قال صابر وهو يبتسم في حرج كأنما شجعته على الخروج من الجو الجنائزي الذي هيأ نفسه له: نعم نعم، مثل زمان.
استأذنته بضع دقائق حتى تأتي القهوة في تشطيب الأوراق التي أمامها ...
وضعت نظارتها السميكة على عينيها واستغرقت في القراءة والمراجعة.
واستغرق صابر بدوره في تأمل الوجه الذي طالما احتضنه بعينيه ثم احتضن صورته في قلبه طول العمر. يا إلهي! أيمكن أن يفعل بنا الزمن كل هذا؟ أين وجه الرضيع الذي كان لا يشبع من نضارته وبراءته؟ والملامح الرائقة المنسكبة كأشعة الفجر الوردية، كيف خددها الزمن وغطتها سحب الحزن والتعب والشيخوخة قبل الأوان؟ الألماسة التي كانت تبرق وتتألق كلما رآها بجوار صبرية وكلما لاحظ العرق على جبينها يتحول إلى قطرات الندى أو حبات الماس، كيف انطفأ بريقها وخبا الفجر في عيونها؟ وها هو الموت يفاجئها أيضا ليجفف نبع البراءة الذي عرفه ونهل منه خياله؟ والضحكة الخالية البال هل ذهبت هي أيضا وداستها خيول الزمن والألم والملل والضجر؟ •••
رن صوت الفنجان على المكتب فرفع بصره إلى الساعي وشكره. وتمثلت له تلك الجلسة البعيدة في الحديقة عندما لبت دعوته مع صبرية لشرب القهوة، وأوشك أن يبعث اللحظة المسحورة حية من أكفانها القديمة، حين فاجأه صوتها: وما أخبار الشعر معك يا صابر؟
نظر إليها نظرة طويلة تمنى أن تخلو من أي اتهام وقال وهو يضحك ضحكة خافتة: لا شعر ولا نثر ... من أيام الكلية توقفت تماما عن الشعر. ثم جربت حظي مع القصة والمسرحية فلم أجد أي صدى.
قالت وفي صوتها نغمة تحسر خففت منها روح المجاملة: خسارة، كان يمكن أن تصبح شاعرا كبيرا.
قال باقتضاب وهو يشيح بيده ليغلق هذا الباب: تعرفين متاعب التعليم وهمومه ... ترجمت بعض القصائد أثناء وجودي في البلاد العربية. نشرت كذلك بعض الدراسات، لكن لم يبق لي من الشعر إلا القراءة والحسرة.
رنت ضحكتها الخالية التي طالما انتشى بصفائها وإن خالجتها الآن بحة وتهدج لاهث مضطرب: الحسرة؟ لا لا لا.
أضاء زر على جهاز صغير أمامها بالنور الأحمر مصحوبا بصوت آمر متحشرج.
نامعلوم صفحہ