22

آخر الدنيا

آخر الدنيا

اصناف

فيجيب وهو ضيق بغبائهم وبالسؤال: لا لا لا لا ... داخلية إيه! ع ع ع الباب. •••

وبدأ أحمد يحيا في البلدة مستمتعا بساقه الأنيقة الجديدة. واضطر لشراء حذاء لقدمه الأخرى، فالساق الصناعية مجهزة بحذاء وجورب ... وحين أصبح من ذوي الأحذية وجد أن من المحتم أن يتخلى عن كثير من الأعمال التي يقوم بها ... لا جري، ولا هزار، ولا طلوع نخل أو نزول ترعة، وهمه كله أصبح المحافظة على الساق الجديدة وإبقاء حذائها نظيفا، وإبقاء جلبابه أكثر نظافة ليتلاءم مع نظافة الحذاء ... فلا نوم على الأرض، ولا حلاقة إلا للزبائن النظيفين، بل حتى هؤلاء الزبائن أصبح عليه أن يحلق لهم فوق كرسي؛ إذ لم يعد بوسعه أن يتربع خلف الزبون أو أمامه على الأرض. والسهم الأهوج المندفع الذي كأنه تضاءل وهبطت سرعته حتى أصبح يمشي كالناس العاديين وربما أبطأ، محافظة على ساقه وتمسكا بالوقار الذي تفرضه عليه، وحتى السفر أصبح المركز القريب هو آخر حدوده. وإذا سافر يركب كبقية المسافرين بتذكرة، وصعود على مهل وهبوط باتزان وأدب ... وأفكار غريبة أصبحت تتناثر من فمه لزبائنه الذين قل عددهم، ومعارفه الذين قلت تحيته لهم وتحيتهم له، أفكار بنعل ورباط وحمالات، أفكار عن فانلات حمراء بأكمام لا بد من اقتنائها، ومحفظة تحفظ قروشه من الضياع. وبدلا من الفنجرة والصرف على الأصحاب والشاي الذي يعبه طول النهار بغير حساب؛ لماذا لا يحاسب ويوفر ويبدأ في مفاوضة الحاج محمد على امتلاك الأمتار القليلة التي يقوم عليها الدكان؟ وبدل الشحططة والمبيت كل ليلة في مكان، لماذا لا يبدأ يستقر ويبحث له عن زوجة كبقية خلق الله، وقد زالت العاهة ولم يعد يخشى أن تنظر امرأته إلى غيره من الرجال؟ أفكار ومشاريع تكفلت بتعكير باله الرائق ومزاجه، وتحويل ضحكاته العالية وقهقهاته إلى نوبات غضب وزعيق، والطلمبة تخرب، ويأتي عم باز يستعرضه يرجوه فيخجل ويقول: حاضر يا عم باز. ولا يذهب ويكسل، ثم يقول لنفسه أ اشمعنى أنا يعني اللي أصلحها؟ مانا زيي زي الناس. وما دام الناس يصلون ولا يصلحون الطلمبة، أو يرفعون الأكوام من طريق العربات، فليبدأ هو يصلي وليبدأ يفعل مثلما يفعل الناس. والناس تأكل وتلبس وتتزوج، ويحيط كل منهم نفسه بما يحميه من ضربات الزمان؛ فلماذا يشذ هو ويبعثر جهوده وما لديه دون خوف من ضربات الزمان؟

بل المضحك أنه كان لا يغضب أبدا إذا عايره أحد بساقه المقطوعة، أو أشار إلى عاهته على سبيل المزاح. كان يضحك ولا يحس أبدا أنه عوير أو أهين. من يوم أن ركب الساق وأقل إشارة إليه أو إليها تجرحه، حتى أصبح أشد ما يؤلمه أن يكون جالسا محترما في مكان، ويمد أحدهم يده خلسة ليتحسس ساقه، وكثيرا ما يتحسس السليمة، فيشتعل أحمد غضبا ويثور، حتى صار له في كل يوم خناقة وضرب وتحقيق. •••

وفي يوم وجدته البلدة عائدا من غيبة فوق سطح القطار، ولم يهبط إلا بعد أن تحرك القطار. هبط هائجا كالزوبعة يجري ويضحك ويطير وراء الناس كالمجنون، حتى بدأ البعض يتساءل إن كان قد فقد عقله حقيقة. ولكنه لم يكن قد فقد عقله، كان قد فقد ساقه الصناعية، واستبدلها بعكاز من المشمش أيضا وقد أضاف إليه تحسينات ... وكان سعيدا جدا، وكأنما أفرج عنه بعد سجن أو خرج براءة من اتهام، يتطلع إلى البلد والناس وكأنه يراهم من جديد، وكأنه المسجون حين تفك عنه القيود. وانهالت عليه الألسنة تسأله عن ساقه وأين ذهبت؟ وقال أحمد يومها حكاية وعدل فيها، ثم عاد ونفاها، وروى حكاية أخرى. وإلى الآن لا يزال يروي عن ساقه في كل مرة قصة مختلفة. مرة يقول إنه كان جالسا على قهوة في المنصورة واضعا ساقا فوق ساق، وكانت الساق الصناعية هي العليا ... استرعت انتباه واحد من الأفندية المحترمين الجالسين، وسأله عنها وفصلها له بخمسة جنيهات ليشتريها لأخيه المبتور الساق. ومن هنا لهنا أوصل سعرها إلى عشرة، ووجد أحمد الثمن معقولا، ووجدها فرصة فخلعها وقال: خذها مبروكة عليك!

ومرة يقول إن أولاد الحرام نشلوا الساق، وهو نائم بها في منتزه في طنطا، وإنه حين ذهب إلى القسم ليشكو للضابط نشل ساقه ظنه الضابط مجنونا، وكاد يحيله إلى مستشفى المجاذيب.

ومرة يقول إن له صاحبا كان يعمل سواقا في بلاد فوق، وحدثت له حادثة بترت ساقه فيها واستعمل العكاز، ولكنه حين أراد أن يتزوج قصده ليستأجر منه الساق؛ ليتواجه بها أمام العروسة وأهلها، ولكن أحمد رفض أن يؤجرها له وقال: إذا كان سلف معلشي ... إنما إيجار لأ.

وهكذا أخذها الصاحب على سبيل القرض وبلا رهن، ولكنه بعد الفرح استحلاها، وطمع عليها، ولم يردها إلى يومنا هذا.

أكثر من قصة يرويها أحمد عن فقد ساقه، وينهيها دائما بضحكة عالية مدوية وبقوله: في داهية ... دا دا كأن الواحد كانت رجله مقطوعة.

ثم يترك السامعين مبهورين، ويجري وراء واحد سبه أو خطف طاقيته، أو ساهاه واستولى على الحقيبة الخشبية التي يحمل فيها عدة الحلاقة. يندفع عكازه كالقذيفة الموجهة طائرا في الهواء، ثم يتبعه بجسده في قفزات هائلة سريعة ترج الأرض.

شيء يجنن!

نامعلوم صفحہ