ومن جهة أخرى، إذا صوبنا أفكارنا إلى نقطة واحدة وثابرنا بحماس في السبيل الذي ارتأيناه، فكثيرا ما نجد، رغم الحنق والغيظ، أننا - ولو غيرنا دائما في دفتنا - قد تقدمنا عن الغير مسافات شاسعة بمعاونة التيار والريح. وإن الحكم الذي نصدره على أنفسنا بالنسبة إلى هذا الغير، سواء أكنا معه متساويين أم وراءه أم أمامه؛ يكون عادلا.
الرسالة الحادية والأربعون
10 نوفمبر
كل يوم أرى مركزي هنا يزداد عناء؛ فإنني دائما مشغول، وإن ما حولي من الأشخاص والأدوار المتباينة التي يلعبونها، والمناظر المختلفة التي يقدمونها، لتستنفد على التعاقب كل اهتمامي. وقد تعرفت إلى الكونت الذي يزداد قدره عندي كل يوم؛ فإنه رجل عظيم حاد الإدراك، وهو على مواهبه وكفاءته العالية ليس بالمتكتم الصامت، ولا بالفاتر الطبع، صبوح الوجه، لطيف المعشر، وفوق ذلك كله ذو شعور دقيق، وقد رأيت عنايته بي لأول مرة لقيته فيها؛ حيث كنت أتم معه عملا ما، ولما وجد أن كلا منا يفهم الآخر نبذ الرسميات والتقاليد، فصار صريحا لطيفا، وسرني منه جدا سرعة خاطره وظرفه الذي لا يوصف، وإن الثقة الصريحة من ذهن عظيم كذهنه لتميل أبدا إلى تخفيف حدة شعور قلب كقلبي. لقد خبرت ذلك القلب طويلا أيها الصديق، وإنني لواثق بأن ستتغاضى كثيرا عن خطيئاته.
الرسالة الثانية والأربعون
24 ديسمبر
لقد صح ظني، فمن المحال اتفاقي والسفير، هو دون ريب أسرع من عرفت غضبا، أحمق الرأي، غريب الشكل، جامد كالعانس،
1
وكيف يرضى بالناس وهو لا ترضيه نفسه قط؟ أريد إتمام الأعمال بنظام وسرعة، حتى بإنجازها أنتهي منها، ولكن هذا لا يلائم طريقته، إذا قدمت له مسودة أعادها وعليها: «واثق أنها تقوم بالغرض، ولكني أفضل أن تراجعها؛ فقد تجد بها ما يستحق الإصلاح، أو تفكر في استبدال عبارة بأنسب منها، أو كلمة بما هو أشد وقعا.» ويفرغ ذلك صبري، فألعنه وألعن ملاحظاته، ويجب ألا تغفل نقطة واحدة، أو حرف عطف واحد، أما تغيير الوضع في الكلمات - أسلوبي الكتابي المحبوب - فلا يحتمله، كل رأي يجب أن يكون طبق الأسلوب الرسمي القاطع، فإن خالف ذلك رفض بلا إمهال، وأنت يا صديقي، يا من تعرف مقتي لهذه القواعد القاسية، تستطيع إذا أن تتصور العذاب الذي أحتمله مع رجل كهذا، ولولا معرفة الكونت المحبوبة لما وجدت لي عزاء. وقد أكد لي بإخلاص منذ أيام بغضه لبطء هذا «الرجل العظيم» وحرصه، قائلا لي: «إن هؤلاء الناس لا يجعلون كل شيء مملا لهم فقط، بل لكل من احتك بهم، ولكننا يجب أن نذعن لهم، كالرحالة الذي يضطر لصعود الجبل، ولو لم يعترضه لكان طريقه أقصر وأسهل، أما والحال كما هي فعليه أن يجتازه صابرا.» وقد رأى الأبله تعلق الكونت بي فزاد غمه وضجره، وهو يتحين كل فرصة لتحقيره أمامي، ولكنني أدفع عنه بالطبع، فأزيد في استيائه. ورأيت أمس أنه وجه إحدى طعناته إلى الكونت، كما قصدني بها؛ فقد قال: «إن الكونت يصلح جدا للأعمال العامة في الدنيا، فأسلوبه جيد، وكتابته سهلة، ولكن تعلمه - كبعض «عظماء النابغين» - سطحي.» وكانت لصوته رنة خاصة، شفعها بنظرة ذات معنى كأنه يقول: «آمل أن تشعر بما أقول.» ولم يقرصني تهكمه لأنني أحترم نفسي. إنني أحتقر الرجل الذي يفكر مثله ويعمل عمله، ومن يجادل هؤلاء الأشقياء؟ وعلى أية حال فقد أجبته ببعض الحدة قائلا: إن الكونت رجل فاضل، جدير بكل احترام لسيرته وفطنته، وإنه هو الشخص الوحيد ممن عرفت الذي يسمو بنبوغه الواسع عن الناس العاديين، مع امتلاكه النشاط الضروري للعمل والجد ، فكان هذا في رأيه مما لا يفهم. وخفت أن يستمر في قدحه لرجل أفضل منه بكثير، فيزيد من استيائي؛ ولذا انسحبت في الحال.
أنا أحمد لك، لك أيها الصديق عبوديتي هذه؛ فقد رضيت لإلحاحك المتواصل، ونصحك الشديد لي بالنشاط، أن أحني عنقي لهذا النير الممقوت. النشاط! إنني لأرضى بعشر سنوات أقضيها في هذه السفينة
نامعلوم صفحہ