تعجب في نفسه من الطفلة التي قدر أنها لم تتعد مرحلة الحضانة ومع ذلك تمتلك كل هذا الفضول، أمسك يدها بحنان ورفعها إلى صدره ليقرأ لها الكلمات العربية تحت النص الفرنسي أو بالأحرى ليتهجاها على مهل، ولم يكد يبدأ في تلك المهمة الصعبة والمحببة إلى قلبه حتى سمع صوتا نسائيا أجش يأتيه من الخلف ويعتذر قائلا: آسفين يا سعادة البيه، البنت الصغيرة لا تستريح ولا تريح، كده يا بنت تتعبي جدو؟
تطلع إلى الوجه الصغير المدور الشديد السمرة يبرز في وسطه أنف كبير مقوس فوق شفتين غليظتين وذقن مدبب لم يخل من شعرات سوداء دقيقة. نظر في العينين الضيقتين اللتين تطفو عليهما سحابة حزن وعتامة غير خافية، ووقف أمام الهيكل المحني النحيل الذي لم يبق فيه أثر لجمال زائل أو فتنة قديمة. ألجمته المفاجأة فلم يند عنه سوى صوت خافت مرتعش بالصدمة التي داهمته على غير توقع: أبدا يا ست هانم، هي بنتي أو حفيدتي على كل حال، وقبل الصغيرة التي طوق ذراعاها عنقه في خدها وأنزلها إلى الأرض وهو يستأذن في أدب شديد ويخرج منه صوت ضعيف مشروخ: حصل خير يا هانم، مساكم الله بالخير، مع السلامة. •••
أخذ يردد بغير وعي «مع السلامة، مع السلامة» حتى بعد أن اتجه نحو الدرجات الحجرية التي هبط منها الطريق العريض المتلوي الذي يؤدي إلى البوابة الخارجية، لا ليست هي، وكل ما حدث لم يكن إلا حلما ووهما ككل ما مر بحياتك. تمنيت في آخر العمر قبل أن تغيب شمسك كما غابت الشمس الآن عن الحديقة وبدأ الليل يزحف على أشجار الكافور والجزورين الضخمة التي تشبه كل منها غابة وحيدة صامتة، تمنيت أن تتحقق أمنيتك الوحيدة، أمنيتك الضئيلة البائسة قبل أن يغلق القبر عليك إلى الأبد، الأبد؟ يا للسخرية المبكية من لحظة الأبدية التي تحملها كالجوهرة الساطعة داخل كيانك، ومع ذلك فأنت لا تسأم القول لنفسك: مع ذلك سأحملها معي حتى إلى قبري، وسأرعاها وأطعمها وأسقيها في عش القلب حتى لحظات الاحتضار.
ماذا تفعل الآن وماذا بقي لك؟ لم يبق إلا الصمت. هكذا قال البطل.
1
المتهور النبيل الذي توحدت به طول حياتك وربما تفوقت عليه في الحزن والوحدة والعذاب والاكتئاب.
نعم لم يبق إلا الصمت، أن تعيش حاضرك الممكن وتحاول أن تملأ كأسه الهشة العابرة بالعمل والعمل والعمل، كما تحاول أن تتعلم من جديد كيف تصرف فعل يكون، الماضي كان حاضرا فشلت في أن تتشبث بخصلات شعره، والمستقبل سيكون حاضرا ربما لا تعيش حتى تجربه وتحياه، وهذا الحاضر الذي تقاطع فيه الاثنان تحت كوكب النحس، ماذا يبقى لك منه إلا حلم لحظتك الأبدية التي تملؤها بوهم الخلود أو بحقيقته حتى لا تنهار هي أيضا كما انهار كل شيء وتصدع فوق رأسك أيها الطلل الحي؟ ها هو الليل يزحف على الأشجار والأزهار والعصافير والنماذج المصغرة والأكشاك والعشاق الذين ما زالوا صامدين تحتها برغم الليل الأسود وبرغم الحاضر العابر المتبدد دائما وإلى الأبد، على مهل تسير نحو بوابة الخروج وأنت تتطلع إلى أحواض الزهور والورود التي بدأت تغمض عيونها وتفتح قلوبها للندى القادم مع الفجر، وعلى مهل تسأل نفسك: هل ستستطيع أن تعيش بقية أيامك كما تعيش الوردة على النور؟ هل سيمكنك أن تولد وأنت شيخ
2
وترحب بكل لحظة قادمة وأنت تقول: كل شيء طيب أيها الكهل الطيب، كل شيء طيب في النهاية ورغم كل شيء.
القبلة الأخيرة
نامعلوم صفحہ