قال: «يكفي.»
فدخل الشماس وعاد مشرق الوجه وقال: «ادخل.» ومشى بين يديه حتى أقبل على معبد مار ميخائيل وأشار إليه أن يتقدم وقفل هو راجعا.
أطل زكريا على الكنيسة الصغيرة وهي غرفة واحدة قسمت إلى هيكل. وخورس بحاجز من خشب لا يبلغ السقف، قائم على خمسة أعمدة، عليها بعض النقوش والصور، وكان يتوقع أن يرى البطريرك واقفا أمام المذبح للصلاة في وسط الهيكل فلم ير غير قلنسوته هناك، فوقف لعله يراه قادما أو يسمع صوته يناديه فإذا به أطل من وراء الحاجز، فأجفل زكريا عند رؤيته؛ لما في وجهه من التغير، وهو حاسر الرأس وقد تدلى شعره على قفاه وخديه وتجمدت لحيته واحمرت عيناه كأنه آت من وراء موقد تكاثف دخانه.
ولما وقع بصره على زكريا دار من وراء الحاجز حتى خرج إليه وهو يقول: «من أين أنت آت؟»
فتهيب عند سماع صوت البطريرك مع ما شاهده في وجهه من آثار الانفعال، وأكب على يده ليقبلها، فمنعه فوقف مطرقا وقد أحنى رأسه وقال: «إني آت من الفسطاط يا سيدي.»
قال: «كيف فارقت أسقفها؟» وتشاغل بإصلاح شعره وفي إلقائه السؤال ما يشعر بأنه يضمر شيئا.
فأدرك أنه يشير إلى كتاب كان قد كتبه إليه يستنجده على الأسقف فأنجده ولم تنفع نجدته، فخاف زكريا أن يكون قد ساءه ذلك، فقال: «فارقته في خير.»
فأمسك البطريرك بيد زكريا ودعاه إلى الجلوس بين يديه، وجلس على كرسي، فتباطأ زكريا في الجلوس إجلالا لمقام البطريرك، فألح عليه، فقعد على الأرض مطرقا متأدبا، فقال البطريرك: «فارقت أسقف الفسطاط في خير وكيف فارقت تلك الفتاة المظلومة؟»
قال: «إنما جئت في شأنها يا سيدي.» وتنهد وقال: «إن هذه المسكينة قد توالت عليها النوائب والمحن. وإذا سألتني عنها قصصت حديثها عليك. غير أنى ألتمس من مولاي البطريرك قبل ذلك أن يأذن في سؤال أرجو ألا يضن بالجواب عليه.» فتنهد البطريرك تنهدا ختمه بزفير طويل، ثم قال: «ستسألني عن أمور استغربتها في، ستسألني عن حالي أليس كذلك؟»
قال: «بلى يا سيدي كنت قادما إليك في مهمة أستنجدك فيها. فشغلت عنها بما أراه فيك من الانقباض والقلق، وعهدي أننا في زمن صاحب مصر الحالي ابن طولون في أمان وسكينة، فهل طرأ تغيير لا أعلمه؟»
نامعلوم صفحہ