فقال مرقس: «هذا غير صحيح ...» وضحك ضحكة استخفاف. وقال: «طمعا في مالها؟ أليس مالها ومالي سواء؟»
قال: «أوتضحك أيضا، وتقول إن مالك ومالها سواء؟ ألم تخبرني بهذه الوصية وتتفق معي على أن نكون شركاء في إرث الفتاة وهي لا تعلم؟ أنت أغريتني وغششتني، فأنت وحدك سبب هذا الشقاء. لتتمتع بالملذات والشهوات.» قال ذلك وقد بح صوته وخرج عن طور العقل لشدة الغضب.
فانتهره ابن طولون قائلا: «يكفي، قد عرفناكما وعرفنا فضل مهندسنا الحكيم، وسنرفع منزلته ونعوضه عما لحقه من الأذى بسبب تلك الوشاية، وسنزف إليه عروسه على نفقتنا باحتفال ينسيها ما قاسياه ويتولى عقد الإكليل غبطة البطريرك الجليل.» قال ذلك ونظر إلى دميانة وكانت جالسة على مقعد بالقرب من زكريا تسمع ما يدور من الأحاديث ولا تفهم إلا نتفا قليلة لجهلها اللغة العربية. فكان زكريا يترجم لها باختصار. على أن اشتغال قلبها بسعيد وتتبعها حركاته وسكناته كانا يشغلانها عن سماع كل شيء. إذ مضت عليها مدة وهي لم تره. واتفق أنها رأته للمرة الأولى في تلك الجلسة فاضطرت إلى أن تغالب عواطفها وتصبر على نفسها إلى آخر الجلسة. وقد أهمها من الجهة الأخرى الاطلاع على ما كان محدقا بها من الأسرار ولا سيما مسألة الأسطوانة وما فيها. فلما اطلعت على فحواها طار قلبها من الفرح ولا سيما حين سمعت ما قاله ابن طولون لخطيبها وأنه سيرفع قدره وينفق على العرس من ماله. فإن ذلك فوق ما كانت تتمناه.
على أن غضب ابن طولون على أبيها نغص عيشها، وكدرها وزادها حزنا وأسفا ما شاهدته في أبيها من الانكسار والتذلل بعد ظهور جرمه. ونسيت ما قاسته من استبداده وعنفه، وما أراده من ضياع حقها. فلما قال ابن طولون ما قاله ووجه خطابه إليها بغتت وهي تحدث نفسها بتلك الأمور، والتفتت إلى أبيها فرأته ينظر إليها بعين الحزين الذليل، فنهضت وتقدمت خطوتين حتى وقفت ووجهت كلامها إلى الأمير وتكلمت بالقبطية قائلة:
إني لا أستطيع التعبير عن أفكاري بالعربية، فأقولها بالقبطية وأتقدم إلى أبينا البطريرك أن ينقلها إليكم بالعربية، لقد غمرتنا أيها الأمير بفضلك وأنا شاهدت العصي تتساقط على سعيد - وأشارت إليه - شاهدتها بعيني ولم يخطر لي أن أضع الحق عليك، وقد علمت من ذلك اليوم أنها دسيسة، إنك أيها الأمير أتيت نعمة لبلادنا كما قال أبونا البطريرك وأحمد الله؛ لأنه أظهر الحق على يد العم زكريا، فإن لهذا العم الطيب القلب فضلا كبيرا في كشف هذه الأسرار، وقد فعل ذلك لا لمطمع غير القيام بوعده ونصرة الحق.
وظهرت دمعتان في عينيها، وأشارت بيدها إلى أبيها وقالت: «نعم إن أبي قد أساء إلي، ولا أدري أكان ذلك من تلقاء نفسه أو بإغراء من سواه، فمهما يكن فإني أتقدم إلى مولاي الأمير بأن يعفو عنه؛ فإني لا أكون سعيدة إن لم يكن والدي أيضا سعيدا.»
فترجم البطريرك كلامها. أما والدها فلما سمع قولها غلب عليه البكاء لفرط ندمه، وقال لها: «لقد جمعت نارا على رأسي، إني قد أسأت إليك من كل وجه، ولا شك أن عنصرك أطيب من عنصري؛ فقد كنت أريد أن أكون سعيدا ولو شقيت أنت، أما أنت فتقولين إنك لا تسعدين إن لم يكن أبوك سعيدا، فاصفحي عن ذنوبي، وها أنا ذا أشهد الأمير وسائر الحاضرين على أني سأرجع عن كل ما يغضبك في سلوكي، وأكون طوع إرادتك ؛ لأنك أقرب مني إلى الرشاد وأدنى إلى الصواب.»
فلما رأى إسطفانوس ما جرى صاح: «وأنا يا دميانة، وأنا؟»
قالت: «إني أترك أمرك إلى سعيد؛ فإنه صاحب الشأن معك.»
فتقدم سعيد وقال: «إذا جاز لي يا مولاي أن أتكلم فإني ألتمس من مولاي أن يصفح عن إسطفانوس؛ فإنه فعل ما فعل بدافع الضعف الإنساني، ولا يجديني أن أراه يذوق العذاب ولا سيما وقد ظهر عليه الندم.»
نامعلوم صفحہ