ويرن الجرس بعد ذلك رنينا متواصلا، ويتوافد المدعوون أفرادا وجماعات، ونجري أنا وزوجتي العجوز من باب إلى باب، ندخل ونخرج ومعنا الكراسي والمزيد من الكراسي، ويتوالى رنين الأجراس ويتوافد المدعوون، والكراسي لا تكفي كل المدعوين، والقاعة لا تتسع لكل الصفوف، وأجراس تدوي وأجراس، ومدعوون جدد باستمرار، وأنا أرحب بالضيوف المنهمرين: تفضلوا أيها السادة، تفضلن أيتها السيدات، وأنت أيها الصغير، هنا مكان لك مع السيدة الشابة الجميلة والكولونيل، ادخلوا، ادخلوا. وزوجتي تجري لاهثة من باب إلى باب تحمل المزيد من الكراسي وتصيح: أوه! أوه! ما أكثرهم! المكان يضيق بهم! لا يمكن يا زوجي أن تكون قد دعوت البشرية كلها، لا يمكن أن تكون كل هذه الأعداد مهتمة بسماع الخطيب، وآه منك ومن نسيانك يا زوجي الحبيب!
وأطمئنها أنني لم أنس أن أدعو الخطيب وأشدد عليه بالحضور. إنها تعلم أنني لست فصيحا كما ينبغي ولا أفهم في صوغ العبارات الرنانة والكلمات المؤثرة، وبرغم حبها لي، في المسرحية وحدها بالطبع، وبرغم قلقها الدائم علي لأنني أتعب أكثر مما تحتمل سني التي زادت على التسعين، ولأنني لم أرتد سترتي الصوفية بالليل، برغم هذا كانت تعلم أن حبي لها أقوى من كل ما أردده بلسان المؤلف، وأنني الطفل اليتيم الحزين الذي يجلس على حجرها ويتعلق بصدرها ويتمنى، على العكس مما تقتضيه إرشادات المخرج والمؤلف، يتمنى أن يتشبث بها ويرتبط بقلبها وجسدها بالرباط الأبدي. هل تذكر يا شهاب؟ هل تذكر حبي لزوجتي العجوز هيفاء إبراهيم؟ انتفاضة كل شعرة في كلما رأيتها، تلعثم لساني واصفرار وجهي وارتعاش شفتي ويدي كلما هممت بتوجيه الكلام إليها أو الرد على أسئلتها وثرثرتها المتواصلة؟ لا يمكن أن تكون قد نسيت. لقد عرضت علي أن تتوسط لتخطبها لي أو على الأقل لتقرب سماءها البعيدة مني، ولكم عنفتني وضربتني باللكمات القوية على صدري: تحرك يا حجر! انطق يا صنم! وتحرك الحجر أخيرا ونطق الصنم فارتدت إليه الصدمة من حجر أقسى وصنم أعتى. تزوجت هيفاء بعقد عرفي من الممثل الكبير ذي الصوت القبيح والنظرات الشرسة والعبارات المتورمة، ومرت شهور فرماها عظما بعد أن نهشها لحما، وسقطت في بحور ظلمات الكومبارس التي لم تطف فوقها أبدا. في نفس العالم السفلي الذي سقطنا فيه يا صديقي ولم نخرج؛ أنت في غيبوبتك الطويلة وأنا في غربتي. لكن لا ... لا يا صديقي! آن أوان الخروج والصياح والصراخ! آن أوان الوقوف على الأقدام وتبليغ رسالتنا للمسرح والعالم والأرض والبشرية! لهذا جئت إليك ولا بد أن تسمعني! لهذا جئت ولا بد ...
كانت الكتلة الحية قد تحركت وهو لا يدري. انتصب الجسد القصير الممتلئ على الفراش نصف انتصابة وأسند ظهره للمخدة المستطيلة المطرزة بخيوط ذهبية ترسم طاووسا ملون الريش بذيل أزرق مبالغ في طوله، والتفت عاصم فوجد أمامه عينين مفتوحتين تحدقان في الفراغ. لم يطرف لهما جفن ولم يحسا به أدنى إحساس، لكنه امتلأ بالثقة وتيقن من أن الأمل ليس بمستحيل، واقترب منه ووضع كفه الطويلة النحيلة الأصابع على صدره. ظلت العينان تحدقان في الفراغ والكتلة الحية فاقدة لكل أثر للحياة، لكنه لم يفقد الأمل الذي تصور أنه يقترب منه بأسرع مما قدر، وعاود كلامه وهو يذرع المساحة الضيقة ويلف ويدور حول الكرسيين الوحيدين في الغرفة في ذهابه وإيابه: لا بد أنك تابعت كلامي وعايشت الحركة التي ضج بها المسرح.
حضر المدعوون جميعا ولم يتخلف أحد ... وربما وقفت صفوف منهم خارج الأبواب لأن القاعة ازدحمت عن آخرها والممرات والزوايا والأركان. كلهم جلسوا على الكراسي الخالية المتراصة صفا وراء صف أمام جمهور المتفرجين. الكل حضروا وتجسد الوهم حقيقة ترجف لها القلوب وتتوقف الأنفاس وتذعر العيون. كل الصحفيين والعلماء. كل الحراس والسجناء، الشيوخ والقساوسة والعازفون والنجارون والمهندسون ورجال الشرطة والتجار وموظفو البريد والبرق والأرشيف وعمال السكة الحديد والملاك والمعدمون والمليونيرات والمتسولون ورجال الضرائب والجمارك والبحارة والبناءون والمطربون والخدم المأجورون والأطباء والمصلحون والمتمردون والقانعون واللصوص والنشالون والمعلمون والمخربون ... كلهم كلهم يا صديقي ... حتى الأشجار والكلاب والقطط الضالة والمترفة التي كتبت عنها ... حتى قطتك السوداء السمينة التي كانت تتكبر علي باستمرار وترفض أن أربت على ظهرها الذي يتقوس وينتفش وتتحفز معه مخالبها كلما حاولت أن أمر على رأسها وشعرها، كلهم كلهم جاءوا من جهات العالم الأربع ليستمعوا إليك، نعم إليك أنت بالذات، أنت الذي دعوته ليلقي خطبتي ويبلغ رسالتي الأولى والأخيرة، أنت الخطيب الذي انتظره الجميع وما زالوا ينتظرون.
توقف عاصم في وسط الحجرة ورفع ذراعيه إلى أعلى كأنه يتلو صلاة لا يستطيع تأجيلها، ثم اقترب من الكتلة الحية التي ثبتت نظراتها الجامدة في الباب الزجاجي المقابل وقال: نعم لا بد أن تثق بنفسك. لا بد أن تؤديه كما أديته أداء رائعا قبل عشر سنوات، بل عشرين بل ثلاثين. تقول لماذا؟ وهل يمكن أن تنسى؟ هل يتصور أحد أنك تجاهلت الإمبراطور؟ استمع إلي، استمع يا شهاب إلى هذه الكلمات، هذه الكلمات التي تبادلتها مع زوجتي كما يتبادل الحواة الجمرات أو الفرسان الحراب المشتعلة بالنار، وها أنا الزوج العجوز أصيح بزوجتي: يجب علينا إنقاذ العالم!
وترد زوجتي هيفاء كالصدى: سينقذ روحه بإنقاذ العالم.
وأهتف مرة أخرى: حقيقة واحدة للجميع!
ويرد الصدى الحبيب: حقيقة واحدة للجميع!
وأهتف مرة ثالثة: اسمعوني؛ لأن عندي اليقين المطلق!
تجيب الحبيبة: اسمعوه لأن عنده اليقين المطلق!
نامعلوم صفحہ