•••
لماذا فعلت ما فعلته يا ولدي؟ وإذا كنا - نحن المعلمين - لا نستطيع أن نفهم حمقك وطيشك، فكيف نبرره للناظر الثائر ومأمور المركز المصمم على العقاب الرادع، ورئيس المجلس البلدي الذي طالب بإدخالك الإصلاحية في عاصمة الإقليم، وعشرات التجار وأصحاب الورش والحرف والدكاكين الصغيرة، بل وشيخ الكتاب الكفيف الذي قرأ له الأولاد الحروف التي نقشتها على كتابه العتيق فملأ البلد بصياحه عن الكافر الفاجر العربيد؟ حتى أبوك الطيب التقي الذي يسلم المارة عليه ويتبركون بلثم يده وطلب الدعاء منه ضرب كفا بكف وقال: ابني وأنا بريء منه إلى يوم الدين؟ نعم تذكرت الواقعة. ذكرني بها الحرفان الملعونان اللذان لطخت بهما الجدران في كل مكان ولم ترحم جدارا واحدا في البلدة الآمنة المغمضة العيون على بؤسها وحزنها الثقيل. حتى القبور الهاجعة في المدافن كاد الناس يشكون في أنك بصمت عليها الحرفين الشريرين بفرشاتك الشريرة ومدادها الأسود الشرير.
أجل يا بني الطائش المسكين، كانت الشكوى منك قد صعدت إلى السماء نفسها وأوشك الصوت أن يتنزل علينا مطالبا بالقصاص الرادع، وكنت أنت - كما اعترفت لي بعد ذلك تحت قبة السماء المرصعة بآلاف النجوم وأمام المنظار الذي دعوتك لمراقبتها منه - كنت أنت المسئول عن الإزعاج الذي سببته للمدرسة والبلد وربما للأموات أيضا وإن لم أتأكد من هذا بنفسي لخوفي المزمن من زيارة القبور، كنت أنت الذي غافل الجميع أياما وأسابيع طويلة وراح يطبع اللا على كل الحوائط والجدران مبتدئا بالمدرسة التي تصطف فيها كل يوم في طابور الصباح وتدخل الفصول وتخرج منها كالحمل البريء، كل المدرسين اشتكوا من هذه اللا التي يجدونها في الصباح مرسومة بالطباشير على السبورة كأنها سيقان عقرب متربص باللدغة القاتلة لليد التي تمحوها، وتحيرنا في مجلس المدرسة وفسرنا الأمر بمختلف التفسيرات، وعللنا الجريمة بآلاف الحجج والتعلات، ونسبناها لشقاوة الأولاد وقسوة بعض الآباء والمدرسين والتراخي في الحفاظ على النظام والانضباط داخل أسوار المدرسة وخارجها وغير ذلك مما هو مألوف ومعتاد، لكن الأمر تجاوز المألوف والمعتاد عندما جاءت الإشارة من المركز وفيها اسمك الواضح واسم عائلتك وسنك ورقم فصلك، كان فلاح راجعا من السهرة في الغرزة مع صديقه النجار قد لمحاك وأنت تجري من حائط إلى حائط وفي يدك دلو صغير وفرشاة يتساقط منها الحبر الأسود، واشترك معهما حلاق الصحة الحاج مبروك رحمة الله عليه الذي لم أنس اسمه حتى الآن لكثرة ما غرز في جلدي من الإبر وكثرة ما فتح ونظف من الجروح وطاهر من أولادي وأولاد الأقارب والجيران، ونادوني على عجل فأسرعت إلى المركز مع العسكري الذي دق علي بابي في عز الليل. كنت أنت الذي ذكر اسمي وطلب ألا يحضر أحد غيري ولا تبلغ الحادثة لأبيك، وذهبت ورأيتك وتشفعت لك عند البيك المأمور.
وعلمت بما ارتكبت يداك ووعدت بأن تجد جزاءك من المدرسة وتوسلت ألا تكبر المسألة، وكانت العلقة أمام المدرسة كلها ثم كان ما كان بعد ذلك. قربتك مني وحاولت أن أكون لك الأب والراعي والمعلم، ودعوتك للتطلع من المنظار على سطح بيتي، وكنت أيامها العزب الطموح الذي لا يزال يحلم الأحلام السخيفة ويلهث لارتقاء سلم المجد. آه! لم يكن الواقع قد حاصرني بعد! لم تكن مسئوليات تربية الإخوة الصغار وتزويج الأخوات قد ألقيت على كتفي بعد الوفاة المفاجئة للأب الفقير المطحون، ولم تكن جذوة الأمل في متابعة الدراسة في العاصمة والحصول على الماجستير والدكتوراه في الفلك قد انطفأت في صدري، حتى الأمل في القناعة بالعمل في مرصد حلوان اختفى من حياتي تحت وقع الضربات التي انهالت علي والتبعات التي لم يكن منها مفر، وقنعت من أحلام الطموح القديم بالمنظار الصغير الذي أطل منه على النجوم كلما صفت السماء في ليالي الصيف، وشراء بعض كتب الفلك التي أتوصل إليها من زميل أو صديق قادم من العاصمة قبل أن ألقي بالمنظار وسط كراكيب السندرة مع كراتين الكتب والأوراق والأنابيب والدوارق والأدوات والأجهزة التي ترقد الآن منذ أكثر من ربع قرن في سباتها الطويل.
نعم يا ولدي نجم، يا من لم تنطفئ كما انطفأت ولم تخمد فيك شرارة المجد والطموح، ها أنا ذا أرى وجهك الصغير المستدير الذي كنت أصفه بملاكي الصغير، لماذا يشتعل بالألم والعذاب كنجم مرتعش في السماء يتقلب في دمه؟ ألا تعلم خيرا مني ألف مرة أن ضوءه لم يصلنا إلا بعد ملايين أو بلايين السنوات الضوئية، وأنه يمكن - مثل كل النجوم - أن يحتضر ويموت؟ أشفق على نفسك يا ولدي الحبيب الذي رجع لبلده ولصدر معلمه بعد غياب السنين، وأشفق على السيدة التي تحبك، وأولادك الذين ينتظرونك، واسمك وسمعتك وشهرتك.
كنت قد دخلت الحجرة التي يرقد فيها على سرير سفري صغير كأنه مصنوع من عظام حيوان بحري منقرض، وكنا قد نزلنا من الحنطور على عجل وسلمنا على شقيقه الأكبر حامد الذي يعرفني وأعرفه ونلتقي دائما في صلاة الجمعة أو في الأعياد والمواسم والمناسبات والجنازات. رأيته ممددا على الفراش وتمليته قليلا قبل أن أفاجأ به يرمي رأسه على صدري ويحتضنني ويجهش بالبكاء. التفت لزوجته التي بقيت خارج الحجرة وهي تطل علينا جزعة متلهفة فأغلقت الباب، واحتضنته وبللت خده بدموعي كما بلل خدي. منعتني المفاجأة من تأمل وجهه على مهل، وكدت أتحاشى النظر في عينيه الباكيتين حتى أتمكن من القيام بدور الراعي القديم. كان الوجه صغيرا كما عهدته قبل ربع قرن أو يزيد، لم يكبر إلا كما يكبر وجه الأرنب الوليد الذي يحتفظ بخطوطه وملامحه في وجه الأرنب العجوز. أما اليدان المعروقتان والجسد النحيل الطويل فما زالا عصبيين متوترين وما زالا مصرين على رفض التحنيط القديم أو الحديث!
قلت له: أنت بخير يا نجم، أنت بخير، لم أنسك يا ولدي أبدا، لكنها الأيام والأعمال وتحولات السنين، اطمئن يا ولدي فالدنيا بخير ولا تتغير كثيرا كما تظن أنت وأمثالك - هل يخفى هذا على عالم الفلك الكبير؟ وهل غيرت شيئا من مسار الكون وقوانينه أم اقتصر جهدك وجهد العلماء على معرفتها وفهم أسرارها؟ - لا تقلق يا بني، لا تظلم نفسك بالحزن ولا تعذبها بالرعشة والبكاء، هذا شيء لا يليق بنجم متألق يخضع ككل الكواكب والنجوم للسنن الأزلية.
ماذا؟ بالطبع سمعت قبل سنوات عن كشوفك الرائعة وإن كنت بصراحة قد عجزت عن فهم أسرارها لأني تركت العلم وتركني منذ أن غادرت البلد وهاجرت، وقرأت أخيرا عن تكريمك في بلدك فسعدت وإن لم تسعفني الذاكرة ولا قصر النظر على التحقق من النجم المحتفى به أو التثبت من صوره المنشورة في الجرائد. نعم يا ولدي! ضعف البصر وكلت الصحة وزال حتى طموح قراءة الأخبار في الصحف والمجلات. لا أكتمك أن اليأس تسرب إلى دمي وخلايا مخي البليد منذ أن يئست وترهلت وأصبحت كما ترى و... لكن حدثني أنت عن نفسك! نعم نعم، هكذا أنتظر من نجم العزيز الحبيب، اعتدل وضع هذه المخدة خلف ظهرك، فضفض عن نفسك وتكلم يا بني، أنا أيضا لم أكن أحلم بهذا اللقاء، لم أكن أتصوره ولا في الأحلام. •••
انهمرت نافورة الأحزان القديمة فأخرجت كل ما فيها، تلقيتها في حنان كما يتلقى الوادي الرحب المنبسط سيول الحمم المتفجرة التي تتساقط من فوهة البركان العالية المتأججة بالخطر والرعب. رجع بي إلى الأيام الأولى التي كنت قد رميتها خلف ظهري وردمت عليها التراب، وأخذ يحدثني عن كل شيء في حياته منذ أن أكل العلقة الساخنة على قدميه، أمسياتنا فوق السطوح وأحاديثنا الطويلة عن الفلك والتنجيم والجاذبية والتصوف والعلماء القدامى والمحدثين. فتح لي الأبواب والنوافذ التي أقفلتها إلى غير رجعة بعد أن سلمت رأسي وطموحي لقبضة لقمة العيش حتى صرت زكيبة لحم متورمة يهددها التعفن والدفن! وعرفت كل شيء عن هجرته إلى كندا ودراسته الطويلة وتفوقه وتكريم العلماء والجمعيات العلمية له، وفرحت لأن بلده تذكرته وأرادت أن تشارك في الحفاوة والتكريم وكلمته عن أهمية العودة للجذور، وبعد أن توهج نجمه فجأة وراح يتكلم عن جولته في حواري البلد وشوارعها أدركت أن الجذور كانت لا تزال تئز وتغلي باللهب الراقد فيها منذ صباه. خفت أن ترجع النوبة وتتفجر أفظع مما فعلت فجعلت أصرفه عن ذكرياته الدفينة وأصب فوقها مياه الدعابة والمرح وأسرد له القصص والحكايات عن تبلدي واستسلامي للظروف ونشاطي العظيم في جمع المال والفدادين والعقار من تربية الخيول والعجول والأغنام والمواشي والدجاج والحمام واليمام، وبدأت الضحكة تغزو سحب الغم المتلبدة على وجهه وهو يرى كرشي المتورم ويتفرس في كتل اللحم والشحم المتدلية من وجهي حتى أوشكت أن تمنعني من التنفس. •••
هون عليك يا ولدي، هون عليك، تعلم من أستاذك القديم الذي أصبح حجرا حتى لا تحترق بنيران ذكائك وثورتك وطموحك، اطمئن يا ولدي في حضن الكون الذي جبت أبعاده وغصت في أعماق ثقوبه ودروبه ومجراته - ضع روحك بين يدي الخالق واطمئن، وها هو الإمام في مسجد أبو السعود يقول: آمين، والمصلون من أهلك يرددون وراءه بصوت واحد: آمين، اطمئن يا ولدي واهدأ! عد لزوجك وبنيك وعلمك وكشوفك وردد ورائي: آمين، آمين.
نامعلوم صفحہ