Al-Hadith in Quranic and Hadith Sciences
الحديث في علوم القرآن والحديث
ناشر
دار السلام
ایڈیشن نمبر
الثانية
اشاعت کا سال
١٤٢٥هـ - ٢٠٠٤م
پبلشر کا مقام
الإسكندرية
اصناف
المقدّمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي هو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، له الخلق والأمر، وبيده التدبير والتكوين، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن البعث حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأنه تعالى له الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير.
وبعد: فهذه بحوث وعلوم خاصة بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أردت تقديمها سهلة ميسرة لأبناء عصري، مساهمة مني في إبراز هذه الجواهر النفيسة، واللآلئ المضيئة، راجيا أن يفيدوا منها، ويتجملوا بجمالها وكمالها وجلالها؛ لأنها أنوار مقتبسة من كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، ولأنها مع جلالها لا يهتم بها إلا القليل من طلبة العلوم الشرعية، ولا يعمل بها إلا الحريصون على اتباع السنة المحمدية، لذلك أسأل الله تعالى أن يشرح صدور الكثيرين لدراستها وتدريسها، وأن يوفق الجميع لفهمها والعمل بها وهو تعالى سميع مجيب.
وقد سميت هذا الكتاب الجامع لأهم علوم القرآن والسنة «الحديث في علوم القرآن والحديث» والله ولي التوفيق.
المؤلف حسن أيّوب
1 / 5
علوم القرآن
القرآن الكريم: هو الكلام المعجز المنزل على النبي محمد ﷺ المكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته.
هذا التعريف جمع الخصائص العظمى التي امتاز بها القرآن الكريم، وإن كان قد امتاز بكثير سواها كما قال الزرقاني.
والمراد بعلوم القرآن: كل علم يخدم القرآن أو يستند إليه ويؤخذ منه.
ويشمل ذلك علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الرسم العثماني، وعلم إعجاز القرآن، وعلم أسباب النزول، وكل علم يساعد على فهمه كالنحو والصرف والبلاغة، أو يؤرخ لتطور علومه، أو يستنبط من كلماته ومفاهيمه، فهي إذا علوم لا تحصى، وقد توسع السيوطي فيها حتى اعتبر منها علم الهندسة والطب والفلك ونحوها، وتوسع أكثر منه ابن العربي حتى أوصل هذه العلوم إلى خمسين وأربعمائة وسبعة وسبعين ألف علم، وهذا الكلام محمول على ضرب ونوع من التوسع والشطح بحيث يحاول كل عالم أن يأخذ من كلام الله تعالى علوما من كل كلمة من كلماته، ومن كل جملة من جمله، وبذلك يتحول العلماء إلى باحثين في كتاب الله، ومكتشفين من كلماته ظاهرها وباطنها، ونصها ومفهومها وإشاراتها علوما لا حصر لها.
ولو أن المسلمين الأولين اشتغلوا بذلك عن الهدف الأساسي الذي أنزل القرآن لأجله، ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من إبراز جمال دين الله وكماله وجلاله، واشتماله على كل ما يحتاج إليه الخلائق لكي يكونوا سعداء في دنياهم، ناجين مقربين إلى الله في أخراهم.
إن الهدف الأساسي لكتاب الله تعالى هو هداية الناس ودلالتهم على الطريق الذي ضلوا عنه مع بحثهم الدائم، وشغفهم الكبير للوصول إليه وهو: «طريق السعادة الدائمة» والفوز الحقيقي، والسلام الشامل.
وكل ما في القرآن الكريم من أحكام وحكم، وأمثال وعبر، وقصص وعظات، وحجج وبراهين، وأدلة تملأ القلب والعقل نورا، إنما أريد به الهداية إلى هذا الطريق.
قال الله تعالى: الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية: ١، ٢].
وقال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة الأنعام آية: ١٥٥].
1 / 7
وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [سورة النساء آية: ١٠٥].
وقال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [سورة طه آية: ١٢٣ - ١٢٦].
تاريخ علوم القرآن
كان الرسول ﷺ وأصحابه يعرفون عن القرآن وعلومه، ما عرفه العلماء وفوق ما عرفه العلماء من بعد. ولكن معارفهم لم توضع على ذلك العهد كفنون مدوّنة ولم تجمع في كتب مؤلفة؛ لأنهم لم تكن لهم حاجة إلى التدوين والتأليف.
أما الرسول صلوات الله وسلامه عليه فلأنه كان يتلقى الوحي عن الله وحده، والله تعالى كتب على نفسه ليجمعنه له في صدره، وليطلقن لسانه بقراءته وترتيله، وليميطن له اللثام عن معانيه وأسراره. اقرأ إن شئت قوله سبحانه:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [سورة القيامة آية: ١٦ - ١٩].
ثمّ بلّغ الرسول ﷺ ما أنزل عليه لأصحابه، وقرأه على الناس على مكث أي: على مهل وتؤدة، ليحسنوا أخذه، ويحفظوا لفظه، ويفهموا سره، ثم شرح الرسول ﷺ لهم القرآن بقوله، وبعمله، وبتقريره، وبخلقه: أي بسنته الجامعة لأقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته، مصداقا لقوله سبحانه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل آية: ٤٤].
وكان الصحابة وقتئذ عربا خلّصا، متمتعين بجميع خصائص العروبة ومزاياها الكاملة من قوة في الحافظة، وذكاء في القريحة، وتذوق للبيان، وتقدير للأساليب، ووزن لما يسمعون بأدق المعايير، حتى أدركوا من علوم القرآن ومن إعجازه بسليقتهم وصفاء فطرتهم، ما لا نستطيع نحن أن ندركه مع زحمة العلوم، وكثرة الفنون.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم مع هذه الخصائص أميين، وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم، والرسول ﷺ نهاهم أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن، وقال لهم أول العهد بنزول القرآن فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ﵁: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه. وحدثوا عني ولا حرج. ومن كذب
1 / 8
عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». وذلك مخافة أن يلتبس القرآن بغيره، أو يختلط بالقرآن ما ليس منه، مادام الوحي نازلا بالقرآن، فلتلك الأسباب المتضافرة لم تكتب علوم القرآن، كما لم يكتب الحديث الشريف إلا عدد محدود في آخر حياة النبي ﷺ، ومضى الرعيل الأول على ذلك في عهد الشيخين أبي بكر وعمر. ولكن الصحابة كانوا مضرب الأمثال في نشر الإسلام وتعاليمه، والقرآن ومفاهيمه، وتعليم السنة ونقلها إلى غيرهم تلقينا لا تدوينا، ومشافهة لا كتابة.
عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن
ثم جاءت خلافة عثمان ﵁، وقد اتسعت رقعة الإسلام، واختلط العرب الفاتحون بالأمم التي لا تعرف العربية، وخيف أن تذوب خصائص العروبة من جراء هذا الفتح والاختلاط، بل خيف على القرآن نفسه أن يختلف المسلمون فيه إن لم يجتمعوا على مصحف إمام، فتكون فتنة في الأرض وفساد كبير.
لهذا أمر ﵁ أن يجمع القرآن في مصحف إمام، وأن تنسخ منه مصاحف يبعث بها إلى أقطار الإسلام، وأن يحرق الناس كل ما عداها ولا يعتمدوا سواها كما يأتيك تفصيله في مبحث «جمع القرآن وكتابته».
وبهذا العمل وضع عثمان ﵁ الأساس لما نسميه «علم رسم القرآن أو علم الرسم العثماني».
ثم جاء عليّ ﵁ فلاحظ العجمة تحيف على اللغة العربية، وسمع ما أوجس منه خيفة على لسان العرب، فأمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع بعض قواعد لحماية لغة القرآن من العبث والخلل، وخط له الخطط وشرع له المنهج، وبذلك يمكننا أن نعتبر أن عليّا ﵁ قد وضع الأساس لما نسميه علم النحو، ويتبعه علم إعراب القرآن (على الخلاف في هذه الرواية).
ثم انقضى عهد الخلافة الرشيدة، وجاء عهد بني أمية، وهمة مشاهير الصحابة والتابعين متجهة إلى نشر علوم القرآن بالرواية والتلقين، لا بالكتابة والتدوين، ولكن هذه الهمة يصح أن نعتبرها تمهيدا لتدوينها، وعلى رأس من ضرب بسهم وفير في هذه الرواية: الأربعة الخلفاء، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وكلهم من الصحابة رضوان الله عليهم. وعلى رأس التابعين في تلك الرواية: مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن البصري، وسعيد بن
1 / 9
جبير، وزيد بن أسلم بالمدينة، وعنه أخذ ابنه عبد الرحمن، ومالك بن أنس من تابعي التابعين ﵁ أجمعين، وهؤلاء جميعا يعتبرون واضعي الأساس لما يسمى علم التفسير، وعلم أسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم غريب القرآن ونحو ذلك.
وستجد بسطا لهذا الإجماع في بحث طبقات المفسرين.
عهد التدوين لعلوم القرآن
ثم جاء عصر التدوين، فألفت كتب في أنواع علوم القرآن، واتجهت الهمم قبل كل شيء إلى التفسير باعتباره أم العلوم القرآنية لما فيه من التعرض لهذه العلوم في كثير من المناسبات عند شرح الكتاب العزيز.
ومن أوائل الكاتبين في التفسير: شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وتفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين، وهم من علماء القرن الثاني.
ثم تلاهم ابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ هـ، وكتابه أجل التفاسير وأعظمها؛ لأنه أول من تعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، كما تعرض للإعراب والاستنباط. وبقيت العناية بالتفسير قائمة إلى عصرنا هذا حتى وجدت منه مجموعة رائعة فيها المعجب والمطرب، والموجز والمطول والمتوسط، ومنها التفسير بالمعقول، والتفسير بالمأثور، ومنها تفسير القرآن كله، وتفسير جزء، وتفسير سورة، وتفسير آية، وتفسير آيات الأحكام، إلى غير ذلك.
أما علوم القرآن الأخرى ففي مقدمة المؤلفين فيها: علي بن المديني شيخ البخاري، إذ ألف في أسباب النزول، وأبو عبيد القاسم بن سلام إذ كتب في الناسخ والمنسوخ، وكلاهما من علماء القرن الثالث.
وفي مقدمة من ألف في غريب القرآن: أبو بكر السجستاني، وهو من علماء القرن الرابع. وفي طليعة من صنف في إعراب القرآن: علي بن سعيد الحوفي، وهو من علماء القرن الخامس، ومن أوائل من كتب في مبهمات القرآن: أبو القاسم عبد الرحمن المعروف بالسبيلي، وهو من علماء القرن السادس.
كذلك تصدى للتأليف في مجاز القرآن: ابن عبد السلام، وفي القراءات: علم الدين السخاوي، وهما من علماء القرن السابع.
وهكذا قويت العزائم، وتبارت الهمم، ونشأت علوم جديدة للقرآن.
وظهرت مؤلفات في كل نوع منها، سواء في ذلك أقسام القرآن، وأمثال القرآن،
1 / 10
وحجج القرآن، وبدائع القرآن، ورسم القرآن، وما أشبهها مما يروعك تصوره والاطلاع عليه، ومما يملأ خزائن كاملة من أعظم المكتبات في العالم. ثم لا يزال المؤلفون
إلى عصرنا هذا يزيدون، وعلوم القرآن ومؤلفاته تنمو وتزدهر. أليس ذلك إعجازا آخر للقرآن يريك إلى أي حد بلغ علماء الإسلام في خدمة التنزيل. ويريك أنه كتاب لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي معارفه، ولن يستطيع أن يحيط بأسراره إلا صاحبه ومنزله؟.
وإذا أضفت إلى علوم القرآن ما جاء في الحديث النبوي الشريف وعلومه وكتبه وبحوثه باعتبارها من علوم القرآن، نظرا إلى أن الحديث شارح للقرآن يبين مبهماته، ويفصل مجملاته، ويخصص عامّه، كما قال سبحانه لنبيه ﷺ: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة النحل آية: ٤٤].
أقول: إذا أضفت الحديث النبوي وعلومه إلى علوم القرآن تراءى لك بحر متلاطم الأمواج.
وتزداد عجبا إذا علمت أن طريقة أولئك المؤلفين في تأليفهم كانت طريقة استيعاب واستقصاء بحيث يقصد أصحابها أن يحيطوا بجزئيات القرآن من الناحية التي كتبوا فيها بقدر طاقتهم البشرية.
فمن يكتب في غريب القرآن مثلا يذكر كل مفرد من مفردات القرآن التي فيها غرابة وإبهام. ومن يكتب في مجاز القرآن يقتفي أثر كل لفظ فيه مجاز أيّا كان نوعه في القرآن. ومن يكتب في أمثال القرآن يتحدث عن كل مثل ضربه الله في القرآن، وهكذا سائر أنواع علوم القرآن.
ولهذا اشرأبت أعناق العلماء أن يعتصروا من تلك العلوم علما جديدا يكون كالفهرس والدليل عليها، والمتحدث عنها. فكان هذا العلم هو ما نسميه «علوم القرآن» بالمعنى المدون، ولا نعلم أن أحدا قبل المائة الرابعة للهجرة ألّف أو حاول أن يؤلف في علوم القرآن بالمعنى المدون؛ لأن الدواعي لم تكن موفورة لديهم نحو هذا النوع من التأليف. وإن كنا نعلم أنها كانت مجموعة في صدور المبرزين من العلماء، على الرغم من أنهم لم يدونوها في كتاب، ولم يفردوها باسم.
أجل: كانت علوم القرآن مجموعة في صدور هؤلاء العلماء. فنحن نقرأ في تاريخ الشافعي ﵁ أنه أثناء محنته التي اتهم فيها بأنه رئيس حزب العلويين باليمن، وسيق بسبب هذه التهمة إلى الرشيد مكبلا بالحديد في بغداد، سأله الرشيد حين لمح علمه وفضله، فقال: كيف علمك يا شافعي بكتاب الله ﷿؟ فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به؟ فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإن الله تعالى قد أنزل
1 / 11
كتبا كثيرة. قال الرشيد: قد أحسنت، لكن إنما سألت عن كتاب الله المنزل على ابن عمي محمد ﷺ. فقال الشافعي: إن علوم القرآن كثيرة، فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه، أو عن تقديمه وتأخيره، أو عن ناسخه ومنسوخه، أو عن ...، أو عن ...؟؟
وصار يرد عليه من علوم القرآن، ويجيب عن كل سؤال بما أدهش الرشيد والحاضرين.
فأنت ترى من جواب الشافعي هذا، ومن نطقه بالحكمة في هذا الموقف الرهيب ما يدلك على أن قلوب أكابر العلماء كانت أوعية لعلوم القرآن من قبل أن تجمع في كتاب.
ونحن لا نستبعد على الشافعي هذا، فقد كان آية من آيات الله في علمه وذكائه، وفي ابتكاره وتجديده، وفي قوة حجته وتوفيقه. حتى إنه وضع كتابه (الحجة) في العراق يستدرك به على مذاهب أهل الرأي، وألف في مصر كتبا يستدرك بها على مذاهب بعض أهل الحديث ثم وضع دستورا للاجتهاد والاستنباط لم يتسن لأحد قبله، إذ كان أول من صنف في أصول الفقه وهو من علوم القرآن كما علمت. قال ابن خلدون في مقدمته: «كان أول من كتب فيه- أي علم أصول الفقه- الشافعي ﵁، أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها على الأوامر والنواهي، والبيان، والخبر، والنسخ، وحكم العلة المنصوصة من القياس اهـ.
أول عهد لظهور هذا الاصطلاح
لقد كان المعروف لدى الكاتبين في تاريخ هذا الفن، أن أول عهد ظهر فيه هذا الاصطلاح أي اصطلاح علوم القرآن، وهو القرن السابع.
لكني ظفرت في دار الكتب المصرية بكتاب لعليّ بن إبراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي المتوفى سنة ٣٣٠ هـ اسمه «البرهان في علوم القرآن» وهو يقع في ثلاثين مجلدا، والموجود منه الآن خمسة عشر مجلدا، من نسخة مخطوطة، وإذا نستطيع أن نتقدم بتاريخ هذا الفن إلى بداية القرن الرابع.
ثم جاء القرن السادس فألف فيه ابن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧ هـ كتابين: أحدهما اسمه: «فنون الأفنان في علوم القرآن»، والثاني اسمه: «المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن». وكلاهما مخطوط بدار الكتب المصرية.
وفي القرن السابع ألف علم الدين السخاوي المتوفى سنة ٦٤١ هـ كتابا سماه:
«جمال القراء». وألف أبو شامة المتوفى سنة ٦٦٥ هـ كتابا أسماه: «المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز» وهما- كما قال السيوطي:- عبارة عن طائفة يسيرة ونبذ
1 / 12
قصيرة بالنسبة للمؤلفات التي ألفت بعد ذلك في هذا النوع.
ثم أهلّ القرن الثامن فكتب فيه بدر الدين الزركشي المتوفى سنة ٧٩٤ هـ كتابا سماه «البرهان في علوم القرآن» يقع في مجلدين ناقصين.
ثم طلع القرن التاسع على هذا العلم باليمن والبركة، فدرج فيه وترعرع، إذ ألف محمد ابن سليمان الكافيجي المتوفى سنة ٨٧٣ هـ كتابا يقول السيوطي عنه: «إنه لم يسبق إليه».
وفي هذا القرن التاسع أيضا ألف السيوطي كتابا سماه: «الإتقان في علوم القرآن» وهو عمدة الباحثين والكاتبين في هذا الفن. ذكر فيه ثمانين نوعا من أنواع علوم القرآن على سبيل الإجمال والإدماج، ثم قال بعد أن سردها نوعا نوعا: «ولو نوعت باعتبار ما أدمجته فيها لزادت على الثلاثمائة» اه.
وتوفي السيوطي ﵀ سنة ٩١١ هـ في مفتتح القرن العاشر، وكأن نهايته كانت نهاية لنهضة التأليف في علوم القرآن (عليه سحائب الرحمة والرضوان) فلم نر من سار في هذا المضمار مثله بعده، كما لم نر من بزه فيه قبله. اه. مناهل. باختصار.
جمع القرآن وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها
كان القرآن في مدة النبي ﷺ متفرقا في صدور الرجال، وقد كتب الناس منه في صحف وفي جريد، وفي لخاف، وظرر، وفي خزف وغير ذلك.
قال الأصمعي: اللخاف: حجارة بيض رقاق واحدتها لخفة. والظرر: حجر له حدّ كحد السكين والجمع ظرار، مثل رطب ورطاب، وربع ورباع.
فلم استحرّ القتل بالقرّاء يوم اليمامة في زمن الصديق ﵁، وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة، أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق ﵄ بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء، كأبيّ، وابن مسعود، وزيد، فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك، فجمعه غير مرتب السور بعد تعب شديد ﵁.
روى البخاري عن زيد بن ثابت ﵁ قال: أرسل إلى أبي بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القراء إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر؛ قال زيد: وعنده عمر جالس لا يتكلم، فقال لي أبو
1 / 13
بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ، فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن؛ قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر؛ فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب، وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخرها. فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.
وقال الترمذي في حديثه عنه: فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [قال: حديث حسن صحيح].
وفي البخاري عن زيد بن ثابت قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله ﷺ شهادته بشهادة رجلين رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ.
فإن قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه، وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك وفرغ منه؟ قيل: إن عثمان ﵁ لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف، ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردّها إليك على ما يأتي؛ وإنما فعل ذلك عثمان؛ لأن الناس اختلفوا في القراءات بسبب تفرق الصحابة في البلدان واشتد الأمر في ذلك وعظم اختلافهم وتشبثهم ووقع بين أهل الشام والعراق ما ذكره حذيفة ﵁ وذلك أنهم اجتمعوا في غزوة أرمينية فقرأت كل طائفة بما روي لها، فاختلفوا وتنازعوا وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا، فأشفق حذيفة مما رأى منهم، فلما قدم حذيفة المدينة «فيما ذكر البخاري والترمذي» دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته، فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك، قال: في ماذا؟ قال:
في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة وجمعت ناسا من العراق والشام والحجاز فوصف له ما تقدم، وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى، قلت: وهذا أدل دليل على بطلان من قال: إن المراد بالأحرف
1 / 14
السبعة قراءة القراء السبعة؛ لأن الحق لا يختلف فيه، وقد روى سويد بن غفلة عن علي ابن أبي طالب أن عثمان قال: ما ترون في المصاحف فإن الناس قد اختلفوا في القراءة حتى إن الرجل ليقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتك، وهذا شبيه بالكفر، قلنا: ما الرأي عندك يا أمير المؤمنين؟. قال: الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة، فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا، قلنا: الرأي رأيك يا أمير المؤمنين. فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاصي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، وكان هذا من عثمان ﵁ بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك، فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت من القراءات المشهورة عن النبي ﷺ واطّراح ما سواها، واستصوبوا رأيه وكان رأيا سديدا موفقا رحمة الله عليه وعليهم أجمعين.
قال ابن شهاب: وأخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال،: يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر؟ يريد زيد بن ثابت.
قال أبو بكر الأنباري: ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعمر وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن، وعبد الله أفضل من زيد، وأقدم في الإسلام وأكثر سوابق وأعظم فضائل، إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله إذ وعاه كله، ورسول الله ﷺ حي، والذي حفظ منه عبد الله في حياة رسول الله ﷺ نيف وسبعون سورة، ثم تعلّم الباقي بعد وفاة الرسول، فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله ﷺ حي أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار والاختيار، ولا ينبغي أن يظن جاهل أن في هذا طعنا على عبد الله بن مسعود؛ لأن زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبا لتقدمته عليه؛ لأن أبا بكر
وعمر ﵄ كان زيد أحفظ منهما للقرآن، وليس هو خيرا منهما، ولا مساويا لهما في الفضائل والمناقب.
ونسخ منها عثمان نسخا، قال غيره: قيل سبعة، وقيل أربعة، وهو الأكثر، ووجّه بها
1 / 15
إلى الآفاق، فوجه للعراق والشام ومصر بأمهات، فاتخذها قراء الأمصار معتمد اختياراتهم ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه، وما وجد بين هؤلاء القراء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم على بعض وينقصها بعضهم فذلك لأن كلّا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه؛ إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ ولم يكتبها في بعض إشعارا بأن كل ذلك صحيح، وأن القراءة بكل منها جائزة.
قال ابن عطية: ثم إن عثمان أمر بما سواها من المصاحف أن تحرق، أو تخرق- تروى بالحاء غير منقوطة وتروى بالخاء على معنى «تدفن» - ورواية الحاء غير منقوطة أحسن.
وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد عن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: يا معشر الناس: اتقوا الله وإياكم والغلق في عثمان وقولكم: حرّاق المصاحف، فو الله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب محمد ﷺ.
وعن عمر بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب ﵁: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان.
قال أبو الحسن بن بطال: وفي أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى، وأن ذلك إكرام لها وصيانة عن الوطء بالأقدام، وطرحها في ضياع من الأرض.
روى معمر عن ابن طاووس عن أبيه: أنه كان يحرق الصحف إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها بسم الله الرحمن الرحيم. وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرة.
وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله تعالى، وقول من حرقها أولى بالصواب، وقد فعله عثمان؛ وقد قال القاضي أبو بكر لسان الأمة: جائز للإمام تحريق الصحف التي فيها القرآن، إذا أدّاه الاجتهاد إلى ذلك. اه ملخصا من مقدمة القرطبي.
ترتيب آيات القرآن وسوره
انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذي نراه اليوم بالمصاحف، كان بتوقيف من النبي ﷺ عن الله تعالى، وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه. بل كان جبريل ينزل بالآيات على الرسول ﷺ ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها. ثم يقرؤها النبي ﷺ على أصحابه، ويأمر كتاب الوحي بكتابتها معيّنا لهم السورة التي تكون فيها الآية، وموضع الآية من هذه السورة. وكان يتلوه عليهم مرارا وتكرارا في صلاته وعظاته. وكان يعارض به جبريل كل عام مرة، وعارضه به في العام
1 / 16
الأخير مرتين. كل ذلك كان على الترتيب المعروف لنا في المصاحف. وكذلك كان كل من حفظ القرآن أو شيئا منه من الصحابة، حفظه مرتب الآيات على هذا النمط، يتدارسونه فيما بينهم، ويقرءونه في صلاتهم، ويأخذه بعضهم عن بعض، ويسمعه بعضهم من بعض بالترتيب القائم الآن، فليس لواحد من الصحابة والخلفاء الراشدين يد ولا تصرف في ترتيب شيء من آيات القرآن الكريم. بل الجمع الذي كان على عهد أبي بكر لم يتجاوز نقل القرآن من العسب واللخاف وغيرها في مصحف، والجمع الذي كان على عهد عثمان لم يتجاوز نقله من الصحف في مصاحف. وكلا هذين كان وفق الترتيب المحفوظ المستفيض عن النبي ﷺ عن الله تعالى.
أجل: انعقد الإجماع على ذلك تامّا لا ريب فيه. وممن حكى هذا الإجماع جماعة منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر في المناسبات إذ يقول ما نصه: «ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه ﷺ وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين.
واستند هذا الإجماع إلى نصوص كثيرة: منها ما سبق لك قريبا، ومنها ما رواه الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله ﷺ إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع من السورة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» [سورة النحل آية: ٩٠].
ومنها ما ثبت في السنن الصحيحة من قراءة النبي ﷺ بسور عديدة كسورة البقرة، وآل عمران، والنساء، ومن قراءته لسورة الأعراف في صلاة المغرب، وسورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وسورة «الروم» في صلاة الصبح، وقراءة سورة «السجدة» وسورة هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ في صبح يوم الجمعة، وقراءة سورتي «الجمعة والمنافقون» في صلاة الجمعة، وقراءته سورة «ق» في الخطبة، وسورتي «اقتربت وق» في صلاة العيد، كان يقرأ ذلك كله مرتب الآيات على النحو الذي في المصحف على مرأى ومسمع من الصحابة.
ومنها ما رواه مسلم عن عمر قال: ما سألت النبي ﷺ عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري: «تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء».
فأنت ترى أنه ﷺ دله على موضع تلك الآية من سورة النساء، وهي قوله سبحانه:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إلخ.
1 / 17
ملاحظة:
ذكر بعضهم أن كلمات القرآن ٧٧٤٣٩ تسع وثلاثون وأربعمائة وسبعة وسبعون ألف كلمة، وذكر بعضهم غير ذلك. قيل: وسبب الاختلاف في عدد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز، ولفظ ورسم، واعتبار كل منها جائز، وكل من العلماء اعتبر أحد ما هو جائز.
قال السخاوي: لا أعلم لعدد الكلمات والحروف من فائدة؛ لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقصان، والقرآن لا يمكن فيه ذلك، وذكر ابن كثير أن عدد آيات القرآن ٦٠٠٠ ستة آلاف آية وأن عدد حروفه قيل: ٣٢١١٨٠ وقيل:
٣٢٣٠١٥، وقيل: ٣٤٠٧٤٠ اه.
ولكن ورد من الأحاديث في اعتبار الحروف ما أخرجه الترمذي عن ابن مسعود مرفوعا «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول «آلم» حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف».
ترتيب السور
معنى السورة:
السورة في اللغة تطلق على ما ذكره صاحب القاموس بقوله: والسورة: «المنزلة»، ومن القرآن معروفة؛ لأنها منزلة بعد منزلة: مقطوعة عن الأخرى، «والشرف» «وما طال من البناء وحسن»، «والعلامة»، «وعرق من عروق الحائط» اه.
ويمكن تعريفها اصطلاحا بأنها: طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع.
قالوا: وهي مأخوذة من سور المدينة.
وذلك إما لما فيها من وضع كلمة بجانب كلمة، وآية بجانب آية، كالسور توضع كل لبنة فيه بجانب لبنة، ويقام كل صف منه على صف.
وإما لما في السورة من معنى العلو والرفعة المعنوية الشبيهة بعلو السور ورفعته الحسية، وإما لأنها حصن وحماية لمحمد ﷺ، وما جاء به كتاب الله القرآن، ودين الحق الإسلام، باعتبار أنها معجزة تخرس كل مكابر، ويحق الله بها الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، أشبه بسور المدينة، يحصنها ويحميها من غارة الأعداء، وسطوة الأشقياء.
وسور القرآن مختلفة طولا وقصرا، فأقصر سورة فيه سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات قصار، وأطول سورة فيه سورة البقرة، وهي خمس وثمانون أو ست وثمانون ومائتا
1 / 18
آية، وأكثر آياتها من الآيات الطوال، بل فيها آية الدّين التي هي أطول آية في القرآن كما سبق، وبين سورة البقرة وسورة الكوثر سور كثيرة تختلف طولا وتوسطا وقصرا.
ومرجع الطول والقصر والتوسط وتحديد المطلع والمقطع إلى الله وحده، لحكم سامية علمها من علمها وجهلها من جهلها.
أقسام السور:
قسّم العلماء سور القرآن إلى أربعة أقسام، خصّوا كلّا منها باسم معين، وهي الطوال، والمئين، والمثاني، والمفصّل.
فالطوال سبع سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، فهذه ستة، واختلفوا في السابعة أهي الأنفال وبراءة معا لعدم الفصل بينهما بالبسملة، أم هي سورة يونس؟؟.
والمئون: هي السور التي تزيد آياتها على مائة أو تقاربها.
والمثاني: هي التي تلي المئين في عدد الآيات، وقال الفراء: هي السور التي آيها أقل من مائة آية؛ لأنها تثنى أي «تكرّر» أكثر مما تثنّى الطوال والمئون.
والمفصّل: هو أواخر القرآن، واختلفوا في تعيين أوله على اثني عشر قولا فقيل: أوله «ق»، وقيل: غير ذلك، وصحح النووي: أن أوله الحجرات، وسمي بالمفصل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، وقيل: لقلة المنسوخ منه، ولهذا يسمى المحكم أيضا، كما روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: «إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم».
والمفصل ثلاثة أقسام: طوال، وأوساط، وقصار، فطواله من «أول الحجرات» إلى سورة «البروج»، وأوساطه من سورة «الطارق» إلى سورة لَمْ يَكُنِ، وقصاره من سورة إِذا زُلْزِلَتِ إلى آخر القرآن.
المذاهب في ترتيب السور:
اختلف في ترتيب السور على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن لم يكن بتوقيف من النبي ﷺ، وإنما كان باجتهاد من الصحابة
، وينسب هذا القول إلى جمهور العلماء، منهم مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده من قوليه. وإلى هذا المذهب يشير ابن فارس في كتاب «المسائل الخمس» بقوله: «جمع القرآن على ضربين»:
1 / 19
أحدهما: تأليف السور، كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين، فهذا هو الذي تولته الصحابة ﵃، وأما الجمع الآخر وهو جمع الآيات في السور، فذلك شيء تولاه النبي ﷺ كما أخبر به جبريل عن أمر ربه ﷿.
وقد استدلوا على رأيهم هذا بأمرين: أولا: أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة في ترتيب السور قبل أن يجمع القرآن في عهد عثمان، فلو كان هذا الترتيب توقيفيّا منقولا عن النبي ﷺ ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجاوزوه ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذي تصوره لنا الروايات.
فهذا مصحف أبي بن كعب، روي أنه كان مبدوءا بالفاتحة ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام.
وهذا مصحف ابن مسعود كان مبدوءا بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران .. إلخ على اختلاف شديد.
وهذا مصحف عليّ كان مرتبا على النزول، فأوله «اقرأ» ثم «المدثر» ثم «ق»، ثم «المزمل»، ثم «تبت»، ثم «التكوير»، وهكذا إلى آخر المكي والمدني.
ثانيا: ما أخرجه ابن أشته في المصاحف من طريق إسماعيل بن عباس عن حبان بن يحيى عن أبي محمد القرشي قال: «أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال فجعل سورة الأنفال وسورة التوبة في السبع، ولم يفصل بينهما «ببسم الله الرحمن الرحيم» اه.
ولعله يشير بهذا إلى ما رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، ففرقتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان ﵁: كان رسول الله ﷺ تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول:
«ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله ﷺ، ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتهما في السبع الطوال» اه.
ويمكن أن يناقش هذا المذهب بالأحاديث الدالة على التوقيف وسيأتيك في الاحتجاج للقول الثاني، ويمكن- أيضا- مناقشة دليلهم الأول باحتمال أن اختلاف من خالف من
1 / 20
الصحابة في الترتيب، إنما كان قبل علمهم بالتوقيف، أو كان في خصوص ما لم يرد فيه توقيف دون ما ورد فيه، ويمكن مناقشة دليلهم الثاني بأنه خاص بمحل وروده وهو سورة الأنفال والتوبة ويونس، فلا يصح أن يصاغ منه حكم عام على القرآن كله.
القول الثاني: أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول ﷺ
كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه ﷺ.
واستدل أصحاب هذا الرأي بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان ولم يخالف منهم أحد، وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف؛ لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمخالفتهم، لكنهم لم يتمسكوا بها بل عدلوا عنها وعن ترتيبهم، وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها، ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعا، ثم ساقوا روايات لمذهبهم كأدلة يستند إليها الإجماع.
منها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة الثقفي قال: «كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف، إلى أن جاء في هذه الرواية ما نصه:
فقال لنا رسول الله ﷺ: «طرأ عليّ حزب من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه، فسألنا أصحاب رسول الله ﷺ قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا؟: نحزّبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من «ق» حتى نختم». قالوا: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله ﷺ.
لكن هذه الدلالة غير ظاهرة فيما نفهم اللهمّ إلا في ترتيب حزب المفصل خاصة بخلاف ما سواه.
واحتجوا لمذهبهم أيضا بأن السور المتجانسة في القرآن لم يلتزم فيها الترتيب والولاء، ولو كان الأمر بالاجتهاد للوحظ مكان هذا التجانس والتماثل دائما، لكن ذلك لم يكن، بدليل أن سور المسبّحات لم ترتب على التوالي بينما هي متماثلة في افتتاح كل منها بتسبيح الله، بل فصل بين سورها بسور «قد سمع»، «والممتحنة»، «والمنافقون» وبدليل أن «طسم الشعراء وطسم القصص» لم يتعاقبا مع تماثلهما بل فصل بينهما بسورة أقصر منهما وهي «طس» النمل وقد أيد هذا المذهب أبو جعفر النحاس فقال: «المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله ﷺ لحديث وائلة» «أعطيت مكان التوراة السبع الطوال».
1 / 21
وكذلك انتصر أبو بكر الأنباري لهذا المذهب فقال: أنزل الله القرآن إلى سماء الدنيا ثم فرّقه في بضع وعشرين سنة، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر، ويقف جبريل النبيّ ﷺ على موضع السورة، والآيات، والحروف، كله من النبي ﷺ فمن قدم سورة أو أخرها أفسد نظم القرآن.
وأخرج ابن أشته في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال:
سمعت ربيعة يسأل: لم قدّمت البقرة وآل عمران وقد أنزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قدّمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به، إلى أن قال: فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه. اه.
القول الثالث: أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي ﷺ، وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة
، وقد ذهب إلى هذا الرأي فطاحل من العلماء، ولعله أمثل الآراء؛ لأنه وردت أحاديث تفيد ترتيب البعض- كما مر بك من الرأي الثاني القائل بالتوقيف- وخلا البعض الآخر مما يفيد التوقيف، بل وردت آثار تصرح بأن الترتيب في البعض كان عن اجتهاد كالحديث الآنف في القول الأول المروي عن ابن عباس.
بيد أن المؤيدين لهذا المذهب اختلفوا في السور التي جاء ترتيبها عن توقيف. والسور التي جاء ترتيبها عن اجتهاد، فقال القاضي أبو محمد بن عطية: «إن كثيرا من السور قد علم ترتيبها في حياة النبي ﷺ كالسبع الطوال والحواميم والمفصل، وأما ما سوى ذلك فيمكن أن يكون فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده».
وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية، ويبقى فيها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف كقوله ﷺ: «اقرءوا الزهراوين؛ البقرة وآل عمران» [رواه مسلم].
وكحديث سعيد بن خالد: «قرأ رسول الله ﷺ بالسبع الطوال في ركعة». رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وفيه أنه ﵊ كان يجمع المفصل في ركعة.
وروى البخاري عن ابن مسعود أنه ﷺ قال في بني إسرائيل والكهف ومريم، وطه، والأنبياء: «إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي» قبل آل عمران؛ لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب، ولعله فعل ذلك لبيان الجواز، اه.
والأمر على كل حال سهل، حتى لقد رأى الزركشي في البرهان: أن يجعل الخلاف من أساسه لفظيّا.
1 / 22
احترام هذا الترتيب:
وسواء أكان ترتيب السور توقيفيّا أم اجتهاديّا فإنه ينبغي احترامه خصوصا في كتابة المصاحف؛ لأنه عن إجماع الصحابة، والإجماع حجة، ولأن خلافه يجر إلى الفتنة، ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب.
أما ترتيب السور في التلاوة فليس بواجب، وإنما هو مندوب، وإليك ما قاله الإمام النووي في كتابه «التبيان» إذ جاء في هذا الموضوع بما نصه:
قال العلماء: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة، ثم البقرة، ثم آل عمران، ثم ما بعدها على الترتيب، سواء أقرأ في الصلاة أم في غيرها، حتى قال بعض أصحابنا: إذا قرأ في الركعة الأولى سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ يقرأ في الثانية بعد الفاتحة من البقرة.
وقال بعض أصحابنا: ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التي تليها، ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة، فينبغي أن يحافظ عليها، إلا فيما ورد الشرع باستثنائه، كصلاة الصبح يوم الجمعة، يقرأ في الأولى سورة «السجدة» وفي الثانية هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، وصلاة العيد في الأولى «ق»، وفي الثانية اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وركعتي الفجر في الأولى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وفي الثانية قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، وفي الثالثة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين.
ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلي الأولى، أو خالف الترتيب فقرأ سورة قبلها، جاز فقد جاءت بذلك آثار كثيرة، وقد قرأ عمر بن الخطاب ﵁ في الركعة الأولى من الصبح بالكهف، وفي الثانية بيوسف.
وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعا متأكدا؛ لأنه يذهب بعض ضروب الإعجاز، ويزيل حكمة ترتيب الآيات.
وقد روى ابن أبي داود عن إبراهيم النخعي الإمام التابعي الجليل وعن الإمام مالك ابن أنس أنهما كرها ذلك وأن مالكا كان يعيبه ويقول: هذا عظيم، وأما تعليم الصبيان من آخر المصحف إلى أوله فحسن. وليس من هذا الباب، فأن ذلك قراءة متفاضلة في أيام متعددة، على ما فيه من تسهيل الحفظ عليهم. والله أعلم. اه. ﵀.
1 / 23
المكي والمدني من القرآن الكريم
الاصطلاحات في معنى المكي والمدني
للعلماء في معنى المكي والمدني ثلاثة اصطلاحات:
الاصطلاح الأول: أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني: ما نزل بالمدينة،
ويدخل في مكة ضواحيها كالمنزل على النبي ﷺ بمنى وعرفات والحديبية، ويدخل في المدينة ضواحيها- أيضا- كالمنزل عليه في بدر وأحد، وهذا التقسيم لوحظ فيه مكان النزول كما ترى، لكن يرد عليه أنه غير ضابط ولا حاصر؛ لأنه لا يشمل ما نزل بغير مكة والمدينة وضواحيهما، كقوله سبحانه في سورة التوبة: لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [سورة التوبة آية: ٤٢]، فإنها نزلت بتبوك.
وقوله سبحانه: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف آية: ٤٥]، فإنها نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء.
ولا ريب أن عدم الضبط في التقسيم يترك واسطة لا تدخل فيما يذكر من الأقسام، وذلك عيب يخل بالمقصود الأول من التقسيم، وهو الضبط والحصر.
الاصطلاح الثاني: أن المكي: ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني: ما وقع خطابا لأهل المدينة،
وعليه يحمل قول من قال: إن ما صدّر في القرآن بلفظ يا أَيُّهَا النَّاسُ فهو مكي، وما صدّر بلفظ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدني؛ لأن الكفر كان غالبا على أهل مكة فخوطبوا ب: يا أَيُّهَا النَّاسُ وإن كان غيرهم داخلا فيهم، ولأن الإيمان كان غالبا على أهل المدينة فخوطبوا ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وإن كان غيرهم داخلا فيهم- أيضا، وألحق بعضهم صيغة يا بَنِي آدَمَ بصيغة يا أَيُّهَا النَّاسُ.
أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن عن ميمون بن مهران قال: ما كان في القرآن يا أَيُّهَا النَّاسُ أو يا بَنِي آدَمَ، فإنه مكي، وما كان ب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فإنه مدني.
الاصطلاح الثالث وهو المشهور: أن المكي: ما نزل قبل هجرته ﷺ إلى المدينة، وإن كان نزوله بغير مكة، والمدني: ما نزل بعد هذه الهجرة
وإن كان نزوله بمكة.
وهذا التقسيم كما ترى لوحظ فيه زمن النزول، وهو تقسيم صحيح سليم؛ لأنه
1 / 24
ضابط حاصر ومطّرد لا يختلف باختلاف سابقيه، ولذلك اعتمده العلماء، واشتهر بينهم. وعليه فآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا [سورة المائدة آية: ٣]، مدنية مع أنها نزلت يوم الجمعة بعرفة في حجة الوداع.
وكذلك آية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [سورة النساء آية: ٥٨].
فإنها مدنية مع أنها نزلت بمكة في جوف الكعبة عام الفتح الأعظم، وقل مثل ذلك فيما نزل بأسفاره ﵇ كفاتحة سورة الأنفال، وقد نزلت ببدر، فإنها مدنية لا مكية على هذا الاصطلاح المشهور.
فائدة العلم بالمكي والمدني
من فوائد العلم بالمكي والمدني تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات من القرآن الكريم في موضوع واحد، وكان الحكم في إحدى هاتين الآيتين أو الآيات مخالفا للحكم في غيرها، ثم عرف أن بعضها مكي وبعضها مدني، فإننا نحكم بأن المدني منها ناسخ للمكي نظرا إلى تأخر المدني عن المكي.
ومن فوائده أيضا: معرفة تاريخ التشريع وتدرجه الحكيم بوجه عام، وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في تربية الشعوب والأفراد، وسيستقبلك في هذا المبحث فروق بين المكي والمدني تلاحظ فيها جلال هذه الحكمة.
ومن فوائده أيضا: الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالما من التغيير والتحريف. ويدل على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام حتى ليعرفون ويتناقلون ما نزل منه قبل الهجرة وما نزل بعدها، وما نزل بالحضر وما نزل بالسفر، وما نزل بالنهار وما نزل بالليل، وما نزل بالشتاء وما نزل بالصيف، وما نزل بالأرض، وما نزل بالسماء إلى غير ذلك، فلا يعقل بعد هذا أن يسكتوا ويتركوا أحدا يمسه ويعبث به، وهم المتحمسون لحراسته وحمايته والإحاطة بكل ما يتصل به أو يحتفّ بنزوله إلى هذا الحد.
الطريق الموصلة إلى معرفة المكي والمدني
لا سبيل إلى معرفة المكي والمدني إلا بما ورد عن الصحابة والتابعين في ذلك؛ لأنه لم يرد عن النبي ﷺ بيان للمكي والمدني. وذلك لأن المسلمين في زمانه لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان، كيف وهم يشاهدون الوحي والتنزيل، ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله عيانا، «وليس بعد العيان بيان».
1 / 25