ففي ليلة وقد طافت أشباح الظلام بين تلك المنازل في رأس بيروت، انطرحت سلمى على مضجع المخاض والأوجاع، فانتصب الموت والحياة يتصارعان بجانب فراشها، ووقف الطبيب والقابلة ليقدما إلى هذا العالم ضيفا جديدا، وسكنت حركة عابري الطريق وانخفضت نغمة أمواج البحر، ولم يعد يسمع في ذلك الحي سوى صراخ هائل يتصاعد من نوافذ منزل منصور بك غالب ... صراخ انفصال الحياة عن الحياة ... صراخ محبة البقاء في فضاء اللاشيء والعدم ... صراخ قوة الإنسان المحدودة أمام سكينة القوى غير المتناهية ... صراخ سلمى الضعيفة المنطرحة تحت أقدام جبارين: الموت والحياة.
عندما لاح الفجر ولدت سلمى ابنا، ولما سمعت إهلاله فتحت عينيها المغلقتين بالألم، ونظرت حواليها، فرأت الأوجه متهللة في جوانب تلك الغرفة ... ولما نظرت ثانية رأت الحياة والموت ما زالا يتصارعان بقرب مضجعها، فعادت وأغمضت عينيها وصرخت لأول مرة: يا ولدي.
ولفت القابلة الطفل بالأقمطة ووضعته حذاء أمه، أما الطبيب فظل ينظر بعينين حزينتين نحو سلمى ويهز رأسه صامتا بين الدقيقة والأخرى.
وأيقظت نغمة الفرح بعض الجيران فجاؤوا بملابس النوم ليهنئوا الوالد بولده. أما الطبيب فبقي ينظر بعينين كئيبتين نحو الوالدة وطفلها.
وأسرع الخدم نحو منصور بك ليبشروه بقدوم وريثه ويملئوا أيديهم من عطاياه. أما الطبيب فلبث واقفا ينظر بعينين يائستين إلى سلمى وابنها.
ولما طلعت الشمس قربت سلمى ولدها من ثديها ففتح عينيه لأول مرة ونظر في عينيها واختلج وأغمضها لآخر مرة، فدنا الطبيب وأخذه من بين ذراعيها، وانسكبت على وجنتيه دمعتان كبيرتان ثم همس في سره قائلا: هو زائر راحل!
مات الطفل وسكان الحي يفرحون مع الوالد في القاعة الكبرى ويشربون نخبه ليعيش طويلا، وسلمى المسكينة تحدق إلى الطبيب وتصرخ قائلة: أعطني ولدي لأضمه، ثم تحدق ثانية فترى الموت والحياة يتصارعان بجانب سريرها.
مات الطفل ورنات الكؤوس تنمو وتتكاثر بين أيدي الفرحين بمجيئه.
ولد مع الفجر، ومات عند طلوع الشمس، فأي بشري يستطيع أن يقيس الزمن ليخبرنا ما إذا كانت الساعة التي تمر بين مجيء الفجر وطلوع الشمس هي أقصر من الدهر الذي يمر بين ظهور الأمم وتواريها؟
ولد كالفكر، ومات كالتنهدة، واختفى كالظل، فأذاق سلمى كرامة طعم الأمومة، ولكنه لم يبق ليسعدها ويزيل يد الموت عن قلبها.
نامعلوم صفحہ