وبعد أن بين الغزالي هذه المثارات أخذ يناقش ما احتج به المعتزلة وهو يرى أن الإنقاذ إنما يترجح على الإهمال في حق من لا يعتقد الشرائع، لدفع الأذى الذي يلحق الإنسان من رقة الجنسية، وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه، وسببه أن الإنسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه، فيستقبحه منه بمخالفة غرضه ويعود فيقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم، فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه، فهو بعيد تصوره. ويبقى أمر آخر: هو طلب الثناء على إحسانه، فإن فرض حيث لا يعلم أنه المنقذ، فقد يتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع باعثا. فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم، فقد يبقى في النفس ميل يضاهي نفرة طبع الملدوغ من الحبل المبرقش، وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فظن أن الثناء مقرون لها على كل حال، والمقرون باللذيذ لذيذ، كما أن المقرون بالمكروه مكروه.
بل الإنسان إذا جالس من عشقه في مكان، فإنه يحس من نفسه بتفرقة بين ذلك المكان وغيره، إذا انتهى إليه. ولذلك قال الشاعر:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
وقال ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرت لهم
نامعلوم صفحہ