الإرادة شرط للمسئولية، وشرط للجزاء. فالذي يعمل وهو ناس أو غافل لا يجازى ولا يؤاخذ. وإنما كان الأمر كذلك فيما يرى الغزالي: لأن القلب لا يتأثر بما يجري في الغفلة، والقلب عند الغزالي هو كل شيء، فليست الحسنة حسنة إلا لأنها تصلحه، أو تزيد في صلاحه، ولسيت السيئة سيئة إلا لأنها تفسده أو تزيد في فساده. والجريمة الهائلة إذا اقترفها المرء وهو مضطرب متردد لا خطر لها عنده، لأن القلب لا يتأثر بما يفعل المرء وهو كاره، والهفوة التافهة عظيمة الخطر إذا أتاها المرء وهو راض مسرور، لأنه بقدر ما تحلو السيئة يعظم أثرها في تسويد القلب وإفساده. والذنب الواحد تختلف قيمته حين يأتيه رجلان: أحدهما عارف به، وثانيهما جاهل له، فهو بالنسبة للأول كبيرة، وبالنسبة للثاني صغيرة، لأن الإرادة تختلف قوة وضعفا باختلاف درجة العلم، إذ كانت ثمرة له.
ويقول الغزالي بعد كلام طويل: «فهكذا يجب أن تفهم تأثير الطاعات كلها، إذ المطلوب منها تغيير القلوب، وتبديل صفاتها فقط دون الجوارح، فلا تظنن في وضع الجبهة على الأرض غرضا من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب. ومن وجد في قلبه رقة على يتيم، فإنه إذا مسح رأسه وقلبه تأكدت الرقة في قلبه.» ص284 ج4.
الجبر والاختيار
وقد اختلف العلماء، ولا يزالون مختلفين، في حرية الإرادة ، فمنهم من يقول إنها مجبورة، ومنهم من يقول إنها مختارة، ومنهم من يحكم بأنها دائرة بين الجبر والاختيار.
وأنا أرجح الرأي الأخير، لأن الواقع أن هناك مؤثرات تحمل الإرادة على الاتجاه إلى جهة معينة، كالوراثة، والصحة، والبيئة، والظروف الخاصة. والإرادة فيما عدا ذلك حرة مختارة، فالذي ورث عن أبيه خلقا من الأخلاق يسير مضطرا إلى ما يوافق ذلك الخلق. والذي يحمله ضعف صحته على اللدد في الخصومة لا يستطيع اجتناب هذه الخصلة. والذي تقضي عليه البيئة التي يعيش فيها باحترام زي خاص، يشعر بالاضطرار إلى التربي بهذا الزي. فأنا أستطيع نزع العمامة لألبس الطربوش، ولكني لا أستطيع لبس القبعة، لأني مقهور على مسايرة الوسط الذي أعيش فيه، وإن زعمت أنني مختار. والذي يقهره ظرف من الظروف على إتيان جريمة من الجرائم غير مختار. وسيرقى القضاء يوما فيحلل الظروف التي وقعت فيها الجريمة ليتبين صحة المسئولية، فكثيرا ما يعاقب المجرم وهو غير مسئول.
فإذا انتفت مواقع الاختيار فالإرادة حرة في الإقبال على الفعل، أو الانصراف عنه. وفي هذه الحالة تصبح للخير قيمته، وللشر قيمته، ويصير الخير جديرا بالمثوبة لأنه أحسن وهو مختار، والشرير خليقا بالعقوبة لأنه أساء وهو مختار. أما المضطر إلى فعل الخير أو الشر لسبب من الأسباب فهو فيما أرى غير أهل للثواب والعقاب.
والغزالي لا يقول بحرية الإرادة حرية مطلقة، ولا يعجزها العجز المطلق. ويقول: «بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعا. وخلق الاختيار والمختار جميعا، فأما القدرة فوصف للعبد وخلق للرب، وأما الحركة فخلق للرب، ووصف للعبد وكسب له، فإنها خلقت مقدورة بقدرة هي كسب وصفة. وكانت الحركة نسبة إلى صفة أخرى تسمى قدرة فتسمى باعتبار تلك النسبة كسبا. وكيف تكون جبرا محضا وهو بالضرورة يدرك التفرقة بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية؟ أو كيف يكون خلقا للعبد وهو لا يحيط علما بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة وإعدادها؟ وإذا بطل الطرفان لم يبق إلا الاقتصاد في الاعتقاد، وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه بالاكتساب.» ص120 ج1 إحياء.
والواقع أن رأي الغزالي هذا لا يفصح عن قيمة ما في أعمال المرء من الاختيار، فهي في رأيه ليست جبرا لأنها تفترق عن الرعدة وهي ليست اختيارا لأن المرء لا يحيط بتفاصيل ما لحركاته من الأجزاء. مع أن الاختيار لا يتوقف إثباته على معرفة الأجزاء والأعداد، لأن العمل الاختياري قد تكون له لوازم ضرورية، لا يتنبه لها المرء، ولا تكون غفلته عنها قادحة في اختياره.
ويقرر الغزالي مع هذا «أن فعل العبد وإن كان كسبا له، لا يخرج عن كونه مرادا لله سبحانه، فلا يجري في الملك والملكوت طرفة عين، ولا لفتة خاطر، ولا فلتة ناظر، إلا بقضاء الله وقدرته، وبإرادته ومشيئته، ومنه الشر والخير، والنفع والضر، والإسلام والكفر، والعرف والنكر، والفوز والخسر، والغواية والرشد، والطاعة، والعصيان، والشرك والإيمان.» ص120 ج1.
2
نامعلوم صفحہ