ما أجمل المنظر الذي أمامي الآن، في استطاعتي الآن، إذا كنت قادرا على التمتع به! من النادر جدا أن تجتمع ظروف حسنة في حياة امرئ ما لتهيئ من سعادته، ولكن وا أسفاه! إنني أشعر شعورا عميقا بأن السعادة والهناء يتوقفان على حالة الإنسان الفكرية، وليس على المنافع والمصالح. يرونني هنا جامعا لأسرة من خير الأسر المجيدة؛ فالنائب يعدني كولده، والأطفال كأخ لهم ، وكذا شارلوت وألبرت أيضا، هذا الشاب اللطيف، الذي يلقاني بوجه الصديق المخلص الباسم، ويقدرني بعد خطيبته مباشرة، ولو سمعت حديثنا إذ نترافق السير، وامتداحنا المتبادل لشارلوت لجذلت واغتبطت، ولست أرى أغرب من هذه الصلة بيننا، على أن بها ما يسيلني دموعا في كثير من الأحايين. ويحدثني عن أم شارلوت، تلك السيدة الفاضلة، ويصف لي دقائقها الأخيرة، وذلك المنظر المؤثر جد التأثير؛ إذ عهدت إلى فتاتها المحبوبة بمستقبل أطفالها وأسرتها، ويصور لي عناية شارلوت واقتصادها مذ حلت محل أمها، وإدارتها شئون البيت، وحنوها على إخوتها وأخواتها حنو الأم، وهي مع قيامها بهذه الواجبات الشاقة كل يوم، لا تزال حافظة لبهائها ونشاطها.
وأسير بجانبه فأجمع الأزهار طول الطريق، وأصنع منها باقة أبذل فيها عنايتي، ثم ألقي بها في أول جدول نلقاه، وأنظر إليها تنزلق على الماء، ثم تغرق وأنا لا أدري ما أصنع.
لا أذكر إن كنت أنبأتك أن ألبرت قد نال مركزا هنا؛ فقد وظف في البلاط، والكل يحترمه ويحبه، وأرى أن قليلا ممن عرفت من الرجال يعنى عنايته بعمله، ويقوم به حق القيام.
الرسالة الحادية والثلاثون
12 أغسطس
ليس في العالم شخص ألطف من ألبرت، كان حديثنا أمس مفيدا متفردا في موضوعه، وكنت زرته لأستأذنه في السفر إلى الجبال؛ إذ عزمت على قضاء بضعة أيام بها، وها أنا أكتب إليك منها الآن، فبينما كنت أتمشى في مخدعه لمحت مسدساته، فسألته إعارتي إياها في سفرتي، فأجاب: «لك ما تريد، بملء السرور، إذا تفضلت فحشوتها؛ لأنني أعلقها هنا لمجرد الزينة فقط.» فأخذت أتأمل أحدها. واستتبع هو حديثه فقال: «كدت ذات مرة أدفع ثمنا غاليا لتيقظي وحذري، ومن ذلك الحين لم أبق عندي سلاحا ناريا محشوا.» فسألته بيان الحادثة، فقال: «أقمت عند صديق لي يسكن الخلاء نحو ثلاثة شهور، ولم يعكر صفو راحتي فيها شيء، ولو أن أسلحتي لم تكن محشوة، فبعد ظهر يوم ممطر لم يكن لدي ما أعمل، وخطرت لي فكرة أن البيت قد يهاجم في الليل ويسطى على ما فيه، وأن هذه الأسلحة قد تفيد، وأن وبالإجمال، فأنت تعلم ما يفعل الإنسان حين ينزل به الخمول؛ وعلى ذلك ناولتها إلى خادمي لينظفها ثم يحشوها، فأخذ هذا بلا تفكير يخيف الخادمة مداعبا إياها، فانطلقت رصاصة من أحدها بطريقة لا يعلمها إلا الله دون أن يرفع الضاغط، فأصابت المسكينة في يدها اليمنى وأطارت إبهامها، ويسهل عليك الآن أن تتصور تأثير تلك الحادثة، وما كلفته من نفقات الجراح الذي عهد إليه بالعلاج، ومنذ ذلك الحين لم أبق في غرفتي مسدسا محشوا، وفي الحقيقة أن حذر الإنسان وتيقظه تعلل لا فائدة منه؛ فهو لا يتنبأ بالمستقبل، ولا يمكنه اجتناب الخطر المداهم.» محبب لدي كل شيء في ألبرت إلا «في الحقيقة»، وعلى أية حال، فأنت تدري ألا قاعدة بدون شواذ، وهو كامل الخلق بلا مراء، وإذا ما أراد أن يدفع عن قضية عامة معروفة، أو مسألة لا تزال قابلة للريب، جاء بكل رقيق اللفظ والتعبير، تسوقه إلى ذلك صراحة في الرأي مع خشية من إساءة أحد ما، حتى إذا ما قارب الختام نسي أصل قضيته وضاع. وكان في حديثنا، حسب عادته، مكبا على الموضوع مهتما به، وعلى هذا صارت المناقشة مملة، فحولت عنها التفاتي وحصرته كله في أفكاري، وبينا كنت كذلك أمسكت بالمسدس فسددته إلى جبهتي، وما كدت أفعل حتى اختطفه ألبرت من يدي صارخا: «ماذا أنت فاعل؟» فأجبت: «إنه ليس محشوا»، فاحتدم محتجا: «وبعد؟ ولم تقدم على هذا العمل، ولو أنه ليس محشوا؟ إنني لأعجب كيف ينقلب امرؤ ما إلى مجنون فيقتل نفسه، بل إنني لأرتعد لمجرد تصور ذلك.» فأجبت: «كيف يمكن رجلا وهو يتكلم عن عمل ما أن يجزم بجنون فاعله أو حزمه، باعتداله أو عدمه؟ وما معنى هذه التصريحات الطائشة؟ فهل اعتبرت ودرست الحوادث الخفية على هذه الأعمال؟ أنى تنشأ؟ ولم يستحيل الخلاص منها؟ ولو فكرت في ذلك ونقبت لما أصدرت حكمك بهذه السرعة.» فقال ألبرت: «ولكنا لا نستطيع أن ننكر أن بعض الأعمال - دون نظر إلى منشئها وبواعثها - تعد جرائم بطبيعتها.» فوافقته على ذلك دون اهتمام، ثم أكملت حديثي: «على كل حال يجب أن يكون هناك شواذ؛ فالسرقة تعتبر جريمة، ولكن هل يستحق العقاب أم الرحمة ذلك البائس الشقي، يسوقه فقره المدقع، فيأخذ القليل من الغني المكثر؛ لينجو بنفسه وأسرته المحتضرة جوعا؟ بل من يدعو الزوج الذي يذهب بنفس زوجته الخائنة وخليلها الغادر، في اللحظة الأولى تلحقه فيها الإهانة الحقة، قاتلا راغبا في القتل؟ من يدعو تلك المرأة الساذجة، أغرتها الأماني والوعود، فأسلمت نفسها لإغواء النذل المخادع، خليعة فاجرة؟ إن قوانيننا نفسها على ما بها من قسوة وصرامة، تتمسك بالرحمة في هذه المواقف، فتتنازل عن العقاب.» فقال ألبرت: «ولكن هذه الأمثلة لا تنطبق تماما على الحقيقة، إن الرجل الذي يندفع فجأة وراء العواطف الهائجة لا يستطيع أن يفكر في شيء، وعلى هذا وجب اعتباره سكرانا أو مجنونا.» فصحت وعلى شفتي ابتسامة استياء: «إيه! أيها الأخلاقيون، بأية سكينة، بل بأي جمود تحكمون وتتكلمون عن الاندفاع والسكر والجنون! ولكنكم عقلاء رصينون، تحتقرون السكران، وتتجنبون المجنون، فتنتقلون إلى الجانب الآخر كالرهبان، ثم تحمدون الله كالفريسيين
1
إذ لم تكونوا مثلهم! لقد ذقت أكثر من مرة تأثير الخمر، فارتكبت في تلك الأويقات أشد الحمق وأكبره، ولست أخجل من التصريح؛ فقد كان لي في ذلك درسا أن كل من يظهر مواهب عالية، أو أعمالا تتعدى العرف المألوف يعد سكرانا أو مجنونا، وأن هذه الخواطر الخاملة الهامدة لتسود حتى في حياتنا الخاصة. وماذا يقول العالم عن شاب كبير الشجاعة واسع الكرم، إلا أنه سكران أو معتوه؟ ألا فاخسئوا أيها الفلاسفة، أيها الأخلاقيون! واخجلوا، اخجلوا!» فقال ألبرت: «هذا مثل من خواطرك الروائية، إنك أبدا تخرج عن الحد، وإنك لشاط كثيرا عن موضوعنا الآن؛ إذ تشبه الانتحار بأعمال البطولة، ذلك الضعف البين؛ لأن الموت رغم ما به من أهوال أهون بكثير من الحياة المنكودة التاعسة، نلقى فيها المصائب بجلد وصبر جميل.»
وكدت هنا أترك الموضوع لأنه لا يفرغ صبري شيء أكثر من هذه الآراء التافهة العادية الخالية من المعنى، تحشر دون حاجة؛ لمناضلة العواطف المتدفقة من الفؤاد، ولكنني كظمت استيائي حالا؛ فقد تعودت كثيرا في الأيام الأخيرة هذه القياسات الفاسدة، حتى كادت تصبح ضئيلة التأثير أو عديمته علي، على أنني استتبعت ببعض الحدة «على أية حال أنت تسمي الانتحار ضعفا، ولكنني أحذرك وأرجوك، فلا تندفع وراء الأصوات الفارغة، هب أمة قد أرهقها نير الظلم والاستبداد، فقام قائمها، وثارت تفك قيودها، فهل تدعو ذلك التمرد ضعفا؟ وشخصا يبذل قواه إبان حريق ليخلص بيته من داهم النيران، فيجد الأحمال التي كان ينوء بها فلا يزحزحها، سهلة الحمل الآن، ورجلا يحمل في ساعة استياء حق على الفئة من الأعداء، فيهزمهم ويولون الأدبار، فهل تتهم هؤلاء بالضعف؟ وإذا كانت المقاومة يا سيدي العزيز دليلا على الجلد والصبر، فلم تدعون تلك المقاومة السامية ضعفا؟»
فسكت هنيهة ثم أجاب: «كل هذه الأمثلة - وأرجوك عفوا - لا تزال، كما أرى، خارجة عن الموضوع.» فأجبته: «هذا جائز، فطالما لوحظ أن في طريقة جمعي للأشياء ضربا من الإسراف، فلنحاول إذا أن نفكر في المسألة من طريق آخر، لنتساءل عن مركز ذلك الرجل الذي يصمم على إلقاء حمل الحياة من على كاهله، ذلك الحمل المحبوب عامة، ولننسل إلى أعماق مشاعره؛ فإننا بغير هذا يستحيل علينا درس الموضوع.»
نامعلوم صفحہ