فلما سمعت منه ذلك قالت: «تعرف ما في نفسي؟ كيف؟ قل - بحياة قدسك - قل ما تعلمه وخفف عني مشقة القول».
فتنحنح القسيس ومسح فمه ولحيته بمنديله وقال: «لا يا ولدي لا يجوز أن أبدأ بالقول ولكنني قلت لك ذلك؛ لأيسر عليك التصريح.»
فقالت: «أتعرف جارنا أبا الحسن البغدادي نزيل هذه القرية؟»
قال: «كيف لا أعرفه؟ أليس هو صاحب القصر الذي بجانب قصر أبيك؟»
قالت: «نعم وإنه - والحق يقال - لعلى خلق عظيم وأراه يحب القبط ويلاطفهم ويحاسنهم، خلافا لسواد أهل الدولة».
فلم ير القسيس رابطة بين ما سمعه وما كان يتوقع أن يسمعه، ولكنه ظنها تندرج في الحديث فقال: «أراك تحسبين اضطهاد أهل الإسلام للأقباط قاعدة من قواعد حكومتهم، والواقع أن ذلك يختلف باختلاف الرجال؛ فقد كان المسلمون في أوائل دولتهم بمصر أكثر الناس رعاية لنا ورفقا بنا واحتراما لعاداتنا وطقوسنا، وتخلل ذلك اضطهادات نأى الحق في بعضها بجانبه عنا لطمع كبارنا في أموال الدولة والإمساك عن دفع الخراج أو الجزية، ومن ذلك ما وقع في العام الذي جاء فيه المأمون إلى مصر وعاقبنا أشد العقاب مما لا محل لتفصيله الآن، أما أبو الحسن فرجل عاقل معتدل، عرفت اعتداله من تساهله في معاشرتنا واقتناعه بجزء من هذه الكنيسة لصلاته، وقد رأينا غيره يحولون الكنائس على جوامع.
وهناك سبب آخر لتقربه منا لا أظنك تعرفينه، وهو أن أبا الحسن هذا ينتمي إلى طائفة من المسلمين يقال لها الشيعة، يضطهدها رجال الدولة؛ لأنها تخالف مذهب الخليفة وأمرائه. كما كان حالنا قبل الإسلام إذ انقسمت الكنيسة إلى ملكية ويعقوبية، وكانت دولة الروم تنصر الملكية؛ لأنهم على مذهبها وتضطهد اليعاقبة، حتى تمنى هؤلاء خروج هذه البلاد من حوزتها، وقد حصل. ألا تذكرين يوم جاء أمر المتوكل خليفة بغداد إلى قبط مصر منذ بضع عشرة سنة؟ أظنك لا تذكرين ذلك؛ إذ كنت طفلة.
إنه بعث إلى عامله بمصر أن اهدم الكنائس المستحدثة بعد الإسلام، ونهى عن الاستعانة بالنصارى في الأعمال أو أن يظهروا الصلبان في شمانينهم. وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب وأن يلبسوا الطيالسة العسلية ويشدوا الزنار ويركبوا السروج على بكر الخشب بكرتين في مؤخرة السرج، وأن يرقعوا لباس رجالهم برقعتين تخالفان لون الثوب قدر كل واحدة أربع أصابع ولون الواحدة غير لون الأخرى، وأن تخرج كل من نساؤهم لابسة إزارا عسليا. وحرم عليهم لبس المناطق وغير ذلك مما بقي معمولا به حتى تولى ابن طولون فأبطله.»
وسكت قليلا ثم استأنف الكلام فقال: «وقد أصاب الشيعة في ذلك الوقت من الاضطهاد مثل ما أصابنا، فإن ابن الخليفة - الذي نحن بصدده - كتب إلى عامله بمصر ألا يقتني علوي ضيعة ولا يركب فرسا ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ أكثر من عبد واحد ومن كان منهم له خصومة قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة.» «ومن طبيعة الأشياء يا ابنتي أن الذين يقاسون الذل معا يتآلفون ويتحابون ولو بعدت أصولهم وتباينت مذاهبهم.» •••
كان القسيس يتكلم ودميانة تنظر كمن يصغي وذهنها يعمل في تهيئة عبارة تبدأ بها شكواها أو تبث بها غرامها فلما فرغ من كلامه قالت: «وسعيد المهندس ضيف أبي الحسن، أو ابنه أو مولاه هل تعرفه؟»
نامعلوم صفحہ