كانت الأصوات قد اقتحمت قاعة المشرحة وكادت أن تدنس كذلك حرمة الخشوع في محرابها الساكن سكون الموت، أصوات أقدام تضرب الأرض برعونة وجرأة، وأصوات غناء هابط لا يراعي هيبة المكان ووحشته ورهبته، وتأكد عبد الحق أن الصعلوك قد شرف أخيرا فرفع صوته مناديا بينما انشغلت يداه في لم الأوراق وحشرها في بطن القطة السوداء: أخيرا وصلت يا عطية؟
مرت لحظات قبل أن يظهر شبح قصير ممتلئ الجسم مترنح الخطوات، قطع عبد الحق عليه غناءه الفاضح الخشن بصوته الرزين العميق: ولك نفس تغني أيضا؟ - من؟ عم عبد الحق؟ يا محاسن الصدف، وأنا أقول المشرحة نورت وأصبحت تشرح الصدر. - كأنك راجع من البار أو من السيرك.
أغرق عطية في الضحك ثم وضع يده على فمه وقال: الله يجازيك كل خير يا طيب يا أمير، دائما تفكرني بالذي مضى، وأنا أطول أرجع للسيرك أو حتى أتفرج عليه، كفاية علي سيرك الأموات من صباح ربنا، تعرف يا عمنا الكبير ... - لا أعرف ولا أريد أن أعرف، يالله وراءنا شغل. - حلمك علي، والله ولا لك علي يمين، أنا دائما أسليهم وأضحكهم وأهون عليهم وأسمع كلامهم وشكاويهم، أعدلهم وأمددهم وأطبطب عليهم وأغني لهم أغاني المهد الأخير قبل ما يرجعوا لأمهم، هي التي تريحهم وتضمهم لصدرها وتغطيهم بترابها لأجل ما يناموا، تعرف يا عم ... - قلت لك وراءنا شغل يا رجل. - رجل؟ هاها، والله ومعك حق، هل تعرف أين كنت الآن؟ - كنت مطرح ما كنت، المسامح كريم. - ونعم بالله، عارف يا عم عبد الحق، من طول التعب طول النهار قلت أخطف رجلي للمهرة العطشانة في البيت، رويتها وأشبعتها وغطيتها ورجعت. - والشغل ولا على بالك، هل هذا يرضي الله؟ قلت لك اعمل لك همة. - جاهز وتحت أمرك، لأجل خاطرك بس. - ولأجل خاطر الشاعر المسكين.
أشار عبد الحق إلى النقالة والعربة في الركن الغارق في الظلال المشلولة.
اتجه عطية نحو العربة وهو يسأل: قلت شاعر؟ - أظن يا عطية ... - لا اسم ولا عنوان؟ - اطمئن. على الأورنيك شخص مجهول، حضرة النقيب حازم كتبه بنفسه، ننتظر كالمعتاد إلى أن يظهر له أهل.
وقف الاثنان أمام العربة ثم سحباها إلى إحدى الثلاجات الكبيرة، ولمح عطية الحقيبة السوداء التي وضعها عبد الحق على المفرش الأصفر فسأله: أليس فيها شيء يدل عليه؟ قال عبد الحق وهو يهز رأسه: أوراق في أوراق، كلام في كلام في كلام، فحصتها كلها ولم أصل لشيء، تذكرت، أنت والله ابن حلال، له صاحب اسمه عبد البصير، إذا سأل عليه سلمه له، طبعا بعد إذن حضرة العقيد أو النقيب والإجراءات اللازمة.
غمغم عطية وهو يرفع المفرش ويمر بيده على الوجه المتقلص الملامح والجبهة العريضة المتغضنة وخيوط الدم المتخثرة على الصدغ والعنق وياقة القميص الكتاني الداكن: نفسك معي يا عم عبد الحق، على مهلك، لا لا، من الناحية الثانية، الثلاجة كلها تحت أمره، يا بركة أم هاشم .
سأل عبد الحق وهو يحدق في الفراغ المعدني: ثلاجة أو خرابة؟
قال عطية وهو يعدل وضع الجثة في جوف المغارة الكهربائية ويمنع نفسه بصعوبة من الانفجار في الضحك: قلت لي إنه شاعر، قلت يشعر لوحده لغاية يوم القيامة.
شاركه عبد الحق في تسوية الجسد النحيل وثني الساقين الطويلتين بالقرب من البطن، وظلت شفتاه تتمتمان بالآيات والدعوات وعطية مطأطئ الرأس بجانبه يتصنع التقوى والخشوع ويرفع عينيه إليه بين لحظة وأخرى حتى سمعه يقول لنفسه أو للميت ما لم يفهمه: نفذت الطلقة وغارت الطعنة، ليس أمامك إلا مواجهة الجدار الأخرس.
نامعلوم صفحہ