ولم نخف قط عين الرقيب ولا شعرنا بوخز الضمير؛ لأن النفس إذا تطهرت بالنار واغتسلت بالدموع تترفع عما يدعوه الناس عيبا وعارا، وتتحرر من عبودية الشرائع والنواميس التي سنتها التقاليد لعواطف القلب البشري، وتقف برأس مرفوع أمام عروش الآلهة.
إن الجامعة البشرية قد استسلمت سبعين قرنا إلى الشرائع الفاسدة، فلم تعد قادرة على إدراك معاني النواميس العلوية الأولية الخالدة. وقد تعودت بصيرة الإنسان النظر إلى ضوء الشموع الضئيلة، فلم تعد تستطيع أن تحدق إلى نور الشمس. لقد توارثت الأجيال الأمراض والعاهات النفسية بعضها عن بعض حتى أصبحت عمومية، بل صارت من الصفات الملازمة للإنسان، فلم يعد الناس ينظرون إليها كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية نبيلة أنزلها الله على آدم، فإذا ما ظهر بينهم فرد خال منها ظنوه ناقصا محروما من الكمالات الروحية.
أما الذين سيعيبون سلمى كرامة محاولين تلويث اسمها، لأنها كانت تترك منزل زوجها الشرعي لتختلي برجل آخر، فهم السقماء الضعفاء الذين يحسبون الأصحاء مجرمين وكبار النفوس متمردين، بل هم كالحشرات التي تدب في الظلمة وتخشى الخروج إلى نور النهار كيلا تدوسها أقدام العابرين.
إن السجين المظلوم الذي يستطيع أن يهدم جدران سجنه ولا يفعل يكون جبانا. وسلمى كرامة كانت سجينة مظلومة، ولم تستطع الانعتاق، فهل تلام لأنها كانت تنظر من وراء نافذة السجن إلى الحقول الخضراء والفضاء الواسع؟ هل يحسبها الناس خائنة لأنها كانت تجيء من منزل منصور بك غالب لتجلس بجانبي بين عشتروت المقدسة والجبار المصلوب؟ ليقل الناس ما شاؤوا؛ فسلمى قد اجتازت المستنقعات التي تغمر أرواحهم، وبلغت ذلك العالم الذي لا يبلغه عواء الذئاب وفحيح الأفاعي. وليقل الناس ما أرادوا عني؛ فالنفس التي شاهدت وجه الموت لا تذعرها وجوه اللصوص، والجندي الذي رأى السيوف محتبكة فوق رأسه وسواقي الدماء تجري تحت قدميه لا يحفل بالحجارة التي يرشقه بها صبيان الأزقة.
التضحية
ففي يوم من أواخر حزيران، وقد ثقلت وطأة الحر في السواحل وطلب الناس أعالي الجبال، سرت كعادتي نحو ذلك المعبد واعدا نفسي بلقاء سلمى كرامة حاملا بيدي كتابا صغيرا من الموشحات الأندلسية التي كانت في ذلك العهد - ولم تزل إلى الآن - تستميل روحي.
بلغت المعبد عند الأصيل، فجلست أرقب الطريق المنسابة بين أشجار الليمون والصفصاف، وأنظر من وقت إلى آخر إلى وجه كتابي هامسا في مسامع الأثير أبيات تلك الموشحات التي تستهوي القلب برشاقة تراكيبها ورنة أوزانها، وتعيد إلى النفس ذكرى أمجاد الملوك والشعراء والفرسان الذين ودعوا غرناطة وقرطبة وإشبيلية تاركين في قصورها ومعاهدها وحدائقها كل ما في أرواحهم من الآمال والميول ، ثم تواروا وراء حجب الدهر والدمع في أجفانهم والحسرة في أكبادهم.
وبعد ساعة التفت، فإذا بسلمى تميس بقدها النحيل بين الأشجار المحتبكة، وتقترب نحوي مستندة على مظلتها كأنها تحمل كل ما في العالم من الهموم والمتاعب، ولما بلغت باب الهيكل وجلست بقربي نظرت إلى عينيها الكبيرتين، فرأيت فيهما معاني وأسرارا جديدة غريبة توحي التحذر والانتباه، وتثير حب الاستطلاع والاستقصاء.
وشعرت سلمى بما يجول في خاطري، فلم تشأ أن يطول الصراع بين ظنوني وهواجسي، فوضعت يدها على شعري وقالت: اقترب مني، اقترب مني يا حبيبي، اقترب ودعني أزود نفسي منك، فقد دنت الساعة التي تفرقنا إلى الأبد.
فصرخت قائلا: ماذا تقولين يا سلمى؟! وأية قوة تستطيع أن تفرقنا إلى الأبد؟!
نامعلوم صفحہ