويعتبرها هي الأصل إلى درجة أنه يضطر إلى إدخال سائر الآيات في التأويل، ونحن لسنا مضطرين للتأويل إذا أمكننا أن نعيد بناء السورة القرآنية للموضوع الواحد على صعيد واحد. هذه هي مهمة التفسير الموضوعي. وهناك فوائد كثيرة لهذا النوع من التفسير، لكن أبرز فائدة من فوائده أن الخلاف الذي احتدّ بين المتكلمين وحتى بين بعض الفقهاء في بعض الأحيان - والذي بلغ حد اختلاف التضاد وليس اختلاف التنوع - كان سببه أن بعضهم أخذ جزءًا من السورة واعتبرها أصلًا واضطر إلى إدخال سائر أجزاء السورة في التأويل. فمثلًا، آيات الهداية والضلال، اعتبر بعض العلماء أن معنى الهداية خلق الإيمان في قلب المؤمن، علمًا بأن مدلول الهداية في القرآن متعدد، فإذا جمعناه على صعيد واحد فلا خلاف، لكنهم فهموا (هدًى للمتقين) أي ليس هدى لغيرهم كما يقول الأشاعرة، لكن المتعزلة لا على معنى أنه هدى للمتقين وحدهم لأن القرآن هداية لجميع الناس، ولكن لأن المتقين هم الذين اهتدوا به، فكأنه إنما كان هداية لهم دون غيرهم. وبعض الأشاعرة -استنادًا إلى أن الهداية خلق الإيمان في قلب المؤمن- فسّروا الآيات كلها على هذا النحو، فآية ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ فأول الآية ﴿هديناهم﴾ أي هدينا المتقين منهم. هذا الكلام ليس صحيحًا. والتفسير الموضوعي مهم في هذه الأمور وهو يحل كثيرًا من هذه المعضلات. الفرقان: هناك آيات كثيرة في القرآن ليس لها تفسير واحد أو فسِّرت بعدة تفسيرات أو عدة آراء. وهذا الاختلاف قد يوقع في حيرة. ما رأيكم؟ أ. د. زرزور: هذا صحيح، وهناك آيات ربما اتفق العلماء على دلالتها. فمثلًا، إذا كانت آيات معينة دلالتها ظنية، والدلالة الظنية تحمل عدة وجوه وهذا أمر طبيعي. وسواءٌ كان هناك اختلاف تنوّع أو اختلاف تضادٍّ، لكن في نهاية المطاف ما دام التفسير ضمن قواعد اللغة العربية وأصولها المتفق عليها فتعدد وجهات النظر موجود. لا يوجد شيء في القرآن لم يقف العلماء أمامه فقالوا هذا لا يعلم تأويله إلا الله - مثلًا-، حتى فواتح السور فسَّرت التي قال بعضهم إنها من المتشابه وهي ليست كذلك بكل تأكيد. ومفهوم المتشابه الذي توزعت مفاهيمه على آراء قد تصل إلى ثلاثين رأيًا، وهناك فصل لي في كتابي في المتشابه يحل مشكلة آيات الصفات.
(بين سيد قطب والشعراوي) الفرقان: قمتَ بمقارنة بين تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب، وبين تفسير محمد متولي الشعراوي في كتيب يتحدث عن الشعراوي. فما خلاصة ذلك؟ أ. د. زرزور: قلتُ فيه: لو جاء سيد قطب محل الشعراوي لنحا منحاه، ولو جاء الشعراوي محل سيد قطب لنحا منحاه، بمعنى أن كلَّ واحد منهما قام بما توجبه عليه الظروف من شرح القرآن وتفسيره. (الظلال) لسيد قطب مدرسة متميزة في تفسير القرآن غير معهودة عند السابقين. لم يسلك منهج الإعراب والنحو والقراءات والأحكام والقصة والمناسبة، كان من نوع آخر، اهتم بالوحدة الموضوعية في السورة ووجه الارتباط بين الآيات. لا أعتقد أن أحدًا قبله استطاع أن يلمس فكرة الوحدة الموضوعية في السورة بهذا العمق وهذه السلاسة. كان سيد ﵀ حافظًا للقرآن وكان يقرأ السورة عدة مرات حتى يقف على مفتاحها ولا يقرأ من كتب التفسير حولها شيئًا حتى لا يتأثر بها فكان يقول: "إنه كان يفتح عليّ في بعض الأحيان في وقت قريب، وفي بعض الأحيان يستغرق ذلك وقتًا حتى إذا أدركت المحور الرئيسي في السورة والمحاور الفرعية جلست للكتابة عنها ووددت لو أنني أنهيتها في جلسة واحدة لكان ذلك أفضل". حتى إذ انتهى من السورة الأولى كان يعود إلى كتب التفسير ليستدرك سبب النزول أو روايةً أو شيئًا من هذا القبيل، حتى لا يتأثر بمعنى من المعاني التي تسبق إلى ذهن غيره فتحجزه عن فهمه المباشر مع القرآن، أي إنه تعامل مع القرآن بنحو مباشر بدون مقرر فكري مسبق من أصحاب المبادئ والعقائد والمتكلمين والفقهاء - فلا أشاعرة ولا خوارج ولا غير ذلك-، ولذلك أُخذ عليه أن آيةً -مثلًا- فسّرها على مذهب المرجئة -ولا علاقة لها بالمذاهب أساسًا- فليس سيد مضطرًّا أن يؤوِّل الآية حتى لا يوافق تفسيره رأيًا قال به مرجئيٌّ أو معتزليٌّ أو غير ذلك، لأن آراء مثل هذه المذاهب ليست هي الأصل في التفسير. إن الأصل في التفسير هي المعاني التي تدل عليها الآيات. ويمكن أن نصنّف هذا التفسير (في ظلال القرآن) في قائمة التفسير الأدبي والدعوي والاجتماعي. وقد حاول بعض المفسرين المعاصرين تقليد سيد في مجال الوحدة الموضوعية لكنه لم يوفق توفيق سيد، وليس معنى هذا أن سيد قال الكلمة الأخيرة في تفسيره؛ لأن هناك بعض المحاور قد نختلف معه فيها، فإنًّ ما أخذه سيد على غيره من المفسرين لا أقول وقع فيه ولكن كاد أن يقع فيه، ولسيد تصور معين عن كيفية إزاحة ما أسماه (الجاهلية) عن مقعد القيادة والتأثير؛ هذا المنهج صار يأخذه من القرآن ويستنطق الآيات لتنطق به. أما الشيخ الشعراوي ﵀ فتفسيره الأبرز منطوقًا وليس مقروءًا. إن طريقة الشعراوي في العرض هي التي شدّت الناس إلى تفسير القرآن الكريم. فلو أنهم جلسوا لقراءة تفسيره مكتوبًا لما تفاعلوا معه بالطريقة التي تفاعلوا معه وهو يتحدث. لكن الشعراوي ﵀ كانت لديه قدرة فائقة على أمرين، الأول: الإفادة من محصّلة كتب التفسير على اختلاف مذاهبها، فيطرحها كأنها شيء من عنده أو من بنات أفكاره وعلى نحو لا يثير أي حساسية. فقسم كبير من أفكاره يمكن أن نصنّفه، فمنه ما هو مع الخوارج ومنه ما هو مع المعتزلة ولكنه لا يقول هذا. والثاني: كانت لديه قدرة على التبسيط، فالمعاني الصعبة يبسِّطها. لقد كان معلم تفسير أكثر من كونه مفسرًا، والمفسر قاعدته واسعة يأخذ منها ويهضمها ويتمثلها وينتقي منها ما هو لصيق بالإعجاز وما هو لصيق بإثارة العاطفة والإعجاب عند الناس. فالشعراوي أدّى في مرحلة معينة من التاريخ المعاصر رسالة مهمة في إيصال معاني القرآن للناس على نحو مبسط.
(الحرب ضد القرآن) الفرقان: هناك محاولات عديدة لتحريف آيات القرآن على شبكة الإنترنت. كيف نصدّ هذه المحاولات؟ أ. د. زرزور: التحريف اللفظي لا قيمة له إطلاقًا لأن القرآن موجود ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ وهذا يكشف أصحاب هذا التحريف ومدى سخف هؤلاء وتفاهة عقولهم. لكن الخطورة في تحريف المعاني، وتكمن في التاريخ الإسلامي في عصر سيادة الحضارة الإسلامية وسيادة الدولة الإسلامية حين أرادوا أن يقوّضوا دعائم الإسلام فزعموا أن القرآن له ظاهر وباطن، وأن هذا التأويل لا يعرفه إلا الإمام والإمام هو الذي يفسّر، وغيره يلغي عقله، والصيام رجل والزكاة رجل، أي بمعنى أنهم فصلوا ما بين القرآن وبين دلالاته ومعانيه، بهدف إخراج الناس من الإسلام في وقت لا يستطيعون فيه محاربة الإسلام. أما الآن، فالصورة التي أمامنا أن الأمة تريد العودة إلى الإسلام، فتقدّم بعض الناس لملء الفراغ على غرار الباطنيين القدامى أو القرامطة الجدد، يريدون الفصل بين النص والمعنى، من أجل أن يحولوا بين المجتمع الإسلامي وبين العودة إلى الإسلام، ففكرة الظاهر والباطن والتفسير المعاصر والقراءة المعاصرة كثرت الآن. وأنا أقوم حاليًّا بدراسة معمقة في هذه المعاني لما يثيره أمثال محمد شحرور وحامد نصر أبو زيد وحسن حنفي في هذا الصدد من أصحاب المنهج المتهالك متعدد الأخطاء والتجاوزات والأكاذيب. وقد ثبت لي أخيرًا أن هذه الآراء لها أصول في الأحاديث المكذوبة والموضوعة عند الفرق القديمة. الفرقان: هل من نصيحة توجهونها لطلبة التفسير وعلوم القرآن؟ أ. د. زرزور: أقول: إنهم يشتغلون في أفضل أبواب العلم، وأرجو أن يكون الله تعالى قد أراد بهم خيرًا عندما سهّل لهم طريق خدمة القرآن في التفسير أو التلاوة أو التجويد أو التحفيظ. وإن تعمقهم في التفاسير وتاريخ القرآن أو تاريخ التدوين أمر أساسي للبناء على ما سبق من المفسرين، ونرجو لهم التوفيق والسداد في التحصيل وفي الإضافة وفي توظيف معارف القرآن وإشاعة أخلاقه ومبادئه وقيمه بين الناس، علمًا بأن القرآن - والله أعلم - لا يعطي مفاتحه في الفهم لغير من كان صافي السريرة والنفس وعلى درجة من الإيمان والعمل الصالح والتلاوة الدائمة للقرآن. إن تمثلوا ذلك فإن دورهم في الدنيا كبير وثوابهم في الآخرة عظيم إن شاء الله. الفرقان: من مؤلفاتكم (ابن خلدون وفقه السنن) و(الإمام الشيخ محمد عبده معاصرًا)، نرجو تقديم فكرة عن كلٍّ منهما من حيث سبب التأليف والمضمون. أ. د. زرزور: الكتاب الأول كان بمناسبة مرور ستة قرون على وفاة ابن خلدون، حيث احتفلت بذلك بعض الجامعات، واعتبرت أن محور نظرية ابن خلدون هي السنن وليست الدولة وليست العصبية كما قال بعض الباحثين، وقارنتُ بينه وبين الشاطبي الذي اشتغل بفقه المقاصد حيث كانا في عصر واحد. وأعتقد أن نهضة العالم الإسلامي مربوطة بهذين الفقيهين، ولقد تلمست ملامح خاصة لمدرسة التجديد المغربية فوجدتها في كلا الرجلين، وكان ذلك في القرن الثامن. أما الكتاب الثاني فكان بمناسبة مرور مئة عام على وفاة الشيخ محمد عبده منذ ١٩٠٥. لقد ظُلمنا حين أُبعدنا عن هؤلاء الرموز وقيل لنا إن تجديدهم غير صحيح. وهذا كلام خاطئ. وأريد بهذه المناسبة أن أبدي عدم ارتياحي إطلاقًا لمنهج التشويه المتعمد الذي ليس له أي قيمة علمية. فالذي اتبعه محمد محمد حسين في كتابه (حصوننا مهددة من الداخل) هو منهج مدان في الحقيقة؛ هذا الذي يحطِّم كل الرؤوس. محمد عبده له جوانب إيجابية ضخمة عجيبة ومن قبله جمال الدين الأفغاني ومن بعده عبد الرحمن الكواكبي وذلك بالرغم من أخطائهم من خلال العصر ومن خلال المعطيات. يقول الكاتب في الكتاب الذي أشرتُ إليه: إن محمد عبده كان يحرِّض على تعليم اللغة الأجنبية. أهذا يعدُّ مأخذًا عليه؟! لا بد من إعادة التقويم وأن يكون موضوعيًّا، والإصلاح لا يولد في فراغ، فلولا الأفغاني ما كان محمد عبده ولولا محمد عبده ما كان رشيد رضا ولولا رشيد رضا ما كان حسن البنا أساسًا؛ فحسن البنا لما جاء بدأ من حيث انتهى رشيد رضا في التفسير وفي العقل. ومن هذا المنطلق كتبتُ عن محمد عبده. وهناك بحث لي عن عبد الرحمن بدوي الذي ختم حياته بكتابين هما: (دفاع عن محمد) و(دفاع عن القرآن)، وهما كتابان جيدان. الفرقان: شكرًا لكم على هذه المعلومات، وأثابكم الله.
حوار مجلة الفرقان مع الدكتور عدنان زرزور (*) ضيفنا في هذا العدد عالم من العلماء البارزين على مستوى العالم الإسلامي، له جهود علمية في أكثر من علم من علوم الشريعة، أكسبته نشأته الدينية ومعرفته بكبار علماء الأمة ومفكريها رؤية شاملة للإسلام وعلومه، وأكسبه ذلك رؤية نقدية وتاريخية ثاقبة مكّنته من الوقوف على كثير من المغالطات التي درج عليها أهلها سنوات عديدة سواءً في مجال العلم الشرعي أو في مجال العمل الإسلامي، فقام بالتنبيه إليها وبيان خطرها. نشأ الأستاذ الدكتور عدنان زرزور في دمشق، ودرس في مدارسها، ثم درس في كلية الشريعة في جامعة دمشق -التي كان للأستاذ مصطفى السباعي الفضل في إنشائها- وتخرج فيها عام ١٩٦٠، وكان هو والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني/ رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم على مقعد دراسي واحد في العامين الأول والثاني. ثم حصل على الماجستير في القاهرة، ثم الدكتوراه في عام ١٩٦٩ وكان على رأس لجنة المناقشة الشيخ محمد أبو زهرة ﵀ الذي نهل من علمه الكثير. ثم رجع إلى جامعة دمشق للتدريس فيها لمواد العقيدة ومقارنة الأديان والنظام الإسلامي ومقررات ثقافية أخرى بالإضافة إلى تفسير الحديث الشريف خلال الفترة من ١٩٧٣ حتى ١٩٨٠، وخلال هذه الفترة درَّس في الجامعة الأردنية بصفة محاضر غير متفرغ من ١٩٧٢ حتى ١٩٧٥، ثم عمل في جامعة الإمارات، ثم جامعة قطر التي قضى فيها خمسة عشر عامًا، وهو الآن يعمل في جامعة البحرين في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية التابع لكلية الآداب. تابع الدكتور زرزور دراسة تفسير مخطوط من عشرة مجلدات، لكن ظروف الخروج من بلده أضاعت النسخ للأسف الشديد حيث كان قد بلغ فيه جهدًا في نسخ سورة البقرة، وهذا التفسير للحاكم الجشمي المتوفى عام ٤٨٥هـ، من أعلام القرن الخامس، مما دفعه واضطره ليؤرخ للقرن الخامس تقريبًا بشكل كامل وعرّج على القرن الرابع بمناسبة كتاب القاضي الجبار، فصار متابعًا لقراءة التاريخ وأحداثه بعد قراءته لأحداث هذين القرنين في كتب التاريخ القديم. يقول الدكتور زرزور في هذا الصدد: أعجبني من المؤرخين (ابن كثير) بصورة خاصة لأنه كان حاضر الذهن وناقدًا، وكان لآرائه في تفسير المسائل أو في عرضها الرجحان بوصفه محدثًا أيضًا. فيبدو أن اختياره للروايات أو الترجيح أفاد فيها من منهجه النقدي في علم المصطلح، مع مزايا أخرى تمتع بها بالقياس إلى ابن الأثير أو حتى الطبري أو ابن الجوزي وغيرهم. ثم اشتغل الدكتور زرزور بعد ذلك في التفسير والحديث، ثم اشتغل بعلوم القرآن الكريم حيث تخصصه الأساسي: التفسير وعلوم القرآن، وله كتاب في ذلك ينوف على (٧٠٠) صفحة، لا يخلو من نظرات نقدية أو إعادة النظر في قضايا كثيرة. صدر للدكتور زرزور أكثر من أربعين كتابًا وبحثًا منها: تحقيق (متشابه القرآن) للقاضي عبد الجبار المعتزلي، نشر في مجلدين مع مقدمة للدكتور تقرب من (٧٠) صفحة. وكتاب (الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن)، (علوم القرآن وإعجازه وتاريخ توثيقه)، (البيان النبوي: مدخل ونصوص)، (سمات البلاغة النبوية بين الجاحظ والرافعي والعقاد)، (ابن خلدون وفقه السنن)، (منهجية التعامل مع علوم الشريعة في ضوء التحديات المعاصرة)، (نحو عقيدة إسلامية فاعلة)، (الفجوة بين جانبي الأطلسي والحروب الحضارية)، (مدخل إلى السنة النبوية لدى أهل السنة والشيعة الإمامية) وهو تحت الطبع. والدكتور زرزور إذا تكلم فسيل متدفق، تراه يجلّي مسائل الشريعة بالتحليل الدقيق والتفسير العميق، وقد كان مدرسًاَ لعدد من العلماء المعروفين اليوم. التقيته على هامش المؤتمر القرآني الأول الذي عقدته جمعية المحافظة على القرآن الكريم وكان هذا اللقاء. _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أثبت هذا الحوار هنا لفائدته
(نحو جيل قرآني) الفرقان: شاركتم في بعض جلسات المؤتمر القرآني الأول الذي عقدته الجمعية تحت عنوان: (نحو جيل قرآني)، كيف ترى السبيل إلى هذا الجيل؟ أ. د. زرزور: أنا أفهم من هذا العنوان أنه جيل الأمة المعاصر، كيف ننتقل به من حالة الضياع وتوزيع الأهواء إلى جيل قرآني مصدره واحد، لكن هذا يحتاج إلى أن تكون هناك أنواع من التخصصات تجتمع في النهاية لإشاعة قيم القرآن في الأمة. إن المشكلة الآن أن التحديات في وجه أجيال المسلمين طويلة، عصر ما قبل سقوط الخلافة وعصر ما بعده، تحديات داخلية وخارجية طاحنة، وإن أسوأ ما تعرضنا له موضوع التقسيم الجغرافي، وموضوع تعدد المشارب أو تعدد المذاهب الذي حُمل إلينا على جناح (المعاصرة) مثلًا، فهذه الكلمة أو كلمة (الحضارة) كانت المدخل لإشاعة قيم لا تأتلف مع القرآن أساسًا، فهبطت علينا القومية والاشتراكية والماركسية والوجودية والعلمانية مصحوبة بدول متقدمة حضاريًّا فاندفعنا في طريق التغريب ونحن نظن أننا نحقق لأنفسنا الحداثة أو المعاصرة، فوجدنا أنفسنا متغربين لا متحضرين، فلسنا نحن الذين صنعنا الحضارة بكل تأكيد. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الإسلام بالنسبة للمجتمع العربي والإسلامي هوية أم اتجاه؟ إنه هوية وليس اتجاهًا، لكن التعبير عن الهوية في ظل هذا الزخم أخذ شكل الاتجاه. والأسوأ من ذلك أن المعبرين عن هذه الهوية عندما أخذت شكل الاتجاه ربما وقعوا في خطأ تصور أو خطأ الممارسة مما أبعد الفكر الإسلامي عن الحياة الذي هو نتاج قرآني بالأساس، فحدث التغريب. لكن المذاهب غير الإسلامية سقطت في الواقع كالماركسية مثلًا. أما الخصوصية التي تفضلتَ بالسؤال عنها وهي (الجيل القرآني) فالقرآن إنساني الرسالة وعالمي الخطاب؛ فمواصفات الجيل القرآني هي مواصفات النص القرآني، لكن النص القرآني الذي فُسِّر خلال العصور ربما أمكننا الآن أن نعيد النظر في جزء كبير من قواعد التفسير أو أن نضيف إليها ونعدّل فيها بحيث نستطيع أن ننتج جيلًا قرآنيًّا معاصرًا لا جيلًا يكرر ما كتب حول التفسير في كتب التفسير أو في كتب التاريخ، فليس كل ما كتب في هذه الكتب صحيحًا.
(أسباب النزول) الفرقان: نرجو توضيح هذه المسألة، حتى لا يشكل الأمر على القارئ والمهتم بعلوم التفسير؟ أ. د. زرزور: الآن -مع الآسف- يجري التركيز على أسباب النزول، فيراد إغراق القرآن في البيئة التي نزل فيها، وأنا الآن أبحث في هذا الموضوع، وقد رددت على بعض الآراء والنظريات في ذلك، لكن ليس معنى ذلك أن لا نقبل الآراء التي تقال، ولكن يجب مناقشتها والاتفاق على مجموعة من القواعد: لماذا نزل القرآن منجمًا؟ هل نستطيع أن نستفيد من التنجيم الآن؟ هل في القرآن ناسخ ومنسوخ؟ هل أسباب النزول تُقبل هكذا، وهل كل آية في القرآن لها سبب نزول وهذا السبب مرتبط بها؟ يجري التركيز الآن على سبب النزول من قبل كثير من المعاصرين لإثبات أن القرآن كتاب تاريخي أو منتج بشري في تاريخ معين، وأن التاريخ عندما يتطوّر يمكن أن تعدّل بعض الأحكام. فهذا الربط بأسباب النزول أدى إلى مبالغات ومجازفات وكلام غير صحيح. أنا الآن عندما أقول: إن الآية لها سبب نزول، فإن معنى ذلك أنني مضطر أن أفسِّر الآية من خلال سبب النزول، صحيحٌ أن النص أعم من سبب النزول، ولكن سبب النزول أن يكون داخلًا فيه، فإذا كنت ولا بد مضطرًا لأفسِّر الآية في ضوء سبب النزول، والنص القرآني متواتر، فأنا الآن لو اشترطت التواتر في أسباب النزول لما كان ذلك بعيدًا أو خطأً. لكن أنا لا أقول بضرورة أن يكون سبب النزول متواترًا، لكن لا أقلَّ من أن يكون صحيحًا على مثل شروط البخاري أو شروط الشيخين مثلًا. ولقد وجدت أن أسباب النزول الموجودة في البخاري لا تعدو أن تكون ثمانين أو واحدًا وثمانين رواية فقط، علمًا بأن البخاري من أكثر المفسرين عناية بأسباب النزول. لذلك يجب عزل هذا الركام من أسباب النزول أو إعادة النظر فيه، لأن هناك تفسيرًا للآيات بأشياء غير صحيحة. وأعتقد أن كثيرًا من الزيف دخل على الفكر الإسلامي -وخصوصًا من الفرق الأخرى - من خلال أسباب نزول واهية أو مكذوبة أو لا أصل لها. لذا إذا أردنا أن ننتج جيلًا قرآنيًّا يجب أن يكون منهجيًّا في التفسير ليس فيه أخطاء التاريخ ولا وزره، كما يجب أن يكون مصحوبًا ببعض المقارنات ومنفتحًا من خلال دراسة ما عند الأمم الأخرى ودراسة حضاراتها. والزعم بأن القرآن كتاب تاريخي مرفوض من زاوية أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأؤكد على أن ما أنتجه التاريخ يمكن للتاريخ تجاوزه، ولكن ما كان تنزيلًا من حكيم حميد هو لكل العصور والأجيال.
(قضية الإعجاز العلمي) الفرقان: ثمة جدل في قضية الإعجاز العلمي في القرآن وخلاف حول التسمية والمضمون، ولقد بحثتم في هذا الموضوع. نرجو منكم جلاء هذا الأمر. أ. د. زرزور: أتت فكرة الإعجاز العلمي من أن القرآن أشار إلى مجموعة من الحقائق المتصلة ببناء الكون وبعلوم خلق الإنسان والنبات والبحار والجنين وغير ذلك، وأن تفسير الآيات التي حملت هذه الإشارات بما انتهى إليه العلم الحديث يسمى إعجازًا. أنا لا أسميه إعجازًا إطلاقًا، لأن الإعجاز أساسًا هو ثمرة التحدي كما يقول العلماء القدامى ﴿فأتوا بعشر سور مثله مفتريات﴾، فعجزوا فثبت أن القرآن معجز. كما أن الحقائق العلمية التي تضمنها القرآن في آيات عدة إنما جاءت في سياق الاستدلال على الله تعالى لا في سياق التحدي أساسًا. فمثلًا: آيات الطبيعة والإنسان وردت في سياقين: سياق الانتفاع والتسخير، وسياق التأمل والتدبر والانتقال من المخلوق إلى الخالق بمعنى الدلالة على الصنعة الإلهية. أنا أريد أن أفرّق بين ثلاثة مصطلحات: إعجاز القرآن، والتفسير العلمي للقرآن، والمنهج العلمي في القرآن. فإعجاز القرآن هو القضية الأساسية القديمة التاريخية، التي كتب فيها العلماء وتداولوا فيها وكُتبت فيها نظريات كثيرة أبرزها نظرية (النظم) لعبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري وما زال الناس حتى الآن يقتبسون من نوره أو يسرجون مصابيحهم من زيته، لأن كلامه في غاية العمق، وهو قدّم النظرية الهيكلية لإعجاز القرآن إن صح التعبير، ثم جاء على هذا المنوال من بعده الرافعي وسيد قطب وآخرون. أما التفسير العلمي للقرآن فمعناه الانتفاع بحقائق العلم التجريبي في شرح الآيات، مثل: ﴿يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل﴾ أو خلق الجنين أو غير ذلك. وفي هذا التفسير قد نضلّ أو نخطئ، أو قد يتبين لنا فيما بعد أنّ كلامنا حول ذلك غير صحيح ولذلك لا يمكن أن يقال عنه إنه إعجاز. دعنا نقول إن (موريس بوكاي) هو أصح ذهنًا من كثير من المسلمين المعاصرين. وهنا أشير إلى أن (مراد هوفمان) نصّ في كتابه (الإسلام كبديل) على أن بوكاي أسلم، وهو أمر تؤيده بعض أفكاره في كتبه وبالذات كتابه: ما الإنسان؟ - يقول بوكاي: لا يمكن إدراك هذه الحقائق العلمية خارج النص العربي أي خارج القرآن باللغة التي نزل بها التي يسمى معها قرآنًا، لأن الترجمة لا تسمى قرآنًا، يريد القول إن الترجمة ستضيّع المعاني. ويقول: أنا لا أريد المجازفة، لا يفسَّر القرآن بأية نظرية إنما يفسَّر بالفعل القائم الواقع. فمثلًا: دوران الأرض حول الشمس فعل واقع وليس نظرية، لكن المدار الذي تدور فيه نظرية، وقد تأتي نظرية فتحدد المدار بشكل أفضل. وهذا تنزيه للنص القرآني عن أن يكون كلامًا في الطب أو الفلك أو الرياضيات أو غير ذلك. ما أريد قوله: إن هذه الحقائق أو الأدلة العلمية تصب في خانة أن القرآن وحي يوحى. لكن هل هذه الأدلة تسمى إعجازًا؟ لا، إنها تدل على أن القرآن من كلام الله مثله في ذلك مثل التوراة والإنجيل قبل أن يدخلهما التحريف. لكن القرآن ينفرد عنهما بوصف آخر، وهو أن هذا الوحي معجز، فالإعجاز وصف زائد على كونه وحيًا، ومن ثم فالأدلة التي يسوقها الباحثون في الإعجاز العلمي على أن القرآن وحي لا تدخل في باب الاستدلال على أن القرآن معجز. الفرقان: الدكتور زغلول النجار لا يتكلم في الإعجاز من باب التحدي، وإنما من باب الاستدلال على أن هذا القرآن من عند الله. أ. د. زرزور: نعم هذا لا بأس به، لكن يجب أن يتم إخراجه من باب المصطلحات. الفرقان: ولماذا يحدث خلط في هذا الموضوع إذن؟ أ. د. زرزور: أنا أقول: إن القرآن معجز بنفسه وليس بتفسيرنا له. وكأن الدكتور النجار وغيره يتحدثون عن إعجاز التفسير العلمي وليس عن إعجاز القرآن، علمًا بأن الإعجاز وصف للقرآن نفسه، بمعنى أن النص نفسه معجز، سواء فهمنا معناه أم لم نفهم، أو أدركنا المدلول العلمي له أم لم ندركه. وهناك قضية مهمة: قد نقول إن القرآن تحدّانا بهذه العلوم فعرفناها. فهل إذا عرفناها انتهى إعجاز القرآن، أم ماذا؟ هذه قضية خطيرة حقًّا، القرآن لم يتحدَّ بموضوع معين، لقد تحدَّى بالنظم، تحدَّى بالسور، تحدَّى بسورة، لأن السورة هي عبارة عن نظام بياني يعجز عنه الإنسان، لم يتحدَّ القرآن بعشر آيات في موضوع معيّن. الفرقان: ولكن الإعجاز العلمي -كما يرى الدكتور زغلول النجار- يفيدنا في دخول غير المسلمين في الإسلام؟ أ. د. زرزور: أنا أعتبر أن أثر هذا الأمر ضعيف. وقد أشرت إلى هذا في المؤتمر القرآني. وأقول: إن دعوة للقرآن بمبادئه وأخلاقه وأحكامه تحقق نتائج أضعاف أضعاف ما تحققه الفكرة التي أشرتَ إليها. من الذي يدخل في الإسلام الآن؟ إنه الذي يعاني من أزمة عقائدية أو أزمة فكرية أو أخلاقية أو روحية. إذن الإعجاز لم ينته بالتحدي ولن ينتهي، الإعجاز ليس بالسبق (١٤٠٠ عام أو أكثر) إنما بالتفرد، بمعنى أن أحدًا لا يستطيع أن يأتي بمثله من حيث النظم ومن حيث النظام؛ نظام وحدة السورة التي فيها ترابط وبلاغة. والجاحظ يشير إلى أنه لم يجر التحدي بأقل من سورة. وعبد القاهر الجرجاني في معرض حديثه عن (عشر سور مفتريات) يقول: "إن الافتراء في المعاني وليس في النظم". فالقرآن لم يتحدَّ بالمضامين إطلاقًا بدليل (مفتريات)، وهذا من أعظم أنواع التسهيل على العرب وغيرهم أن يتحداهم القرآن بأي موضوع شاءوا. ونضرب مثالًا بالقصص القرآني؛ فالقصة القرآنية ملتزمة بواقع معين، ومع ذلك عُرضت عرضًا فنيًّا رائعًا بلغ حدّ الإعجاز. القرآن يقول لك: تحدّث بالقصة التي تريدها، ولكن بشرط أنك إذا عرضتها أن يكون لها مثل رواء النظم القرآني وبهائه وأناقة أسلوبه ... إلخ. هذا تسهيل لأن الخيال أقوى من الحقيقة ... وأنا إذا كنت فنانًا أو قصاصًا وأردت مثلًا أن أكتب قصة وألتزم فيها بالوقائع سأصير مؤرخًا، وإذا أردت الخروج عن النص لم أعد مؤرخًا. لذلك أقول: إن الإعجاز هو بياني في الأساس، لكن الآيات التي موضوعها علمي فيها مسحة بيانية إضافية، وجاء التعبير عن هذه الموضوعات على وجه لا يعجز عن خطاب الإنسان في أي عصر ولا يحمّله كذلك أكثر مما يطيق. وهذا أمر لا يستطيعه أحد من خلق الله. فأنا لا أستطيع - مثلًا - أن أنشئ جملة فيها حقيقة علمية يكتشفها الناس بعد (١٠٠٠) عام، والذي نزلت عليه يفهمهما ويتعامل معها، والذين يقرؤها بعد (٢٠٠٠) عام يرى فيها أمرًا آخر. هذا يدل على أن الإنسان ابن عصره وزمانه، لذا أنا أرجعت الإعجاز العلمي إلى التفسير البياني من هذه الزاوية؛ من زاوية التعبير عن هذه الحقائق العلمية على نحو لا يعجز عن خطاب الإنسان في عصر التنزيل ولا في العصور اللاحقة، ولا يحمّله كذلك أكثر مما يطيق. تصوّر الآن، لو نزلت في القرآن آية تتحدث عن كروية الأرض في عصر التنزيل لكُذّب النبي ﷺ، هو أساسًا ﵊ لم يأت بما يخالف الناس وكذّبوه! فجاء التعبير ﴿يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل﴾، ﴿رب المشارق والمغارب﴾، ﴿رب المشرقين ورب المغربين﴾ ففهمنا هذا - كما يقول موريس بوكاي - في عصر متأخر ولا غبار علينا ولا حرج. الفرقان: فهمت من كلامك أنه يمكن أن يكون هناك إعجاز فيما يخص القضايا العلمية الثابتة، وهذا يدعو إلى ضرورة وجود ضوابط منهجية لترشيد البحث في الإعجاز العلمي. أليس كذلك؟ أ. د. زرزور: نعم، أنا بحثت هذا الموضوع تحت اسم (شروط التفسير العلمي) وليس الإعجاز العلمي، بمعنى أنه لا يُفسَّر القرآن إلا باليقينيات العلمية. واليقينيات هي التي ارتقت من درجة الفروض إلى مقام الحقائق التي لا يتطرق إليها شك. يقول موريس بوكاي: يجب أن نرتقي بها إلى درجة الفعل القائم المشاهد أو المحسوس. وهناك نقطة مهمة وهي أن التفسير العلمي لا تفسَّر به المعجزات لأن المعجزات ثبتت على خلاف القضية العلمية، فهي استثناء من قضايا العلم؛ لأن العلم بمعنى القانون أو السنة، فالمعجزات لإيقاف السنة أو إبطال عملها أو لإيقاف الدلالة على أن الذي يأتي بها نبي أو موحى إليه، فعندما يأتي البعض - تحت عنوان الدفاع عن القرآن وبيان أن القرآن لا يتعارض مع العلم - ويفسر المعجزات بأنها قضايا علمية، فهذا عكس الموضوع تمامًا. وهذا (علي فكري) فسَّر أن العصر السليماني كان يعرف الحروب الهوائية والطيران الشرعي، لأنه كان فيه سفر هوائي منظم، وأن الجنود التي تهبط بالمظلات ليس قضية جديدة، لأن يوم بدر هبطت فيه الملائكة .. هذا الكلام سخيف في الحقيقة.
(التفسير الموضوعي) الفرقان: ما أهمية أو فائدة التفسير الموضوعي للقرآن، وما مهمته؟ أ. د. زرزور: ليست كل سورة من سور القرآن الكريم مختصة بموضوع واحد بل بعدة موضوعات، يقابل هذا أن الموضوع الواحد - بطبيعة الحال - يتوزع في سور متعددة. لا بد من ضم أطراف الموضوع الواحد على صعيد واحد حتى لا نخطئ في التفسير؛ لأن هذا أحد الأسباب التي دعت إلى الخلاف بين الفرقاء أو المتكلمين عندما يأتي أحدهم إلى جزء من السورة أو جزء من الموضوع في آية ويعتبرها هي الأصل إلى درجة أنه يضطر إلى إدخال سائر الآيات في التأويل، ونحن لسنا مضطرين للتأويل إذا أمكننا أن نعيد بناء السورة القرآنية للموضوع الواحد على صعيد واحد. هذه هي مهمة التفسير الموضوعي. وهناك فوائد كثيرة لهذا النوع من التفسير، لكن أبرز فائدة من فوائده أن الخلاف الذي احتدّ بين المتكلمين وحتى بين بعض الفقهاء في بعض الأحيان - والذي بلغ حد اختلاف التضاد وليس اختلاف التنوع - كان سببه أن بعضهم أخذ جزءًا من السورة واعتبرها أصلًا واضطر إلى إدخال سائر أجزاء السورة في التأويل. فمثلًا، آيات الهداية والضلال، اعتبر بعض العلماء أن معنى الهداية خلق الإيمان في قلب المؤمن، علمًا بأن مدلول الهداية في القرآن متعدد، فإذا جمعناه على صعيد واحد فلا خلاف، لكنهم فهموا (هدًى للمتقين) أي ليس هدى لغيرهم كما يقول الأشاعرة، لكن المتعزلة لا على معنى أنه هدى للمتقين وحدهم لأن القرآن هداية لجميع الناس، ولكن لأن المتقين هم الذين اهتدوا به، فكأنه إنما كان هداية لهم دون غيرهم. وبعض الأشاعرة -استنادًا إلى أن الهداية خلق الإيمان في قلب المؤمن- فسّروا الآيات كلها على هذا النحو، فآية ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ فأول الآية ﴿هديناهم﴾ أي هدينا المتقين منهم. هذا الكلام ليس صحيحًا. والتفسير الموضوعي مهم في هذه الأمور وهو يحل كثيرًا من هذه المعضلات. الفرقان: هناك آيات كثيرة في القرآن ليس لها تفسير واحد أو فسِّرت بعدة تفسيرات أو عدة آراء. وهذا الاختلاف قد يوقع في حيرة. ما رأيكم؟ أ. د. زرزور: هذا صحيح، وهناك آيات ربما اتفق العلماء على دلالتها. فمثلًا، إذا كانت آيات معينة دلالتها ظنية، والدلالة الظنية تحمل عدة وجوه وهذا أمر طبيعي. وسواءٌ كان هناك اختلاف تنوّع أو اختلاف تضادٍّ، لكن في نهاية المطاف ما دام التفسير ضمن قواعد اللغة العربية وأصولها المتفق عليها فتعدد وجهات النظر موجود. لا يوجد شيء في القرآن لم يقف العلماء أمامه فقالوا هذا لا يعلم تأويله إلا الله - مثلًا-، حتى فواتح السور فسَّرت التي قال بعضهم إنها من المتشابه وهي ليست كذلك بكل تأكيد. ومفهوم المتشابه الذي توزعت مفاهيمه على آراء قد تصل إلى ثلاثين رأيًا، وهناك فصل لي في كتابي في المتشابه يحل مشكلة آيات الصفات.
(بين سيد قطب والشعراوي) الفرقان: قمتَ بمقارنة بين تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب، وبين تفسير محمد متولي الشعراوي في كتيب يتحدث عن الشعراوي. فما خلاصة ذلك؟ أ. د. زرزور: قلتُ فيه: لو جاء سيد قطب محل الشعراوي لنحا منحاه، ولو جاء الشعراوي محل سيد قطب لنحا منحاه، بمعنى أن كلَّ واحد منهما قام بما توجبه عليه الظروف من شرح القرآن وتفسيره. (الظلال) لسيد قطب مدرسة متميزة في تفسير القرآن غير معهودة عند السابقين. لم يسلك منهج الإعراب والنحو والقراءات والأحكام والقصة والمناسبة، كان من نوع آخر، اهتم بالوحدة الموضوعية في السورة ووجه الارتباط بين الآيات. لا أعتقد أن أحدًا قبله استطاع أن يلمس فكرة الوحدة الموضوعية في السورة بهذا العمق وهذه السلاسة. كان سيد ﵀ حافظًا للقرآن وكان يقرأ السورة عدة مرات حتى يقف على مفتاحها ولا يقرأ من كتب التفسير حولها شيئًا حتى لا يتأثر بها فكان يقول: "إنه كان يفتح عليّ في بعض الأحيان في وقت قريب، وفي بعض الأحيان يستغرق ذلك وقتًا حتى إذا أدركت المحور الرئيسي في السورة والمحاور الفرعية جلست للكتابة عنها ووددت لو أنني أنهيتها في جلسة واحدة لكان ذلك أفضل". حتى إذ انتهى من السورة الأولى كان يعود إلى كتب التفسير ليستدرك سبب النزول أو روايةً أو شيئًا من هذا القبيل، حتى لا يتأثر بمعنى من المعاني التي تسبق إلى ذهن غيره فتحجزه عن فهمه المباشر مع القرآن، أي إنه تعامل مع القرآن بنحو مباشر بدون مقرر فكري مسبق من أصحاب المبادئ والعقائد والمتكلمين والفقهاء - فلا أشاعرة ولا خوارج ولا غير ذلك-، ولذلك أُخذ عليه أن آيةً -مثلًا- فسّرها على مذهب المرجئة -ولا علاقة لها بالمذاهب أساسًا- فليس سيد مضطرًّا أن يؤوِّل الآية حتى لا يوافق تفسيره رأيًا قال به مرجئيٌّ أو معتزليٌّ أو غير ذلك، لأن آراء مثل هذه المذاهب ليست هي الأصل في التفسير. إن الأصل في التفسير هي المعاني التي تدل عليها الآيات. ويمكن أن نصنّف هذا التفسير (في ظلال القرآن) في قائمة التفسير الأدبي والدعوي والاجتماعي. وقد حاول بعض المفسرين المعاصرين تقليد سيد في مجال الوحدة الموضوعية لكنه لم يوفق توفيق سيد، وليس معنى هذا أن سيد قال الكلمة الأخيرة في تفسيره؛ لأن هناك بعض المحاور قد نختلف معه فيها، فإنًّ ما أخذه سيد على غيره من المفسرين لا أقول وقع فيه ولكن كاد أن يقع فيه، ولسيد تصور معين عن كيفية إزاحة ما أسماه (الجاهلية) عن مقعد القيادة والتأثير؛ هذا المنهج صار يأخذه من القرآن ويستنطق الآيات لتنطق به. أما الشيخ الشعراوي ﵀ فتفسيره الأبرز منطوقًا وليس مقروءًا. إن طريقة الشعراوي في العرض هي التي شدّت الناس إلى تفسير القرآن الكريم. فلو أنهم جلسوا لقراءة تفسيره مكتوبًا لما تفاعلوا معه بالطريقة التي تفاعلوا معه وهو يتحدث. لكن الشعراوي ﵀ كانت لديه قدرة فائقة على أمرين، الأول: الإفادة من محصّلة كتب التفسير على اختلاف مذاهبها، فيطرحها كأنها شيء من عنده أو من بنات أفكاره وعلى نحو لا يثير أي حساسية. فقسم كبير من أفكاره يمكن أن نصنّفه، فمنه ما هو مع الخوارج ومنه ما هو مع المعتزلة ولكنه لا يقول هذا. والثاني: كانت لديه قدرة على التبسيط، فالمعاني الصعبة يبسِّطها. لقد كان معلم تفسير أكثر من كونه مفسرًا، والمفسر قاعدته واسعة يأخذ منها ويهضمها ويتمثلها وينتقي منها ما هو لصيق بالإعجاز وما هو لصيق بإثارة العاطفة والإعجاب عند الناس. فالشعراوي أدّى في مرحلة معينة من التاريخ المعاصر رسالة مهمة في إيصال معاني القرآن للناس على نحو مبسط.
(الحرب ضد القرآن) الفرقان: هناك محاولات عديدة لتحريف آيات القرآن على شبكة الإنترنت. كيف نصدّ هذه المحاولات؟ أ. د. زرزور: التحريف اللفظي لا قيمة له إطلاقًا لأن القرآن موجود ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ وهذا يكشف أصحاب هذا التحريف ومدى سخف هؤلاء وتفاهة عقولهم. لكن الخطورة في تحريف المعاني، وتكمن في التاريخ الإسلامي في عصر سيادة الحضارة الإسلامية وسيادة الدولة الإسلامية حين أرادوا أن يقوّضوا دعائم الإسلام فزعموا أن القرآن له ظاهر وباطن، وأن هذا التأويل لا يعرفه إلا الإمام والإمام هو الذي يفسّر، وغيره يلغي عقله، والصيام رجل والزكاة رجل، أي بمعنى أنهم فصلوا ما بين القرآن وبين دلالاته ومعانيه، بهدف إخراج الناس من الإسلام في وقت لا يستطيعون فيه محاربة الإسلام. أما الآن، فالصورة التي أمامنا أن الأمة تريد العودة إلى الإسلام، فتقدّم بعض الناس لملء الفراغ على غرار الباطنيين القدامى أو القرامطة الجدد، يريدون الفصل بين النص والمعنى، من أجل أن يحولوا بين المجتمع الإسلامي وبين العودة إلى الإسلام، ففكرة الظاهر والباطن والتفسير المعاصر والقراءة المعاصرة كثرت الآن. وأنا أقوم حاليًّا بدراسة معمقة في هذه المعاني لما يثيره أمثال محمد شحرور وحامد نصر أبو زيد وحسن حنفي في هذا الصدد من أصحاب المنهج المتهالك متعدد الأخطاء والتجاوزات والأكاذيب. وقد ثبت لي أخيرًا أن هذه الآراء لها أصول في الأحاديث المكذوبة والموضوعة عند الفرق القديمة. الفرقان: هل من نصيحة توجهونها لطلبة التفسير وعلوم القرآن؟ أ. د. زرزور: أقول: إنهم يشتغلون في أفضل أبواب العلم، وأرجو أن يكون الله تعالى قد أراد بهم خيرًا عندما سهّل لهم طريق خدمة القرآن في التفسير أو التلاوة أو التجويد أو التحفيظ. وإن تعمقهم في التفاسير وتاريخ القرآن أو تاريخ التدوين أمر أساسي للبناء على ما سبق من المفسرين، ونرجو لهم التوفيق والسداد في التحصيل وفي الإضافة وفي توظيف معارف القرآن وإشاعة أخلاقه ومبادئه وقيمه بين الناس، علمًا بأن القرآن - والله أعلم - لا يعطي مفاتحه في الفهم لغير من كان صافي السريرة والنفس وعلى درجة من الإيمان والعمل الصالح والتلاوة الدائمة للقرآن. إن تمثلوا ذلك فإن دورهم في الدنيا كبير وثوابهم في الآخرة عظيم إن شاء الله. الفرقان: من مؤلفاتكم (ابن خلدون وفقه السنن) و(الإمام الشيخ محمد عبده معاصرًا)، نرجو تقديم فكرة عن كلٍّ منهما من حيث سبب التأليف والمضمون. أ. د. زرزور: الكتاب الأول كان بمناسبة مرور ستة قرون على وفاة ابن خلدون، حيث احتفلت بذلك بعض الجامعات، واعتبرت أن محور نظرية ابن خلدون هي السنن وليست الدولة وليست العصبية كما قال بعض الباحثين، وقارنتُ بينه وبين الشاطبي الذي اشتغل بفقه المقاصد حيث كانا في عصر واحد. وأعتقد أن نهضة العالم الإسلامي مربوطة بهذين الفقيهين، ولقد تلمست ملامح خاصة لمدرسة التجديد المغربية فوجدتها في كلا الرجلين، وكان ذلك في القرن الثامن. أما الكتاب الثاني فكان بمناسبة مرور مئة عام على وفاة الشيخ محمد عبده منذ ١٩٠٥. لقد ظُلمنا حين أُبعدنا عن هؤلاء الرموز وقيل لنا إن تجديدهم غير صحيح. وهذا كلام خاطئ. وأريد بهذه المناسبة أن أبدي عدم ارتياحي إطلاقًا لمنهج التشويه المتعمد الذي ليس له أي قيمة علمية. فالذي اتبعه محمد محمد حسين في كتابه (حصوننا مهددة من الداخل) هو منهج مدان في الحقيقة؛ هذا الذي يحطِّم كل الرؤوس. محمد عبده له جوانب إيجابية ضخمة عجيبة ومن قبله جمال الدين الأفغاني ومن بعده عبد الرحمن الكواكبي وذلك بالرغم من أخطائهم من خلال العصر ومن خلال المعطيات. يقول الكاتب في الكتاب الذي أشرتُ إليه: إن محمد عبده كان يحرِّض على تعليم اللغة الأجنبية. أهذا يعدُّ مأخذًا عليه؟! لا بد من إعادة التقويم وأن يكون موضوعيًّا، والإصلاح لا يولد في فراغ، فلولا الأفغاني ما كان محمد عبده ولولا محمد عبده ما كان رشيد رضا ولولا رشيد رضا ما كان حسن البنا أساسًا؛ فحسن البنا لما جاء بدأ من حيث انتهى رشيد رضا في التفسير وفي العقل. ومن هذا المنطلق كتبتُ عن محمد عبده. وهناك بحث لي عن عبد الرحمن بدوي الذي ختم حياته بكتابين هما: (دفاع عن محمد) و(دفاع عن القرآن)، وهما كتابان جيدان. الفرقان: شكرًا لكم على هذه المعلومات، وأثابكم الله.
نامعلوم صفحہ
بين يدي الكتاب
ربّ يسّر وأعن بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
هذه كلمة سريعة أردت أن أضمنها- بين يدي طبع هذا البحث- طرفا من الأسباب الأساسية التي دعتني إلى اختيار هذا الموضوع، وطرفا آخر من الفكرة التي انتهيت إليها- بعد مراجعات ليست بالقصيرة- في موضوع الفرق والخلاف في تاريخ الإسلام.
- ١ -
قصدت من هذا البحث- أولا- إلى مزيد من التعرف والاطلاع على جوانب المكتبة العربية الإسلامية، وبخاصة ذلك الجانب البعيد الذي ما زال مجهولا حتى الآن، والذي قدّرت أنه يسهم في إغناء الفكر الإسلامي والإنساني المعاصر ... وذلك عن طريق دراسة كتاب خطي هام- تمهيدا لتحقيقه ونشره- وشخصية علمية بعيدة الأثر في أهم جانبين من جوانب الفكر الإسلامي: التفسير وعلم الكلام ...
يقدم لنا كتاب الحاكم الجشمي في تفسير القرآن- كما سيرى القارئ
1 / 3
في هذه الرسالة- أجمع صورة وأدقها وأكثرها أمانة كذلك .. للطريقة التي تناول بها المعتزلة وأهل الرأي القرآن الكريم بالتفسير والشرح، كما يدلنا على مدى اعتماد المعتزلة على نصوص القرآن في آرائهم ومذاهبهم ...
وعلى تفريقهم بين ما يدخله التأويل من الآيات، وما لا يدخله التأويل ..
وعلى نظرتهم الدقيقة إلى المعارف ما يعرف منها من جهة الشرع، وما يعلم منها من جهة العقل، وما يصح أن يعلم منها من كل واحد من الطريقين.
ويدلنا هذا الكتاب أيضا على ذلك التفاعل الحي بين التابعين ورجال السلف من جهة، وبين شيوخ المعتزلة الأوائل من جهة أخرى .. وعلى مدى الالتقاء بين أولئك وهؤلاء. ويؤكد لنا الفكرة التي ألمحنا إليها في مقدمة هذا البحث، وهي أن الخلاف بين المتكلمين ورجال الفرق إنما نشأ في الأصل هينا يدعو إليه الخلاف في الفهم وقواعد النظر، ولكن عمق فيما بعد على أيدي الأشياع المتأخرين بفعل التعصب والمغالاة .. بل بفعل التخلف والانحطاط الذي كان يقعد بهؤلاء عن فهم ما قدمه الأوائل في بعض الأحيان .. أو الذي كان يدع صدورهم تضيق بالخلاف الذي اتسعت له صدور الأوائل وعقولهم. وكأن هذا التفسير يشير إلى أن مشكلات الإنسان الأساسية- وهي في جوهرها واحدة على مدى العصور:
ما وراء الطبيعة، الحرية الإنسانية، القضاء والقدر ... الخ، وإن اختلفت عناوينها وأساليب طرحها على الأزمان- إنما يطرحها الإنسان ويجيب عنها، أو يحاول الإجابة عنها، في أوقات رقيه وتقدمه، لا في أوقات تخلفه وانحطاطه وتدهوره المادي والمعنوي، التي يكون فيها مشغولا بالسعي على نفسه يدفع عنها غائلة الجوع والخوف.
1 / 4
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذ المبدأ الاجتماعي، عند ما أمر الله تعالى قريشا- في السورة المسماة باسمها- أن تتوجه إليه بالعبادة- المبنية على النظر ومعرفة الله تعالى- مذكرا إياهم أنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ فما الذي يقعد بهم إذن عن أن يتفكروا أن لهذا البيت ربا يستحق العبادة والتعظيم؟! ومن هنا- وهذا استطراد لا بدّ منه- تظهر واحدة من أهم مزايا رسالات الأنبياء حيث تحاول دائما أن تصل الإنسان بهذه المعاني الخالدة في الحياة حين لا يكون «مؤهلا» لطرح تلك الأسئلة، أو حين تكون أهليته- كما يثبت الواقع- ناقصة أو موهومة.
وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نفهم لماذا ختمت الرسالات بمحمد ﷺ بعد كل هذه التمهيدات والمحاولات- ونفهم كذلك لماذا ينحصر الصراع اليوم- حقيقة ومن وراء صور كثيرة- بين المنهج الإلهي متمثلا في الدين الخالد: الإسلام، وبين المناهج البشرية متمثلة في آراء الفلاسفة ومفكري النهضة.
- ٢ -
هذه المشكلات الإنسانية هي إذن مشكلة كل عصر، ومنهج الإسلام فيها- أو جوابه عليها- يتمثل في نصوص القرآن الكريم، في المقام الأول. ولكن هذه الإجابة لم «تفهم» على الدوام على نحو واحد إلا في جيل واحد على وجه التقريب- وهذا أمر جدير بالدراسة على ضوء وقائع السياسة وحقائق الاجتماع، وإن كان أمر وجود «الصورة الكاملة
1 / 5
أو «الحل الأمثل» ومحاولة «الانسان» بعد ذلك وجهاده للوصول إلى «استيعابه» وتطبيقه .. جديرا بالاعتبار- ومن ثم اختلفت بعض أجزاء الصورة عند كل من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وبعض الفرق الأخرى في تاريخ الإسلام. وقد قدم لنا الحاكم في تفسيره هذا أجزاء كثيرة وهامة من هذه الصورة، وبخاصة حين جمع خلاصة ما قدمه السلف ورجال الاعتزال على مدى أربعة قرون تقريبا ... فكان لا بدّ لنا اليوم من أن نتقدم إليه، وإلى سائر كتب التراث الأصيلة لجميع الفرق الإسلامية؛ نجمع منها بعناية ودقة أجزاء تلك الصورة المبعثرة، لنعيد «تركيبها» وصياغتها من جديد- ما استطعنا إلى ذلك من سبيل- لندل اليوم، وفي زحمة المبادئ وصراع الأفكار، على «الصورة القرآنية» وعلى «عقيدة القرآن» التي «تمثلها» الجيل الأول، وعاشها آية آية ينزل بها الوحي على محمد ﷺ في آخر اتصال لعالم الغيب بعالم الشهادة!
- ٣ -
إن سبيلنا اليوم إلى وحدة الفكر الإسلامي، وإثبات صلاحيته وشموله وأصالته لا يتم بغير هذا الرجوع، كما لا يتم بغير مراعاة جانب «الموضوعية» في دراسة أسباب الخلاف بين المفسرين والمتكلمين، وهذا هو الهدف الثاني الذي سعيت إليه في هذه الدراسة، أو سعيت إلى تعلمه والصبر عليه قبل الدعوة إليه. لقد خيّل إليّ أن هذا النوع من الدراسة أصلح ما يكون لتعلم الموضوعية، لأن هذه الدراسة لا يمكن أن توجد أصلا- فضلا عن أن تتم وتأتي صحيحة سليمة- إلا بهذه الطريقة من البحث، وللقارئ أن يلحظ مدى الأناة التي قادت هذا البحث، والتي خلت من
1 / 6
كل ضروب الأحكام المفتعلة أو المنقولة ... أو التي زالت أسبابها ودواعيها بزوال مخترعها وأصحاب المصلحة فيها ... إن القرن الخامس- الذي مهدت به لهذا البحث- قد حفل بأبشع صور الخلاف بين أرباب الكلام وأصحاب الفرق، وقضي فيه لأسباب سياسية واجتماعية على بعض الفرق لمصلحة الفرق الأخرى .. ومضى الحكم لازما- في عصور الانحطاط- عند المقلدين والتقليديين، وقابلا للتلفيق والتوفيق عند بعض المفكرين والباحثين ... فهل نبدأ اليوم من هنا وهناك ونفرض على البحث العلمي أن ينزل إلى سلحة لم يعد لها وجود ... أو يجيب على مسألة طرحت خطأ على كل الوجوه؟! وإذا كان لا مجال للارتياب في وجوب البدء بمرحلة الرجوع السابقة إلى الصورة القرآنية ... فهل نعود إليها من خلال الدراسة الموضوعية؟ أم من خلال غبار المعارك ومحاولة الانتصار لفرقة على أخرى، بالحق تارة، وبالباطل تارة أخرى؟!
إن من حقنا اليوم، بل من واجبنا كذلك- على ضوء هذه الحقيقة- أن نعيد النظر في الأحكام التي أطلقت على بعض الفرق، أو على بعض آرائها ومبادئها التي اشتهرت عنها وعرفت بها. ولست هنا أدافع عن المعتزلة- كما قد يتوهم البعض- أو أنتصر لهم!! فإن شيئا من ذلك لا يهمني، كما لا يهمني أن أكون الحكم لهم أو عليهم .. ولكن الذي يهمني، ويجب أن يهم كل باحث، هو النظر الموضوعي إلى تراثهم وتراث سائر الفرق الإسلامية، وعدم الانطلاق في الحكم على الجميع من أحكام اجتهادية لا تقبل الطعن أو النقض!
1 / 7
- ٤ -
وإذا كنت في هذا البحث لم أتجاوز سبيل الدراسة «الوصفية» ومحاولة الوقوف على الآراء التي تضمنها كتاب الحاكم ... إلى تقرير كثير من «الأحكام» التي انتهيت إليها .. فلأنني لم أقصد في الأصل- فوق ما ذكرت- إلى أكثر من تبين معالم الطريق، وتعميق دراسة فكرة «المنهج» التي تعتبر الخطوة الأهم في موضوع هذه الدراسات الجامعية، وقد سبق لي أن وقفت على شيء من معالم «المناهج الكلامية» في تفسير القرآن حين حققت كتاب «متشابه القرآن» للقاضي عبد الجبار، وعالجت موضوع الآيات المتشابهة في القرآن بوجه عام، ومن ثمّ كان لا بدّ لي من متابعة الطريق في دراسة أطراف هذا المنهج، والتمكن من آثاره البعيدة والقريبة؛ تمهيدا لخطوة أخرى- تالية إن شاء الله- في موضوع المقارنة الموضوعية المفصلة بين سائر المناهج وطرق التفسير، حتى نتمكن من الإسهام في إعادة رسم الصورة القرآنية على النحو السابق.
- ٥ -
على أن العناية بتحرير آراء كل فرقة من الفرق من كتبها ومصنفات شيوخها، يصلح وحده هدفا يسعى إليه الباحث، تحقيقا لأمانة العلم من ناحية، وفي سبيل الوصول إلى الحق في نقاط الخلاف من جهة أخرى، ومن المؤكد أننا سنقف بهذه الطريقة على عشرات النقول الموهومة أو المكذوبة، والتي كان بعضها يرتكب تشنيعا على الخصم وإساءة لسمعته عند العامة. والأمثلة على ذلك، في كتاب الحاكم وحده، كثيرة سيقف عليها القارئ، وبخاصة القارئ المطلع على ما ينسب إلى المعتزلة
1 / 8
من آراء في كتب المذاهب الأخرى. أذكر هنا من هذه الأمثلة ما نسبه الإمام الأشعري إلى المعتزلة من إنكارهم عذاب القبر، قال في كتابه «مقالات الإسلاميين ٢/ ١٠٤»: «واختلفوا في عذاب القبر فمنهم من نفاه وهم المعتزلة والخوارج، ومنهم من أثبته وهم أكثر أهل الإسلام» في حين يقرأ المرء في تفسير الحاكم تأكيدا مستمرا لقول صاحبه وقول أبي علي الجبائي وشيوخ المعتزلة الآخرين بعذاب القبر، حتى إنني- ابتداء وقبل أن أتنبه إلى نقل الأشعري- «أخذت» على الجبائي ما وقع فيه من الإسراف في الاستدلال على هذا الأمر؛ كما أشرت إلى ذلك في موضعه من هذه الرسالة! فلما تنبهت لنقل الأشعري هالني ذلك مرتين!!
ومن حق الباحث أن يفهم من قول الأشعري: قالت المعتزلة؛ أنه يعني بذلك أبا علي الجبائي، في المقام الأول، إن لم يكن على جهة الحصر؛ لأن الأشعري إنما تلقى الكلام- على مذهب المعتزلة- على أبي علي الذي كان أيضا زوجا لأمه. ولعل احتمالات الخطأ الكثيرة في نقل الأشعري، أو في النقل عنه، تنخفض نسبتها إذا وقفنا على تأكيد لهذا القول في كتاب «الإبانة» للأشعري، الذي ضمنه آراءه الكلامية الجديدة بعد تركه الاعتزال، فقال في مطلع الفقرة المقتضبة التي عقدها لهذه المسألة من مسائل الاعتقاد: «وأنكرت المعتزلة عذاب القبر» فأهمل هنا ذكر الخوارج، حتى لكأن هذا الإنكار وقف على المعتزلة ..
ثم بدأ بالرد عليهم وبيان خطئهم.
ولا أدري كم يبقى من احتمالات الخطأ السابقة إذا وقفنا في بعض كتب الحاكم على الخبر التالي: روى القاضي عبد الجبار أن «بعضهم سأل
1 / 9
أبا يعقوب الشحام عن عذاب القبر، فقال: ما منّا أحد ينكره- معشر المعتزلة- وإنما يحكى ذلك عن ضرار»! وضرار هذا هو ابن عمرو، الذي لم أجد له ذكرا في طبقات المعتزلة التي كتبها القاضى عبد الجبار، أو التي شارك في كتابتها، لأن طبقة أبي يعقوب الشحام (ت ٢٦٧) كانت مدونة قبل القاضي في كتاب اطلع عليه الأشعري، على التحقيق!!
وفي مثال آخر يقف الباحث في موضوع يعتبر من أهم الأبواب الكلامية التي ثار حولها جدل كبير، وهو موضوع الصفات الإلهية التي يقترن إنكارها بالمعتزلة على
الدوام .. على رد الحاكم الدائب على منكريها من المعتزلة، وهم معتزلة بغداد- أو جمهورهم- دون معتزلة البصرة!! والعجيب في هذه الردود أنها تحمل طابع البساطة والقوة في وقت واحد (انظر فقرة: التوحيد، من الفصل الأول- الباب الثالث).
وأحب أن أشير هنا، بهذه المناسبة، إلى أن تعميم النقل عن المعتزلة لا يصح قبل التدقيق والتحقيق، لأنهم ينتسبون إلى مدرستين أو فرعين كبيرين، وفي كل فرع آراء واجتهادات وردود ومناقشات؛ ولعل الردود بين المدرستين في بعض الأحيان أن تكون أقسى من ذلك النوع الذي كان بينهم وبين خصومهم.
وفي مثال ثالث- في استطراد أخير- سيقف القارئ، في صفحات مطولة، على رد الحاكم والمدرسة الجبائية على فكرة «الصرفة» في إعجاز القرآن، التي قال بها النظام- بغض النظر عن الحامل له على هذا القول- والتي اعتاد بعض الباحثين على نسبتها إلى المعتزلة؛ علما بأن الإمام ابن حزم- مثلا- وبعض أعلام الفرق الأخرى، بتبنونها ويدافعون عنها بقوة!
1 / 10
والأمثلة على ذلك كثيرة ... ولكن بمثل هذه الطريقة من البحث في سبيل الوقوف الصحيح على آراء الفرق، يمكننا أن نقطع نصف الطريق إلى عصر الاتفاق والانطلاق ... أو إلى العصر الذي لم يؤد الخلاف اليسير الذي وقع فيه إلى تشويه الصورة، أو إلى رؤيتها رؤية «ذريّة» مفككة!
- ٦ -
ولعل صفحات هذه المقدمة السريعة تتسع للإشارة إلى أن هذه الذرية في النظر إلى آيات القرآن الكريم، أو ذلك التجزي للصورة وأخذها تفاريق ... هو الذي دفع إلى تبني بعض المواقف والتفاسير الباطلة، ويفسر- من ثم- ذلك التشبث العجيب بمواقف لا يملك صاحبها حجة يدفع بها اعتراض الخصم ... حتى صارت المذهبية في العقيدة «دينا» يحرّف من أجله التنزيل بتأويلات سمجة باردة!.
والواقع أن بناء الرأي أو الحكم على آية من الآيات وردت في سياق معين بدون النظر إلى هذا السياق، وإلى جميع الآيات التي وردت في موضوع تلك الآية ... وإلى «روح» النص القرآني، وصحة الأمر بالتكليف الذي جاء به القرآن ... كل ذلك قد دفع بأصحاب الفرق والمذاهب إلى محاولة التأويل والتلفيق ... والتهجم على الخصم الذي تمسك بآية أخرى، على هذا النحو كذلك. وهذا أمر لا تكاد تخلو منه فرقة من الفرق. ومن أراد شواهد على ذلك فلينظر تفسير مثل قوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ...) عند القاضي عبد الجبار. ولينظر عند أبي الحسن الأشعري تفسير قوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ)
1 / 11
وقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) وقوله: (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ... الخ هذه الشواهد التي حفلت بها كتب الفرقتين الكبيرتين: المعتزلة والأشاعرة، وكتب سائر الفرق الاسلامية.
وربما كان إطلاق القول بأن نصوص القرآن الكريم ظنية الدلالة يعود في أحد أسبابه الرئيسية إلى هذا التجزي العجيب، والاعتساف في قطع النصوص لا عن سياقها وسباقها فحسب، بل عن «روحها» العامة، وأهدافها التربوية والأخلاقية، وبخاصة فيما عرف عند المفسرين والأصوليين بآيات الاحكام! وفي الوقت الذي ندعو فيه إلى إنكار «الدلالة الظنية» في آيات القرآن الكريم، واثبات أنها قطعية ... فليس من البعيد فيما يبدو أن تتكاتف الدراسات على تأكيد هذه الحقيقة في يوم من الأيام!
- ٧ -
وبعد، فإن من أهم ميزات تفسير الحاكم- كما أوضحت- هو رده الدائب على المجبرة أو الجبرية الذين زينوا للناس القعود والتواكل من خلال فهمهم السقيم لبعض الآيات القرآنية. والذي أضيفه هنا: هو أن هذا الكتاب لو كتب له التوسع وسعة الانتشار؛ لساهم في محاربة التواكل والتخلف، والتبرير الكاذب للقعود عن السعي في طلب التغيير الذي أخذ بأطراف العالم الإسلامي.
ولعل المشكلة هنا تعود إلى اندثار مدرسة الاعتزال بما قدمه رجالها الأوائل من دفاع مجيد عن الاسلام ... تجاه الثنوية والدهرية وأصناف الملاحدة ... وبما أثارته هذه المدرسة من مشكلات كان المسلمون في غنى
1 / 12
عنها، وعن ثمارها المرة. ويبدو أن من صواب الرأي أن يقال: إن المعتزلة أنفسهم يتحملون قسطا من وزر تلك الجبرية وهذا التواكل؛ لأنهم كما يقول بعض المؤرخين لعصر المأمون: على أنفسهم جنوا!
- ٨ -
وأخيرا، فانني أقدم اليوم هذا البحث للطبع على النحو الذي أعددته من قبل، وتقدمت به إلى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، حيث تولت مناقشته والحكم عليه لجنة من الأساتذة: الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور مصطفى زيد، والشيخ عبد العظيم معاني، وأجازته بمرتبة الشرف الأولى بإجماع الآراء. غير أنني اختصرت منه بعض الأمثلة والشواهد من تفسير الحاكم- كما كنت أرغب من الأصل- وبعض الكتب الخطية الأخرى التي أعمل الآن في تحقيقها وإعدادها للنشر.
وأحب أن أنبه القارئ إلى أن ما انتهيت اليه من الحكم على الزمخشري، وأنه قال في التاريخ مكانة لا يستحقها ... قد اعتبره أستاذنا الجليل الشيخ أبو زهرة «تهجما على الزمخشري بغير حق». ولعل من سوء الحظ أن المقارنات التي عقدتها بين كتابه وكتاب الحاكم قدر كنت في قسم منها إلى الشواهد التي كانت مبثوثة في هذه الرسالة، والتي أصاب بعضها الاختصار السابق؛ مما جعل هذه المقارنة- في صورتها الحالية- في حدود ضيقة. إلا أنني لم أجد حتى الآن ما يحملني على الرجوع عن موقفي السابق، بل
لعل شيئا من عدم الحرص على تلك الشواهد يعود إلى اقتناعي بما انتهيت إليه. على أنني أرجو أن أعود إلى دراسة الزمخشري على نحو أشمل
1 / 13
في بحث آخر. وأرجو أن يتم ذلك بعد نشر الجزء الأول من تفسير الحاكم في وقت قريب إن شاء الله. ولله الحمد في الأولى والآخرة.
اللهم ألهمنا توفيقا وسدادا في مصاحبة الحق ومجانبة الباطل. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
عدنان زرزور
دمشق في ٢٨ رجب ١٣٩١ ١٨ ايلول «سبتمبر» ١٩٧١
1 / 14
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. والصلاة على سيدنا محمد الذي أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، وأوحى إليه هذا القرآن لينذر به الذين كفروا، وبشرى للمؤمنين.
وبعد:
١ - هذا بحث في أحد أعلام التفسير وعلم الكلام في القرن الخامس، وقفت على ضرورته وأنا أعد دراستي السابقة في «الماجستير» عن القاضي عبد الجبار وكتابه «متشابه القرآن» ففي الوقت الذي أعانني فيه تفسير الحاكم على تحقيق كتاب القاضي، وجدت فيه كذلك صورة من أدق كتب التفسير وأغزرها مادة، وأجودها في الترتيب والتهذيب.
والواقع انني أدركت في هذا الوقت أمرين: أولهما ضرورة الكتابة في «منهج المعتزلة في تفسير القرآن» نظرا لأهمية هذا الموضوع وتجدد البحث فيه على ضوء ما تم الوقوف عليه من تراث المعتزلة في اليمن، من جهة، ورفعا لظلامة ركبت المعتزلة قرونا متطاولة كانت آراؤهم فيها- في التفسير والحديث والكلام- تؤخذ من كتب خصومهم، من جهة
1 / 15
أخرى. أما الأمر الثاني فهو ضرورة دراسة الحاكم الجشمي، وتحقيق كتابه القيم: «التهذيب في التفسير».
٢ - ثم خرجت من ذلك كله وأنا بسبيل اختيار موضوع لهذه الرسالة إلى الجمع بين هذين الأمرين في دراسة الحاكم ومنهجه في التفسير، تمهيدا لتحقيق كتابه إن شاء الله، بعد أن تبينت أن منهجه في هذا الكتاب يشير إلى خلاصة منهج المعتزلة في تفسير القرآن، في الوقت الذي لا أعفي فيه نفسي من دراسة الحاكم والكشف عن تراثه وبيان منزلته في الفكر والثقافة الاسلامية، بعد أن أتيحت لي فرصة الوقوف على أخباره من وراء القرون الطويلة التي طوي فيها وراء حدود اليمن.
٣ - ولن أتحدث في هذه المقدمة عن قيمة كتاب الحاكم وأهميته وما يتمتع به من ميزات شكلية وموضوعية، فذلك ما سيوضحه هذا البحث، ولكنني أشير هنا إلى بعض جوانب الجدّة والأهمية في دراستنا هذه لكتاب الحاكم، التي تتلخص في أنها:
- أول دراسة تتناول علما من أعلام التفسير في القرن الخامس.
- وتقوّم- على الجملة- حركة التأليف في التفسير وعلم الكلام في هذا القرن.
- كما أنها تحتوي للمرة الأولى عرضا لتفاسير المعتزلة الكبيرة قبل الحاكم، مع التعريف الدقيق بها وبمؤلفيها، وذكر بعض النماذج مما وصل إلينا من هذه التفاسير الخطية التي لم يتيسر للباحثين سبيل الاطلاع على أكثره بعد.
وقد ركّزت هذه الدراسة على أهمية القاعدة الفكرية في دراسة منهج أي مفسر- في التفسير والتأويل- وفهم هذا المنهج حق الفهم.
1 / 16
- كما أنها قد تعقبت هذا الأثر في أطراف كتاب الحاكم.
- يضاف إلى ذلك: الفرصة التي هيأتها هذه الدراسة لإعادة النظر في تقويم الزمخشري.
وقد كشف هذا البحث عن بعض هذه المكانة عند الكلام على أثر الحاكم في المفسرين من بعده.
وعلى الرغم من أن أكثر جوانب هذه الدراسة يكاد يكون جديدا على ميدان البحث، فإن وجهها الأول عندي أنها تمهد لي السبيل- إن شاء الله- إلى تحقيق تفسير الحاكم وبعض ما وقفت عليه من كتبه الأخرى، وهي كتب جديرة أن تتبوأ مكانها اللائق في المكتبة العربية الإسلامية.
٤ - أما العقبات التي اعترضت سبيلي في هذا البحث فتعود إلى أن أكثر مصادره مخطوط أو مصوّر، كما أن المطبوع من هذه المصادر لم يكن الحصول عليه- وقد نشر أكثره في مواطن متفرقة- سهلا طول الوقت. وقد حاولت التغلب على مشكلة الكتب الخطية بالتوفر على ما صورته دار الكتب المصرية من مكتبة الجامع الكبير بصنعاء وبعض المكتبات اليمنية الخاصة، فاستنسخت بعض هذه الكتب وصورت بعضها الآخر- مكبّرا أو على شريط- عن صورته التي ما تزال على «الأفلام» أو الأشرطة، كما أدمت النطر في بعضها الآخر في دار الكتب.
أما الكتب اليمنية الأخرى التي لم تصورها دار الكتب من الأصل- ومنها بعض كتب الحاكم- فقد تعذر عليّ تصويرها من تلك الديار، وقد
1 / 17
وافاني بما أريده منها بعض علماء اليمن الأفاضل، كما أشرت إلى ذلك في موضعه من هذه الرسالة.
٥ - وقد سلكت في هذه الدراسة سبيل البحث العلمي المتجرد عن التعصب للحاكم، فأوردت من آرائه ما وقفت عليه مشفوعا ببعض الشواهد- التي كنت أرجو أن أجتزئ منها في بعض المواطن لو كان تفسير الحاكم بين يدى القارئ- وإن كان هذا لم يمنعني من بعض التعقيبات والتعليقات الموجزة.
كما أنني لم أتعصب للمعتزلة وآرائهم، أو أتعصب عليهم، ولم أذكر شيئا من آرائهم مشفوعا بمحاولة التحسين أو التقبيح، على الرغم من أن الصورة التي يحملها أكثرنا للمعتزلة لا تزال سوداء أو كالسوداء، وقد تراءت هذه الصورة في نفسى في مواطن قليلة من تفسير الحاكم، ولكن هذا لم يمنعني من الإعجاب بهذا التفسير، والدعوة إلى الإفادة منه ومن سائر تراث المعتزلة في التفسير وعلم الكلام وأصول الفقه، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الإفادة من منهج المعتزلة العقلي- ومن سائر المناهج الكلامية الأخرى- في الدفاع عن الإسلام وشرح حقائقه أمام مناوئيه ومخالفيه من أتباعه والغرباء على حد سواء!
وليس في تاريخ الإسلام فرقة واحدة تستطيع أن تزعم لنفسها حقّ فهم العقيدة الإسلامية على الوجه الأكمل حتى يكون كلّ من خالفها في شيء ضالا ومبتدعا أو من أهل الزيغ والأهواء! ولا تخلو فرقة واحدة من الغلو في جانب، والتفريط في جانب آخر. وليست مهمتنا اليوم: الانتصار لفرقة على أخرى، أو تعميق الخلاف بين هذه الفرق،
1 / 18
الذي نشأ في الأصل هينا ثم عمّق بفعل التعصب، ولكن مهمتنا هي التقريب بين مواطن الخلاف وقواعد النظر، والتأكيد على وحدة الفكر الإسلامي، ومحاولة الوصول إلى الحق على ضوء هذه الحقيقة، ومن خلال دراسة تراث جميع الفرق في ظلال القرآن.
٦ - أما الطريقة التي اتبعتها في هذا البحث فقد حددتها على ضوء منهج الحاكم نفسه وطريقته في تفسيره، ويتلخص هذا المنهج في أنه منهج كلامي تصرف فيه العناية إلى آيات العدل والتوحيد دون آيات الفقه والشرائع وسائر الآيات، ولهذا عنيت في المقام الأول بالكشف عن هذا المنهج وبيان القاعدة الفكرية التي أسس عليها، والآثار التي خلّفها- دون غيره- في كتاب الحاكم وحاولت في هذا المجال- ما استطعت إلى ذلك سبيلا- رد الفروع إلى الأصول، والوقوف على القواعد العامة التي تحكم رأي الحاكم ومذهبه في نقاط كثيرة، دون محاولة الخوض في الجزئيات. كما أنني لم أحاول «التعديل» من طغيان جانب الكلام والرد على الخصوم وأهل الأهواء في تفسير الحاكم على جانب الفقه والتشريع، بالكلام عليهما على نحو متقارب، وإن كان الحاكم لم يهمل العناية بالفقه وآيات الأحكام، ولكن هذه العناية ليست هي الطابع المميز لكتابه حتى يسمح لنا بإدراجها في كلامنا على «المنهج» بمعناه العلمي أو الفكري الذي يحكم تفسيره، دون موضعها الصحيح في مكان آخر.
٧ - وقد جعلت هذا البحث في تمهيد وخمسة أبواب: تحدثت في التمهيد عن عصر الحاكم، أو القرن الخامس. ورتبت الأبواب وما تشتمل عليه من الفصول على النحو التالي:
1 / 19
الباب الأول: حياة الحاكم وآثاره. ويشتمل على فصلين
الفصل الأول: حياة الحاكم.
الفصل الثاني: آثاره.
الباب الثاني: مدخل إلى تفسير الحاكم. وتحته فصلان:
الفصل الأول: تفاسير المعتزلة قبل الحاكم.
الفصل الثاني: مصادر الحاكم في التفسير.
الباب الثالث: منهج الحاكم في تفسير القرآن. ويشتمل على أربعة فصول:
الفصل الأول: قاعدة الحاكم الفكرية ومحوره في تفسيره.
الفصل الثاني: قواعده الأساسية في التفسير.
الفصل الثالث: حدوده في التأويل.
الفصل الرابع: أثر منهجه العقلي وثقافته الكلامية في تفسيره.
الباب الرابع: طريقة الحاكم في تفسيره، وآراؤه في علوم القرآن.
وتحته فصلان.
الفصل الأول: طريقته في كتاب «التهذيب»
الفصل الثاني: آراؤه في علوم القرآن
الباب الخامس: مكانة الحاكم وأثره من التفسير. وتحته فصلان:
الفصل الأول: مكانة الحاكم
الفصل الثاني: أثره في المفسرين من بعده
٨ - وبعد، فلست أرى ما أذكره في هذا الموطن خيرا من الكلمة التي كتبها أستاذنا العلامة الجليل الشيخ محمد أبو زهره في كتابه «تاريخ
1 / 20
المذاهب الاسلامية» وعقّب بها على آراء المعتزلة ومذهبهم ومواقفهم في الجملة.
قال حفظه الله: «أولا: إن هؤلاء يعدون فلاسفة الإسلام حقا، لأنهم درسوا العقائد الإسلامية دراسة عقلية مقيدين أنفسهم بالحقائق الإسلامية غير منطلقين في غير ظلها، فهم يفهمون نصوص القرآن في العقائد فهما فلسفيا، ويغوصون في فهم الحقائق التي تدل عليها، غير خالعين للشريعة، ولا متحللين من النصوص.
ثانيا: أنهم قاموا بحق الإسلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد كيد الزنادقة والملاحدة والكفار في نحورهم، وكان لا بدّ من وجودهم ليقفوا تيار الزندقة الذي طم في أول ظهور الدولة العباسية، ولذا كان الخلفاء الأول من هذه الدولة يشجعونهم، وقد ناوأهم الرشيد زمانا واعتقل بعضهم، ولكنه اضطر لإطلاقهم لما علم أنهم الذين يستطيعون منازلة الوثنيين من السّمنيّة وغيرهم.
ثالثا: أن لهم شذوذا في الفكر، وشذوذا في الفعل. وذلك يحدث كثيرا ممن يطلق لعقله العنان ولو في ظلال النصوص»
٩ - وأخيرا فإنني أتوجه بجزيل الشكر وجميل العرفان إلى أستاذي الجليل الشيخ محمد أبو زهرة الذي وجدت في علمه ورحابه صدره خير باعث لي على المضي في هذا العمل، والفراغ من مناقشته في أقرب وقت.
كما أشكر الأستاذ المشرف الدكتور مصطفى زيد الذي قعد به المرض عن النظر في هذه الرسالة حين صح منه العزم على ذلك.
1 / 21