صبرت على سنوات الجدب السبع وسنوات الذل العشرين، وانطفأت كل نجوم سمائي وشموعي ذابت في الصمت المتفحم، وصمت عن الضحكة واللقمة منذ أن فقئ سراجي وتم ظلامي وخيمت علي صور الرعب القاتل من أن يقطع حسان لساني.
لم يسمع قضاعة هذا الكلام، ولو سمعه لما أدرك معناه. كان غريبا رمته محنة قبيلة مجاورة على هذه القبيلة أو ما بقي منها. دخلها مع الراجعين إليها من فلول الناجين والهاربين الذين خرجوا قبل المقتلة يستطلعون أخبار القوافل العابرة إلى الحدود مع اليمن أو يهاجمونها وينهبون ما يستطيعون نهبه، وعندما رجعت النساء والفتيات الصغيرات اللاتي سباهن جيش التبابعة ومعهن اليتامى والعجزة والمتسولون، وجد له خيمة وعرف الطريق إلى أرملة ثكلى وسلك الدروب الجبلية الوعرة إلى الآبار البعيدة ليحمل الماء إلى خيام الفقراء وبيوت التجار وأوكار اللصوص وقطاع الطريق ، ولما شح الماء في الآبار وطال الجفاف الينابيع بعد أن شقق الأرض وأحرق الزرع وحصد الأشجار والأعمار، اكتشف أن حفر قبور الأموات يضمن حياة الأحياء في زمن القحط، القحط الذي لم يسمن سنواته العجاف سراب الوعود من عمال حسان وخلفه على جديس، ولا الفضلات المتبقية من موائدهم وقوافلهم المتجهة في حراسة جنودهم إلى ما وراء الحدود.
خرج قضاعة من بئره ولم تخرج الزرقاء. أخذت تغوص في مياهها العكرة حتى ارتفع صوت شخيرها الذي لم تقطعه حشرجة صدرها ولا ارتفاعه وهبوطه مع أمواج رؤاها التي ظلت تفور في باطنها وتمور، وعندما دخل سعد وراء الشيخ العجوز الذي أوقفه على الطريق كان جسدها قد تصلب وتخشب كفرع نخلة جافة تسف الريح عليه ذرات الغبار وتلفه سحب الرمال. جرى الغلام نحوها والتقط يدها. لمس الصدر الذي يعلو ويهبط فاضطرب صدره وتحجرت غصته وخنقت آهته الخافتة كحفيف جناح كسير: خالتي، سيدتي ... وبدأ ينشج بصوت عال عندما أحس أن الصدر يتوقف لحظات قبل أن يعاود ارتجافه ويقذف حممه من جديد. أسرع الشيخ نحوه وضمه إليه قبل أن يهتف بصوته القوي الذي خرج من فمه الخالي من الأسنان كما يخرج زئير وحش أشعث من جوف وكره المخيف: زرقاء! يا زرقاء! تحرك الرأس قليلا واهتزت الشعرات البيض في عارضيها قبل أن تختلج الشفتان وتهتز اليد تحت كف الغلام الصغير: سعد ... هل نسيتني يا ولدي؟ انفتحت فوهة الفم الأهتم ومالت رأس الشيخ فوق الجبهة المتغضنة بالتجاعيد حتى كادت الأنفاس تصغر في الفتحتين الغائرتي السواد: أوصنا يا زرقاء. صمتت طويلا وتجمد وجهها الصخري ثم خرج الصوت من فمها كصوت الماء المنسكب من جرة قديمة: هناك حيث دبت الحياة في الشجر! هتف قضاعة وهو يلم أدواته: الغلام يعرف الطريق يا زرقاء. وقال الشيخ لنفسه وهو يلتفت إلى حفار القبور الذي أخذ يربط الرفش والسلال والحبال ويضعها فوق كتفه: أجل! أجل! هناك حيث البرج والشجر!
تجمدت اليد التي كانت تربت على كف الصبي. تثلجت فوقها كعصفور ميت ثم سقطت.
وتشبث بها الغلام وهو يرتمي على الصدر الذي سكنت فيه الحركة وكف عن الصعود والهبوط، وتساءل الشيخ وهو يضع يده على رأسه ويمد ذراعه ليبعده عن الجسد المتصلب في كهف الموت: ألم تعرف أن الشجر جف واقتلعه أهل جديس ليستدفئوا به في برد الشتاء؟ ألم يقل لها أحد أن البرج تهدم كما تهدمت سائر الأبراج والحصون وأخذ الناجون من المذبحة أحجاره ليبنوا بها بيوتهم المخربة؟
هامش أول:
يقال - والعهدة على راوية مجهول - إن الزرقاء انتفضت فجأة قبل أن يفلت طائر الروح من صدرها وطلبت مرآة. سألوها: وماذا تفعلين بالمرآة يا زرقاء؟
قالت: أنظر عيني الزرقاوين اللتين سأرجع بهما في وجه بومة جميلة. تعجبوا وكادوا يضحكون: وجه بومة؟ قالت: أجل أجل! تتخلق من بقايا رمادي وتقف على شاهد قبري وترفرف فوق أطلال جديس القديمة وسطوح ربوعها الجديدة وهي تولول صائحة: تنبهوا فقد تحرك الشجر! تنبهوا فقد تحرك الشجر!
هامش ثان:
يقال كذلك - والعهدة على المؤرخين والرواة الأقدمين - إن أحد الشعراء الصعاليك كان يحوم في مقابر الفقراء في أطراف جديس عندما وجدهم يحفرون قبرا صغيرا بطول جسد الزرقاء الفارعة الطول. كان قد يئس من العثور على شيء يأكله أو ينهبه من مرابضها المقفرة ومراعيها اليابسة وربوعها الدارسة فاتجه صوب المقابر لعله يعثر على حيوان ضال مثله أو يلتقط ثمرة من شجرة نسيها الجائعون، وعندما عرف أن القبر للزرقاء تذكر طرفا من شعرها الذي وصل إليه وتطلع إلى قمم الأشجار فوجد الأوراق ترتجف في الريح، ولم يملك أن صاح بأعلى صوته قبل أن يواصل الرحيل في الجبال: تعلموا من الشجر! تعلموا من الشجر!
نامعلوم صفحہ